|
كاميرات ثلاث -الجزء الثالث
حامد تركي هيكل
الحوار المتمدن-العدد: 6856 - 2021 / 4 / 1 - 03:48
المحور:
الادب والفن
الكاميرا الثالثة في العام 1979
عندما كان يضيق صدره، ويرغب باستنشاق هواء نقيّ، عندما تزعجه الزحمة وتشتاق روحه للخلوة، عندما يشعر أنه بحاجة الى العودة الى مونولوجه الداخلي الخاص والذي اعتاده منذ أن كان يجلس هناك وحيداً على السدّة يتطلع الى فضاء الشطّ الواسع الممتدّ أمامه، ذلك الفضاء الصامت الرحب، ذلك الفضاء الأليف الذي لايملّه أبداً، أو منذ أن كان يتكيء على جذع نخلةٍ ويسيحُ روحيّاً بين أعمدة ذلك المعبد الفسيح التي تمتد أروقتُه بكلِّ الاتجاهات حتى تزدحم وتتقارب وتغلق المشهدَ أمام عينيه، هناك في غابة النخيل. عندما يشعر فاضل العطية بكل ذلك الاختناق لا يكون بمقدوره سوى أن يفتح باب الغرفة ليخرج الى الشرفة.
الرغبة بالتصوير كم تمنى أن يكون له متسع من الوقت ليأخذ كاميرته ويجول في بغداد يمارس هوايته القديمة التي لم تتحقق. ولكن كيف له ذلك وهذه الواجبات التي لا تنتهي؟ والمشاريع التي لا يكفي الوقتُ المتاح لإتمامها؟ وكم تمنى أن يكون حرّاً ليصّور ما يشاء متى يشاء، لا تضايقه عيون الحرّاس والمراقبين، ولا تطارده الممنوعات، التصوير ممنوع! كان قد اشترى كاميرته الثالثة من الشركة الأفريقية لتجارة الأجهزة الدقيقة. وهي كاميرا جديدة، وصغيرة نسبياً، لونها أسود، ولها عدسة يميل لونها الى الأزرق، ماركة "زينت" روسية، وضعت داخل صندوق صغير، مع كتيِّب إرشادات صغير جداً. لم يجرّبها بعد، كان يتحيَّن الفرصة حالما يفرغ من التقديمات التي لا تنتهي. ولكنه عندما يجد أن لديه يوماَ أو بعض يوم، لا يجد في نفسه رغبةً للخروج، ولا في جسمه طاقةً للمشيّ، فيخمد نائماً معوِّضاً ما فاته من النوم لأيام خلتّ. لذلك ظلَّتِ الكاميرا في صندوقها في الرفّ الأعلى لخزانة الملابس الحديدية.
غرفة القسم الداخلي الغرفة التي يعيش فيها يتقاسمها مع خمسة طلبة آخرين. ستةُ أسرّة، وستُ خزانات حديدية ذات لون رصاصي غامق. كل خزانة منها ذات مصراعين، حين يفتح أحدهما يهتزُّ، يقرقعُ، ويصدرُ هديراً أو رعداً مزعجاً يوقظ من كان نائماً. وثمةَ ستُ مناضد صغيرة، يضعُ عليها الطلبة الذين تتطلب واجباتهم رسماً ألواحاً خشبية بيضاء كبيرة. الغرفةُ هي واحدة من غرف عديدة متماثلة على جانبي ممر طويل، غرفته تطلُّ على الشارع، فيما تطلُّ الغرف المقابلة على الحدائق الداخلية للمبنى. لا توفر الشرفة الخصوصية المطلوبة ولا الهدوء المرجو، ولا توفر الإطلالة الجيدة على فضاء بكر أو حديقة غنّاء. هي شريط ممتد متصل تنفتحُ عليه كل الغرف المجاورة. شريط بعرض متر ونصف. تنغرز وسطه الأعمدة الهيكلية ذات اللون الرصاصي الغامق والملمس الخشن، يسيجها سياج حديدي بارتفاع الخصر من أنابيب مصبوغة هي الأخرى باللون الرصاصي أيضاً. هذا المبنى الحداثي الجميل، المتقشف جداً، المختزل، الغني بفضاءاته المنسابة، والذي يدهشك لأول مرة باختلافه عن كل المباني التي ألفتها، سيتحول فقره الجمالي المتقع الى كابوس يقطّع الأنفاس حين تقيم فيه سنوات عدة، فتنزع روحك للهروب الى غنى التفاصيل، وسحر الجدران الطابوقية الهشّة، ورقة المواد الخشبية التي تعبق منها رائحة العتق الممزوجة بعطر الصاج.
