|
امتزاج الفرح بالطبيعة في مسرح الأخوين رحباني
مفيد مسوح
الحوار المتمدن-العدد: 1626 - 2006 / 7 / 29 - 03:16
المحور:
الادب والفن
لم يعرف أدب الغناء والموسيقا قدرة على التصوير الفني والتأثير الإيجابي في المتلقي مثل تلك التي تميز بها أدب الأخوين عاصي ومنصور الرحباني، الذي انطلق من جدلية الوحدة والصراع بين الطبيعة والمجتمع فأتحف التراث الأدبي والفني بتوأمة جمالية للطبيعة والغناء لم يعد بالإمكان تجاهل عظمة حضورها وعمق تأثيرها في الوجدان. منذ انطلاقتهما في أواسط خمسينيات القرن العشرين حرص الأخوان رحباني على ربط إبداعاتهما الفنية والأدبية بأكثر ما يصل الإنسان بالحياة، وهي الطبيعة، التي أقرَّت الرؤى الفكرية عبر السيرورة الحضارية وحْدة الإنسان معها، فكانت مقولة "من التراب وإليه نعود". كان نصيب الضيعة، كوحدة تجمُّع للناس الأكثر ارتباطاً بالأرض والمواسم والغلال، كبيراً في جميع مراحل التراث الرحباني، مع أن باحات مسرح الأخوين انتقلت نسبياً بعد العام 1967 إلى المدينة. ومع مشاهد وحوارات وأغاني الأعمال المسرحية بين 1960 و 1977 تكرَّست علاقة محاور الدراما الرحبانية وأحداثها وشخصياتها بالطبيعة فأصبح هذا الأدب بحق أدبَ الحياة بأنقى مفاهيمها وأكثر صورها واقعية وأقدرها تعبيراً عن طيبة الناس وحبهم للخير والفرح وكذلك عن همومهم ومعاناتهم وأحلامهم وآمالهم وفي كل ما يواجههم في علاقاتهم مع المتنفذين والمتحكمين بأمورهم المعيشية وبمصائرهم ومصائر أوطانهم. لم يأت الميل نحو الطبيعية في مسرحيات الأخوين رحباني مصادفة. فقد ولد عاصي ومنصور في بيئة ريفية محاطة بمكونات الطبيعة الجميلة من جبال عالية خضراء ومناطق خلابة ومزارع وأنهار وسواحل أضافت إليها أيادي البشر ما يزيد من متعة الالتصاق بها ومبادلتها المشاعر والاهتمام وصدقية العطاء، فكان الإحساس المرهف للشاعرين والموسيقيـَّين الشابَّين رفيقَ دربهما وهما يدخلان بفكرهما الثاقب وروحهما الطيبة إلى أعمق أغوار الإنسان وإلى أوسع امتداد للطبيعة اللبنانية المتميزة بسحرها وغناها يستوحيان منهما شاعرية استثنائية وقدرة خلاقة على تغيير معايير الفن والأدب التقليدية والانطلاق في بناء صرح له خصوصية وضعته في أعلى مراتب المجد. على مدى خمسين عاماً وعبر ثلاثة أجيال دخلت الأغنية الرحبانية بيوت الناس في بلاد الشام وفي سائر البلدان العربية والأجنبية حيث يقيم المهاجرون من أصول عربية. كان لهذه الأغنية، بأصوات فيروز وصباح وهدى حداد وسهام شماس ووديع الصافي ونصري شمس الدين وإيلي شويري ومروان محفوظ وملحم بركات وجوزيف ناصيف ومحمد مرعي وغيرهم، كان لها وقعاً لطيفاً محبباً لدى المستمعين الذين تقبلوا بسرور الرؤية الرحبانية واللحن الجميل والكلمات العذبة والصور الجميلة وانتظروا الجديد في مواسم تلهـَّفت للقائها القلوب في بعلبك ودمشق وبيروت وعمان وفي عواصم العالم فكانت القاعدة الشعبية المنقطعة النظير لعالم الأخوين رحباني التي قطع العبقريان لها عهداً بالاستمرار والتطوير حفاظاً على رضاها وتمسكاً بمحبتها. ونحن، إذ نعترف للأغنية الرحبانية، كلمات وألحاناً وأداءً، بأحقية اعتلاء عرش الأغنية العربية المعاصرة لابد لنا من التعامل مع القسم الأعظم في تراث الأخوين عاصي ومنصور من وجهة النظر المسرحية. فمعظم أغاني السيدة فيروز والراحل نصري شمس الدين والفنانين الآخرين مرتبط بالأعمال المسرحية التي ظهرت لأول مرة فيها وشكلت أجزاء منها وأتت كلماتٍ وألحاناً متناغمة مع روح العمل الدرامي وموضوعه وحواراته. فإذا حصرنا الحديث عن مكانة الطبيعة والفرح في الأدب الرحباني بحدود مسرحيات الأخوين عاصي ومنصور في العقدين السادس والسابع من القرن الماضي فإننا سنجد أنفسنا أمام سيل عظيم من اللوحات الرائعة التي جمعت الناس بالطبيعة في أكثر الأوقات تعبيراً عن الفرح والابتهاج. وقد جاءت هذه اللوحات في أعلى درجات الحيوية تعكس نقاء الطبيعة وسخاءها وقيمها الأخلاقية، وجاء توظيف صفات الطبيعة لخدمة الفكرة الرحبانية دليلاً على صدقية التوجه النبيل الذي أراد عاصي ومنصور اصطحابنا وفقه إلى عالم الخير والمحبة والسلام والتعاون من أجل سعادة الجميع ومَسرَّتهم. لقد نجح الأدب الرحباني بربط الجماليات الأدبية والفنية بالطبيعة ولخـَّص الراحل عاصي هذا النجاح بوضع قاعدة لم يعد من السليم الحيادُ عنها إذ قال: "إن الرائعَ هو ما