|
الخراف الضالة - رواية- القائمة الطويلة لجائزة الشيخ زايد (6)
احمد جمعة
روائي
(A.juma)
الحوار المتمدن-العدد: 6859 - 2021 / 4 / 4 - 02:56
المحور:
الادب والفن
2011
حشد يعقوب غضبه كله وصبه على القارب المركون بمحاذاة الساحل فهشم واجهته وصب الزيت عليه وأشعل النار فيه ثم انسحب تاركاً كتلة من الدخان الأسود تتصاعد في الجو، كان يعرف ان هذا القارب يعود إلى أحد الأشخاص كان قد استغل خاله ووظفه في صيانته على مدى شهور ثم تركه ولم يدفع له أجرته، أثرت فيه الأحداث وصعدت من سخطه على كل شيء وجعلته يسلخ جلده الناعم الوديع الذي كان عليه من قبل بعكس شقيقه حمد، وتتملكه روح الانتقام مع تلاحق موجات العنفوان التي ألمت بالجميع خلال الشهور الأخيرة وجعلتهم يفرطون في عواطفهم ولا يبالون برد فعل من الآخر، كانوا ينسلخون تدريجياً من حالاتهم الاسترخائية المستسلمة والتي كانت في حالة من السلبية، كان إشعال الحريق في القارب تعبير عن الغضب ليس فقط من مالك القارب بقدر ما هو رد فعل على احتقانه السياسي الذي ولدته شهور من تحمل الأحداث الجارية التي ولدت وكان خلالها هو وغالبية السكان متفرجين على ما يحدث، فيما الطرف الآخر يستدرج الأحداث ويسعى للاستفزاز من وجهة نظر الجماعة التي ينتمي إليها يعقوب، كان تصاعد الدخان من القارب على الساحل قد أفرغ نوبة الغضب من نفسه، شعر بذلك وهو يغادر المكان فيما توالت الجموع وأحاطت بالمكان وتبادلت الجدل حول من أشعل النار في القارب، شكك البعض في قيام مجموعة من المعارضين بالتعرض للقارب انتقاماً طائفياً، فيما كان يعقوب يتمدد في المقهى الشعبي حين وصلته أنباء القارب المحترق، أطلق تنهيدة وتنفس الصعداء ولكنه أحس بخيبة أمل حينما ربط الموضوع بالطائفة الأخرى، كان يود لو اعترف وقال أنا ليرضى شعوره الحسي بالسخط الذي اكتنفه وهو يرى استغلال مالك القارب لخاله. كان هذا هو حال الجميع، محتقني العاطفة، مشدودين للانتقام وممسوسين بالسخط والروح العدائية تجاه الآخر، وقد زادت من هذه المشاعر ما رافق إعلان حالة الطوارئ من تباين في الأحاسيس بعدما تكشف للبعض تداعيات صاحبت الشائعات التي كانت أشبه بسحابة ضخمة مقيتة تحلق على رؤوس الجميع، حينما انتهى من لعق غضبه الداخلي وخدر جسمه بكمية التبغ الصارم الذي دخنه من خلال الشيشة، نزع عنه الشعور بالحيرة وانفرجت أساريره لدى تذكر أن خاله في الدار فأسرع بدفع فاتورته وهرول لسيارته، انطلق نحو المنزل وهو بحالة يحرضه شغفه الهائل على تأمل الخال وسماع صوته، يحتويه شعور من كانت تفصله عنه سنين طويلة حيث طاف بخياله وجهه القاسي بعمقه السحيق وتضاريسه الجامدة وما ينم عنه من طلاسم تستعصي قراءتها، حنين متدفق يرافقه وهو بطريقه للدار للوصول بأسرع مما تحمله السيارة القديمة وهى تطوي الشارع، يطغى صوت محركها كأنه سيتفكك في الحال، كان الهواء الدافئ يلفح وجهه من خلال النافذة المفتوحة، فيما تنبعث منه رائحة الشيشة الناتجة عن تلك الكثافة الهائلة من الدخان بداخل المقهى، مرت من حوله عدة سيارات على الطريق أطلق بعض سواقها العنان لصوت مذياع السيارة تنبعث منه الأخبار والتعليقات في ضوء الحالة العامة الناتجة عن إعلان حالة الطوارئ مع ردود أفعال متباينة شملت الجميع، بين خوف وغموض وشكوك، ساد الطريق خمول برغم تزاحم