الشارع المقابل تقع غرفته في الطابق الأول، والحديقة التي تفصل مبنى دار الطلبة هذا عن السياج بعرض بضعة أمتار في هذا الجانب، لذلك يبدو الشارع الموازي للمبنى والممتدُّ من التقاطع الذي يبدأ منه شارع الكفاح الى ساحة باب المعظم يبدو ملاصقاً للشرفة. ومن موقعه في الشرفة كان باستطاعته رؤية محلّات بيع المواد الإنشائية التي تحتلُّ واجهة الشارع المقابلة لدار الطلبة. حيث تعرض تلك المحلات بضاعتها المتنوعة من البلاطات وأكياس الأسمنت والملاط وغير ذلك من المواد الكريهة، وحيث يجول العمّال الذين يحمّلون السيارات بتلك المواد تعلو وجوههم طبقة من الأسمنت فيبدون كأنهم موتى قد خرجوا للتو من قبورهم! ومن موقعه على الشرفة أيضاً كان بإمكانه أن يرى بيوت محلة الفضل وهي تغفو بهدوء خلف ذلك الشارع المتجهم. كانت تبدو له ساكنة، ثابتة لا تزعج هدوئَها تغيراتُ الزمن، ولا اكتظاظ شوارع بغداد التي تحاصرها. فتتوق نفسه لاكتشافها، ويحدِّثُ نفسَه بضرورة التجوال فيها هرباً من كلِّ ذلك الضنك والفقر العاطفي الذي يحاصره. لهذا الشارع دورة حياة يومية تتكرر بلا انقطاع. فهو في ساعات الفجر الأولى هادئٌ لا تتخلل صمته الا بضع باصات لمصلحة نقل الركاب الحمراء ذوات الطابقين، حيث تنطلق من ساحة قريبة. باصات خالية من الركاب اللهم الا من بعض الجنود، فيما لا يزال سوّاقها يتثائبون ويعركون عيونهم للتخلص من آثار نوم الليلة البارحة الذي ربما نغَّص عليهم هدوءه كابوسٌ مزعج! وتعبر الشارع أيضاً في ساعة الفجر عربات منطلقة من محلة الفضل ومن شارع الكفاح باتجاه ساحة باب المعظم. ثم بعد ذلك تدبُّ في الشارع حركة السيارات التي تقلُّ الجنودَ الى معسكراتهم والعمالَ الى مواقع أعمالهم. ثم يكتظُّ الشارعُ بحركة الموظفين المتّجهين لأعمالهم، ثم بحركة الصبايا بقمصانهنّ البيضاء الناصعة وتنوراتهن الرصاصية المكوية، والشبّان بهندامهم النظيف، وهم يحملون جميعاً دفاترهم متّجهين الى قاعات المحاضرات، ثم يعجُّ الشارع بحركة المتسوقين والمسافرين والمتسولين والمتسكعين من كلِّ صنف. حتى يبدأ عند المساء بالسكون رويدا رويدا ، قبل أن تغزوه معدات أمانة العاصمة والمقاولين العاملين معها، فيستغلّون خلوّه من المارّة والسيارات فينقضّون عليه بمكائنهم العجيبة، يحفرون و ينقرون و يمررون قابلات وأنابيب. تهتزّ بناية القسم الداخلي رقم (١) لضجيج آلاتهم، ويتخلّف صدى أصواتها في رأسه، ويبقى إرتعاشها المقيت في مفاصله طويلاً حتى بعد أن ينسحبوا ليغطَّ الشارعُ بعدها بنومٍ قصير قبل أن تمزّقَ سكونَه عرباتُ رجال محلة الفضل الصندوقية المتجهةً الى باب المعظم.