كان منسجماً ومتناسقـاً مع الطبيعة والحياة". في لوحات مسرحيات الأخوين عاصي ومنصور يرتبط الحب والسعادة والفرح بالطبيعة فيأتي الغزَل والتفاخر والمجاملة باستخدام مفردات من البيئة المحيطة وعناصر الجمال فيها فتسحرنا الكلمات والصور ونعيش مشاعر الحب الصادق والسعادة الحقة. فمقدمة مسرحية "موسم العز" مثلاً تأخذنا إلى ساحة الضيعة وبهجة عيدها والمحتفلين في أحضان الطبيعة وعناصرها الجميلة من سماء صافية يضيء قمرها وتتلألأ نجومها صانعة ثريَّات يطيب السَّهر تحتها والمرح والغناء. يصف (شاهين) الفتاة الحسناء (نجلا) التي زنـَّر خصرها (المنتور) بـِ (شلح الزنبق) و بالـ (وردة مزروعة بـْ فيِّة) التي تحميها أسوار من الشوك، أما عيناها فـَ (بْحيرة ميّ) . والعيد مناسبة للفرح مليئة بـالـْ (غناني وحكي ونـْبيد) تفيض في ثناياه صور التعلـُّق بجمال الطبيعة (شو زِينِة وشو عناقيد) وأبطال العيد شعراء وفنانون (زرعو الأرض ياسمين وحساسين). هاهو المختار يتغزل في أغنيته (عم تغزل) بحبيبته وبالطاحونة وخيرها من الطحين والبرغل في نفس الوقت، أما نجلا فتستخدم علاقتها الحميمة بـ (طير الزعرورة) لضمان تواصلها مع الحبيب الغائب. وفي مسرحية "جسر القمر" تداعب النسائمُ شعرَ الحسناوات (والشـَّعرْ طايرْ والهـَوا طايرْ) وفي مسرحية "بياع الخواتم" يُداهم (وردُ الحب) الفتاة ريما فيُحرحها بشَوكه (شـَوْكـَكْ عَ تـْيابي عـَلــَّقْ). أما رسُل الحب فهم (نـْواطير التـَّلج، نـْواطير البرْد والشـِّتي والهوا) والعالمون بـِ (قصص الحب والحكي والهوى). وفي مسرحية "الشَّخص" يصف بائع الفاكهة الفتاة الجميلة مستعيناً بغلـَّته (يا أحلى تفاحة من بستان بْعيد) و (يا رمَّانِة) وتصبح الفاكهة اللذيذة معياراً للحُسْن (لا كرْم العِنب متـْلِك وَلا الكرْزِة البَرِّيِّة)، واسم الحبيبة التي (ربْيـِت حدّ المَيِّة) في "جبال الصوان" تفاحة (وْلما استسْميت قالو إسما تفاحة) تضعنا مسرحية "موسم العز" في الحياة الاقتصادية لأهل الضيعة عبر مهنتهم التي اشتهروا بها وهي تربية دود القز وقطف الحرير وكمية من الفرح ترافق الناس خلال جميع مراحل العمل التي يتعاون الأهالي من ضيع متجاورة في آخرها تتويجاً لعمل السنة بجني موسمها، موسم العز، الذي تبتسم فيه الطبيعة للعشاق وتفتح الحياة أبوابها لأصحاب الحظ بعرس مليء بالرقص والغناء والتمنيات بالخير والسعادة والهناء. ويتوج الفرح الإعراب عن حب الوطن، الذي تأتي في مقدمته تربية الأبناء (ازْرعيُن بالوعر أرز وسنديان)، والحفاظ على مكانته العالية (بعد ألله يعبدو لبنان)، لأنه (القوي والغني) ولأن أجدادهم في مسرحية "جبال الصوان" عاشوا فيه (مِن ميِّة سِنِة .. مِن ألف سِنِة .. مِن أوَّل الدِّني). وفي باحات العمل تحضر الطبيعة ضيفاً عزيزاً لا تحلو صورة تغيب مفرداتها عنه ويتحفنا الأخوان رحباني بعشرات الكلمات والعبارات ذات الجرْس الموسيقي والموقع الخاص في ذاكرة شعوبنا بلغة وأسلوب تتأكد معهما جمالية ارتباط الأدب الشعبي في بلادنا بالطبيعة. وتداعب هذه المفردات على الأخص مسامع أولئك الذين تمتد جذورهم إلى القرى الفلاحية والمزارع والمناطق الجبلية الرائعة الجمال. في مسرحية "جسر القمر" يحدد الشيخ للمتنازعَين سبع ومخول (رزقـَهم) باعتماد (شبـُّوق العفـْص) و(الحْفافي) و(جفـْت الطيـُّون) و(الهـِيشة) و(مِحـْقان الميّ) و(المـْطلّ)، وفي "موسم العز" نرى (خْصاص القز) معلقة بالـ (شيح) والـ (وزَّال)، وفي "الشخص" (يتروَّق) الشاويش (بيض وْفول وْشنكليش) وفي "جبال الصوان" يفدي الوطن (قيدوم جبال الصوَّان) وفي "ميس الريم" تفوح رائحة (الطيُّون) وغير ذلك. لقد كان الأخوان عاصي ومنصور منذ خمسينيات القرن العشرين من رواد شعر العامية اللبنانية ومسرحها فسُجِّل لهما الفضل الكبير في حماية اللهجة اللبنانية ومفرداتها الخاصة وتعابيرها الجميلة وإبراز العلاقة الجوهرية والشاعرية بين الفرد اللبناني ومجتمعه وتراثه الفكري والثقافي من جهة والطبيعة اللبنانية بمناخها المعتدل ذي الفصول الواضحة وتضاريسها الرائعة الجمال والمتنافرة وغطائها الأخضر الساحر وبحرها الأزرق وسمائها وقمم جبالها الشامخة وأرزها الصامد ومواسمها الطيبة الخيـِّرة، من جهة ثانية. وقد تمَّ هذا الإبراز عبر أرقِّ الكلمات وأعذب الألحان وألطف الصور وأجمل الإبداعات الفنية والأدبية زيـَّنت رفوفَ المكتبات