|
عودة إلى كتاب لم يأفل مع العصور من كتب رواية دون كيخوته.. ثربانتس أم الجيلي؟
شكيب كاظم
الحوار المتمدن-العدد: 6841 - 2021 / 3 / 15 - 02:37
المحور:
الادب والفن
ذكرت في دراستي الموسومة (دون كيخوته: هل كتبها ثربانتس أم العربي الأندلسي سيدي حامد بن الجيلي؟) إنَّ ثربانتس لم يكتب الرواية كلّها، بل كتب القسم الأوّل منها، في حين كان القسم الثاني من حصة العربي الأندلسي سيدي حامد بن الجيلي، في حين ينسب الدكتور عبد الرحمن بدوي مترجم الرواية عن الإسبانية إلى الراهب السفاح، الذي آذى المسلمين الأندلسيين كثيرا وأجبرهم على ترك دينهم، لا بل إنَّ الكاتب الأرجنتيني الرائع البرتومانغويل في كتابه الممتع الجميل (يوميات القراءة. تأملات قارئ شغوف في عام من القراءة) والذي نشرته دار المدى بطبعته الأولى عام 2008، وترجمة العراقي المغترب عباس المفرجي، يكاد يشكك بوجود هذه الشخصية، فيرى أنّه زار بيت سرفانتس في بلد الوليد، كل أركان البيت ومحتوياته تبرز عالم دون كيخوته، لا عالم مبدعه، كاتبه سرفانتس الذي يبقى غير حقيقي. فضلاً على كثرة الأغلاط، وفشو السهو والوهم في ثنيات الكتاب، مما يؤكد أنَّ هناك أكثر من شخص تعاور على كتابته والإضافة إليه، فضلا على اختلافات كبيرة وكثيرة حتى في الأفكار والتوجهات بين قسمي الرواية، مما بسطته في بحثي المنشور ذاك، لا بل إنّي تطرفت وقلت إنَّ كاتبها هو السيد حامد بن الجيلي، وقد نسبها إلى ثربانتس ربما خوفا أو لقاء مال، أو أيّ سبب من أسباب الحياة شديدة القسوة والوطء على أصحاب العقول والضمائر، وفي التاريخ هناك الكثير ممن نسبوا كتبهم للمشهورين والأغنياء، وهل نسينا أنَّ الروائي الروسي الشهير ثيودور ديستويفسكي، كان يكتب كثيرا ويسهب في الكتابة كي يسدد الدّين الذي عليه، بعد أنْ تعاقد مع صاحب المطبعة الذي يتولى نشر رواياته، من هنا جاء الحجم الكبير لتلك الروايات. ولأنَّ ما ذكرته في دراستي تلك يقع في ضمن الرأي أو النظرية، التي بحاجة إلى برهان دامغ مؤكد كي تصل إلى مستوى الحقيقة العلمية الراسخة، فقد وضعت في وكدي وهمتي متابعة الأمر ما أمكن إلى ذلك سبيلا، والبحث عنه ما دمت حيّا. ولهذا قرأت واستقرأت بمتعة وشغف، وأكثر من قراءة واحدة، الكتاب الذي أمضى العلامة العراقي والباحث الموسوعي الأستاذ الدكتور كامل مصطفى الشيبي مئة يوم من عمره في كتابته والموسوم بـ(أصداء وملامح عربية وإسلامية في رواية لثربانتس) الصادر في ضمن سلسلة الموسوعة الصغيرة، وهي سلسلة ثقافية شهرية تصدر عن دار الشؤون الثقافية العامة ببغداد، وتحمل الرقم (470) لسنة 2002. الدكتور كامل مصطفى الشيبي، الذي رحل عام 2006، ولم يستوقف موته أحدا من زملائه أو طلبته، ويكفيه فخرا أنّه كاتب للكتاب الذي زادت صفحاته على الست مئة، وهو في الأصل رسالته للماجستير من جامعة الإسكندرية وبإشراف العلامة الفيلسوف علي سامي النشار، والموسوم بـ(الصلة بين التصوف والتشيع) فضلا على اهتمامه