حركة انقلابية لم يكن يعرف عن تلك العربات شيئاً حتى تلك الليلة التي اضطر فيها للبقاء سهراناً لانجاز واجباته البيتية، إذ سمع همساً خفيفاً من جهة الشارع. حين خرج الى الشرفة يستطلع الأمر رأى شيخاً عجوزاً وطفلاً صغيراً وهما يدفعان عربة صندوقية مسرعين باتجاه ساحة باب المعظم. حين أطال النظر الى ذلك المشهد الغريب محاولاً فهمه، واذا بحشدٍ من العربات تنطلق بالاتجاه نفسه، يدفعُها رجالٌ صامتون لا ينبسون ببنت شفة، ولكنهم كانوا عازمين جادّين متوثبين! تقودهم طاقةٌ هائلة يكاد يحسُّها تستعرُ في صدورهم. يسابقون الزمن. من أنتم بحق السماء؟ وما الذي نويتم فعله هذه الليلة؟ كان يتساءل وحيداً. ما زاد استغرابه أن تلك الغربات الصندوقية الكبيرة تحتوي بداخلها على أشياء مبهمة، ينطلق منها دخانٌ أو بخارٌ أو ما شابه! وخُيِّل إليه انه قد رأى ناراً ملتهبةً في مكان ما من بعضها! ترى هل إن هؤلاء ثوار جُدد ابتكروا طريقة جديدة للتسلل تحت جنح الظلام لاحتلال وزارة الدفاع القريبة من هنا؟ كان يتساءل. ربما. فهم ينطلقون باتجاهها! يا للحدث التاريخي هذا الذي يحدث الآن والذي لا يعلم به أحدٌ سواه . هو فقط شاءت الأقدار أن يرى بعينيه ما كان يحدث قبل انفجار الأوضاع، والتي سيتحدث عنها الناس عقوداً قادمة. وما هذه العربات الا أحصنة طروادة صغيرة معبأة بثوار يدخّنون سجائرهم الأخيرة قبل الوثوب الى أتون المعركة الفاصلة التي باتت على بعد أمتار منهم! يا ويلنا سينهمر الرصاص والقنابل عمّا قليل علينا! وستسيل الدماء. هل سينجحون؟ هل سيتمكن هؤلاء المتعبون المحدودبة ظهورهم والذين أنهكهم دفع عرباتهم الصدئة من قلب نظام الحكم؟ هل سيتردد عمّا قريب في الأجواء كلمات البيان رقم واحد، مسبوقاً بآية قرآنية، ومعزّزاً بلهجة حماسية متفائلة وغاضبة في الوقت ذاته! "أيها الشرفاء في كل مكان"! ثم يعقبها أناشيد حماسيّة هادرة، ثم يستولي القلقُ على الناس، فيجدوا أنفسهم مستعدين لدفع أنصاف أعمارهم ليعرفوا من قاد ذلك الانقلاب، وليعرفوا توجهَ هذه الحركة الثوريّة الجديدة قبل أن تتحول الى طبقة مترفة سخيفة يتشدّقُ أبطالُها بتاريخهم المجيد! هل إن هؤلاء هم رجال الليل؟ الذين يحتلون بغداد عندما ينام سكّانها فيعيثوا فيها فساداً ثم ينسحبون الى أوكارهم السريّة قبل أن يتبيَّن الخيط الأبيض من الخيط الأسود؟ هل هم أرواحُ الذين قضوا مظلومين هنا في هذه المدينة على امتداد تاريخها الطويل؟ فظلّت أرواحهم المعذّبة تجوب الأزقة ليلاً تبحث عن الأحبّة لتودِّعهم، وعن القتلةِ لتثأرَ منهم؟ ولكنّها ضلّت طريقَها حين أكتشفت أن شوارع بغداد ما انفكت تتبدل وتتغيّر كلَّ نهار، فلم تعدْ تلك الأرواحُ قادرةً على الوصول الى غاياتها! فتاهت! من هؤلاء؟ والى أين يمضون؟ لم يجدْ بُداً من إخبار زميلٍ له كان سهراناً هو الآخر لانجاز مشروعه الذي سيقدمه غداً صباحاً. حدَّثه عمّا رأى للتوّ، فأثار فضوله، فقررا التسلل سرّاً من بوابة دار الطلبة والذهاب لاستطلاع ما كان يجري هناك في ساحة باب المعظم، فزاوية الرؤية من الشرفات لا تتيح لهما رؤية الساحة. سيعرف حقيقة الأمر، وسيقرر ما اذا كان عليه أن ينضمَّ الى صفوف الثوّار، أم ينسحب تاركاً الأمور تجري كما شاءت لها الأقدار!