وخشبات المسارح والشاشات السوداء والفضية ومهرجانات الشعر والزَّجل والقصة والمسرح بأنواعه والبرامج التلفزيونية المتنوعة وغيرها وغيرها .. وأصبحت المفردات والتعابير التراثية اللبنانية التي كانت مهددة بالنسيان عمادَ اللغة الفنية والأدبية تحمل المشاهد والمستمع والقاريء إلى بقايا صور حـُفرتْ في قلب الذاكرة من زمن الالتصاق بالضيعة والطبيعة والأهل وغـَلـَبةِ البساطة والوجدانية والغـَيرية والطيبة. ويأخذ حضور الطبيعة في مسرحية "جسر القمر" أبعاداً فلسفية. فالطبيعة أكثر صدقاً من الناس الذين (عَ مْزارع الأرض و عَ حْجار بْيتـْقاتلو) في حين أن القمر (بيضوِّي عَ الناس) و (بيْزور الطـِّرْقات) و(بيضوِّي بالسَّهْريَّات عَ الفقير وْ عَ الغني) وأن الذين يحبون بعضهم يكفيهم حنان القمر (بيكفـِّينا ضو القمر). حتى إن البلابل تصرِّح بأن (الحْقول وْساع والدِّنيي بتـْساع) متسائلة عن أسباب الاقتتال، التي كانت في تلك المسرحية مياه النهر. وقد عَرضت "جسر القمر" الرؤية الرحبانية للسلام بين الجيران وللعدل بين الناس. يشير الأخوان رحباني إلى عدالة الطبيعة المادية، والتي يجب أن نرى الطبيعة البشرية جزءاً منها، ويؤكدان إمكانية التعايش بسلام بعيداً عن روح الأنانية والفوقية والملكية الخاصة التي يعتبرها الكثيرون مخطئين جزءاً من طبيعة البشر الفطرية تجعلهم لا يقبلون بالمساواة. فالشمس تضيء للفقير كما تضيء للغنيّ. وفي محطات الفرح تبرز الطبيعة في استعارات فائقة القيمة الجمالية تندمج فيه مكونات الطبيعة بالفن والبهجة وفي أشكال التعبير. فالعشاق (يزرعون المواعيد) والقلب المحبّ يكبر (وِسْع الغابة قلـْبي) وصوت الفنان القدير (يهدُرْ متل الريح بـْ صنـِّين) وتغازل الشمس في إشراقتها بيوت الضيعة (غمْزِت الشمس دْراج ضيعتنا) وفي العرس (تعيِّد قناطر) ويحمي القمر الحبيبة ويؤنسها (يا حِلـْوِة اللي القمر وِلـْف لـْحِماكي وْجار)، للضحكات (نصلـِّي) وللفرح (ننـْدُر السهرات) إذ إن (بْلاد الفيّ فيها الفرح دايم). وإن حلَّ السلام وأقيمت المسرَّات نزل القمر ضيفاً (بيصير ينـْزَل القمر يْغـَنـِّي ويسْهـَر معْكـُنْ) وتعود (النجمة ع القناطِر)، ويشبـِّه الأحباب بعضهم بطيور البريَّة (يا مواسم العصافير). كل دار تعمِّرها سواعد الأبناء تصبح جزءاً من الوطن الغالي. ويحرص الجميع أن تكون الدارة عالية (عَ العالي الدَّار علـِّيها) تصون النفوس (كرامتـَها) ويرعاها (صهيل الخيل) وتضويها (سْيوف العز) وينيرها القمر (عَ الدَّار نوِّر يا قمر) وتكلـِّل زواياها الأفراح فتصبح (عَ العزّ عَ لـْيالي السَّعِد مِسْمِيِّة)، ولا يفوت بُناتـَها تزيينها بالزهور والأشجار (بيتـَكْ حَدّ العين سْياجو والزنبق عَ غـْصونو) و(سَيـِّـجْ تـَ نـْسَيـِّجْ بـِزْهـُور، بـْوَرْد بْـتِفـَّاح بـْرِمـَّان) أو بالياسمين الذي تتفاخر الفتيات به حتى ولو غابت ملكيات البساتين (نحْنا ما عـِنـَّا بْساتين، عنـَّا دُوَّارة ياسْمين). للطرقات، التي يتواصل الناس بفضلها، حصة في فن التصوير الرحباني (خـَلـَّي الطـِّرْقات تـِتـْلـَوَّى مارْقـَة بـَيـْن صْنـَوبَرْ، خـَلـَّي الطـِّرْقات تـِتـْضَوَّى نـْجُوم وْلـَيْل وْعَنـْبَرْ). ولأهميتها في حياة الناس أعطيت قدسية الشمس (أهلي نـَدروني للشمس وللطرقات)، ويحزن الناس إن فقدت الطرقات بريقها وحيويتها أيام المِحَن (طِرْقاتي غَطـَّاها الشـَّوْك والأعْشاب البرِّيـِّة) ويؤرقهم استمرار هذه الحالة (فـَيـَّات الطـِّرْقات السـَّعيْدِة غـِفـْيانـِة مِن مـِيـِّة سِنـِة). وللجسور حضور في التواصل بين الناس (وْمازال في جْسورَة بْهالأرْض مشْرورَة، بَدُّن يضلـُّو الناس يجُو لـَعند الناس، وتـْزورنا الدِّني وِنـْزورا). أما ساحات الضِّيع والبلدات والحارات فهي ملتقى الأهالي وملعب حكاياتهم وحضن مناسباتهم وأفراحهم (العيد الساحة السَّهرية تـْنـَوِّرْ وِتـْزيْد الضـَّيْعَة الحِلـْوِة المضويِّة بْليلِة هالعيد)، وإذا فرغت الساحة من أهلها تظهر قفراء (كِلـُّن تـَرْكو السَّاحَة، بقـْيـِت فـْراغِة السَّاحِة). أسطح البيوت في مسرحية "الليل والقنديل" (حلـْيانِة دَواليها) وتنتظر قناديل منتورة التي يشتريها (أهالي المزارع من تلّ الورد) و(أهالي السهل الغنية بالقمح والبيادر والخضْرة) وأهالي قرى الجرد المليئة بـ (جـَناينْ التفـَّاح) وبالـْ (مـَيـِّة ونـْبوعة). أكبر