السيارات والمارة، وامتلأت السوبرماركات والدكاكين الصغيرة في الأحياء التي يديرها الآسيويون بالزبائن وكأن الدنيا نهاية العالم، إذ تدفق المشترون على المواد الغذائية رغم أن الفترة هي منتصف الشهر وعادة ما تنقص حالة التسوق لدى غالبية السكان إلا أن الظرف الاستثنائي قد فرض شروطه على المناخ العام في البلد. المسافة بين الشارع العام ومنزل الخال كانت قصيرة لكنها بدت ليعقوب كأنها دهر على بلوغ الدار، شعور غريب اجتاحه للرجل فجأة نم عن حدس مشوب بانقباض، وإحساس بحنين عارم يجرفه أن يحتضنه وهو الأمر الذي لم يحدث له طوال السنين القاسية التي مرت منذ الطفولة والشباب والنضوج، فلم يحدث أن عانقه حتى في الأوقات الاستثنائية التي مرت بهم، فقد كان يكتفي بالنظرات المعبرة عن المشاعر، كانت السيارة تقطع الطريق نحو الدار وقلبه يخفق بعنفوان من عاطفة جياشة تمتزج بقنوط مصحوب بضراوة الضباب الذي يغلف ذاته منذ إعلان حالة الطوارئ وصداها في نفوس الجميع أمام ما تقذف به الريح من مشاعر لدى الأطراف المتصارعة، كان ينهب الطريق بحزم على الوصول إلى الدار تأخذه الأفكار بين الخال النائم المعتكف بالدار وبين حمد الذي آواى لغواية الجسد وقد ذاق طعمه وتلمس يقظة الشبق أخذته بفداحة نحو الضفة الأخرى المقيتة، كما يراها هو، حين وصل عتبة الباب رأى كلب صغير من تلك الكلاب الهائمة في الحي يستلقي بجانب العتبة فدق قلبه وراودته رغبة في الوقوف عنده وتمعن منظره الكئيب الذي عكس وهنه، كان للخال كلب صغير منذ سنوات هام ذات مرة ولم يعد، رأى في الكلب صورة لكلب الخال الذي كان يرافقه حينذاك واستغرب وجوده أمام الباب. حين دلف الغرفة المعتمة واجه رهطاً من الكوابيس تلم بالمكان وكأنها تنبئ بشعور زاجر يدفعه للاعتقاد بأن الخال قد طال نومه ولم يعد من الطبيعي أن يتركه أكثر من ذلك، فاقترب منه وأزاح الأغطية عنه وراح يهمس في إذنه اليسرى. - خالي .. بوعلي .. بوعلي الهوى، اصحي لقد طال نومك. حين فتح الخال عينيه، علت وجهه ابتسامة رافلة بوهج من خدعة بصرية لا توحي بأي رد فعل طبيعي، فصاغ يعقوب سؤاله مرة أخرى بنبرة مخيفة وهو يمسك بيد الخال كمن يريد إخراجه من غفلة النوم. - بوعلي .. هل أنت بحاجة لمزيد من النوم؟ اصحي، البلد تستيقظ وأنت صار لك نهار وليلة نائم في مكانك. فتح الخال عينيه ولكنه لم ينبس بكلمة، واكتفى بنظرة زائغة كأنها غيمة تائهة، ومد يده بورقة صغيرة مطوية ومن هول الصدمة التي ضربت يعقوب وهو يرى الرجل زاهداً بالكلام من غير إرادته، ترك الورقة تسقط من يد الرجل وصرخ. - خالي.. ساد الغرفة على أثرها سكون مطبق بعدما انتفض يعقوب وخرج الفناء يجري اتصال بقسم طوارئ مستشفى المحرق الشمالي، ثم أدار رقم شقيقه حمد.. - الخال في غيبوبة .. بعد أن تعسر جلب سيارة إسعاف من المستشفى بالسرعة المطلوبة نظراً للحالة المربكة التي كان عليها الوضع،تم نقل الرجل في سيارة يعقوب الذي قادها فيما جلس حمد بجانب خاله في المقعد الخلفي وانطلقا وسط رتابة الطقس وجعجعة السيارة المتهرئة وغموض الشارع الممتلئ بحواجز اللجان الشعبية وسيارات الأمن، ولدى وصولهم لموقف سيارات المستشفى هرع عدد من الأطباء والممرضين قبل أن تتوقف السيارة وأحاطوا بالمكان وجرى إسعاف الخال من قبل أطباء صغار السن من المتدربين التحقوا