|
بلا أسماء
راتب شعبو
الحوار المتمدن-العدد: 6849 - 2021 / 3 / 23 - 02:35
المحور:
الادب والفن
تقول أغنية فرنسية قديمة: "أهل الشمال، تشع في قلوبهم الشمس التي يفتقدونها في السماء. أهل الشمال، أبوابهم مفتوحة للمنكوبين، لا ينسون أبداً أنهم عاشوا سنوات من الجحيم. وإذا كانت بيوتهم على نسق واحد، فذلك حباً بالمساواة." أهل الشمال طيبون، يساعدونك باندفاع، إذا احتجت. يبتسمون لك في الطريق لمجرد أنك إنسان. يرمون سلام الصباح بسخاء على من يمرون به، وإذا صادفوك مرة ثانية يعيدون تحية الصباح (re-bonjour)، ولا يضيرهم أن تمر بهم مسرعاً دون أن تحييهم، يقدرون استعجالك وانشغالك ويقدرون حتى مزاجك "الانطوائي". يسعدهم أن تقول كلمات طيبة بحق الكلب الذي ينزهونه في الحديقة، ويفرحهم كثيراً أن تلاعبه قليلاً. ولا يضيرهم أن تتجنب كلبهم، حينها سوف يشدون الحبل لإبعاده عنك، فرغم "الهوى الغلاب" الذي يكنونه للكلاب، إلى حد اعتبارهم أن وسخ الكلاب على الأرصفة ليس وسخاً، فإنهم يتركون في قلوبهم مكاناً لمن يخشى الكلاب ولا يطيق الاقتراب منها. أهل الشمال طيبون، لأبواب بيوتهم قبضة تفتح من الخارج كما من الداخل، فلا يحتاج أحدهم حين يقف خارج البيت كي يدخن سيجارته، إلى من يفتح له الباب من الداخل حين ينتهي من متعته الانفرادية المنبوذة. إنهم طيبون، يخصصون مكاناً واسعاً يجلب إليه الناس ما لا يحتاجونه من أدوات وأغراض وكتب وأي شيء مفيد، لكي يأخذ من يحتاج ما يحتاج مجاناً ودون أي مقابل. في هذه الفكرة "الشمالية" تدور الحاجات بقوة صفاء القلوب، من مكان لا حاجة لها فيه، إلى مكان يحتاجها. إنهم كتربة الطمي التي تستقر في سرير النهر، خصبة في تنوعها. هنا يستقر أبناء وأحفاد رجال فقراء أشداء طامحين جاؤوا من المغرب العربي ومن البرتغال واسبانيا وبلدان أفريقيا المختلفة للعمل في مناجم الفحم الحجري ومعامل النسيج، ثم نفد الفحم وأغلقت معامل النسيج وتحول قصر رب العمل إلى ملجأ ليلي (للنوم فقط) لمن ليس له ملجأ، وبقي الفقراء فقراء وانضافت الغربة إلى فقرهم. وإلى هنا وصلت موجات من الفارين من الحرب الأهلية الإسبانية أواخر ثلاثينات القرن الماضي، وتوزعوا هنا مثل شظايا حلم مكسور. وإلى هنا، بعد قرابة سبعة عقود، تصل موجات من الفارين السوريين بحلم مكسور أيضاً. وهنا استقرت زوبعة الرمال التي أثارتها الحروب المتكررة التي كانت الحرب العالمية الثانية آخرها. يتبادل الشماليون الطرائف عن بعضهم البعض. يقول الفرنسيون إن المسيح هبط على الأرض وراح يجترح المعجزات لمواساة المنكوبين، يشفي المرضى ويحيي الموتى، فصادف في طريقه رجلاً يبكي. سأله: لماذا تبكي؟ قال الرجل: لأنني بلجيكي. جلس المسيح وراح يبكي أيضاً. فسأله الرجل: ولماذا تبكي أنت؟ قال: لأنني لا أستطيع أن أفعل لك شيئاً. أما البلجيك فيقولون: ما هو الخبر الأسوأ؟ إنه خبر سقوط فرنسي في النهر. وما هي المصيبة الأسوأ؟ أن يكون قادراً على السباحة ويخرج من النهر. أهل الشمال طيبون تدمع عيونهم حين يسمعون القصص السورية عما كان، وعما هو كائن هناك. إنهم طيبون، لكنهم لا يحبون التزاور، لذلك يعيدونك إلى تقنية تعارف كنا قد أتقناها في سجن تدمر. الناس الذين يبادلونك الابتسامات والتحية، ويسكنون في الشارع نفسه الذي تسكن فيه، وتعرف شكل باب بيتهم ولون ستائرهم ونوع الكلب الذي يقتنونه، ليس لهم أسماء. سوف تتعارف عليهم مع أهل بيتك بطريقة اصطلاحية، هي نفس الطريقة التي كنا نتعارف بها على عناصر الشرطة العسكرية في سجن تدمر، أولئك أيضاً ليس لهم اسماء. كان لدينا هناك مثلاً: أبو الميّة (الرقيب الذي جلد صفوان مئة جلدة)، والجاروشة (الرقيب ذو الصوت الخشن)، والدريكيش (الرقيب الذي، حين طلبنا ماء للشرب بسبب انقطاع الماء، قال لعناصره ساخراً: جيبولهم مية دريكيش) ..