|
ديمومة الحزن في ديوان -البلبل الغريب- محمد هشام المغربي
رائد الحواري
الحوار المتمدن-العدد: 6844 - 2021 / 3 / 18 - 12:19
المحور:
الادب والفن
العراقي (يتقن تقديم) الحزن، حتى أنه أصبح محترف فيه، وهذا يعود إلى الثقافة العراقية القديمة التي ندبت غياب الإله "تموزي/تموز" ثم جددت هذا الندب بعد مقتل "الحسين" في كربلاء، فأصبح وكأن هناك حالة (حزن) متأصله في ثقافة العراقي. يعرف الشاعر الديون بقوله "ثلاثة مجموعات شعرية"، بمعنى أن الديوان يضم أكثر من حالة شعرية، ولكلا منها خصائص تميزها، في المجموعة الأولى "هو المطر 2007" والتي أهداها ل"عبد علي الرماحي، على الجلاوي، كما أنه خص أمه وأباه وابنه والسياب في هذا المجموعة، والمجموعة الثانية: "خارج من سيرة الموت2005" يهديها إلى "هشام" والتي جاءت أكثر وأشد قتامة في المجموعة، والمجموعة الثالثة: "أخبئ وجهك في وأغفو 2003" فنلاحظ أن الشاعر يقدم الأحدث في شعرية ويؤخر الأقدم، وكأنه يقول بهذا التقديم والتأخير ما أنا إلا استمرار لنهج/لحالة حزن قديمة تمتد لزمن هذا الوطن، ولزمن أول من وجد فيه هذه الأرض. الموجوع في وطنه يبقى مضطربا متوترا غاضبا، فوجع الوطن يكون جاثما على الموجوع، بحيث ينعكس علي أفكاره وعلى الألفاظ التي يستخدمها، وبما أن الموجوع هو شاعر "محمد هشام المغربي" فسيكون وجعه مضاعفا، لأن الشعراء يمتلكون مشاعر مرهفة تجعلهم يتأثرون بأي شيء، فما بالنا عندما يكون المصاب هو الوطن والشعب!. في الأدب/في الشعر يقدم الألم/الوجع/القهر بطريقة أدبية غير تلك التي نراها/نسمعها من الأشخاص العاديين، يحاكي "محمد هشام المغربي" بدر شاكر السياب في انشودة المطر بقصيدة "أنشودتا سفر" والتي جاءت بهذا الشكل: "أنا بغداد جئتك مثل مئذنة محطمة أنا بغداد جئتك من حزين النخيل أستجدي ابتسامة صبحك الكسلى حريق القلب منهوب الرؤى متكسر الأغصان دوني المشاعر قاتلا بالسخط ملعون البصيرة معدم الإحساس محترقا كناج من فنائي دون رجل أو يد" ص37، السواد ظاهر في الفكرة وفي الألفاظ أيضا، حيث لا نجد الألفاظ البياض قد اقرنت بالسواد: "بغداد جئتك حزين، مئذنة محطمة، صبحك الكسلى، حريق القلب، منهوب الرؤى، متكسر الأغصان، ملعون البصيرة" فرغم السواد إلا أن الصور الشعرية " مئذنة محطمة، حزين النخيل، منهوب الرؤى، كناج من فنائي دون رجل أو يد" خففت على المتلقي شيئا من تلك القسوة، وهنا يكمن دور الشاعر: تقديم ما هو موجع بأقل الأضرار على القارئ، ولكن مع إيصال الفكرة التي يريد تقديمها، فطريقة التقديم هي التي تميز الشعراء/الأدباء عن سواهم. ونلاحظ أن الشاعر يتعامل مع المكان/بغداد، وكأنها ربة يطلب رحمتها، وما تقديم "أنا" إلا تأكيدا على الحاجة إليها وعلى مكانتها، من هنا نسب لنفسه كل ما هو قاسي "حريق، منهوب، متكسر، بالسخط، ملعون، معدوم، محترقا، دون رجل أو يد". إذن فاتحة القصيدة تكون بهذا الشكل: بغداد أنا جئتك، بغداد جئتك وأنا بهذه الحالة المزرية، فساعديني على التخلص مما علق بي"، وهذا ما أكده الشاعر عندما قال: "بغداد ضميني وغطي ذكرياتي" ص38، وما يلفت النظر حاجة الشاعر الحنان/"ضميني"، فبدت "بغداد" بأكثر من صورة، صورة المدينة المعشوقة، وصورة الحبية/الزوجة، وصورة الأم، وهذا التعدد في الصور يشير إلى المكانة التي يحملها الشاعر للربة/بغداد. كما ان هذا المقطع يأخذنا إلى حالة النبي محمد