مرافقة الثوار التقط كاميرته المخبأة، وعبأها فلماً ما كان متأكداً ليلتها من صلاحيته بعد لقدمه. وتردّدت في رأسه أهزوجةٌ كان قد قرأها ذات يوم، "هزّيت وربيت لهذا"، وتسلّلا بصمت. لأول مرة يكتشف ان الخروج فجراً من بوابة القسم الداخلي الى الشارع أمر متاح. فالبوابة مفتوحة على مصراعيها كما هي نهاراً. وليس هناك حارس! ولم يكن هناك ما يمنع من الخروج! أفقده ذلك الخروج الميَّسر المتاح لذّة المغامرة، ووجد نفسه مع زميله في الشارع، وما هي الا خطوات معدودات حتى استدارا بزاوية قائمة ليجدا نفسيهما وسط ساحة باب المعظم تماماً. سيصوّر تلك اللحظة التاريخية، وسيكون راوي الحدث العظيم. تبادرت الى ذهنه فكرةُ أن الأقدار قادتْه الى هنا ليس لشيء بل من أجل هذه اللحظة الحاسمة في تاريخ البلاد، وفي تاريخه الشخصيّ. لقد أصبح كلُّ شيء واضحاً الآن تماما.
فطور غرائبي انه مهرجان العربات الصندوقية إذن! العربات التي زحفت قبل قليل من محلة الفضل والمهديّة والشيخ عمر تجمعت هنا، اصطفت، وتراصت، وازدحمت وتنافست على كل شبر من هذه الساحة المثلثة. هذه الساحة التي تكون في ساعات النهار خالية من أيّ شيء سوى حركة الطالبات المتأنقات العابرات صوب كلياتهن أو صوب مدينة الطب أو العائدات منها باتجاه ساحة الميدان حيث يركبن الباصات المنطلقة الى المناطق المختلفة. أولئك الجميلات اللواتي يرتدين الزيّ الموّحد. وليس سوى حركة الطلاب المهتمين كثيرا بتصفيف شعورهم الطويلة وسوالفهم المرسومة بعناية على الصدغين، والمشغولين بتعريض نهايات بناطيلهم الچارلس، المتمنطقين بنطاقات جلدية عريضة، والمرتدين قمصانهم المخصّرة! العابرين من كلّ اتجاه. تلك الساحة التي لا يتواجد فيها آناء النهار الا بائعُ جرائد وثلاثة فتيان من صباغي الأحذية وبائع حلوى طحينية. تلك الساحة التي أصبحت الآن في ساعة الفجر هذه مليئة بصنف آخر من البشر، وفعاليات أخرى لاعلاقة لها بشخوص النهار. لم تعد ساحة معركة مرتقبة كما كان يظنُّ منذ لحظات، ولم يعد أولئك الرجال صانعي تاريخ من أيِّ نوع، إنما هم رجالُ أقوياء ذوي أجساد غليضة وعضلات مفتولة،يتحلّقون صامتين حول العربات، مرتدين بدلات العمل، معتمرين أغطية الرأس التقليدية من عرقچينات و چراويات وغيرها، مشمّرين عن سواعدهم القوية، وهم يلتهمون بنهمٍ فطورهم المبكر. وياله من فطور لم يسبق له أن رأى مثله. فهناك عربات تحمل قدوراً كبيرةً تضطرم نيرانُ المواقد تحتها. ويحيط بها أناس يتلذذون بتناول أطباق الهريسة الحارة، تلك العصيدة التي تعلوها طبقة من خليط مسحوق السكر والدارسين والغارقة بطبقة دسمة من زيت حار! وهناك عربات تقدم لزبائنها الشرهين أطباق الپاچة الحارة وهي ثريد من الخبز المنقوع بالماء