قناديل منتورة في مسرحية "الليل والقنديل" سيضيْ (مَمْرَق ضهْر الشـِّير) عندما يربط إلى (السنديانة فوق الصخرة الكبيرة) فيرشد بنوره السائرين ليلاً. في الصراع بين النور والظلمة يتعرَّض صنـَّاع النور إلى المتاعب والانكسار المؤقت، ولكنهم ينتصرون بعد إقناع الظلاميين بالفارق الكبير بين النقيضين، بواسطة الحب الذي أثاره الفن الرقيق عبر صوت منتورة العذب. بساطة بيوت ضيعة درج اللوز في مسرحية "هالة والملك" لا تضعف من حب هالة لها لأنها مكتملة بعناصر الطبيعة (بـَلـَدي دَرَج اللـَّوز، أربـَعْ خـَمْس بـْـيـُـوت وشـْوَيـِّة شـَجـَرْ، بلدي دَرَج اللـَّوز بالـْجبـَل العالي بـِخـْيال الشَّجـَرْ، طـَلـِّة القـَمر وْوَرْدِة السـَّهَـرْ). أجمل اللقاءات بين الأحبة تتم (عَ قطف القزّ)، (عَ الطـَّريق)، (عَ المفرق)، (عَ المَوقـَف)، (عَ الطاحونِة)، (على الجسر العتيق)، )تحت الصفصافة) أو (فوق العين) أو (تحت النبعة) وأحلى الهدايا (مْن زْهوري باقة) أو (المنديل المْطرَّز عَ الدَّاير) أو (الصورة) أو (عَ الورقة يكتب أشعار) أو (بالنجمة وْعَدْتِك) أو (حبيبي بدَّو القمر) أو (بحْمِلـِّكْ ريْحة الأرض) والمرسال هو (طير الطاير) و (طير الزعرورة) و (حجل صنـَّين) و (اليمامة) و (جْوانِح حَساسين). في مسرحية "بياع الخواتم" تتألق الطبيعة اللبنانية الخلابة بجميع عناصرها، ترافق العشاق في رحلاتهم الممتعة وهم يشقون طريقهم نحو السعادة الزوجية. فنحن أمام حكاية لـِ (قصـِّة ضـَيـْعـَه، لا القـِـصـَّة صحيحـَة وْ لا الضـَّيْعـَة مـَوْجـُودِة) يضعنا لحن مقدمتها اللذيذ، الذي توحي نغماته بالرِّقة والنعومة، في بيئة الضيعة الجميلة وتخومها وبساتينها وصخورها المـُوَّشـَّحة بألوان حياة الناس وأفراحهم وآمالهم وبحكايا الأجيال التي نقشت على سطوح هذه الصخور فغدت السجلَّ الصادق والتـُّراث الخالد والأدب الشعبي الذي يحفُّ الجمال به من كل جانب والذي تسمو بمكوناته الروح وتتأجج مشاعر الحب وتحلـِّق الأحلام في فضاءات لا حدود لرحابتها. ويبدأ المختار القادم من (الحرش) بسرد الحدث، الذي ينتظر أخبارَه الضيوف، بأسلوب شعري تحْضر الطبيعة في محطاته (طالـِعْ طالـِعْ، منْ فوْق الـْمـَقالـِعْ وقـْطـَعْت مْشاحـِر الـْغـَيضَة خـَلـْف التـَّـلـِّة رايحْ، وْ عَ حْفافي الحـَفافي اللـِّي كلا قـْرامي يابْسـِة وحْجارة سـَوْدة عابْسـِة .. وَلاَّ تـْلاقـَيْت بـْراجحْ). وبخلاف المختار يعبُر (راجح) الفعلي الحقول والوديان وهو يردد أبيات الغزل بالطبيعة وطيور البرية وصباح الوديان النضِرة ونواطير الكروم وعيون الماء الرقراق (طِيري يارفوف الدِّرُّجْ طـِيْري تـَ نطيْر، حـِلـْوِة ساحات الضـِّيـْع حلوِة بكـِّيـْر). ويختلط الحب والفرح بجمال الطبيعة في صورة الصيادين وهم يتبادلون مع العصافير المداعبة الرياضية (بَدِّي شِفـْلِكْ شي زعْرورَة فيها إصْليلِك) دون أن تخدش مهارتـُهم جمالَ اللوحة (من وادي لـَوادي ما قِدْرو عْلـَيْها الصِيـَّادة) فما يريده الصياد هو الاستمرار في ملاحقة العصفورة (صَوتِك يصْدَح ويْسَوسحني، إركُض والشـَّوك يْجَرِّحني) وهي تستعرض رشاقتها (تـْطير وْتِتدَلـَّع) وهاهو يقطع لها عهداً بعدم قتلها (لو فيـِّي طالِك ما بْطالِك، ما بسْخى فيكي) تأكيداً لعشق الطبيعة الذي لا يخبو بريقه (خلـَّيْها تـْطول مْشاويري، أنا إمْشي وْإنتي تـْطيري). و في مسرحية "يعيش يعيش" تتكرر صورة الصياد الرومانسي الذي يهوى الصيد والحديث عنه، إذ به يرتفع (شوف السَّما حَدِّي) ويخترق المجهول (إشرُد عَ بْواب الحْراش وْما أعرِف وين هَدِّي) ويتلذذ المبالغة (كـَمِّش نـْسورَة والنـِّسر قدِّي) و (شفتي مَطْرَح ما قوَّسْت السـَّبع .. شفتي مَطْرَح ما كـْمَشْت التمساح). في الأعراس التي معها (تتبارك حجار البيت) تتكدَّس صور الفرح والرقص والغناء وتتألق الحسناوات بقدودهن وفساتينهن والحليّ المصنوعة من الحجارة الطبيعية (خواتم الياقوت من جبل الياقوت) و (عـْقـُود اللـُّولو مـْن بـْحـُورِة اللـُّولو). ويرتبط العرس في أذهان الناس بالخير والنور والبركة والطـِّيب (والخوابي نبيد وْزَيْت) التي بها (تـْفيض المحبـِّة)، والوصية للعروس: (كوني قمح وْسكـَّر، كوني طيب وْعَنبَر، وْقنديل الزوَّار) فإذا قامت الأعراس لا يريد المحتفلون أن ينتهي الفرح (سعْدو الأحبة طول يا ليل الهنا). ويزدهر الحب في الحكايات