بالمتصوف المصلوب الحسين بن منصور الحلاج، وتحقيقه لديوانه (الطواسين) هذا الموسوعي الذي كان ينشر دراساته القيمة في الصفحة الثقافية لجريدة (العراق) أيام كان يحررها طيب الذكر والسيرة الأستاذ أحمد شبيب (رحمه الله) في الثمانينات والتسعينات الماضيات. رأيت الدكتور الشيبي يحوم حول الموضوع، ولا يكاد يسبره، وظلّت بينه وبين الوصول إلى حقائق الأشياء قشرة واهية تكاد تشبه القطمير شفافية ورقة، لكنه لم يستطع اختراق هذا الحجاب الرقيق، الذي يشبه بيت العنكبوت، هو الأستاذ اللوذعي والباحث المدجج بالعلم والمعرفة، لكنه في نهاية البحث يقفز في الهواء ليقرر كما قرر من قبله العلامة صفاء خلوصي أنَّ شكسبير ما هو إلا تحريف للشيخ زبير، ليقرر الشيبي أنَّ ثربانتس، عربي أندلسي وأنَّ اسمه عانى تحريفا، وأنَّ ثربانتس ما هو إلا ثروان أو سروان واللفظان متقاربان في النطق ولعله من العرب القدامى، أو من جد نزل الاندلس وَبُعد العهد بينه وبين ميكائيل صاحبنا الروائي (...) ومن يدري فلعل (...) عوامل غيرت من ثروان إلى ثربانتس، ومن سروان إلى سرفانتس، وأيًّا ما كان الأمر فإنَّ هذه نقطة تغري بالتأمل وتبعث على الرضا وتومض إلى شعبة من الطريق قد تؤدي إلى الجادة..ص17. أولاً: قلت إنَّ العلامة الدكتور كامل مصطفى الشيبي يحوم حول الحقيقة ولا يكاد يكسر القشرة الواهية التي تحيطها يقول: (إنَّ رواية دون كيخوته نموذج عال للعمل الروائي المتقن، في براعة السرد والتسلسل والتشويق ومن الصعب على القارئ أنْ يتركها قبل أنْ يكمل قراءتها. والرواية، بناء فلسفي جدلي يدور النقاش فيه بين الإنسان الخيالي المثالي الذي يصرّ على أوهامه ويسوغها بشتى السبل، وبين الواقع واضطرار الإنسان التقليدي العملي إلى تقبله والتضحية بالمثل والقيم التي تلقاها عن آبائه وقرأها في الكتب لضمان حياة آمنة مطمئنة مستقرة بما لها وما عليها. وهنا مقام لمقال: إذ لاحظنا في القسم الثاني من رواية دون كيخوته أنَّ الجانب الخيالي الفني فيه أقل من القسم الأول، وأنَّ المادة التأريخية والسيرة الذاتية واضحة فيه وتكاد تطغى على سياق الأحداث، ولاحظنا أيضاً أنَّ كثيرا من الأحداث تستمد تسلسلها من شهرة القسم الأوَّل واحترام الناس على طبقاتهم لدون كيخوته، بوصف الرواية التي يقوم ببطولتها أحداثاً تأريخية جارية ومستمرة، وكل هذا يعني أنَّ القسم الثاني من هذه الرواية – وإنْ كان من الطبيعي اعتماده على القسم الأوّل – يأتي من الناحية الفنية الادبية بعد القسم الأوّل، وأنّه على افتراض أنَّ القسمين روايتان منفصلتان لا مجال للجدال في تفوق القسم الأول على الثاني وإنْ كان التطويل فيه واضحا جدا) ص23. ص25. وهذا ما يعزز ما ذهبت إليه من أنَّ القسم الثاني من الرواية لم يكتبه ثربانتس بل سيدي حامد بن الجيلي، فلو كانت لمؤلف واحد، لما ظهرت هذه الفروقات، فالأسلوب هو مرآة صاحبه أو صاحبته، لذا جاء القسم الثاني أقل فنا من الأول كما يقول الشيبي، كما أنَّ القسمين روايتان منفصلتان، هكذا يفترض الشيبي فلا مجال للجدال في تفوق القسم الأوّل على الثاني، ولِمَ نفترض ذلك؟ والدلائل تعزز القناعات من أنَّ الرواية بقسميها لا تعود لكاتب واحد، وإلا ما تفوق قسم على قسم، لو كانا صدرا عن قلم واحد وقريحة واحدة، لكنها الأساليب الكتابية المختلفة التي أسبغها الله على الكتاب ليتمايزوا فيما بينهم. ثانيا: تحت عنوان (كلمات عربية في رواية: دون كيخوته) يحصي الأستاذ الدكتور كامل مصطفى الشيبي اثنتين وثلاثين كلمة عربية في الرواية، أي كلمات دخلت اللغة الاسبانية، لكنها ذات أصول عربية ومنها: Rabil أي الربابة العربية، وAlcuza وهي الكوز إناء لشرب الماء، وAlferes أي الفارس، ولفظ الجلالة والله، وتبارك الله العظيم، وAlmuhaza أي المخدة، وAlfaqui أي الفقيه، وتأتي الاستنتاجات الذكية التي أوردها الباحث الموسوعي الشيبي لتعزز ما ذهبت إليه في دراستي آنفة الذكر من أنَّ القسم الثاني من الرواية كتبه الأندلسي العربي سيدي حامد بن الجيلي، ولم يكتبه ثربانتس، الذي اكتفى بالقسم الأول، أو أنّه كتبه وأضافه إلى القسم الأوّل مستغلا موت ثربانتس عام 1616. قال الدكتور الشيبي (والكلمات من 19 -26 من إيراد ثربانتس نفسه بوصفه فقيها في ضبط الكلمات العربية التي دخلت الإسبانية (!) وأنَّها تنقسم إلى ما أولها أداة التعريف (الـ) وإلى ما نهايتها ياء النسبة (..) وهذا [في حد ذاته؟ هكذا] دليل على أنَّ المؤلف كان يألف العربية بنفسه وبيئته فوق أنه استزاد منها أيام أسره في الجزائر، أو سنواتها الخمس على الصحيح) ص40.ص41. ولدى عودتي إلى هذه الكلمات ذوات الأصول العربية، لأنَّها تحمل (الـ) التعريف الخاصة بالعرب وياء النسب أو النسبة في آخرها مثل: العراقي. السوري. وهكذا، فوجدتها كلها في القسم الثاني من الرواية، التي لا تعود إلى ثربانتس بل إلى الأندلسي العربي المسلم سيدي حامد بن الجيلي، ولا أدري لماذا اقتصر الشيبي في توصلاته على الكلمات من 19 -26، بل كان يجب إضافة الكلمات 13 – الفارس و 14 – Elches العلوج و15 – Tagarinos أي الثغريون، وقد شرحها ثربانتس نفسه في المتن- كما يقول الشيبي – فذكر أنَّها تطلق على مسلمي أرغون والثغر بمعنى موضع الحدود بين بلد وآخر، ومثلها الرُبَط – أي حراسات الحدود، ومنها جاءت تسمية (المرابطون) الذين حكموا عقودا في شمالي إفريقيا العربي في تلك الأيّام، وأرى أنَّ ثربانتس لم يعرفها ولم يشرحها، مما يؤكد ما ذهبت إليه من عروبة القسم الثاني من (دون كيخوته). ثالثا: قال الدكتور الشيبي: (ومن المظاهر المشوقة في رواية دون كيخوته الإشارة إلى الشعر القشتالي (الإسباني القديم) الذي كانت منه رباعيات وخماسيات تسمى العشريات، وكان من فنونه قصائد في المديح يبدأ كل بيت منها بحرف من اسم الممدوح (القسم الثاني/ ص232) فإذا عدنا إلى العرب في المشرق والمغرب وجدنا الرباعيات أمراً معروفاً ومشهوراً، وكذلك الخماسيات