بالخدمة خلال الأزمة بعد أن تم احتلال مستشفى السلمانية المركزي من قبل المحتجين فجرى على أثره توزيع العديد من الخدمات الطبية على عدد من المراكز الصحية والمستشفيات في المحافظات، وشكلت لجان شعبية من المواطنين لحماية هذه المراكز وإدارتها، كانت الحالة التي كان عليها الخال ونقل على أثرها إلى المستشفى مضطربة، وأربكت يعقوب وحمد ولكنهما ظلا هادئين من الخارج بينما في داخلهما مضطربين ومشاعرهما محتدمة بالتوتر والخوف على الرجل الذي فجأة فقد توازنه وأصابه خرس، فيما بدت أجهزته العضوية جميعها تعمل بشكل طبيعي، وقع له ذلك بعد الأيام التي غاب فيها عن الدار، شيئ ما حدث أفقده النطق وشل تضاريس وجهه وانتزعت من قسماته وملامحه مظاهر التعبير، احتفظ قلبه بالنبض كحاله دائماً يرفرف بالنرجس، وينبض بالشغف للحياة، عطش للحركة والانطلاق المستمر، حين أدخل غرفة المعالجة بعد ألقاء الطبيب المناوب نظرة الفحص الأولي أمر بإجراء فحص للقلب فيما كان ضغط الدم مرتفع بشكل لافت للنظر، جاءت نتيجة فحص القلب إيجابية ولا أثر لأي عيب في الشرايين والصمامات وتقرر وضعه تحت الرقابة الطبية بالمستشفى لأربع وعشرين ساعة لمتابعة حالته عن كثب، أسرع حمد بجلب والدته لتبقى معه بعد أن اقتربت الساعة من الخامسة وعشر دقائق صباحاً، فقد قضى يعقوب وحمد الليل بطوله في متابعة إجراءات الفحوص، كانت الساحة المحيطة بالمستشفى تغص بالرجال والنساء من المنتسبين للجان الشعبية الذين تبرعوا بالمناوبة على العمل والحماية وحراسة الطرق المؤدية للمستشفى، وكان هناك عدد من الشبان والمراهقين يحملون قضبان الحديد وقطع الخشب ويتمركزن عند واجهة المستشفى وعند المداخل الخارجية والداخلية. عند الضحى حينما صحا يعقوب من غفوته داهمته نوبة ذعر وهو على المقعد مستلقياً، فرك عينيه وأزاح جاكيت الجلد الذي كان يرتديه منذ البارحة، نهض على صوت حمد يتحدث في الهاتف مع والدته من المستشفى فأسرع بالخروج نحوه يستفسر منه عن حالة الرجل فجاءه جواب الآخر صادماً.. - أصبح يهذي بعبارات غير مرتبة، يطلق كلاماً غير مفهوم، ولكن الخبر الجيد أن صحته في مجملها طبيعية. - ماذا توحي هذه الحالة؟ مط الآخر شفتيه في حركة تدل على عدم فهمه، واستطرد يعقوب.. - هل فقدنا الخال؟ - دعك من الاحتمالات السوداوية، الذي يعرف خالنا يدرك أنه رجل أبدي.. ابتسم يعقوب وغير نبرته .. - سأغتسل ونذهب إليه فلعله يرانا وينعش ذلك ذاكرته. - ماذا لو لم تتغير حالته هل ندعه هناك؟ - لا تستبق الأمور .. - سأجلب له بعض الملابس. ترك يعقوب شقيقه الذي أشعل سيجارة ودلف غرفة خاله، ثم لم يلبث أن خرج وبيده ورقة وهو يصيح على شقيقه. - حمادوه.. تعال لترى ماذا وجدت؟ هذه الورقة سقطت من يد الخال البارحة وهو بغيبوبة كأني رأيتها ولم آخذها في بالي حينها.. التفت حمد نحوه بدهشة ونظرة تساؤل خاطفة، فأردف يعقوب. - بالورقة دُون اسم وهاتف سعد بن ناصر.. ماذا يربطه بهذا الرجل الخطير؟ رد حمد باقتضاب.. - يا للغيب .. يا له من عالم سري لا حدود له، ترى أين كان كل المدة التي اختفى فيها وماذا كان يفعل؟ اتصل بالرقم .. رد يعقوب بنبرة قاطعة. - لا لن أجازف قبل أن أرى حالة الخال، قد يكون في ذلك خرق لعالمه السري، سأحتفظ بالورقة مؤقتاً حتى تنجلي الصورة. - الله يهديك تتكلم مثل السياسيين. ساد صمت بين الاثنين ثم ابتعد يعقوب وهو يردد في داخله.. " سعد بن ناصر ماذا يربط بينهما؟ "
