أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع - ياسين عاشور - ديميتريس ليانتينيس: الفيلسوف مُواجِهًا موتهُ















المزيد.....

ديميتريس ليانتينيس: الفيلسوف مُواجِهًا موتهُ


ياسين عاشور
كاتب

(Yassine Achour)


الحوار المتمدن-العدد: 6856 - 2021 / 4 / 1 - 23:29
المحور: الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
    


حاز الفيلسوف اليوناني ديميتريس ليانتينيس Dimitris Liantinis شهرةً واسعةً في بلاده سنة 1998 بسبب اختفائه المفاجئ والغريب الذي جعله مادةً إعلاميّة شغلت الرّأي العام طَوال أسابيع، ثمّ عادَ حديثَ الصّحف مرّةً أخرى بعد اكتشاف رفاته في مغارة تقع في جبل تايجتوس سنة 2005. وُلد سنة 1942 وكان لقبه نيكولاكاكوس قبل أن يغيّره إلى ليانتينيس نسبةً إلى قرية ليانتينا مسقط رأسه. حصّل تكوينًا أكاديميًا في اختصاص الفيلولوجيا في معهد أثينا للفلسفة وقام بتدريسها فترة طويلة قبل أن يصبح دكتورًا في الفلسفة بعد تقديم أطروحة حول "حضور الرّوح الإغريقيّة في مراثي دوينو لراينر ماريا ريلكه". درّس الفلسفة لمدة ثلاثين سنة في جامعة أثينا الوطنية وقام بتأليف مجموعة من الكتب في البيداغوجيا والدّيداكتيكيّة وفي القراءة الفلسفيّة للشعر وفي تأويل الثقافة الإغريقيّة الكلاسيكيّة، أهمّها وأشملها كتابه الأخير "الجوهرة" الذي صدر قبل اختفائه وفيه خلاصة فلسفته وأفكاره التي سنتعرّض إلى بعضها في هذا المقال الموجز.

كان ليانتينيس يكنّ عشقًا عظيمًا للثقافة الإغريقيّة الكلاسيكيّة التي كرّس حياته لقراءة تراثها وتأوّله، فقد حاز التّقليد الهيليني على انشغاله الأكبر، وبجّله على التقليد الإبراهيمي المتمثّل في التراث اليهو-مسيحي. كان يميل إلى اعتبار الهيلينيّة، أي الحضارة الإغريقيّة الكلاسيكيّة أهمّ منابع الذات الغربيّة التي ينبغي العودة إلى تراثها وتأوّله حتّى يتمثّل المعاصرون ذواتهم ومصائرهم على نحو أقوم، ذلك أنّه كان يعتقد أنّ الإغريق الكلاسيكيين كانوا يتميّزون بحذاقة معرفيّة وتفوّق أخلاقي ورفعة معنويّة، ويرجع ذلك إلى علاقتهم بالموت، فقد تملّك الإنسان الإغريقي الكلاسيكي من رباطة الجأش ما جعله يواجه فَنَائيّته أو مائِتيّته بتأسيس منوال أخلاقيّ يعكس طبيعة الوجود المتناهيّة بدلا من اقتضاء الأخلاق بوصفها قانونًا إلهيًا مُتخيَّلًا يضمنُ مآلهم إلى الخلود في جنّات النّعيم. يقول: «لقد وُلدت التّراجيديا الأتيكيّة من خلال علاقة الإغريق الجدليّة بالموت، وهي بالتالي نتاج الاشتباك الرّوحي للإغريق بظاهرة الموت»، كما يعتبر أنّ « تطلّع الإغريق الحزين إلى الموت ولّدَ الفنّ، في حين ولّد خوفُ الآخرين من الموت الأديانَ »، ويضيف: «لقد زرع اليهود أرض الإيمان، وزرع الإغريق أرض المعرفة (...) كان اليهود جلّادين، أمّا الإغريق فقد كانوا قضاةً... ولهذا السّبب انتصر اليهود». لا يقصد ليانتينيس باليهود معتنقي الديّانة اليهوديّة وحدهم، بل يشمل استعماله لكلمة "اليهود" التّقليد اليهو-المسيحي كلّه (والإسلامي بدرجة أقل) الذي بلغ أوج انتصاره وهيمنته مع الامبراطور قسطنطين العظيم الذى حوّل وجهة الغرب إلى المسيحيّة بعد اعتناقه لها وحاول القضاء على ما تبقّى من التراث الإغريقي-الرّوماني الوثني واضطلع خلفاؤه الأباطرة المتحالفون مع الكنيسة بالمهمّة نفسها.

