أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - كتابات ساخرة - أحمد محمد النهير - البهلوان















المزيد.....

البهلوان


أحمد محمد النهير

الحوار المتمدن-العدد: 1626 - 2006 / 7 / 29 - 02:28
المحور: كتابات ساخرة
    


العم فظيع حكواتي من الطراز الرفيع، وقصاص شعبي لا يجارى، وبالرغم من أنه لم يحترف هذه الصنعة أبداً، ولكنه يمتلك خيالاً بارعاً مجنحاً بأربة أجنحة عملاقة، تحلق به بعيداً في عالم الخيال، أو الكذب الأبيض،سمه كما تشاء ، ورغم ولوج العم فظيع سن الشيخوخة فهو حاذق جداً في تركيب الصور المدهشة لأقاصيصه البهلوانية، كما أنه يتمتع بمقدرة عجيبة في التأليف الفوري، وكأن كلّ شيء معد في ذهنه سلفاً،لا يستعمل القلم والورق أثناء العمل كبقية القصاصين المحترفين مثلاً.. لا يحتاج إلى مسودات مثلهم، ولا إلى شطب أو إضافة أو تبديل كلمات.. أو جمل، أو إلي تغييرها كلما أمكن حتى يكون التعبير قادراً على دعم الصور المناسبة لمواقف أقاصيصه.. لا فواصل بين الجمل ولا إشارات استفهام أو تعجب.. كل هذه الأشياء تجد مكانها الصحيح تلقائياً في سياق السرد المتدفق على لسانه من دون توقف حتى النهاية .
جلس العم فظيع متراخياً على كرسيه الخيزران، خلف مكتب قديم ذي لون فضي باهت.. غالب ما يستقبل العم فظيع زبائنه بايماءة مقتضبة، أو باشارة خفيفة من أرسه الصغير مشيراً لهم بالجلوس على أربعة كراس سوداء تآكلت حوافها ولونها الصدأ بلون بني داكن،وخلف المكتب تمتد فسحة معتمة لا يصلها النور بشكل كاف،فكأنما هي أشبه بدهليز يخشاه الضوء، استقرت بهما خزانتان قديمتان انتصبتا حذاء الجدار الخلفي للمكتب، تجمعت فوقهما كومة من الملفات القديمة، وأوراق نضدت بشكل عشوائي تراكمت عليها غبار عشرات السنين،ومروحة رمادية تتدلى من منتصف السقف، وجهاز هاتف أسود اللون وضع على حافة المكتب حتى لامس الجدار،وتقويم جداري علّق بشكل مائل، والى جانبه مصور قديم بإطار خشبي مفكك الأوصال فهمت ألوانه واندرست معالمه تماماً.
لا يحتاج العم فظيع إلى مقدمات روتينية مملة لمباشرة زبائنه بالحديث، فانه ــ والحق يقال ــ مختصر جداًً في هذا الموضوع، لا يحبذ هدر الوقت هباء على مثل هذه الشكليات الفارغة فالسرعة شعاره في هذا الزمن السريع، كلمة واحدة:أهلاً، ثم يدخل في الموضوع ((على طول))، ولا يهم إن جلس زبائنه، أو ظلوا واقفين، يعرفهم أم لا... هاجسه الوحيد أن يسمعهم أقصوصة.. أكذوبة على الماشي، وفي الحال يتحول وجهه إلى خشبة بلوط هرمة، انتزعت عنها أدمتها، وامتص الزمن كلّ عصارتها، ولم يتبق منها إلا الصرامة والشحوب.
منذ أيام دخل مكتبه أربعة رجال، فأيقظه صرير باب المكتب، ووقع أقدامهم من تأمله في ورقة بين يديه، فبادرهم على الفور: ــ أهلاً، وعاد إلى تأمله المصطنع في تلك الورقة من جديد، غير مكترث لوجودهم، وكأنه منشغل في أمر هام.
وقف الرجال صامتين يتحاشون تشتيت انتباهه عما بين يديه.. لحظات من الصمت والسكون، وسعال جاف ندّ عن أحدهم ثم خمد، أعقبه سكون، ما لبث أن مزّقه صوت نحاسي رخيم يشبه الترانيم في صباح باكر.
ــ في الحرب.. ثم سكت دون أن يرفع إليهم بصره.
تبادل الرجال نظرات استغراب و تساؤل، دون أن ينبس أحدهم ببنت شفة.
تساءل ابراهيم في داخله:
اللّه أعلم أي حرب يقصد هذا الـ..... الحرب العالمية الثانية أم حرب الــ48،أم حرب السويس، أجنّ هذا الرجل؟ثم عاد الصوت متابعاً:
ــ في الحرب هاجمنا الأعداء، بدأ هجومهم بقصف عنيف، زلزل الأرض والسماء، فارتعدت منه القلوب هلعاً، وزاغت له الأبصار، وارتفع الدخان والغبار إلى عنان السماء، وامتزج الهواء برائحة التراب والحريق والدماء.. وفي حمى الوطيس تناطح بالمهاجمين الذين استمر هجومهم أربعاً وعشرون ساعة متواصلة، لم أشهد في حياتي أفظع من ذاك الهجوم.
ثم توقف عن الحديث. وبلع ريقه، وازدرد قليلاً من الماء من كأس نصف مملوءة، ثم أشعل سيجارة وشدّ منها نفساً عميقاً، وزفر زفرة طويلة تنم عن تأثير بالغ، مصحوبة بأنة حادة وكأنه قد خرج تواً من جوف المعركة، ثم أشار إليهم بالجلوس.