****
تعثر الوقت حين انساب قرص شمس أول مساء لإعلان حالة الطوارئ، وانزلق ضوئها يبسط خيوطه الشفافة الرتيبة على البيوت والمقاهي والطرقات التي انساقت تسوغ الخوف بالحذر مع انتشار حزمة من الإشاعات وهي تتوزع بين سقوط عشرات من القتلى والمصابين وبين انتشار أخبار قيام مجموعات من المشبوهين بطلاء جدران منازل العسكريين ورجال الصحافة والسياسيين بإشارات حمراء للتدليل على هوية أصحابها من أجل استهدافهم بعمليات انتقامية، كان لانتشار هذه الشائعة بالذات وقع نفسي وعصبي على الأهالي مما حدا ببعض الشباب من المنتمين للجان الشعبية بالتوجه نحو هذه المنازل والتنسيق مع أصحابها لأجل حمايتهم من أي اعتداءات محتملة، كان اليوم التالي لإعلان حالة الطوارئ أصعب من اليوم الأول وأكثر خصباً لانتشار الشائعات وقد لازم كثيرون منازلهم وبعضهم انسلخ عن الحالة النفسية الكئيبة التي سيطرت طوال الشهر المنصرم وانزلق في حالة أخرى مغايرة محتواها التيه والضبابية، ومع انتشار الدبابات والعربات المسلحة والجنود في الشوارع والطرقات والميادين بدت البلد لأول مرة في تاريخها الحديث بهذا المشهد غير المألوف على الإطلاق، فقد أطبقت المظاهر المسلحة على الوضع العام وسط ارتياح من البعض وتخوف من البعض الآخر وتأمل من طرف آخر ولكن الجميع كانوا مشدودين لهول القرار الذي اتخذ بإعلان حالة الطوارئ، وقد انعكس هذا الشعور بالتأمل على مزاج سعد بن ناصر الذي وقف من شرفة مبنى قصره البحري وراقب السماء بوجوم فيما ظهر خلفه عبر فتحة الشرفة ظل لامرأة شبه عارية تتحرك بمحاذاة الواجهة الداخلية للصالة الملحقة بالشرفة الخارجية، كان الوقت مساءً من اليوم التالي على الحدث الجلل الذي هز البلد وحرك المشاعر باتجاهات متداخلة ومتناقضة، بين متعاطف وبين كاظم للغيظ ولكن الشعور عند الرجل الواقف الآن على الشرفة ويطل على البحر بدا مختلفاً تماماً عنه عند الجميع. - ماذا لو لم يقع الحدث في الأصل؟ قال العبارة في الجوال الذي أمسك به بيد فيما أمسك في اليد الأخرى بكأس النبيذ الأحمر ثم أردف.. - لو لم تقع الأزمة لتأجل وقوعها بعد عشر سنوات وعندها كانت ستنجح المحاولة الانقلابية، فحسناً حدث ما حدث لقطع الطريق على الكارثة المؤجلة. أغلق الهاتف والتفت نحو الأفق في البعيد ورأى شبح كائن صغير يتشكل وسط غيمة عابرة في السماء وخدشتها بعض من خيوط شمس توشك على المغيب، تأمل الخيوط المنسدلة بلون الذهب وتفاعلت روحه المحلقة مع الغيمة في شعور يرفل بنشيج الغيم ليصوغ حلماً مائياً يتوحد مع نسق رغبة عارمة في محاكاة مشهد من الماضي البعيد يأخذه نحو البحر والطفولة والأصدقاء، وقف مشدوداً كأنه يؤدي صلاة مسائية عامرة بالمشاعر الجياشة وهو يستعرض النتائج والتداعيات التي جرت حتى الآن بعد دوامة الشهر الكامل الذي مر من الأحداث المتتالية كأنها دورة الأفلاك. - ماذا لو لم تقع الأحداث اليوم ؟ خاطب أعماقه بصمت، ورشف من كأسه وعاد يسترسل في تأمل السماء فوقه ومن حوله رأى المال الذي صنعه طوال السنين الماضية والنفوذ الذي جلبه والبنايات والقصور والسيارات والنساء والشركات والأصدقاء من رجال المال والأعمال والسلطة من وزراء وشيوخ وقضاة ومنتفعين وغيرهم يحلقون حوله ورأى ذاته الآن تنسل من هذا كله لتتهيأ للدخول في صلاة مع دورة الأفلاك مبتهجاً بلون البحر، حاملاً إبريق الطفولة يهطل عطر السماء، مأخوذاً بطمأنينة لا تعصف به الأفكار كما كان الحال قبل شهر ولا تزجره المعاناة كما السنون التي انقضت وهو ينزلق كالنائم في دنيا المال والسلطة، رأى بوعلي الهوى كيف أعاد للحياة بهاءها برغم كونه كائناً صغيراً متناه لا يعدو أن يكون جرماً في فلك الكون التائه لكنه يسكن المطلق بصفائه وبراءة العطاء كأنه إله يعيد ترتيب الفوضى إثر فداحة الفعل الجسيم الذي كاد يطيح بالبلد والناس أجمعين، تأمل هذه الصورة التي هتكتها الأيام المنصرمة ورأى أسطورة بناء الكائنات تفلت من اللغط الهائم على غير هدى لتطفو أسطورة بوعلي الهوى .. من ديمومة السلالات الأولى انبثق من لجة بحر المحرق وعبر ساحله الجنوبي رنين صدى الطفولة المتوحدة مع غفوة الابحار، رأى سعير الشهوة للمال واللذة مع النساء والنفوذ في القبض على جمرة السلطة من دون الاحتراق بها، عروشه المتعددة إذ تأخذه بشغف متناه للرسم طريق الجنة على أرضه الأبدية، كان يرى في الأزل هو الخلاص للوحدة فاستظل تحت ظل عرش هاله أن يهتز فجأة بهذا الخراب غير المتوقع. كان سعد بن ناصر لاعباً على كل الحبال، متغطرساً بالأحلام وهي توشك أن ترفعه إلى النجوم، صد كل ما واجهه من نذر السوء لأجل القبض على السلطة والنفوذ فدعم المعارضة ثم اشترى الرؤوس الكبيرة فيها والتفت حول المسئولين، فقبض على الوزراء وأسرهم بتذويبهم في فلكه، كان مأخوذاً بالنتائج السريعة، فهو القادم من البحر والسواحل والعوز، هالته السرعة التي وصلت مراكبه شواطئ الحصاد، وكانت ستتصدر الواجهات لولا ربيع الدم الذي تفجر عن فوضى خلطت أوراقه واسدلت تلك الغيمة السوداء فوق رأسه ليدرك أن الآتي مع الثورات القادمة من الخارج ليس ما رسم له وخطط له، وقد هاله أن يرى ماله الذي أسداه للمعارضة أصبح كالسكين المعقوفة ارتدت نحوه، فانصاع للضوء الآخر المنحدر من طفولته وبراءة البحر والصبية فاكتشف الخديعة التي أوقعته في شرك الثورة المغدورة، هكذا رأى المشهد أمامه وهو يتلون بلون البحر وطعم التنبيذ وزهو المساء. كانت الصورة الأولى قد اختفت عند ولوجه الخديعة الكبرى وهو يسعى للسلطة والمال والنفوذ ثم رأى فجأة عالم الاستحواذ يوشك على الانهيار فالتحق بمركب الطفولة الأولى، فما كان يلمع طوال هذه السنين لم يكن ذهباً كما خيل إليه، بل فخاً تجلى في هذا الحريق الذي ابتلع البلد بأسره. " تيقنت بأني فقدت ظلي مذ انعطفت عن قاربي الطفولي وحدت عن تخوم البحر الذي ولدت منه" هكذا رأى سعد بن ناصر الضوء، فاختار الانعطاف للبحر والناس ورأى في بوعلي الهوى ذاته المفقودة التي رجع لها الصدى، فاسند إلى عقله مهمة توقيت عودته إلى عشبة بحره الأول الذي منه جاء وإليه يعود.. عندما التقى مع بوعلي الهوى لم يكن قد رآه من قبل ولكنه رأى فيه حلماً قديماً لصورته، ثم استعاد من طفولته وجهاً كبريتياً اللون نبت من هذه الأرض التي شعر في غفلة من الزمن أنه خانها، أغوته السلطة حينما قبض عليها وتمادى في السعي للارتقاء حتى نهاية سلمها، فلم يبال بالنتائج وهو يلعب بالحبال حيناً بالشمال وحينا باليمين فساعد على نمو الوحش وغذى جوعه حتى كاد ينقض عليه ويفترسه، هكذا