يعتبر ليانتينيس أنّ المعارف الإنسانيّة الحديثة جميعها يمكن أن تجدا لها أصولًا ضاربة في تراث الإغريق، بل يذهب إلى أنّ جلّ ما بلغه العلم البشري من اكتشافات وفتوحات ليست سوى تنويعات على ما صاغه أسلافه في متونهم المنويّة (Spermatic) الدّافقة والمكثّفة والحبلى بكلّ ما يمكن أن يؤسّس المعرفة، يقول: «لقد قال الإغريق كلّ شيء بكلمات "منويّة" في حين لم تقل الحضارة الأوروبيّة شيئًا؛ لم يقم الأوروبيون سوى بتطوير ما صاغه الإغريق في كلمات منويّة»، فهو يرى مثلًا أنّ شذرات هرقليطس وسِعت كلّ شيء، من الفيزياء النسبيّة إلى ميكانيكا الكم.
تحتلّ ثيمة الموت في فلسفة ليانتينيس مكانةً مركزيّة، فهو يعتبره «أهمّ مشكلات الفلسفة»، ويرى أنّه لعب دورًا رئيسًا في تشكّل رؤية الإغريق القدامى للعالم، ذلك أنّهم لم يكونوا أصحاب رؤية جذلى بهيجة بقدر ما كان عالمهم مفعمًا بمالينخوليا لامتناهية، يظهر ذلك بجلاء في التراجيديا الأتيكيّة التي يعتبرها «أنبل إنجازات الإنسان على مرّ التّاريخ»، لقد كانت فلسفتهم استقصاءً للموت وسبرًا لأغواره، وهو ما أدّى بهم إلى استيعابه بما هو قانون كوني ثابت وغاية الحياة الأرضيّة التي لا تُلحَقُ في نظرهم بحياةٍ بعديّة، ويظهر هذا بجلاء حتّى في لغتهم،«لقد ضمّن الإغريق معنى الموت في لغتهم الثريّة التي لا تُضاهى. تُؤدّي كلمة Telos في اللّغة اليونانيّة معنيين: النهاية والغاية. يهدف كلّ ما نقوم به في حياتنا إلى النهاية/الغاية، إلى موتنا. إنّ موتنا، النهاية، هو غاية حياتنا».

لقد أبصر الإغريق الموت في ضوء تناهي الكائن الإنساني، دون أي قصّة عن الآخرة أو نظام جزائي أخلاقي للثواب والعقاب يكون حسب أعمال الإنسان في الحياة الأرضيّة. ورغم احتواء الميثولوجيا الإغريقية أساطير فرديّة مثل أسطورة سيزيف الذي حُكم عليه بالعذاب الأبدي في مملكة هاديس إلّا أنها لا تعدو أن تكون استثناءات وهي لا تؤسّس نسقًا اعتقاديًا بخصوص حياةٍ بعد الموت. يعتبر ليانتينيس أن هذه الرّؤية الإغريقيّة بطوليّة ذات شجاعة أخلاقيّة رفيعة، ذلك أنّها نابعةٌ من الشّعور المأساوي، وهي نقيضُ الرّؤى المطروحة في الدّيانات اليهوديّة التي تنبع من الخوف.
يحتفي ليانتينيس بفرديّة البطل الإغريقي، على خلاف الذات الشرقيّة التي يراها مُنحلّةً وذائبةً في بوتقة الكون العظيم وخاضعةً لأعراف الجماعة العضويّة، إنّ الرّوح الإغريقيّة في نظره روحٌ فرديّة بطوليّة تُواجه موتها بسموّ أخلاقيّ وقلبٍ شديد، بل وقد يصل بها الأمر إلى اختيار طريقة موتها، يقول في أسلوب غنائيّ يحاكي لهجة أبطال الميثولوجيا الإغريقيّة البواسل:«سوف أموت، أيّها الموت، عندما أريد أنا وليس عندما تُريدُ أنت. في هذا العمل الأخير، لن تتحقّق رغبتك، بل رغبتي هي التي سوف تتحقّق. أنا أحارب ضدّ إرادتك. أحارب قوّتك. أحارب كيانك كلّه، سأفترش التّراب عندما أقرّر، وليس عندما تُقرّر أنت».