والسداسيات) ص73. فأقول: أيسمح لي القارئ أنْ أقول، ألا يدل هذا على أنَّ كاتبها، أي كاتب القسم الثاني منها هو الجيلي سيدي حامد؟!! رابعا: قال العلامة الشيبي (ووردت في الرواية إشارة تذكرنا بتقليد قديم في دنيا الشعر العربي وذلك عند الإلمام بلويس تنسيلو (...) الذي تاب عن شعر الغزل [الذي قاله] في شبابه، وكتب قصيدة شهيرة يكفر بها عن ذنوبه) (2/10 والهامش) ص80. أقول: ذلك أنَّ ذوي المكانة العليا في المجتمع الإسلامي، في السلطان أو الزعامة الدينية كانوا يتباعدون عن قول الشعر (...) ومن هنا انتهى إلينا قول الشافعي (محمد بن إدريس (...) بن شافع القرشي الإمام 150 – 214 هـ): ولولا الشعر بالعلماء يُرزي لكنت اليوم أشعر من لبيد ومن ذلك أنَّ الرشيد لما عَلِمَ أنَّ المأمون يقول الشعر، قال له يثبط عزيمته: (يا بُنَي، ما أنت والشعر [وإنما هو] أرفع حالات الدنيّ وأقل حالات السري، (...) فدأب من قال الشعر منهم في صباه وشبابه (....) على تركه في كهولته وشيخوخته، كما فعل الشيخ محمد رضا الشبيبي (...) وقد عبر عن هذا الموقف الشاعر العراقي (...) الفقيه المجاهد محمد سعيد الحبوبي (....) وإذا كان الأدباء الإسبان والعرب التقوا في هذه الخصيصة فإنَّ الفضل للسابق كما يقضي المنطق) ص80 – ص83. أقول: وقد أحالنا الباحث الشيبي إلى القسم الثاني، الصفحة العاشرة منه والهامش. أأستطيع أنْ أعزّز بهذه الفقرة رصيدي، من أنّ هذا القسم الثاني من الرواية يعود للجيلي؟!! خامساً: قال الشيبي: (واستطرد ثربانتس بعد ذلك إلى سرد الظروف الأليمة التي أحاطت بالعرب المسلمين واضطرتهم إلى مغادرة بلادهم بناء على المراسيم الملكية التي صدرت في سنتي 1609 و1610/م – 1018 – 1019/ هـ ومن الغريب أنّهم كانوا يستطيعون أنْ يحيوا في أمانٍ وحرية في ألمانية وفرنسة، علاوة على المغرب، ولكن الرجال خاصة كانوا يعودون إلى أوطانهم بوصفهم غرباء أوربيين في المواسم الدينية الإسبانية، وذكر ريكوته، المنفي من بلاده لأنه مسلم، أنَّ زوجته وابنته فضلتا الذهاب إلى المغرب على الذهاب إلى فرنسة، والمثير للإعجاب أنَّ ثربانتس عرض هذه القضية الإنسانية عرضاً مقبولاً لدى أبناء جنسه في ذلك الوقت العصيب، بصبّه على لسان ريكوته المنفي في صورة اعتراف منه بالخطأ وقوله: والخلاصة أنّنا عوقبنا بالنفي جزاء وفاقا، وهي عقوبة بدت للبعض سارة خفيفة، لكنها بدت لنا نحن أقسى عقوبة، وفي كلّ موضع نكون فيه نتحسر على إسبانية، ففيها ولدنا وهي وطننا الطبيعي (..) ثم إنَّ رغبتنا في العودة إلى هذه البلاد، كانت من القوة بحيث إنَّ أولئك الذين يعرفون مثلي لغة البلاد (...) يتركون هناك زوجاتهم وأولادهم ويعودون إلى هنا، بسبب حبهم الشديد للأندلس (...) أعرف بالتجربة صدق ما يقال من أنّه: لا شيء أجمل من حب الوطن) ص89. ص90. ويظل الشيبي يحيل إلى القسم الثاني من الرواية، لكنه لم يلتقط حتى الآن رأس الخيط الذي يدله على السر، سر هذا التعاطف مع المسلمين الأندلسيين