كانت صحوته وخروجه من الغفلة .. بدأت الدنيا تتغير معه بواسطة المال ثم اقتحمت النساء فتلون عالمه، اختطفته المتعة، ثم السلطة، ثم رأى أن مغازلة المعارضة واختراقها بماله سوف يجعلها تلتقي مع أهدافه، فعل ذلك ونجح في تحييدها في الكثير من المواقف حينما كانت تتحرك داخل البرلمان، فأثر في الكثير من المقترحات والمشاريع التي تتعارض مع مصالحه، وبقدر ما كان سخياً معها بقدر ما استجابت لمصالحه، فكان من جهة يلعب مع الدولة ويحرك وزراء فيها، بنفس الوقت كان ينسل بخفاء مع المعارضة وتخندق معها في الظل معتماً على نشاطه معها، ثم كان ما كان .. عندما جاءت النساء إلى حضنه، لم يحطمن غروره، ظل يرى في ذاته ما زال الناسك حتى حين اكتفى بواحدة وهي تلك المرأة الصارخة الجمال والإثارة من أوكرانيا "لونا" ظل في محراب الناسك زاهداً برغم العويل الذي يسلقه على جسدها. سقطته الكبرى كانت إخفاقه في فهم ما جرى في الساعات والأيام الأولى من احتلال الدوار، فقد ظن أنها المعادلة التي اشتغل عليها لسنوات قد حان وقت قطف ثمارها ثم تكشفت له الأبعاد المبهمة التي ما فتئت أن رأى سحابة سوداء تخيم عليه مثلما خيمت على البلد، فهاله أن يكتفي بالتأمل وفوهات المرارة تعصره على صورة الشارع الذي كان يحلم بحكمه فإذا به يفرط منه ويختلط بحمم الدم والشظايا والمتاريس تسد عوالمه التي كان يهيئ لها أبراج وناطحات وفجأة تغرق وسط برك الدم، فاندس وسط الليل وتشابكت خلايا العقل بمتاريس الشوارع ورأى الجموع تحتشد من حوله فكاد ينتحب لولا ذرة من وعيٍ أيقظته ضراوة الهتك الجاري في الشوارع والطرقات حتى لم يكد يفتح عينية حتى رأى المرفأ المالي الذي كان حلماً لمكان يزرع فيه الأبراج قد أحتل، فهاله حجم الوحش الذي ينتظر فريسته فأبصر الغيوم ترحل من سماء إلى سماء ورأى المطر لا يسقى عشبه، بل هجع في قعر الخلاء فاستفاق بغتة قبل مداهمة فوات الأوان. - ادفعوا لهم بلا حدود .. هكذا صرخ للمرة الأولى فاتحاً خزائنه لتغيير الإشارة، فحين رأى سرب الخراف تتجه نحو المسلخ لتذبح أدرك الفجوة التي سقط فيها فأسرع بالاستدارة وكانت بإيقاع منقطع النظير. - حان وقت صنع الغد والتاريخ. انهالت من حوله الرؤوس تبحث عن وجهة مستقيمة وسط عتمة الضباب والذعر، رأى وجوه الناس يلتهمها الخوف والأجساد تهرول هاربة والطرقات مغلقة بالحديد والأعمدة، فكانت طلقة مخبأة تجرف الكائنات إلى مجهول غامض وتسرع من وتيرة اتخاذ القرار بالعودة للبحر والطفولة، فوجئ هو ذاته بهذا الإيقاع المندس خلسة في مشاعره المرتبكة منذ بدء دورة الدم في الدوار والمرفأ المالي وتزامنت مع هوس البحر وشطآن المحرق ونداء الجسد وبراءة الطفولة التي انحسرت منذ قذفته رياح المال بعيداً عن مرافئ المحرق ولولا انفجار ثورة البحر بداخله تلك التي أيقظها بوعلي الهوى فكان لابد له من انعطاف بدورة كاملة تعيد التوازن الذي فقده منذ عقود طويلة مضت.. عندما استيقظ صباح اليوم التالي بعد يقظة الضمير وقرأ في عيني بوعلي الهوى آية من آيات صحوة الذات منبثقة من تداعيات الدم المسفوك على الأرصفة وسمع الرجل القادم من خلف البحر يطرق نحو الفضاء، أعاد صياغة مسار الحياة في صورة مغايرة للعالم الذي كانت عليه نظرته، أفهمته الأحداث أن ما كان سائداً في عقله الدامي إنما كانت صورة فجة