الدسم تعلوه قطع من اللحم وكراع. وهناك عربات تبيع لزبائنها القيمر والعسل والحليب مع صمونٍ حار مخزون داخل الصناديق التحتية للعربات ليحتفظ بحرارته وكأنه قد أُخرج من الفرن تواً. أما أغرب ما رأى الشابان المذهولان في تلك الساعة المليئة بالعجائب والغرائب فهي عربة البيض المقلي! حيث يضع البائع طستاً مليئا بالزيت الذي يغلي فوق موقدٍ نفطي (بريمز) ينفثُ ناراً غضبى، زيتٍ قد صار أسود اللون من قدمه وكأنه نفط خام. يكسر البائعُ البيض و يخفقه بخفّة يد ساحر في طاسةٍ صغيرة ثم يلقي المخفوقَ في ذلك الزيت، فيتصاعد الى السماء عمودُ لهبٍ، ويشتعل وجه الطست بنار تحبس الأنفاس وتضيء وجوه المتحلّقين حول تلك العربة. وبحركة سريعة يلتقط البائعُ المخفوق الناضج ليضعه بصحن مستعملاً مغرفة طويلة مثقّبة (چفچير)، وبحركةٍ واحدةٍ لا يكاد المتابعُ ملاحظتَها يقدّم للزبون المنتظر بلهفة صحنَ البيض المقلي مع صمونة وبضع قطعٍ من طرشي أصفر حامض ورأسَ بصلٍ مقشر ! وثمة عربات تبيع كبّة البرغل المسلوقة المرشوشة برذاذ من الفلفل الأسود، وثمة من يبيع أنواعاً أخرى من الكبّة بعضها كرويّ الشكل وبعضها بيضوي، وبعضها عبارة عن أقراص مسطحة. بعضها مقليٌّ وبعضها مسلوق. وهناك من يبيع شوربة العدس وشوربة الماش وتشريب الباقلاء بالبيض والدهن، وثمة من يبيع الشاي المعدُّ على الفحم، حيث صُفَّتِ الأباريق الفافون العظيمة المليئة بالماء الساخن والشاي الأسود الكثيف، يخلط البائعُ هذين السائلين في صفٍّ مرصوص من الاكواب الصغيرة بعد أن يملأ ربعها بحركة سريعة بالسكر! كل من يأكل يأتي الى بائع الشاي ليشرب كوباً أو أثنين قبل أن يغادر الساحة الى عمله متجشئاً ممتليء المعدة سعيدا . أيُّ فطور هذا؟ كان يتساءل. وإذا كان الناس يفطرون بهذه الأطباق الثقيلة فجراً، فما الذي يتناولونه على الغداء؟ ولِمَ يفطرون هكذا؟ قالوا له أن فطورهم الثقيل هذا يمكنّهم من إنجاز أعمالهم الشاقّة، فهم عمال بناء. ولكنه تذكر فطور الفلاحين الفقراء والذي كان في الغالب خبزاً حاراً وشاياً! أغرتهما المشاهد العجيبة، وسال لعابهما، وهزمتهما الروائح الشهيّة، والأبخرة البهيّة، فلم يجدا بُدّاً من تجربة ماعون باجة حارّة مع رأس بصل ونصف ليمونة، ثم تلا ذلك كوب شاي حلو المذاق تعبق منه رائحة الهيل. في اللحظة التي كان فاضل يرشف ما تبقى من شايه، كانت الشمس تبدأ شروقها، وكانت العربات التي تحمل القدور الفارغة والمواقد الباردة تنسحب عجلى من الساحة متجهةً الى أوكارها. وهناك على واحدة منها كانت الكاميرا الزينت معلقةً على مسمار فيها، فقد علَّقها ليتفرغ للثريد الذي أنساه كلَّ شيء، أنساه الثورة، والتصوير، والواجبات البيتية، لتختفي تلك الكاميرا الى الأبد.