بعد نزول الوحي عليه وعودته إلى السيدة خديجة وهو في حالة دهشة وخوف: "يا خديجة دثريني يا خديجة زمليني"، وبهذا يكون الشاعر قد أخذنا إلى أكثر من مستوى في هذا المقطع، وأبحرنا في أكثر من بحر معرفي، بحيث يمكن للقارئ أن يأخذ القصيدة إلى أبعاد متشعبه، كما أن القصيدة تأخذ القارئ إلى آفاق متعددة، وبهذا يكون الشاعر قد ربط القارئ/المتلقي بالقصيدة وجعله جزءا منها/من المعناة التي يتحدث عنها. هناك تماثل بين حالة "السياب ومحمد هشام المغربي" حيث عاشا غربتهما في الخليج، يقول في "...يتناهى": "2 هنا .. "هل بالخليج لسائل رد؟" (7) أنادي جف حلقومي وضاع الصوت/أحلامي، اشتهائي /الصمت/إيماضي/غيابي علقتني الأرض في طرف الملوحة كنت مصلوبا ـ وما صلبوه ـ يا صبيرة الموتى أنا في غيلة النسيان أهتف ثم أهتف لا تنادمني سوى
أرقي وكل نطيحة منهم" ص40و41، (7) اشتباك مع بيت الشاعر دوقلة المنجبي: هل بالطلول رد أم هل لها بتكلم عهد" فالشاعر يأخذنا إلى حالة السياب هو يصرخ في الخليج وما عاناه من غربة واغتراب هناك، لهذا نجد المكان/الخليج قاسي: " علقتني الأرض في طرف الملوحة كنت مصلوبا" بينما في حالة المكان/بغداد كان الحنان والعاطفة وهي الحاضر، لهذا نجد المقطع غارق في السواد بحيث طال الشاعر ـ بطبيعة الحال ـ وطال المكان أيضا، فكانت القتامة مسيطرة تماما على المقطع. ونلاحظ أن هذه القتامة ناتجة عن تعامل الشاعر مع مذكر/الخليج، ففي حالة بغداد كانت الأنثى، لكن هنا كان الذكور هم المهيمنون، فخلى المقطع من أي لطافة أو نعومة، فالفكرة والألفاظ يعملان معا في خدمة السواد والإيغال في الوجع/القسوة. القسوة الثاني: " خارج من سيرة الموت" ينوه فيه الشاعر بقوله: "بدئ هذا النص في الأردن25/8/2003، فتحديد الزمن والمكان قصد/أراد به توضيح حجم السواد الذي لازم الكتابة، ففي هذا القسم نكاد لا نجد أي ملطفات/مخففات فيه، يقول في اللوح الأول: مفتتح": "وحدي بهذا الدغل أحفر في الظلام وأنتهي في هوة لا تنتهي... سأموت مشنوقا كما أختي!" ص55، فالسواد مطلق في هذا المقطع ـ إذا ما استثنينا لفظ "أختي" ـ بحيث تجتمع فكرة السواد والألفاظ معا لخدمة فكرة الألم. ونلاحظ أن الشاعر يقدم الظلام وهو يغور/يهوي/ يسقط: "أحفر، أنتهى، هوة، لا تنتهي، مشنوقا" فالحركة في كل هذا الألفاظ تكون من أعلى إلى أسفل، وهذا يخدم فكرة السقوط/النهاية القاسية ألتي أراد الشاعر تقديمها، كما أنه يضيف عنصر/عامل أخر إلى الفكرة، بحيث يرسخ السواد أكثر، وتبقى القسوة في الحضيض، في مكان لا قرار له/ لا تنتهي. من هنا نقول أن الاستمرار في السقوط /هوة يأخذنا إلى ندب تموز/الحسين/بغداد بعد الاحتلال، وهذا يخدم وحدة الديوان الذي يتحدث عن "الحزن/الندب/الالم، إن كان من خلال المضمون/الفكرة، أو من خلال الألفاظ المستخدمة. في القسم الثالث تبقى القامة جاثمة على صدر الشاعر: يقول في: "أصداء على حنجرة الوقت": "... تركت نفسي ثعلبا أعمى تسليه الكرامة، قالا كالبرد كالأصداف، مزدحما كالمقبرة، كئيب الرأس، مشلول الرؤى، والروح تعبى. للرياح شراعي الصدفي أسلم عمره، شفتاي نبع جف. ...