الخ. ولدينا هنا: أبو الكلاب (الجار الذي يحوي كلبين ويسرح بهما في الصباح والمساء)، والعنصري (الرجل الوحيد في الشارع الذي لا يبتسم ولا يرد التحية). لا شك أن هذه تسمية قاسية وهي تنم عن حساسية "الغرباء" المفرطة، وتنم من ناحية أخرى عن غلبة الطيبة عند أهل الشمال ما يجعل سلوك "العنصري" نافراً. ولدينا هنا أيضاً العجوز (التي دمعت عينها حين علمت أني سوري)، وبنت العجوز (تسكن في بيت خاص بها في الشارع نفسه، كان لها اسم اصطلاحي آخر تبدل حين اكتشفنا أنها "بنت العجوز")، وأبو الأودي (صاحب سيارة الأودي الوحيدة في الشارع) ..الخ. لكن ألا يصطلحون هم أيضاً في التعارف علينا؟ ألسنا نحن بلا أسماء أيضاً؟ في ذلك السجن، نحن جمع مغلوب "متجانس" لا تعني فيه الفروق الفردية شيئاً يحتاج إلى تمييزه باصطلاح، نحن سجناء وكفى. وهنا، لدينا ميزة فارقة تمتص الفروقات الفردية فتمنعها من أن تكون مادة للاصطلاح، إننا هنا أجانب أو غرباء أو، في أحسن الحالات، سوريون. نحن مغلوبون هناك وهنا، في السجن كما في حرية "أوروبا"، نصطلح على الناس حولنا بخصائصهم الفردية، ويصطلحون علينا بعمومية ساحقة. لم تنفعنا كثرتنا في ذلك السجن، ولا قلّتنا هنا. في الحالتين نحن مقسورين على ما نحن فيه وفي الحالتين يغمرنا الاصطلاح العام ويسيطر على شخصياتنا.
#راتب_شعبو (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
تونس، الانتقال الديموقراطي في خطر؟
-
مهجع الصور
-
عقد على اندلاع الثورة السورية، ماذا نستفيد؟
-
كلام لا يقي من البرد
-
سجين حاقد يقلع عين الرئيس
-
التحالفات الديموقراطية السورية، سطور في رمال
-
إلى روح علي البدري (ممدوح عبد العليم)
-
كان يجب أن أُسجن قبل أبنائي
-
قمران في ليل عنيد
-
يا حيوان ليش ما قلت انك -مو منهم-؟
-
سجين سياسي سابق
-
بين القمع والسرية
-
إشكالية الصراع من خارج الدولة
-
تصويت مبكر على -الانتخابات- الرئاسية في سورية
-
المقاومة مذهبية والمهمة وطنية؟
-
حقيقة ينبغي على نظام الأسد إدراكها
-
نظام حرب على المجتمع
-
في النقد الفارغ من النقد
-
نقد النخب السلمية في الثورة السورية
-
البحث عن سبيل للتحرر من الاستبداد
المزيد.....
-
الممثل السعودي إبراهيم الحجاج بمسلسل -يوميات رجل عانس- في رم
...
-
التشدد في ليبيا.. قمع موسيقى الراب والمهرجانات والرقص!
-
التلاعب بالرأي العام - مسرحية ترامبية كلاسيكية
-
بيت المدى يؤبن شيخ المخرجين السينمائيين العراقيين محمد شكري
...
-
مصر.. الحكم بحبس مخرج شهير شهرين
-
مصر.. حكم بحبس المخرج محمد سامي بتهم -الاعتداء والسب-
-
مصر.. حكم بحبس المخرج محمد سامي شهرين لهذا السبب
-
الكويت توزع جوائز الدولة وتحتفي باختيارها عاصمة للثقافة العر
...
-
حتى المواطنون يفشلون فيها.. اختبارات اللغة الفرنسية تهدد 60
...
-
محاضرة في جامعة القدس للبروفيسور رياض إغبارية حول الموسيقى و
...
المزيد.....
-
أدركها النسيان
/ سناء شعلان
-
مختارات من الشعر العربي المعاصر كتاب كامل
/ كاظم حسن سعيد
-
نظرات نقدية في تجربة السيد حافظ الإبداعية 111
/ مصطفى رمضاني
-
جحيم المعتقلات في العراق كتاب كامل
/ كاظم حسن سعيد
-
رضاب سام
/ سجاد حسن عواد
-
اللغة الشعرية في رواية كابتشينو ل السيد حافظ - 110
/ وردة عطابي - إشراق عماري
-
تجربة الميج 21 الأولي لفاطمة ياسين
/ محمد دوير
-
مذكرات -آل پاتشينو- عن -العرّاب-
/ جلال نعيم
-
التجريب والتأسيس في مسرح السيد حافظ
/ عبد الكريم برشيد
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
المزيد.....
|