الرحبانية في الطبيعة الخلابة ومكوناتها الصغيرة (خاتم ياقوت بقلبي بيرِنّ) والكبيرة (كِبْر البحر بحبَّك)، القريبة (مْصوَّر ع بابي) والبعيدة (بعِْد السَّما بحبَّك). أبسط المكونات الطبيعية نالت حظها من التقدير الرحباني. في مسرحية "دواليب الهوا" تغني الصبيَّة حلا لنبتة القصب النهري (ياشجرة الـ ْعَ دِّني فيَِـَّاتها علـْيو، طابتْ وعزّ الـْجني وصحابها غلـْيو) وتتغزل بالـْ (قصبة وْوَرْقة) التي تحلُّ مشكلة الضيعة وتخلق الفرح والسعادة في أهلها الذين تجاوزوا استغلال الإقطاعي فهد العابور لهم فصنعوا دواليب الهوا ونجحوا بتسمية عيد الضيعة باسمها. وكان القرص الورقي الملون الدوَّار رمزاً لأجمل وأقوى الحقائق الطبيعية المتعلقة بالحركة والتطور والمرتبطة بسعادة الناس وفرحهم (الدواليب عم بتدور والإيام عم بتدور وْمش رح فيك تـْوَقـِّفـْها يا فهد العابور). لا مكان للتشاؤم والاكتئاب في حالات الشدَّة في حكايات الأخوين رحباني بل تبرز عند الناس روح التفاؤل وتتكاتف الأيادي البيضاء لتجعل من الكفاح والاستبسال مساحة للفرح والأمل بتحقيق النصر وطيِّ الأيام السوداء. في مسرحية "أيام فخر الدين" حين يَسعد الوطنُ بعودة أبنائه من منافيهم (عَلى الدَّار رِجْعو صْحاب الحاميِّة) يرقص الفرسان وقد تشابكت سواعدهم (نِزْلو الفرسان عَ الحلقة والسيف الأبيض واعِد) ويغنـِّي الشعراء (وْشاعرْ حامِلْ غِمْر غـْناني) للدار الـْ (بالعزّ مْسَيَّجة وْ عَ العالي مْحصَّنة وبالخير مْسَوَّرَة وبالقمر مْنوَّرَة). وعلى جبهة البناء تتدفق المياه إلى الأراضي التي أحيت ترابها هِمَمُ الأهالي (الميّ اللـِّي بدَّا تـْصير، ورد وْشتـْل وْحَرير) وتتلألأ البيادر بغِلالها (بيدَرْ مزروعة بْيادِر مزروعة رْجال)، تبرز القمم (شِفـْت جْبال الـْ عم تِتمختـّر) وتضحك للناس المزارع (ومْزارع تخـْضرّ وْتكـْبَر). أما البحر فتطوِّعه سواعد البحَّارة محوِّلة أمواجَه إلى طاقة تنتقل فوقها المراكب من بلد إلى آخر (مَراكبْنا تـْروح وْتِرْجَع، تِشْحن بَضايع وْتِرْجَع) فإذا فرغ البحارة من عملهم خلدوا إلى الراحة والغناء على شاطىء البحر وقد سحَرَت قلوبَهم حوريتـُه (يا ماريَّا يامْسَوسِحَة القبطان والبحرية). تتحالف الطبيعة في الأدب الرحباني مع عزيمة الرجال المناضلين في سبيل كرامتهم وحرية بلدانهم. فنور الشمس يقضي على الظلام ويقطع على الظلاميين خططهم الشريرة (طلـْعـِت الشـَّمـْس، الشمس الـْجايي مـْن البـَحـْر، الشمس الـْجايي مـْن الـلـَّيـلْ، وَيـْن فـِيـْك تـْغـِيـب يــــا ديب؟). ويتطوع الفنُّ للعب دوره المحرِّك لعواطف الناس ولروح التعاضد من أجل بناء الوطن وصون حريته (لـَرُوح بـَيـْن الشـَّمِس والـْفـَيـِّة، وِابـْواب حـِلـْوِة تـِشـْرُق عـَلـَيـِّي، سـَلـِّم عَ الـِبـْيـُوت الـْ عَ هالطـِّرْقات وْحامـْلـِة بـْلادي بـِعـَيـْنـَيـِّي)، وتغنـِّي الفتاة الثورية عطر الليل للعمال والحرفيين مثل ما تغنـِّي للفرسان والجنود (يامـْعـَلــِّمْ رَكـِّزْ مـِيـْزانـَك عَ الـْخـَيط وْيالله، تـَ الـْجـِسـْر يْهلّ وْبنـْيانـَكْ حـَيـْطـو يتـْعـَلـَّى) كما تطالب القائمين على حراسة الوطن والمنجزات بدورهم (ياكـِرَّام انـْطـُرْ كرُومكْ عَ راس الوادي، حـِلـْيـُو عـْناقـِيـْدُنْ ياهـْمـُومـَكْ من هالصِّيـَّادي) وتناجي (بدر وادي التيم) الكبير (يا قمر مشْغـَرَة) متمنية له السلامة (ما يْطال عِزُّو حدا وْلا يْصيب وِجـُّو ضَيم) لأنه قمر (البْواب المفتوحة عَ الشمس وعَ الحرية) ولأن هذه الأبواب محميَّة بالحب (بْوابـِك مْشَرَّعِة والحب راعيكي) ولأن الوطن (صخرة الفجر وْقصر النـِّدي). وفي المصاعب استنجد أبناء الوطن القليلو العدد بالطبيعة لمواجهة الغرباء الزاحفين، فهم يجيدون التعامل معها، علـَّها تكون قاسية على الغزاة (تـْأخـَّر الشـِّتـِي، وَيـْن الغـَيـْم البارد يـِطـْلـَعْ؟). ولا تكـْسر الكبوات شموخ الأوطان التي تحميها صدور أبنائها (شـُو بـْيـِمـْرُق عـْلَيـْها رْياح وْضـَيـْم وْبـِتـْضـَّلا تـْلاقي نـْواطيرا). وكما تتدخَّل الطبيعة في بعض الأحداث فهي تـُنـْبىء بغيرها (احْمَرِّت الشَّمس، انـْكـَسَر الغيم، وِلـْعِت الجوزِة .. بدُّو يْصير شي). وفي مسرحية "بترا" يؤكد الوزير ريبال للملكة شكيلا (يا مـَوْلاتـي الأرْض الـْ إنـْتـي مـِنـْهـا شـَمـْس وْريـْح وْشـَعـْب يْقـاتـِل