إنّ صيغة الخلود الوحيدة التي آمن بها بها ليانتينيس وأسلافه الإغريق القدامى هي ما وسمه ب«الخلود داخل العالم»، أي خلود السّيرة أو الذكر الذي يتركه الإنسان خلفه من خلال أعماله ومثال حياته، أو بعبارة أخرى "سمعة ما بعد الموت"، تشبه هذه الرؤية الدّهرانيّة ما نجده عند شعراء ما قبل الإسلام من تطلّع إلى حسن الذكر وعدم انقطاعه بعد الموت باعتباره الشكل الوحيد لخلود الإنسان العربي، ومثال ذلك إنشادُ الحادرة الذبياني: «فَاِثنوا عَلَينا لا أَباً لِأَبيكُمُ *بإِحسانِنا إِنَّ الثناءَ هُوَ الخُلدُ».

يبدو ليانتينيس أسِفًا لما آلت إليه الثقافة اليونانيّة المعاصرة من تدهور وسقوط حتّى صار اليونانيون المعاصرون "لامرئيين" بالنسبة إلى الأوروبيين، اليونانيون أبناء التراث الهيليني العظيم الذين صاروا نكِرات بالكاد يُلحظ وجودهم، يقول: «بالنسبة إلى الأوروبيين (...) نحن "الإغريق الجدد" لسنا سوى مجموعة من المجهولين، شيء من عرب البلقان الأتراك، نحن الأرثودوكسيين أصحاب خطّ الكتابة الذي يشبه الرّوسيّة (...) والقباب التي تعلو منازلنا القرويّة».

مات ليانتينيس مُنتحرًا بعد أن اختفى بشكل مفاجئ وغريب، وفي نفسه حسرةٌ تاركًا رسالةً ذات نبرة مريرة إلى ابنته الوحيدة ديوتيما، يقول فيها: « عزيزتي ديوتيما، أنا مُغادرٌ طوعًا، أختفي شامخًا وصامدًا وفخورًا. لقد جهّزت نفسي لهذه اللّحظة خطوةً خطوةً طَوال حياتي، حيثُ كان هناك العديد من الأمور، أهمّها دراسةُ الموت بطريقة متأنيّة. (...) أموت بصحّة جيّدة جسديًا وعقليًا،(...) عِيشِي بكلّ بساطة وتواضع ونزاهة كما علّمتُكِ. تذكّري أنّ الأجيال الجديدة ستواجه أزمنة عسيرة. إنّ من الظلم ومن الغريب أن تُمنح الحياة إلى البشر، حيث يعيش معظمهم في دوخة هذا العبث السّخيف. يتضمّن عملي الأخير معنى الاحتجاج ضدّ الشرّ الذي نعدّه نحن الكبار للأجيال الجديدة البريئة القادمة. لقد عشنا حياتنا نأكلُ لحمهم. هاوية سحيقة الشرّ في رعبها. حزني على هذه الجريمة يقتلني (...) ليانتينيس».

هكذا واجه الفيلسوف ديميتريس ليانتينيس موته الخاص، بعد أن كرّس حياته لدراسته والاستعداد له، مات مفجوعًا من هول التّردّي وفي قلبه حسرةٌ على تراثه الهيلينيّ المجيد الذي آل إلى التدهور والسّقوط، وعلى البطل الإغريقي الكلاسيكيّ الذي انحجب عن أفق الثّقافة اليونانيّة المعاصرة، وحلّ محلّه رهطٌ لامرئيّ من النّكِرات الذين لا يُحسبُ لهم حسابٌ ولا يُنظر إليهم إلّا باعتبارهم بقايا أطلال حضارة عظيمة.