للحياة، كانت كذبة مخبأة بقارورة سحرية مضمونها أن الحياة تملكها بالمال والسلطة والنفوذ وبقدر من النساء بتعددهن بالألوان والجنسيات والأعمار، اعتاد أن يقف أمام البحر ولا يشعر بشيء مغاير للماء واللون، لم ير البحر كما رآه بوعلي الهوى . " رأى بهاء البحر أكثر مني لأنه أقحم روحه فيه، بينما رأيت فيه ثراء فجاً" من يومها فتح عينيه على زخارف البحر فرأى الأصدقاء القدماء ورأى البلد التي كادت تضيع لأول مرة على غير المألوف، رأى الغد في شروق الشمس لأول مرة على غير المعتاد، رأي الحمام يرفرف على سقف القصر ولم يشعر برغبة في اغتياله لأنه يوسخ الأرضية بالبراز، رأى ذاته غير تلك التي رآها على مدى سبعين سنة مضت فما كان منه إلا أن ابتسم وقال مخاطباً ذاته الجديدة.. - ما زال في العمر بقية أعيشه بصورة مغايرة، ولا بأس ببضع سنين مرادفة لما عاشه بوعلي الهوى. أول خطوة خطاها كانت رغبة عارمة لمضاجعة لونا اجتاحته كموجة سعير ساخنة بعد أشهر من جفاف جسدي رغم وجود الرغبة إلا أن الشعور بالوهن والعجز عن الانتصاب كان يدميه فتساوره الشكوك في أنه فقد القدرة نهائياً على الممارسة الطبيعية وكاد يستسلم للحالة بالعجز النهائي الذي هو قدر محتوم على من في سنه، ولكنه عاد واستعاد جموحه وقارنه بالوهن الذي تسرب إليه رغم الجمرة المشتعلة تحت الرماد، بدت له لونا بقوامها الممشوق المحلق بالجمال والأنوثة الصارخة وما تثيره حوله من عاصفة شبقية هائلة تكاد توقف قلبه الواهن، تجرفه كنهر متدفق يلوذ نحوه للغوص في تضاريس محيطها الجسدي الدامي بالإثارة وهي تضع قلبه على خط استوائي يوشك أن يتحول إلي جمرة ملتهبة بعكس ما كان عليه من قبل مجرد رغبة عارمة من غير قدرة على الانتصاب حتى مع تعاطيه الأقراص الزرقاء، هذا ما كان عليه حاله طوال الشهور الماضية حتى فاجأته اللحظة المختلفة التي أوحت بشعور عارم مختلف عن المرات السابقة، كانت لونا خلال الأيام الأخيرة لا تغادر قصره ليقينها من حاجته الجسيمة لرهافتها وشفافيتها الموغلة في النعومة ولشعورها بحالته النفسية التي لم يسبق ورأته فيها منذ سنوات على رغم تعدد علاقاته النسائية، كانت واثقة حتى النهاية من سيطرتها وحدها على الرجل. دلف غرفتها وهي مستلقية على السرير تشاهد التلفاز وكانت ركبتها البيضاء منثنية فظهر ساقها الأملس كالحليب، التفت إليه واعتدلت في جلستها متسائلة بنظرة فاحصة عما يدور في خلده. ذكرتها طريقته وهو يلتهمها بالنظرات بالأيام الخوالي قبل سنوات حينما كان يفترسها حتى من قبل أن يقترب منها أو يلمسها، وما أن رأت تلك النظرة الشغفة تبدر منه حتى التوت وانثنت كأنها ترجوه أن يفلت العنان لجسده. زج بجسمه إلى جانبها وأفسح ليده تتسلل إلى أسفلها ورأت منه فيما بعد ما لم تره منذ سنوات، وما أن انتهى منها وسال عرقه على جسدها رغم اعتدال المناخ وعمل مكيف الهواء حتى بادرته مبتسمة.. - ما هذا؟ - ماذا؟ - شيء كالسحر.. نهض بسرعة، اغتسل على عجل وارتدى ثوبه وبدلاً من الغترة التي كانت ملازمة للثوب عادة، وضع على رأسه الصحراوي قبعة كتلك التي يرتديها مع القميص والسروال في الإجازات لدى إبحاره باليخت، ثم أدار المحرك وقاد السيارة إلى الجهة الشمالية الجنوبية من البيستين، ثم توقف وسأل أحد المارة بقرب إحدى المدارس القديمة عن منزل بوعلي الهوى..