عـَنـْهـا) لأن هذه الأرض هي (زَهـْرِة الجـَنـوب وعـَصْـفــُورِة الـبــِكي) . بخلاف الحكام والولاة والملوك يفتخر الناس الطيبون بممالكهم التي تصنع ثرواتها جهودهم وسخاء الطبيعة. في مسرحية "ناطورة المفاتيح" تفتخر زادالخير بممالك الناس (مملِكة اللـَّيـل، مملِكة السَّهر، مملِكة الهوى، مملِكة القمر) وبحياة أهلها البسيطة (مـْنـِقـْعـُد عَلى سْطـَيْحَة، مْنـِغـْفى عَ حجر)، وبدل الحرَّاس (بْتـِحْرِسْها السَّما ووْراق الشـَّجر) وتحفظ الطبيعة بعناصرها الجميلة ذكرى الأبطال وشهداء الوطن (راجـِعْ بـِ اصْوات الـْبـَلابـِلْ، راجـِعْ بـِغـْنانِي الحِصَّادِين، ساكِنْ عَ اطـْراف المَعاوِلْ، ساكـِنْ بـِفـْراريع الحِطـَّابين) وتفتخر باحتضانها صورَهم (سـاكـِنْ تـَحْت اللــَّوْز وْحـَدّ الزَّيـْتـُونـِة والسـَّبـْلـِة) وبحضورهم في فرح الأيام القادمة (وْتـِجي إيـَّام وْفـَرَحَكْ يـِكـْبَـرْ، دِنـِي تـِنـْقام وْسَما تـِتـْعـَمـَّرْ). الوطن كبيرٌ في عيون الناس وغال على قلوبه فهو (جبل الغيم الأزرق، وقمر النـِّدي والزَّنبق، و دَهب الزمان الضَّايع) وهو ليس تراباً فقط، إنما تراب الأجداد (يا تـْراب اللـِّي سبقونا). تربط اللوحات الرحبانية حياة الناس بالمناخ والطقس والمواسم وتستخدم عناصر الطبيعة ومصطلحات الناس بدءاً بالوقت الذي يرافق تحركاتهم (ركبو عربيات الوقت) (نـَطـَرْتـَك سِنِة، يا طول السِّنِة) والشاهد (اسْأل شجر الجوز) و (غيَّر العِدَّان). وتحتفظ ذاكرة المحبِّين بصور الأيام السعيدة (أيام البيادر غنـَّينا سوا) و (نحنا لنا ورق الخريف). ويصبح الوقت هاجساً إذ تتحدَّد بواسطته الأعمار ولأن (شمس العمر خـْيال) فلا بدَّ من بعض التحايل (تـَعا تـَ نـِتخـَبـَّا مـِـنْ دَرْب الأعـْمار) و (مـِنـْوَدِّعْ زَمان وْمِنـْرُوح لـَزَمان) مع بقاء الأمل بعودة ولو عبر الذكريات (ياسْنين اللـِّي رِحْتي ارْجَعي لي .. وْرِدِّيلي ضحكات اللـِّي راحو). فإذا قنط حائر أو حزين وجد عزاء في (الإيـَّام بـْتـِمْحي الإيـَّام). في مسرحية "لولو" يصل العمر بالجدِّ الذي عاش دهراً مع طاحونته والناس (يـِطـْحن للحيّ قمح وسهريَّات) إلى درجة أصبح معها (طاحونة الذكرَيات يطـْحن شـَمْس وْفـَيّ). لشهرَي تشرين مسحة من الحزن (خـَلـَص الزَّرْع الشـِّتي جايي وْلـَفـَح الدِّني تـِشـْرين) و (غـَرَّب الـْحـَسـُّون والزَّنـْبـَق تـِكي، وْتِشـْرين عمْ يجـْمع الزَّهـْر اللـَّيـْلـَكي) و (برد الطقس وبَدُّو يجي السِّمُّن والتينات عَسَّلو ع إمُّن والعِنـْبات مافي مين يْلِمُّن) و (رِجْعـِت الشـَّتوِيـِّة) و (وِبْيـِمْرُق تشرين ياخُدْ سَهـْرِيـَّاتـْنا واصْوات الحِصـَّادين. وللقاءات التي تعتمد الفصول والأشهر دلالات: (لاقيني بْأوَّل تشرين) و (ندَهْني من تموز) و (ع العنقود، عيد الغلة) و (أواخر أيلول المعاصر مشتاقة) و (آخر إيَّام الصَّيْـفيـِّة) و (بإيام البرد، إيام الشتي) و (زهرة نيسان مزروعة فوق جيابو). في لقاء العشاق تزدهر الطبيعة وتسخى (يادِنـْيي شتـِّي ياسمين) ويؤرخ الناس قصص الحب باستخدام الفصول (بـِدْيــِت الـْقـِصَّة تحْتِ الشـِّتي بـِأوَّلْ شـِتي حـَبـُّـو بـَعْـضُنْ، وْخـِلـْصـِت الـْقـِصَّة بـِتاني شـِتي تحْتِ الشـِّتي تـَرَكـُو بـَعْـضُـنْ)، والمواسم (لاكـْتـُب كـْتابـِك عَ وَرَق تينـِة واجْعَل طلاقِك حبِّ الزَّيْتونا). لعناصر الطبيعة أحاسيسها ولغاتها أيضاً، إنها تعيش معنا فنتبادل معها المشاعر واهتزازات العواطف، ونجدها في النص الرحباني تفعل ما نفعله وتتكلم أيضاً فالصباح ينتظر كالعشاق (وْيا هالصِّبح النـَّاطِرْ، قاعـِد بالـْقناطر) والطيور تبادل الآخرين صداقتـَهم (يْدور الدُّوري ويْحاكي يْحاكي المنتور) وتتكلـَّم (خـَبـّرُوني ياعْصافير الدَّار) و (الطير الحزين يْقول للعشاق خلص الحنين) و (شو قال الدوري لقرميد البيوت)، والقمر يسافر (سافرْت كـْتير وْضَوَّيْت عمرك كلـُّو راح) ويدخل من النوافذ دون استئذان موقظاً الوالي في مسرحية "صح النوم" (ضـَـوِّ الـْقـَمـَر، فات مْن الشـِّبـَّاك، وَشْـوَشْني، قلـِّي اصْحا) وتعاتبه قرنفل (لولا بْتِلـْقيلـَك شي بيت وبْتِقعُد تِرْتاح مش أحسن ما تـْقوم تِطلـَع وْتِفضـَح العشَّاق). وتتحرك مكونات الطبيعة تعبيراً (عمْ تِمشي الجبال وتبعد الكروم والبيوت تهاجر) وتتضامن مع المضطهدين وتعينهم (ورا