مختارات من محاضرة: "تأمّل فلسفي في الموت"
ألقاها ديميتريس ليانتينيس في مدرسة الصحّة العسكريّة (أثينا) سنة 1997 قبل أشهر من انتحاره

«إنّ التّراجيديا الأتيكيّة هي أنبل إنجازات الإنسان على مدار التّاريخ. لم يُقل شيءٌ أكثر حقّانية منها. ليس ثمّة شيء أكثر واقعيّة، ولا أكثر محسوسيّة ولا أكثر فضيلةً وتثقيفًا وجمالًا من التّراجيديا الأتيكيّة.إذا لم نكن نُدركُ هذا، فإنّ اللّوم يقعُ على عاتق بعض النّاس، وسأوجّه النقد مباشرةً إلى النّظام التعليمي متحمّلًا مسؤوليّتي باعتباري مُدرّسًا».

«وُلدت التراجيديا الأتيكيّة من خلال علاقة الإغريق الجدليّة بالموت. لذلك فهي نتاج مواجهة الإغريق الرّوحيّة لظاهرة الموت. يمكن إثبات ذلك على نحو جليّ كالتالي: فلنستحضر شعراء التراجيديا الأتيكيّة الثلاثة العظام (أسخيليوس وسوفوكليس ويوريبيديس)، الأبطال والشخصيات والتبصّرات الفكريّة الرّائعة التي أبدعوها، "تماثيل الكلمات"، كما نقول في الأدب، كلّهم أناسٌ يلاقون حتفهم في النّهاية. يُذبحُ أجَامِمْنـُون في الحمّام، تُقتلُ كليتيمنيسترا على يد ابنها، يُقتلُ إيجيسثوس أيضًا على يد أوريستيس، يفقؤُ أوديب عينيه ثمّ يموتُ في كولونوس، تشنقُ أمّه وزوجته، جوكاستا، نفسها، تُدفنُ ابنتهما أنتيجون، حيّةً، ويَقتل ابنا أوديب إيتوكليس وبولينيكس بعضهما. إنّ التّراجيديا الأتيكيّة موضع دائمٌ للذّبح. يقتلُ آياس، المحارب العظيم، نفسه بسيفه. ويُسحق هيبوليتوس حتّى الموت كما هو الحال في حادث سيّارة عنيف. تقتل ميديا أبناءها، وهكذا دواليك. بالانتقال من التّراجيديا الأتيكيّة إلى أعظم لحظة، تقريبًا، في الفنّ الأوروبّي، تراجيديا شكسبير، "السّليل" المباشر لأسخيليوس، ستلاحظون أيضًا سقوط السّتائر على مسرح مليء بالجثث. فلنستحضر ماكبث وعطيل وهاملت وديدمونة وأوفيليا وغيرهم. هذه مجرّد عيّنة عن كيفيّة انبثاث ثيمة الموت في عالم الفنّ».
«إنّ الموت مُهيمنٌ على الكوكب، إنّه حاكمُ الكون، وقانونه السّائد. نحنُ نعلمُ اليوم، بفضل الفيزياء الفلكيّة وعلم الكون، أنّ النّجوم تموت أيضًا. سوف تموت شمسنا في غضون خمسة مليارات سنة، في حين أنّ الكواكب سوف تموت في وقتٍ أكثر قربًا. إنّ الموت يُهيمن أيضًا على المركّبات اللّا عضويّة، على الكون كلّه».

«إنّ الموت أهمّ قضيّة فلسفيّة. ما الفلسفة؟ قد يحدّها المرء بوصفها أنطولوجيا وإيتيقا واستطيقا وعرفانيات وميتافيزيقا، كما يفعل الأكاديميون في الجامعات. ليست المسألة كذلك على الإطلاق! إنّ هذه الموضوعات بمثابة الهامش، إنّ تعريفها بهذا الشكل أمرٌ سخيفٌ وسرياليّ، لا يمكن تدريس الفلسفة انطلاقًا من هذه الرؤية، ولهذا السّبب فإنّ علاقتنا بها باردة، فلنترك ما قاله ديكارت وديوجانس اللايرتي وبرغسون وزينون الرواقي وزينون الإيلي للخبراء. الفلسفة أمرٌ واحدٌ فقط. إنّها تفكّر الإنسان في ظاهرة الموت. هكذا عرّفها أحد أعظم الفلاسفة: أفلاطون، في محاورة فيدون، قائلًا:"الفلسفة هي دراسة الموت". وهو يقصدُ علاقة كلّ منّا بموته الخاص، وليس بموت صديقه أو والده أو أحد أقاربه، كأن نذهب إلى المقبرة أو إلى جنازة ونكون في حالة حداد. ليس الأمر كذلك، إنّ الفلسفة هي دراسةُ الموت بمعنى أن أتأمّل موتي الخاص، في ضوء حقيقة أنّي سوف أموت يومًا ما. بعد التعريف الذي قدّمهُ مباشرةً، يخبرنا أفلاطون أنّ "أولئك الذين يتفلسفون بشكل صحيح، يدرسون كيف سيموتون، ولا يهابون الموتَ متى حلّ أجلهم". لقد قيل هذا من قبل الكثيرين في العصر الحديث، لكنّ الصيّاغة الكلاسيكيّة كانت لأفلاطون. لقد افتتح كامو، إحدى أهمّ مقالاته، أسطورة سيزيف، بعبارة مرعبة:"ليس ثمّة سوى مشكلة فلسفيّة واحدة:الانتحار". لكنّه لم يعبّر عن الفكرة بوضوح الإغريق ورصانتهم واستبصارهم، كما فعل أفلاطون».