حول محلة الفضل عندما يضيق صدره ، لم يعد أمامه سوى أن يدلف جسداً وروحاً في أزقة محلة الفضل ليهرب من القسم الداخلي ومن الكلية ومن الشارع ومن حركة البيع والشراء ومن كل شيء. وقد أغرته محلة الفضل ووعدته بتقديم الاحتواء الذي يحلم به، والألفة التي ينشدها، والبساطة التي يفتقدها. وعدته حين رأى بعض سطوحها وعليّاتها من شرفة غرفته وهي تقبع هناك خلف ذلك الشارع المليء بغبار الأسمنت. وأغرته باختلافها عندما كان يتمشى عند حدودها في بداية شارع الكفاح. هناك كان غالباً ما يدلف الى مطعم الحاج عبد ليتناول طبق تشريب الباقلاء بالبيض والدهن الحرّ، ذلك الطبق الذي أُفتتن بطعمه ولذّته، فداوم على المجيء الى هنا كلما سنحت له الفرصة. وثمة جمال آخر قدمه شارع الكفاح وزقاق قنبر علي من خلال تلك التجربة الغنية بالمتعة والغرابة، تلك الرحلة التي كان بإمكانه أخذها نهار كل جمعة أو مساء كل خميس حين يدلف الى حمام الرجال الشعبي الواقع في مقدمة الشارع. فحين يجتاز باب ذلك الحمام يجد نفسه مباشرة في العصور الوسطى! حيثُ القبابُ، والأقواسُ، والفتحات السقفيّةُ التي ينفذ منها الضوءُ، والبخارُ، والقباقيبُ، والرجالُ العراةُ الا من وزرةٍ بسيطة زهد بعضهم بها! هنا حيث الدفءُ والشعور بالنظافة. كان ثمة حمام للنساء قريب كان فاضل العطيّة قد شاهد جوقات النساء وهن يخرجن منه متحلّقات حول عروس أعددنها للزفاف! وكان ذلك بمثابة شرارة قدحت في رأسه لتشب خيالاته بعدها فتنطلق لا يحدّها حدٌ وهو قابع هناك يدلّك جسدَه في عتمة غيمة البخار تلك. كانت محلة الفضل تدعوه وتعده بالراحة والهدوء حين دلف ذات يوم وصلى ركعتين في جامعها. هناك أحسَّ بالسكينة، فقد هدأ عنه روعُه، وطابت نفسُه، وحلّق في فضاء روحيّ خالص. نفضَ عن قلبه الهمومَ التي تراكمت عليه، ونعمَ بالراحة. ذرفت عيناه دمعتين فحسب، وشعر أن كل أحاسيس الغربة والقهر والوحشة قد غُسلت تماما بهاتين الدمعتين. كلا ما كانتا دمعتين فحسب، بل سيلٌ غامرٌ من نور إنسكب على الروح، بل تيارٌ من الماء البارد غسل عنها أدرانها.
الهروب الى الألفة ما كان بمقدوره مقاومة الفتنة، ما كان باستطاعته البقاء على حدود المحلة. فلابد له أن يجرب الولوج الى الأزقة الضيّقة. ويتوغل في متاهاتها. ومن دون أن يدري وجد نفسه هناك. يا ألهي! انقطع صوت السيارات فجأة، وحلّتَ محله أصوات أخرى. أصوات الناس، أصوات الأطفال الذين كانوا يلعبون. والكبار الذين كانوا يسعلون، والعجائز اللواتي كُنَّ يتبادلن أطراف الحديث عند عتبات البيوت. ميّز من تلك الصوات تلك اللهجة الجميلة المميزة. اختفت رائحة الدخان ورائحة عوادم السيارات، وحلَّ محلها روائح الطبيخ المتسربة من الأبواب المفتوحة، والنوافذ المشرعة، والكوى الفاغرة أعلى الجدران. خُيّل له أنه قد رأى قدور تنضجُ فيها مرقة الباميا بهدوء. ومرَّت أمام عينيه صور الصواني التي قُلبت عليها للتو قدور الدولمة. وشمَّ ملء رئتيه رائحة حلوى الشعيرية المنزلية. تطلّع الى الجدران، تطلّع الى مشهد الشناشيل، أدهشته انحناءات الزقاق، وسحرته الوجوه الجميلة، والعيون الرائعة، والعباءات المنسرحة على الأكتاف، والضفائر الطويلة. دغدغ وجهه تيار الهواء البارد المتدفق . وعندما كان يمرُّ من أمام الأبواب المواربة لم يكن باستطاعته منع نفسه من النظر خلسةً الى ما كان يظهر من وراء ستائرها المرفوعة جزئياً. الأحواش النظيفة الظليلة المبلّطة بالطابوق الفرشي الأصفر، حوضٌ تصبُّ فيه حنفية ماء، ثمة طفل يلعب، وربلة ساق بيضاء مكتنزة شهيّة لفتاة. كم تمنى لو كانت الكاميرا "الزنت" معه الآن، وكم تمنى لو أنه صوّر بعض تلك اللقطات. كم تمنى لو كانت لديه الجرأة ليصوّر. منذ تلك اللحظة التي دخل فيها الى تلك الأزقة الأليفة، صار يلجأ الى محلة الفضل ليجد في تجواله فيها الراحة كلما ضغط عليه الحنين الى البصرة، أو كلما شعر الهوان من جراء قسوة الحياة.