ــ قال عبد الله لائماً .. أفزعتنا يا عم فظيع ..
ــ تابع ابراهيم:ما الذي ذكرك بالحرب الآن؟
رد بلال: كتب التاريخ، وذاكرة الشعوب، ونشرات الأخبار اليومية، تجعلك تعيش أحداثها على الدوام، وكأن العالم في حرب مستمرة منذ قابيل وهابيل حتى هذه اللحظة.
إن الحرب جزء من حياة المجتمعات.
ــ ابراهيم: أنا لا أحب الحروب، لكنني أعترف بأنها ضرورية لصد العدوان.
ــ بلال: الحرب في الماضي كانت القوة البشرية تلعب فيها دوراً فاصلاً.. أما الآن فللعلم وحده الدور الأهم.
ــ ابراهيم:هذا صحيح، وينطبق على واقعنا منذ أربعين عاماً.. نحن قوة بشرية كبرى لكنها مفتتة.. ومهزومة دائماً.. مع أن عدونا أقل عدداً!.
ــ بلال: وماذا عن المستقبل..؟
انتهرهم قاسم بتوتر وانزعاج:
دعوه يكمل حديثه يا جماعة.. لنرى ماذا حدث بعد ذلك؟
تابع العم فظيع حديثه على الفور،بجدية بالغة، وحماسة شديدة:
صمدنا لهم صمود الأبطال حتى انكسر هجومهم الغادر، ولاذوا بالــفرار، وبعدها هدأ كل شيء تماماً.
عندئذ دعا قائد الوحدة لاجتماع عاجل لاحصاء الخسائر...أربعة قتلى، وأربعة جرحى أحدهم إصابته خطيرة، نقلوا فوراً إلى المركز الطبي .. ثم صرخ قائد الوحدة بصوت كالرعد:
مازال هناك أربعة مفقودين هل رآهم أحد منكم؟.. أتعرفون عنهم شيئا؟
رد محمود والعبرة تضغط على كلماته المخنوقة:
نعم .. . نعم يا سيدي،في بدء الهجوم، رأيتهم بأم عيني، وكلاب العدو تحيط بهم ،لقد أسروهم أولا ًثم ساقوهم، كنت أرى ذلك، رغم أنهم كانوا بعيدين عني، أقسم على ذلك وأجهش في البكاء،غطى وجهه بيديه،وركض مسرعاً إلى الخلاء.
بعد صمت ثقيل دام لبعض الوقت،رفع قائد الوحدة رأسه المعفر بالتراب، ومدّ بصره إلى حيث أقف، وصاح بلهجة آمرة:
فظيع.. فظيع، إني آمرك بأن تعيد الأسرة في الحال.. خذ أي صاروخ تشاء..خذ أي سلاح يعينك على تنفيذ مهمتك.. خذ أي شيء .. خذ أي شيء تريد ، وعد بالأسرى.
توجهت إلي كل أنظار الجنود ، فغروا أفواههم ، وحملقوا بي ّ مندهشين مذهولين ، فكيف لرجل واحد أن يقوم بمثل هذه المهمة العسيرة!.. لاشك أنها مهمة مستحيلة ، وحماقة ما بعدها حماقة... ردد العم فظيع مبرراً:
الحق معهم .. الحق معهم ، فهم لا يعرفون قدرتي الخارقة ، باستثناء قائد الحدة الذي جربني من قبل ، ويعلم علم اليقين أنني قادر على صنع المستحيل ، فأنا أستطيع ركب أي صاروخ بسهولة ويسر، مثلما أمتطي بعيراً أو حصانا وأسيطر عليه تماما ً، أخضعه لإرادتي الذهنية ، وأحركه كما أشاء ، مثلما أحرك بصري أو يدي أو ساقي .
انطلقت من موضعي دون تردد ، هيأت عدة العمل على عجل ، أربع قنابل يدوية دخانية ، و خوذة راكب دراجة آلية أحمي بها رأسي من شدة الهواء المندفع .. وخرج كبير.. نعم خرج كبير يسع رجلين في كلّ فردة.
لبست الخوذة ، وأحكمت ربطها ، وألقيت بالخرج فوق الصاروخ ثم حملت القنابل ، وامتطيت الصاروخ بلا سرج أو حداجة.. بلا مقود أو عنان فأقلع الصاروخ وأقلع معه العجاج والدخان والضجيج ، يشق الفضاء كلمح البصر وكأنه عفريت مارد ، وبلحظة قصيرة صرت في عمق الفضاء ، فلاحت البيت كالذباب ، تدور وتختفي بسرعة عن الأبصار، وعيناي تفليان ما يمرّ من أمامها من الأشكال، تدققان ، تبحثان عن مواقع الأعداء ، ولما لمحتها غرت مندفعاً نحوهم ، فاجأتهم ، صعقتهم بقنابل الدخان ، فتفرقت جموعهم،تناثرت في الحال ، ثم حمت فوق رؤوسهم كالبين.. كعزرائيل يخطف الأرواح ، فتسمرت أرجلهم رعبا ، انغرزت في التراب، وانكبوا على وجوههم راعشين محطمين .. هدهم هول المفاجأة فانتزعت منهم أسرانا ، واحداً بعد الآخر، دستهم في الخرج بلح البصر، وعدت بهم إلى موقعنا سالمين.
هبطت بخفة الباز الرشيق ، وترجلت متأنيا ً، ثم تقدمت من قائد الحدة بخطا واثقة ، حييته قائلاً: نفذ الآمر سيدي.
خرج الرجال من المكتب مقهقهين يسخرون .. وأحدهم يقول:
واللّه أنك أفظع من فظيع يا عم فظيع!.