«ثمّة قول مأثور من التاريخ اللّاتيني: Si vis pacem, para bellum (إذا أردت السّلام فلتستعد للحرب). قام فرويد بإعادة صياغته ليجعله: Si vis vitam, para mortem (إذا أردت الحياة فلتستعد للموت). إذا أردت أن تعيش بأفضل الطرق الممكنة، وأن تحظى بأكثر الحيوات اكتمالا وسعادةً ونزاهةً، فلتتجهّز في كلّ لحظة ولتستعدّ للموت عبر التفكّر فيه».

«جميعنا نعلم أنّنا سوف نموت، وحدهم البشر يملكون هذه الخاصية. إنّه الاختلاف الأنطولوجي للدازاين، كما يقول هايدغر. نحن البشر نعلم أنّنا سوف نموت لأنّنا كائنات مفكّرة، لأنّنا حصّلنا الوعي المعرفي؛ نحن نملك عقلًا. ذلك ما يجعل الموت ظاهرة مؤلمة بالنسبة إلى الإنسان، وهو ما يخلق الخوف منه».

«تُوجدُ علامات لطيفة في الأساطير الفلسفيّة الماضية، نعثر على إشارة واضحة، في العهد القديم، في سفر التّكوين: خلق الإله آدم وحواء ووضعهما في الجنّة وحذّرهما من الأكل من شجرة المعرفة: "وَأَمَّا شَجَرَةُ مَعْرِفَةِ الْخَيْرِ وَالشَّرِّ فَلاَ تَأْكُلْ مِنْهَا، لأَنَّكَ يَوْمَ تَأْكُلُ مِنْهَا مَوْتًا تَمُوتُ." (تك 2: 17). نحن نعلم أنّهما لم يموتا، فماذا كان يُقصد بالموت؟ لقد حصّل الإنسان الوعي المعرفي، أو المعرفة، وانسلخ على الفور من الطّبيعة، التي لم يُغادرها أيّ نوع من الكائنات الحيّة الأخرى. لقد خرج الإنسان من الحالة الطّبيعيّة وجعل العالم "موضوعًا" يتفحّصه، وبدأت منذ ذلك الحين متاعبه كلّها. كان الموتُ العقوبة الكبرى التي هدّدهما الإله بها، لذلك فإنّ وعينا المعرفي يجعلنا نُدرك الموت ويُنشئ فينا الأسى والألم. إنّ شجرة المعرفة هي كناية عن تحصيل الإنسان الوعي المعرفي. هكذا تأوّلَ الفيلسوف الألماني العظيم كانط هذه الأسطورة، وفكَّ التباسها، في مقالة موجزة كتبها في منتصف عمره بعنوان "تخمينات حول بداية التاريخ البشري"، حيث قال إنّ "الثعبان" المذكور في سفر التكوين هو "اللّماذا" الأولى، سؤال الإنسان الأوّل. لقد تطوّر دماغ الإنسان، حسب نظرية التطوّر، حيث نما حجم دماغ الإنسان الماهر (هومو هابيلس) والإنسان المنتصب (هومو إريكتوس)، وحدث ذات يوم ذلك الانفجار الهائل في ذهنه وصاغ أوّل الأسئلة».