كل صخرة، تحت كل شجرة .. بْفيـِّة كل بيت عمْ يخلق ولد لـَ مِدْلـِج). الحجارة تبدي فرحها بالعائدين (ضحكِت حِجار الدار لِفيو حْبابنا) والزهور تتأثر وتشارك ماريا في "ناس من ورق" حزنها (وَحْدنا يا ورد رح نبكي) وتغازل قطرات النـَّدى في "بترا" (الزَّهرَة بتـْفـَتـِّح للنـَّدى) والماء في "بياع الخواتم" (تـْفـَتـِّح زَهرَة بالمَيـِّة). الفصول تتحرَّك (رجعِت الشـَّتوية، هرَب الصَّيف، وْإذا إجا الربيع) والبحر يلبِّي مَطالب الأحبَّة (يا بحر بيروت سَلـِّم ع اللـِّي نِسْيونا) لذلك تغني له ماريا (هيلا يا واسع) وتستحلفه (وحياة موجَك وْأيَّام الهوى والصَّيف). (الشلال انجَرَح) لغياب الأميرة الصغيرة في "بترا" و(محى) هدير القطار (الصَّدى) في "المحطة". تبقى للشمس مكانتها الكبيرة فهي مصدر النور (عم بتضَوِّي الشمس والدِّنيي عم توعى). منها الدِّفء في "لولو" (وْصـَوِّرْ عَ هالـْحِيـْطان شـَمْس كـْبيرِة بهاللـَّيل وأقعـُدْ حـَدَّا تـَ إدْفـَّا) والخير في "الشخص" (ضو نهارَك طالع والرزقة على الله)، وهي رمز الحرية في "ناطورة المفاتيح" (طـْلـِعـْنا عَلى الشـَّمْس طـْلـِعْنا على الـْحـِرِّيـِّة) إذ يسعد السجناء بإطلاق سراحهم وخروجهم إلى الحياة متمثلة بـِ: (عَ الـضَّـو، عَ الرِّيـْح، عَ الشـَّمْس، عَ البـَرْد، عَ بْيادِرْ مـِضْوِيـِّـة وْمِنـْسِـيِّة). وتوصَف الحسناوات بمقارنتهن بالشمس والقمر، فعمَّة نعمان في "ميس الريم" تعده بعروس (بـِنـْت القــَمَر والشـَّمـْس نـِعـْمان تـَ جــِبْلـك) بدلاً من شهيدة التي يصفها والدها راجي (بـَيـْن الشـَّمْس وْبـَيـْن الـفـَيّ غـِرِّتـْها مَزْروعَة). و (أرْض الخـَوابي والرَّوابي) تضحك (عم تضحك الأرْض، الأرْض الـْ إلها زمان، تـْرابا مْشَقـَّق عطشان) وتركض (لما بْتِركض فينا الحَفافي) و تركض معها الحياة (البيادر راكضِة بْسَنابل القمح). وكوكب الأرض كـُروي ويدور ليضمن لقاء الأحبة (إذا الأرض مْدَوَّرَة ياحبيبي، رح نرْجع نِتلاقى ياحبيبي). مع (النـَّسْمِة جبليَّة) يصبح (المَلـْقى طيِّب طايب) وللنسيم قدرة على الاستدعاء (ندهِتـْني النـَّسمِة الغريبة). الغيم الملوَّن (في غـَيـْمـِة زَرْقا) يستضيف الطيور (عَ الغـَيم اللـِّي فـَوْق دْراجو ،غاطـِط رفّ سـْنونو) ويبقى عندما يرحل الآخرون (وْما بْـيــِبْقى بْكـَحـْلـُون إلا الغيم الأزرَق) فإذا حزن يرحل بدوره (وْيـِهْرُب فيـْنا الغيم الحزين)، ولمكانته تستخدمه زيُّون في "ميس الريم" استعطافاً لمختار المخاتير (عم حلـّفـَك بالدَّمع بليالي الحنين، بالغيم بالتـَّلـِّة بزهر الياسمين) . والأفق حسَّاسٌ لدخـَّان الحضارة الذي (بيـْجـَرِّحْ بـَياض المَدى) في "المحطة". للـَّيل باب (واقِف عَ باب الليل) وهو ضيفٌ عزيز يحب الناس ولا ينساهم (ليلية بترجع ياليل وبْتِسأل عَ الناس) ولأن نجومَه معلـَّقة فيه فهي لا تقع (خـَلـَص الحب ما وَقـَع وَلا نـِجْمـِة) وتستضيفها البيوت في انتصار الحب (وْرِجْعِت عَ القناطر نجمة العشاق). وفي الليل يحلو سفر القادمين إلى (درع الصَّحرا) في "بترا" (سفر الليل صحارى مْخبَّاية وْيا نجمة الليل قوافِلـْنا جايي). أسماء شخصيات المسرح الرحباني هي الأخرى مستمدة في أغلب الأحيان من الطبيعة. فالبطلة (فيروز) هي (منتورة) في "الليل والقنديل" و (عطر الليل) في "أيام فخر الدين" و (قرنفل) في "صح النوم" و (وردة) في "المحطة" و (زاد الخير) في "ناطورة المفاتيح" وهي الزهرة المِسْتحِيـِّة ولولو وغربة .. والآخرون ديب وأبو ديب وهبّ الريح وديك الميّ وفهد وسبع وشبلي وشاهين وزهرة وياسمين ونجمة ونسُّوم وزمرُّد وسهريِّة. الملابس في مسرحيات الأخوين رحباني عنصرٌ أساس ومادة للتعبير عن جمالية التناغم مع الطبيعة. فللعيد تتحضر الفتيات (مْهـِيـَّايـِة فستان جْديد) خصْرُه (مْزنـَّر بالمنتور) و (زهرة نيسان مزروعة فوق جيابو). حلا في "دواليب الهوا" تكشف فساتينها حجم التغيُّر الذي أحدثه الحب بها (فـْساتينها الـْكانِت بْلون الشـَّوك زهَّرو) وتؤكد نجمة (لِمِّن بْيحْلى الفستان بيكون القلب عشقان) وتتغزَّل نجلا في "موسم العز" بفستانها الحريري معترفة بتأثيره على الشباب (فستاني من وْراق الورد مْسَوسَح السَّاحل والجرْد). حتى العصافير فإنها ستحظى باهتمام الفتيات السعيدات في "أيام فخر الدين" (للعَصْفـوُرَة الـْقمـُّورَة بـَدْنـا نـَعْمِلْ تنـُّورَة إلها عـِقــْدِة زْغـَيـُّورَة والـْكـَشـْكـَشْ طـايرْ). يستعير مادحو الحكـَّام عناصر الطبيعة لإطلاق الصفات الحسنة عليهم (نهر الليل، نهر العدل الفايض على طول، قمر الفضَّة، بحر الكـَرَم الواسع). في مسرحية "بترا" تشبِّه الملكة شكيلا الملوك بالبحيرة (الملوك متل البُحيـْرة بْتِتـْجَمـَّع فيها أحزان الكـِلّ وهـْموم الكِلّ) وتمدح زوجها الملك "مالك الثاني" (شـِبـَّهـْتـَك بـِحـَقـْلِة زَيـتون، شـِبـَّهـْتـَك بـِعَجْلون، بالـتـَّلـْج الأبـْيـَضْ عـَلى حَرَمُون، بـِإرْزِة مـِنْ لبنان) . الناس العاديون أيضاً ترتبط صفاتهم الحسنة وقدراتهم وأخلاقياتهم بالطبيعة (كانـو الخـِيـّالـِة تـَلـْج وْصَهيْل وْخـَيْل)، (أهل الشتي والريح)، (مَرْبى الحِرْشايات)، (مَرْبى شْيارة ومقالع) ومَن عاش في الطبيعة يمتاز عن الذين نمت معارفهم بعيداً عنها بصدق التصاقه بها. لذلك ترى هيفاء في مسرحية "يعيش يعيش" أن جَدَّها هو الأجدر باستلام الحكم لأنه: (جدِّي عايشْ بالطـَّبيعة تـْصاحـَب هـُوِّي والطـَّبيعة. هـَوْديكْ بـْيقـْرو الإشـْيا بالكتـُبْ .. بتـْضـَّلْ بـْعـَقـْلـُنْ كـُتـُبْ. جدي بـْيعرف كيف الـِبـْدار بـْيطـْـلـَع مـْن الأرض، جدي بـْيعرف كيف أيـَّام الطـَيور وْمواسم السـَّـفـَـر، جدي بـْيعرف لما التـَّلـْج بـْيضـْرُب اللـَّوز كيف بـْيـِبـْكـُو صـْحاب اللـَّوز). هل يستفيد جيل القرن الحادي والعشرين، والأدب الرحباني الخالد بين يديه، من قوة الحضور الفني والفكري لهذا الأدب وخصوصية القيم الجمالية في إبداعاته فيعتمدها نواظم ومعايير يتبين بها طريقه ويطوِّر من خلالها قدراته الإبداعية فيقدم للتراث مساهمات على ذات المستوى الرفيع وفي مثل جمالياته سعياً لإبقاء المتلقين على تناغم حياتهم مع الطبيعة وجمالها وقوانينها وأخلاقياتها بعيداً عن السَّطحية والغرضية؟ نأمل ذلك.
#مفيد_مسوح (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
كتاب جديد
-
لو كنتُ عروبياً !
-
تديين الأحزاب العلمانية عملٌ رجعيٌّ معادٍ للتطور
-
تحزيب الأديان عملٌ رجعيٌّ معادٍ للتطور
-
الياس الرحباني سوبر إيديوكيشين ستار
-
موسم العـز
-
صك إدانة لقناة الجزيرة؟!
-
الجـلادون واللغـز
-
صك براءة من الفكر الليبيرالي لقناة الجزيرة
-
همـزة العفيف وسونيا وفستـان فيفي
-
ماذا لو باعت صباح فساتينها ؟!
-
نجيـب ســرور الفنـان الرقيـق .. المنــاضل العنيـد - ترتيــــ
...
-
العقــل والديــن منفصلان !!
-
الأصغر بيوم أفهم بسنة
-
مقتطفــات من شعر جميــل صدقي الزهـــاوي في الفلسفة والمـــرأ
...
-
شتم المرأة يشفي غليل المتخلفين
-
8 آذار (مارس) اليـــوم العالمــي للمــرأة
-
الشبع باستنشاق رائحة الشواء
-
استفتاءات قناة الجزيرة وآخر أبواق صدام
-
ما ذا يريد عبد الباري عطوان؟
المزيد.....
-
من باريس إلى عمّان .. -النجمات- معرض يحتفي برائدات الفن والم
...
-
الإعلان عن النسخة الثالثة من «ملتقى تعبير الأدبي» في دبي
-
ندوة خاصة حول جائزة الشيخ حمد للترجمة في معرض الكويت الدولي
...
-
حفل ختام النسخة الخامسة عشرة من مهرجان العين للكتاب
-
مش هتقدر تغمض عينيك “تردد قناة روتانا سينما الجديد 2025” ..
...
-
مش هتقدر تبطل ضحك “تردد قناة ميلودي أفلام 2025” .. تعرض أفلا
...
-
وفاة الأديب الجنوب أفريقي بريتنباخ المناهض لنظام الفصل العنص
...
-
شاهد إضاءة شجرة عيد الميلاد العملاقة في لشبونة ومليونا مصباح
...
-
فيينا تضيف معرض مشترك للفنانين سعدون والعزاوي
-
قدّم -دقوا على الخشب- وعمل مع سيد مكاوي.. رحيل الفنان السوري
...
المزيد.....
-
التجريب والتأسيس في مسرح السيد حافظ
/ عبد الكريم برشيد
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
-
التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا
...
/ نواف يونس وآخرون
-
دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و
...
/ نادية سعدوني
-
المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين
/ د. راندا حلمى السعيد
-
سراب مختلف ألوانه
/ خالد علي سليفاني
-
جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد
...
/ أمال قندوز - فاطنة بوكركب
-
السيد حافظ أيقونة دراما الطفل
/ د. أحمد محمود أحمد سعيد
-
اللغة الشعرية فى مسرح الطفل عند السيد حافظ
/ صبرينة نصري نجود نصري
المزيد.....
|