المنفيين عن أوطانهم، بعد أنْ أديلت دولتهم، وظلوا يتخفون كي يكحلوا العيون بمرأى البلاد التي ولدوا فيها ونشأوا، فيتركون الزوجة والأولاد في بلاد ينعمون فيها بالحرية والهناء، لكن هو الوطن يلحّ عليهم كي يعودوا، هذه الأفكار والمعاناة لن تصدر عن ثربانتس، لأنه لم ينف ولم ينف قومه، بل صدرت عن سيدي حامد بن الجيلي الأندلسي المسلم الذي وقع على رأسه ظلم لا يحتمل، تغيير عقيدته ودينه أو القتل، حتى إذا أخفى عقيدته، وضُبِطَ متلبسا بأداء بعض الطقوس نفي إلى خارج الأندلس، لا بل في النهاية نُفوا جميعا خارجها بشكل مأساوي لا يصدق يشير إلى ظلم الإنسان لأخيه الإنسان، هذه المعاناة وتصويرها على هذا الشكل البليغ ما صدرت عن ثربانتس بل هي معاناة الجيلي وقومه. سادساً: قال العلامة المرحوم الدكتور كامل مصطفى الشيبي: (وفي ختام هذه الأوراق، وبعد الابتهال إليه – سبحانه – أنْ يعصمنا من الزلل والشطط والغلو وغلبة الهوى، يسعدنا التلويح إلى أنَّ هذه المقدمات التي سقناها بين يدي البحث الحاضر تشجع الظن بأنّه، إذا كان ثربانتس قد أشار إلى كتاب عربي أخذ عنه روايته، كما ضمنها وقائع صحيحة في فصولها المختلفة، فربما كان هذا الأمر صحيحاً على سبيل الواقعية لا الروائية، من هنا نستطيع أنْ نفترض، بعد ملاحظتنا الكم الكثير من المادة العربية والإسلامية في الرواية الحاضرة، أنّه اقتبس بعض تكوينات دون كيخوته من (عقلاء المجانين) لأبي القاسم النيسابوري، الحسن بن محمد بن حبيب، ت 406 هـ/ 1015م) وفي فلسفتهم من نحو الباب الرابع والأربعين من (الفتوحات المكية) لابن عربي (محمد بن علي الطائي الأندلسي ت 638 هـ/ 1240م فيلسوف وحدة الوجود في التراث العربي الإسلامي، وعندنا أنَّ التشمر للبحث في هذا الموضوع يستحق الجهد الذي يبذل في سبيله، وقد بدأنا فعلا [الأصح حقا] ص106 – ص107. أقول: لقد اقترب الدكتور الشيبي في هذا النص اقترب من كبد الحقيقة، وهي إشارة ثربانتس إلى كتاب عربي أخذ روايته عنه، لا خيالاً أو سرداً روائياً، بل حقيقة واقعة دامغة، من هنا جاء الكم الكبير والكثير من المصطلحات الإسلامية التي لا يفقه ثربانتس فيها شيئاً، ولقد ذكرنا آنفا تعاطفه مع المنفيين المسلمين من ديارهم التي عاشوا فيها قرونا، فالذي لم يعان الغربة والاغتراب والنفي عن الأوطان، لا يستطيع تصوير مشاعر المنفيين، مهما أوتي الحذاقة والفهم وسعة الخيال، وها هو كذلك يورد لنا الكثير من الفتاوى الإسلامية مما يؤكد إسلام الرجل وعروبته إذْ ما شأن ثربانتس بهما؟ كان بودي لو قطع الشيبي الشكَّ باليقين وتخلص من هذه الـ(ربما) فالاستقراء العلمي لهذا الموضوع يؤكد تعاور أكثر من شخص على كتابة هذا النص الروائي، ثربانتس، الراهب السفاح، سيدي حامد بن الجيلي وهو ما يسرده ثربانتس نفسه في كيفية عثوره على النص العربي منها، لكن الشيبي رحمه الله، يعد ذلك وجهاً من وجوه التفنن، وأراه وجهاً من وجوه الحقيقة، لا بل الحقيقة ذاتها وليس وجهاً منها، إذْ يقول: (كنت ذات يوم في درب القناة في طليطلة فشاهدت صبيّاً أتى تاجر أقمشة حريرية ليبيعه كراسات قديمة وأنا شديد الولع بالقراءة.. فدفعني هذا الميل الطبيعي إلى تناول إحدى الكراسات، فوجدتها مكتوبة بحروف عربية، ولما كنت لا أعرف (لا أستطيع) قراءتها وإن استطعت تمييز ما هي، ففكرت فيما إذا كنت أستطيع العثور على عربي متنصر، يمكن أنْ يقرأها لي (...) وأخيراً ساق لي القدر مترجماً (...) فقام هذا العربي المتنصر يترجم من العربية إلى الإسبانية قائلاً: إنَّ العنوان معناه (نصه) هذا: تأريخ دون كيخوته دي لا منتشا، تأليف سيدي حامد بن الايل المؤرخ العربي (...) وسرعان ما ابتعدت ومعي العربي المتنصر واقتدته إلى رواق الكاتدرائية ودعوته إلى أنْ يترجم هذه الكراسات كلها إلى الإسبانية، أو على الأقل ما يتعلق فيها بدون كيخوته (...) لكن لهفتي (...) وحرصي جعلتاني أقتاد هذا العربي المتنصر إلى بيتي فأتم ترجمة هذا التأريخ كلّه الذي أوردناه هنا واستغرق في الترجمة ستة أسابيع أو يزيد قليلا) ص86.ص87 من الرواية وص102. ص103 من كتاب الشيبي موضوع بحثنا هذا، ويعلق الشيبي على هذا المقبوس ولعله يعني مدة تأليف الرواية أو تبييضها على الأقل. وفي هذا الصدد يذكر الكاتب الأرجنتيني البرتو مانغويل في كتابه القيم والمهم (يوميات القراءة. تأملات قارئ شغوف في عام من القراءة) الذي نشرته دار المدى عام 2008 وترجمه المترجم العراقي المغترب عباس المفرجي، رأياً مهما مفاده (صدفة [الأصح: مصادفة] عرضت عليه رزمة أوراق مربوطة لشرائها، ولأنه قارئ نهم يقرأ حتى مِزَقَ الأوراق الملقاة في الطريق فإنّه يتصفح هذه الرزمة فيرى أنها مكتوبة بالعربية، وبدافع الفضول لما تحويه هذه الصفحات فإنّه يذهب للبحث عمن يترجمها له، اكتشف أنَّ المخطوطة ليست إلا تسجيلاً لوقائع مغامرات دون كيخوته مكتوبة بقلم المؤرخ العربي سيدي حامد بن جيلي – والذي اتضح أنَّه إلى جانب سرفانتس بين المؤلفين، الذين يضمهم الجزء الخاص بالفرسان في مكتبتنا وتحت اسم سرفانتس أيضاً. منذ تلك اللحظة، نابض حق التأليف أصبح دوارا: الرواية التي قرأنا يُزْعَمْ أنّها مترجمة من العربية ولم يعد سرفانتس هو الأب، لكنه مجرد عراب، في الجزء الثاني من دون كيخوته كانت الشخصيات قد قرأت الجزء الأول، فصححت ونقحت من أخطائها الواقعية (...) عند هذه النقطة يتساءل القارئ مَنْ اخترع مَنْ؟ معظم الكتاب لهم وجود حقيقي، ليس الأمر كذلك مع سرفانتس، فهو في ذاكرتي شخصية من دون كيخوته أكثر منه رجل حقيقي (...) سرفانتس يبدو لي أنّه ابتدع من خلال كتابه (...) زرت بيت سرفانتس في بلد الوليد (....) الحديقة، حجرة الدرس، غرفة النوم (...) كل هذا يبدع عالم دون كيخوته أكثر مما يبرز عالم مبدعه (...) يبقى سرفانتس غير حقيقي) ص155. ص157. نعم. يبقى سرفانتس غير حقيقي وجزءا من وهم والدنيا مملوءة بالشكوك والأوهام وسيظل الأمر بحاجة إلى مدارسة ومناقشة وطول بحث.