العام 2005 كان يعمل في برنامج للأمم المتحدة، وكان عليه أن يحضر اجتماع في بغداد ذات يوم. سافر هو وزميل له من البصرة الى بغداد. وعندما نزلا من الباص قرب ساحة النهضة، كان الخوف من التعرض لانفجارات السيارات المفخخة يسيطر عليهما، لذلك قررا قطع المسافة مشياً عبر الشوارع الداخلية. عندما وصلا الى شارع الكفاح، تذكّر فاضل العطية تجواله هنا، فرفَّ قلبُه لتلك السنين الغابرة، فاقترح على زميله اجتياز المسافة بين شارعي الكفاح والجمهورية مروراً عبر محلة الفضل. كانت الأزقة حزينة، وقد تهدم بعض جدرانها، وتهالكت الشناشيل وتهدلت. كانت المحلة صامتة، وكان الناس الذين التقوهم مهمومين. حين قصّا على زملائهم حكاية عبور الفضل، لم يصدقوا ذلك، ولكنهم في النهاية باركوا لهما سلامتهما، وحذّروهما من المرور مرةً أخرى من هناك!
#حامد_تركي_هيكل (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
كاميرات ثلاث -الجزء الثاني
-
كاميرات ثلاث -الجزء الأول
-
خيالات
-
هو الذي رأى كل شيء _الجزء التاسع والأخير
-
هو الذي رأى كل شيء _الجزء الثامن
-
هو الذي رأى كل شيء _الجزء السابع
-
هو الذي رأى كل شيء _الجزء السادس
-
هو الذي رأى كل شيء _الجزء الخامس
-
هو الذي رأى كل شيء _الجزء الرابع
-
هو الذي رأى كل شيء _الجزء الثالث
-
هو الذي رأى كل شيء _الجزء الثاني
-
هو الذي رأى كل شيء _الجزء الأول
-
سالم ابن دَهَش -ج4 والأخير
-
سالم ابن دَهَش -ج3
-
سالم ابن دَهَش -ج2
-
سالم ابن دَهَش- ج1
-
دوامة الأوراق
-
حلم بورجوازي سخيف
-
جريمة قتل
-
سلسلة فنارات -ج4- الرائد والمقدم-الحلقة الثالثة
المزيد.....
-
الكوفية: حكاية قماش نسجت الهوية الفلسطينية منذ الثورة الكبرى
...
-
رحيل الكوميدي المصري عادل الفار بعد صراع مع المرض
-
-ثقوب-.. الفكرة وحدها لا تكفي لصنع فيلم سينمائي
-
-قصتنا من دون تشفير-.. رحلة رونالدو في فيلم وثائقي
-
مصر.. وفاة الفنان عادل الفار والكشف عن لحظات حياته الأخيرة
-
فيلم -سلمى- يوجه تحية للراحل عبداللطيف عبدالحميد من القاهرة
...
-
جيل -زد- والأدب.. كاتب مغربي يتحدث عن تجربته في تيك توك وفيس
...
-
أدبه ما زال حاضرا.. 51 عاما على رحيل تيسير السبول
-
طالبان تحظر هذه الأعمال الأدبية..وتلاحق صور الكائنات الحية
-
ظاهرة الدروس الخصوصية.. ترسيخ للفوارق الاجتماعية والثقافية ف
...
المزيد.....
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
-
التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا
...
/ نواف يونس وآخرون
-
دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و
...
/ نادية سعدوني
-
المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين
/ د. راندا حلمى السعيد
-
سراب مختلف ألوانه
/ خالد علي سليفاني
-
جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد
...
/ أمال قندوز - فاطنة بوكركب
-
السيد حافظ أيقونة دراما الطفل
/ د. أحمد محمود أحمد سعيد
-
اللغة الشعرية فى مسرح الطفل عند السيد حافظ
/ صبرينة نصري نجود نصري
-
ببليوغرافيا الكاتب السيد الحافظ وأهم أعماله في المسرح والرو
...
/ السيد حافظ
المزيد.....
|