#احمد_جمعة (هاشتاغ)
A.juma#
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
الخراف الضالة - رواية- القائمة الطويلة لجائزة الشيخ زايد (5)
-
رواية عن مقال ممنوع...
-
حذار من انهيار الطبقة الوسطى!!
-
ميغان وأوبرا وينفري ثورة جديدة!
-
الخراف الضالة - رواية- القائمة الطويلة لجائزة الشيخ زايد (4)
-
الديمقراطية الدكتاتورية!!
-
الغوغاء قادمون!
-
الخراف الضالة - رواية- القائمة الطويلة لجائزة الشيخ زايد (3)
-
... هل الكاظمي فخ العراق؟!
-
هل تختفي الدول العربية قريبًا؟!!
-
عاصفة الديمقراطيين قادمة...استعدوا...
-
الخراف الضالة - رواية- القائمة الطويلة لجائزة الشيخ زايد (2)
-
الخراف الضالة - رواية- القائمة الطويلة لجائزة الشيخ زايد (1)
-
رصاصة وشمعة وسمك سلمون!!
-
الانهيار الأعظم...القادم!
-
تحت حذاء ماما أمريكا ...!!
-
شتاء المحرق 1940
-
الطعام قبل الإيمان...
-
فاشية أم فاشينيستا...?!
-
مفاجأة: عودة تجارة الرقيق بحرب البنفسج (الخليج)
المزيد.....
-
-جزيرة العرائس- باستضافة موسكو لأول مرة
-
-هواة الطوابع- الروسي يعرض في مهرجان القاهرة السينمائي
-
عن فلسفة النبوغ الشعري وأسباب التردي.. كيف نعرف أصناف الشعرا
...
-
-أجواء كانت مشحونة بالحيوية-.. صعود وهبوط السينما في المغرب
...
-
الكوفية: حكاية قماش نسجت الهوية الفلسطينية منذ الثورة الكبرى
...
-
رحيل الكوميدي المصري عادل الفار بعد صراع مع المرض
-
-ثقوب-.. الفكرة وحدها لا تكفي لصنع فيلم سينمائي
-
-قصتنا من دون تشفير-.. رحلة رونالدو في فيلم وثائقي
-
مصر.. وفاة الفنان عادل الفار والكشف عن لحظات حياته الأخيرة
-
فيلم -سلمى- يوجه تحية للراحل عبداللطيف عبدالحميد من القاهرة
...
المزيد.....
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
-
التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا
...
/ نواف يونس وآخرون
-
دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و
...
/ نادية سعدوني
-
المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين
/ د. راندا حلمى السعيد
-
سراب مختلف ألوانه
/ خالد علي سليفاني
-
جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد
...
/ أمال قندوز - فاطنة بوكركب
-
السيد حافظ أيقونة دراما الطفل
/ د. أحمد محمود أحمد سعيد
-
اللغة الشعرية فى مسرح الطفل عند السيد حافظ
/ صبرينة نصري نجود نصري
-
ببليوغرافيا الكاتب السيد الحافظ وأهم أعماله في المسرح والرو
...
/ السيد حافظ
المزيد.....
|