«يخبرنا أبيقور أنّ الموت غير جدير بالخوف، يقول في رسالة إلى مُريده مينيسي:"وهكذا فإن الموت، وهو أفظع الشرور، لا شيء بالنسبة إلينا، إذ عندما نكون فالموت لا يكون، وعندما يكون الموت فنحن لا نكون". لقد منحنا أبيقور وصفةً علاجيّة متكوّنة من أربعة أدوية، قدّم لنا ترياقًا بالمعنى الأبقراطي؛ أوّلا:"لا تخشوا الآلهة"، ثانيا:"لا معنى للموت"، لن أشعر به حين أموت، سوف يكون بمثابة نوم هنيء أبدي، كما دعاه سوفوكليس في تراجيدياته ب"النوم الأبدي". ثالثًا:"يسهل الحصول على ما هو جيّدٌ". بإمكانك تحصيل الفرح، إنّه أمرٌ هيّنٌ. رابعًا:"بإمكانك تحمّل ما هو فظيع". يمكننا تحمّل الشدائد والنكبات والمحن التي تصيبنا، إذا ما تملّكنا هذه الأداة، هذا "القُوت الفلسفي"، هذا السّلوك الفلسفيّ السّليم».

«لقد ذهب تشاؤم الإغريق إلى الأقاصي، ولامس القاع، وتبصّر الظّلمة المطلقة، لكنّه لم يعلق في الأسفل ليصير عدميّةً. لقد صنع الإغريق من ذلك التشاؤم قوّةً وارتقوا وصاغوا أنشودةً من رحم تفجّعهم، لذلك أبدعوا هذا الفنّ الفريد الرّائد الخالد. لقد ولّدَ هذا الألم الأعمدة والتماثيل والفلسفة الأفلاطونيّة وأناشيد بنداروس ومرثيات الشاعر الغنائي وملحمة هوميروس... ».

«في الفلسفة، عندما نقول "الموت" فإنّنا نعني "العدم"، كما هو وارد في الأنطولوجيا، وعندما نقول "الحب" فإنّنا نعني "الكينونة". تجري دراما الحياة بين هذين القطبين، إنّ ما نسمّيه بالطّبيعة والولادة والخلق، هو بالضبط اللّقاء الفلسفي بين الحب والموت، إيروس وثاناتوس- الكينونة والعدم».
«إنّ ما نحتاج إلى معرفته بخصوص الحبّ، هو علاقته التّبادليّة بالموت.إنّ حالةً إيروسيّة مكثّفة، طريقة حياة إيروسيّة عميقة، لن نُدركها أبدًا في بعدها الطّبيعي إنْ لم تكن مصحوبة بظاهرة الموت. لذلك كانت لقصص الحب التي يكتبها الشعراء العظام نهايات مدمّرة، مثل تراجيديا روميو وجولييت لشكسبير التي تُعدّ بمثابة نموذج أصليّ».

«إنّ هرقليطس أعظم عقل وُلد على الإطلاق. ماذا قال هذا الرجل؟ لقد حُفظت لنا بعض شذراته التي وسعت كلّ شيء، كلّ شيء، النظريات الحديثة كلّها، ميكانيكا الكم، الفيزياء النسبيّة...لقد كان هذا الرجل المالينخولي ينتحب طوال حياته، سخط على النّاس واستهزأ بهم، ومات متجوّلًا بين الجبال. يقول في إحدى شذراته:"إنّ هاديس (الموت) وديونيسوس (الحب) أمرٌ واحدٌ"».