ثم ينهال ـ الهوينى ـ من جديد" ص174و175، وهذا يأخذنا إلى استمرارية الحزن/الألم الذي تعامل معه الشاعر (باحتراف)، مؤكدا على سرمديته/"من جديد"، وعلى الاحتفاظ به/ينهال، ليبقى الحزن متقد فيه ومشتعلا. لكن لا بد من وجود شيء من المهدئ/المخفف، يعطي الشاعر قدرة على الاستمرار بهذا الحزن/الندب، فكانت المرأة وحضور البهي هو العامل الذي ساعده على الاستمرار، يقول في "موكب الشهيد والنار": " أعشق لعق الشهوة من فوق شفاهك، ضميني، يا عسل الرغبة في عيني، أميتيني قرب رحيم النهدين" ص178، نلاحظ تعلق الشاعر بالمرأة ليس من خلال الفكرة والألفاظ فحسب، بل من خلال الحروف أيضا: "أعشق، الشهوة، شفاهك" فبدا من خلال استخدامه لحرف الشين، وكأنه يؤكد على تعلقه بها/بالمرأة، فلم يستطع إلا أن يبقى أسيرا لها، وهذا يتماثل مع حالة العراقي القديم الذي وضع أمله في "أنانا/عشتار" لتمنحه اللذة وتعطه الفرح. الديوان من منشورات المجلس الوطني للثقافة والفنون والأدب، نوافذ المعرفة العدد الخامس، دولة الكويت.
#رائد_الحواري (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
أدب الرسائل -أسامة الأشقر، منار حلاوي، سامي كلب-
-
صلاح حمدوني ونضوج النص
-
المكان في مجموعة -أساطير الأولين- عبد الغني سلامه
-
المكتبة الشعبية، نابلس، فلسطين
-
صوتها قصة: جواد العقاد
-
صراع الأمكنة في قصيدة -ماتزال اصباعي- يونس عطاري
-
حضور البعل في قصيدة “درب الانعتاق” للشاعر كميل أبو حنيش
-
المرأة في رواية -ساقية- سميح فرج
-
الدهشة في مجموعة -من الأعماق- هارون الصبيحي
-
مجموعة -عنقود حامض- يوسف ضمرة
-
حضور المرأة في قصيدة -أيّام كان الحبّ- كميل ابو حنيش
-
كميل أبو حنيش قصيدة -طريق بمحض اختياري-
-
أدب الومضة في كتاب نزار كربوط -أحمري يبتلعه السواد-
-
فخري قعوار مجموعة البراميل
-
كمال ابو حنيش -جدليّة الزّمان والمكان في الشّعر العربيّ
-
السياسة الامريكية في المنطقة العربية
-
تعدد اشكال التقديم في مجموعة عصافير المساء تأتي سّراً محمد ع
...
-
النهاية في قصيدة -في البعيد البعيد- كميل أبو حنيش
-
كميل أبو حنيش الحلقة الثانية عشرة وجعٌ بلا قرار
-
الغلاء والإستغباء
المزيد.....
-
-البحث عن منفذ لخروج السيد رامبو- في دور السينما مطلع 2025
-
مهرجان مراكش يكرم المخرج الكندي ديفيد كروننبرغ
-
أفلام تتناول المثلية الجنسية تطغى على النقاش في مهرجان مراكش
...
-
الروائي إبراهيم فرغلي: الذكاء الاصطناعي وسيلة محدودي الموهبة
...
-
المخرج الصربي أمير كوستوريتسا: أشعر أنني روسي
-
بوتين يعلق على فيلم -شعب المسيح في عصرنا-
-
من المسرح إلى -أم كلثوم-.. رحلة منى زكي بين المغامرة والتجدي
...
-
مهرجان العراق الدولي للأطفال.. رسالة أمل واستثمار في المستقب
...
-
بوراك أوزجيفيت في موسكو لتصوير مسلسل روسي
-
تبادل معارض للفن في فترة حكم السلالات الإمبراطورية بين روسيا
...
المزيد.....
-
تجربة الميج 21 الأولي لفاطمة ياسين
/ محمد دوير
-
مذكرات -آل پاتشينو- عن -العرّاب-
/ جلال نعيم
-
التجريب والتأسيس في مسرح السيد حافظ
/ عبد الكريم برشيد
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
-
التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا
...
/ نواف يونس وآخرون
-
دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و
...
/ نادية سعدوني
-
المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين
/ د. راندا حلمى السعيد
-
سراب مختلف ألوانه
/ خالد علي سليفاني
-
جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد
...
/ أمال قندوز - فاطنة بوكركب
المزيد.....
|