#أحمد_محمد_النهير (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- عبودية العصر وأخلاق المتحضرين


المزيد.....




- -ثقوب-.. الفكرة وحدها لا تكفي لصنع فيلم سينمائي
- -قصتنا من دون تشفير-.. رحلة رونالدو في فيلم وثائقي
- مصر.. وفاة الفنان عادل الفار والكشف عن لحظات حياته الأخيرة
- فيلم -سلمى- يوجه تحية للراحل عبداللطيف عبدالحميد من القاهرة ...
- جيل -زد- والأدب.. كاتب مغربي يتحدث عن تجربته في تيك توك وفيس ...
- أدبه ما زال حاضرا.. 51 عاما على رحيل تيسير السبول
- طالبان تحظر هذه الأعمال الأدبية..وتلاحق صور الكائنات الحية
- ظاهرة الدروس الخصوصية.. ترسيخ للفوارق الاجتماعية والثقافية ف ...
- 24ساعه افلام.. تردد روتانا سينما الجديد 2024 على النايل سات ...
- معجب يفاجئ نجما مصريا بطلب غريب في الشارع (فيديو)


المزيد.....

- فوقوا بقى .. الخرافات بالهبل والعبيط / سامى لبيب
- وَيُسَمُّوْنَهَا «كورُونا»، وَيُسَمُّوْنَهُ «كورُونا» (3-4) ... / غياث المرزوق
- التقنية والحداثة من منظور مدرسة فرانكفو رت / محمد فشفاشي
- سَلَامُ ليَـــــالِيك / مزوار محمد سعيد
- سور الأزبكية : مقامة أدبية / ماجد هاشم كيلاني
- مقامات الكيلاني / ماجد هاشم كيلاني
- االمجد للأرانب : إشارات الإغراء بالثقافة العربية والإرهاب / سامي عبدالعال
- تخاريف / أيمن زهري
- البنطلون لأ / خالد ابوعليو
- مشاركة المرأة العراقية في سوق العمل / نبيل جعفر عبد الرضا و مروة عبد الرحيم


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - كتابات ساخرة - أحمد محمد النهير - البهلوان