«لقد أقرّ فرويد في شيخوخته بوجود مبدأ، قانون في الطبيعة، هو النموذج البدئي الأساسي الأقوى. إنّه الدّافع نحو الموت (ثاناتوس). يتمّ التعبير عن هذا الدّافع بطريقتين: إمّا أن يُوجّهَ نحو الدّاخل ساعيًا إلى تدميري، مثل الانتحار الذي يُعدّ حالة نموذجيّة، وإمّا أن يُوجّهَ نحو الخارج بسبب وجود قوى مقاومة تحوّله ليصير الظاهرة التي نسمّيها "عدوانيّة". انطلاقًا من هذه النقطة، قام فرويد بتأويل التاريخ البشري بطريقة لم يتخيّلها أي فيلسوف من قبل، لقد فسّر السجلّ الإجرامي الثقيل للتاريخ. لماذا تندلع الحرب؟ لم يكن ثمّة مفرّ من الحرب منذ بداية التاريخ، إنّها أكثر أشكال الصّراع تطرّفًا. لماذا توجد الحرب؟ يكافح الكثير من الحكماء والفلاسفة وعلماء الاجتماع والسياسيين والعلماء والاقتصاديين من أجل إيجاد صيغة لتنظيم العلاقات الإنسانيّة، من أجل طمس هذه المعاناة، ولم ينجحوا. لماذا؟ لأنّ أحدهم لم يفكّر في وجود شيء متأصّل في الطّبيعة البشريّة، شيء طبيعي محض ولا يُهزم: الدّافع نحو الموت، عندما يتحوّل إلى الخارج ليصير عدوانيّة. هذا هو فرويد».



#ياسين_عاشور (هاشتاغ)       Yassine_Achour#          



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- حياةٌ مُؤجّلةٌ
- المالينخولي السّعيد .. أو كيف يحتمل السّوداويُّ مُكوثه في ال ...
- تونس على سرير بروكروست .. أو في البروكروستيّة الهوويّة
- الفُصامُ جُنونًا و شِعْرًا... -أرنست هربك- العائدُ مِن وَادي ...
- جان دمّو .. أو ديوجين في حياةٍ أخرى
- الشّعرُ يُنشدُ خافتًا
- غثيانٌ من وطأة الرّاهنِ
- الرّابطة العربيّة الأكاديمية للفلسفة
- محاكم التّفتيش السّراطيّة
- كلّ الهزائم لي
- فلسفة المعيش
- يوميات الخيبة
- أوّلُ الاغترابِ
- تشذّرٌ على هامِشِ النّسقِ
- العرّاف
- و هل تغيبين عنّي ؟
- مشروع ميثاق العمل الإسلامي - محمّد شحرور
- الإسلاميون و الكذبة المقدّسة : قراءة في أخلاق التدجين
- كنَعِيقِ البُومِ أو أتْعَسْ
- هَمْسُ البَرَاءَةِ


المزيد.....




- لثاني مرة خلال 4 سنوات.. مصر تغلظ العقوبات على سرقة الكهرباء ...
- خلافات تعصف بمحادثات -كوب 29-.. مسودة غامضة وفجوات تمويلية ت ...
- # اسأل - اطرحوا أسئلتكم على -المستقبل الان-
- بيستوريوس يمهد الطريق أمام شولتس للترشح لفترة ثانية
- لندن.. صمت إزاء صواريخ ستورم شادو
- واشنطن تعرب عن قلقها إزاء إطلاق روسيا صاروخا فرط صوتي ضد أوك ...
- البنتاغون: واشنطن لم تغير نهجها إزاء نشر الأسلحة النووية بعد ...
- ماذا نعرف عن الصاروخ الروسي الجديد -أوريشنيك-؟
- الجزائر: توقيف الكاتب الفرنسي الجزائري بوعلام صنصال
- المغرب: الحكومة تعلن تفعيل قانون العقوبات البديلة في غضون 5 ...


المزيد.....

- كتاب رينيه ديكارت، خطاب حول المنهج / زهير الخويلدي
- معالجة القضايا الاجتماعية بواسطة المقاربات العلمية / زهير الخويلدي
- الثقافة تحجب المعنى أومعضلة الترجمة في البلاد العربية الإسلا ... / قاسم المحبشي
- الفلسفة القديمة وفلسفة العصور الوسطى ( الاقطاعية )والفلسفة ا ... / غازي الصوراني
- حقوق الإنسان من سقراط إلى ماركس / محمد الهلالي
- حقوق الإنسان من منظور نقدي / محمد الهلالي وخديجة رياضي
- فلسفات تسائل حياتنا / محمد الهلالي
- المُعاناة، المَعنى، العِناية/ مقالة ضد تبرير الشر / ياسين الحاج صالح
- الحلم جنين الواقع -الجزء التاسع / كريمة سلام
- سيغموند فرويد ، يهودية الأنوار : وفاء - مبهم - و - جوهري - / الحسن علاج


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع - ياسين عاشور - ديميتريس ليانتينيس: الفيلسوف مُواجِهًا موتهُ