#شكيب_كاظم (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
الكاتب-ة لايسمح
بالتعليق على هذا
الموضوع
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
(الصخب والعنف) لوليم فوكنر.. رواية الجنوب الأمريكي
-
إقرأ.. وفي البدء كانت الكلمة
-
باكية على ترف الماضي الجميل محلة الشواكة تغازل دجلة بسحر شنا
...
-
(1952) للروائي جميل عطية إبراهيم سرد تاريخي للسنة الأخيرة من
...
-
قراءة في ذاكرة صحفي وحيداً.. غادرنا الشاهري
-
أبو تمام وبُنَيَّاته في آفاق الكلام وتكلم النص
-
عبد اللطيف الشواف في ذكرياته وانطباعاته حادثة تموز 1958 قفزة
...
-
عبد الجبار عباس فتى النقد الأدبي في العراق. أجهر بأنني ناقد
...
-
هل كان للهجة تميم أن تسود وتمسي لغة العرب؟
-
روح المواطنة في مواجهة الغزاة رواية (أضلاع الصحراء)
-
أستاذي الدكتور كمال نشأت
-
نساء رائعات.. كامي شلفون أرملة ألبير أديب
-
كأن لم يسمر بمكة سامر.. رحل أنور الغساني من غير أن يذكره ذاك
...
-
عزيز السيد جاسم وتطابق المَظْهَر مع المَخْبر
-
أما آن لهذه المرأة أن تصمت؟
-
محمود درويش وسليم بركات
-
القهوة مكانا أليفا.. القهوة شرابا أنيقا
-
رواية (بير الشوم) لفيصل الحوراني... تدوين لسنة حاسمة فى الشأ
...
-
جمال عبد الناصر من حصار الفالوجة حتى الإستقالة المستحيلة
-
التأريخ الهجري جزء من منظومتنا الثقافية والقومية
المزيد.....
-
بشعار -العالم في كتاب-.. انطلاق معرض الكويت الدولي للكتاب في
...
-
-الشتاء الأبدي- الروسي يعرض في القاهرة (فيديو)
-
حفل إطلاق كتاب -رَحِم العالم.. أمومة عابرة للحدود- للناقدة ش
...
-
انطلاق فعاليات معرض الكويت الدولي للكتاب 2024
-
-سرقة قلادة أم كلثوم الذهبية في مصر-.. حفيدة كوكب الشرق تكشف
...
-
-مأساة خلف الكواليس- .. الكشف عن سبب وفاة -طرزان-
-
-موجز تاريخ الحرب- كما يسطره المؤرخ العسكري غوين داير
-
شاهد ما حدث للمثل الكوميدي جاي لينو بعد سقوطه من أعلى تلة
-
حرب الانتقام.. مسلسل قيامة عثمان الحلقة 171 مترجمة على موقع
...
-
تركيا.. اكتشاف تميمة تشير إلى قصة محظورة عن النبي سليمان وهو
...
المزيد.....
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
-
التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا
...
/ نواف يونس وآخرون
-
دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و
...
/ نادية سعدوني
-
المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين
/ د. راندا حلمى السعيد
-
سراب مختلف ألوانه
/ خالد علي سليفاني
-
جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد
...
/ أمال قندوز - فاطنة بوكركب
-
السيد حافظ أيقونة دراما الطفل
/ د. أحمد محمود أحمد سعيد
-
اللغة الشعرية فى مسرح الطفل عند السيد حافظ
/ صبرينة نصري نجود نصري
-
ببليوغرافيا الكاتب السيد الحافظ وأهم أعماله في المسرح والرو
...
/ السيد حافظ
المزيد.....
|