أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني - طارق حجي - الطاعون قراءة في فكر الإرهاب المتأسلم













المزيد.....

الطاعون قراءة في فكر الإرهاب المتأسلم


طارق حجي
(Tarek Heggy)


الحوار المتمدن-العدد: 6839 - 2021 / 3 / 13 - 21:06
المحور: العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
    


 
 
الطاعون 
قراءة في فكر الإرهاب المتأسلم
 
طارق حجي
 
ترجمته من الإنجليزية
د. سحر شوشان
 
 
 
 
 
  
 
إهـداء
   "الدين" مطلق، والسياسة "نسبية"، وكل من يريد أن يخلط بين المطلق والنسبي يصل به خلطُه لمنتج ضد العقل وضد العلم وضد الإنسانية وضد مسيرة التقدم الإنساني. وأهدي هذ       الكتاب الذي سطرته بالإنجليزية ونشر بها وبالفرنسية في أوروبا قبل أن تتبنى سلسلة "كتاب اليوم" ترجمته ونشره بالعربية لكل من يُدافع عن حماية الدين (المطلق) من السياسة (النسبية)...
 
طارق حجي
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
الفصل الأول
الإسلام هو من يشكل العقل
 
     هناك صورة للإسلام استمرت لقرون طويلة لدي أسلافنا، ألا إنها مختلفة تمامًا عن صورة الإسلام اليوم كما يراها الأوروبيون والأمريكيون، ولعلنا نسميها "الإسلام المصري التركي"، فحتى الأربعينات كان هذا النموذج من الإسلام مثالًا فريدًا من التسامح والمرونة.
   ففي خارج شبه الجزيرة العربية، عُرف المسلمون بالمجتمعات عالية التسامح في بلاد، مثل: مصر، وسوريا، وإسبانيا، قبل القرن السادس عشر، وكذا في شمال إفريقيا وقد ساد هذا التسامح بشكل خاص أثناء الإمبراطورية العثمانية، فقد كانت دولة إسلامية متعددة الأعراق والأجناس أسستها قبائل تركية الأصل في الأناضول بنهاية القرن الثالث عشر.
   وفي أوج مجدها، فإن هذه الدولة بإمبراطوريتها في إسطنبول ضمت معظم الأجزاء من جنوب غرب آسيا، والبلقان، ومصر، ومساحات شاسعة من سواحل شمال إفريقيا، إلا أنها سقطت في عام 1919م، ولقد حُكمت مصر أو علي الأقل تأثرت بهذه الولاية من عام 1517م إلي 1882م.
   تمتع غير المسلمين في هذه الدولة بمتعة لم تحظَ بها أية أقلية أخرى في العالم ذلك الوقت، فلقد عاش النصارى واليهود في ظروف مماثلة تمامًا لرعايا الإمبراطورية  المسلمين، حتى حينما عُرف عن بعض الحكام طابع الاضطهاد، فقط كان ذلك سمة عامة بلا تميز بين المسلمين وغيرهم، فكما قال المؤرخ البريطاني "برنارد لويس": "لعب اليهود أسمى أدوارهم مرتين: مرة مع المسلمين في الماضي، ومرة مع النصارى في الحاضر".
   عرف "الإسلام المصري– التركي" بقبوله للآخر، فلم يصبه هوس التمسك الحرفي بالنص المقدس، فعلي الرغم من الاعتراف والتسليم بطبيعة الشرائع الإلهية وكذا بالسنة النبوية، إلا أنه يدرك أن بعضًا من هذه النصوص جاءت لزمانٍ، ومكانٍ، وظروفٍ مختلفة، فالسمة الإلهية باقية للدين، لكنها لا تمتد لفهم البشر وتفسيرهم لأوامره، فلقد كان من المسلم به ضمنًا أن هناك بعدًا ذاتيًّا في تفسير النصوص، وأن هذا التفسير لابد وأن يصطبغ بطبيعة المفسر، والتي يشكلها بناؤها الثقافي، والمعرفي، وقدراته الفكرية.
   فإذا قارنا بين المجتمعات العربية والإسلامية اليوم وبين مثيلاتها منذ قرن فسنجد انتشارًا كبيرًا في العنف لدي الثقافة الذهنية لمجتمعات اليوم، بل إن الخطر الأكبر هو انتشار ثقافة من شأنها أن تنمِّي هذا العنف وتفرخ تكفيريين يحضُّون علي ثقافة العنف ويهيئون لها جوًّا تسود فيه.
   ولطالما كان هناك أناس في هذا النمط، الأصوليون المتشددون من السُّنَّة، مثل: سيد قطب، وأسامة بن لادن، وأيمن الظواهري، وأبي مصعب الزرقاوي، وإلى وقت مريب مثل هؤلاء كانوا قلة منبوذة، إلا أن المأساة اليوم أنهم ليسوا كذلك فلقد وصلت رسالتهم إلي كثير من الناس، وكل يوم يزداد مؤيدوهم والمتعاطفون معهم.
لماذا؟
   الإسلام هو أحد أهم العوامل التي تشكل الثقافة المجتمعية، بناء العقد نمط الحياة، وآليات التفكير، وسلوكيات المسلمين، ومع ذلك فعلى المحللين المهتمين بتشخيص وعلاج المشكلة أن يحددوا وبشكل دقيق معنى هذا الكلام.
وما هي القضية هنا؟
هل هي النصوص الإسلامية؟
هل هي تفسير الناس لنصوص الشريعة؟
   هل هي في الفقه الإسلامي؟ وإذا كان الأمر كذلك، أي مدرسة فقهية؟ هل هي مدرسة أبي حنيفة؟ أم (ابن مالك!!)؟ الشافعي أم ابن حنبل وأصحابه خصوصًا ابن تيمية، أم ابن القيم الجوزية، ومؤخرًا محمد بن عبد الوهاب؟ أم هو الفقه الإسلامي لمذهب الشيعة الإمامية (ومن أبرز علمائها الإمام جعفر الصادق)؟ أم هي مدرسة الخوارج، والتي هي لا سنية ولا شيعية والتي ضمت أربع طوائف)؟
   هل هي التجربة التاريخية، وإذا كان الأمر كذلك فأي تجربة هي؟
   هل هو الإسلام كما فهمه الأمويون والذين امتد حكمهم من 660هـ إلي 750هـ ؟ أم العباسيون والذين امتد حكمهم من 750هـ إلي 1258هـ؟
   في الواقع، أي إسلام؟
   هل للمرء أن يتحدث عن تجربة إسلامية واحدة من نفس النوع؟ علي أية حال فتجربة الدولة الأموية في دمشق مختلفة تمامًا عن تجربة الدولة العباسية في بغداد، وكلاهما يختلف تمامًا عن تجربة الدولة الأندلسية، حيث إن الانسجام العام بين اليهود والمسلمين نتج عنه مفكرون عظماء، مثل: ابن رشد، وكذلك الفيزيائي والفيلسوف اليهودي ابن ميمون.
   في الحقيقة النص الشرعي لا يحمل كثيرًا من المعنى إذا انتُزع من سياقه، وهنا تبرز أهمية عقلية وطبيعة الشخص الذي يتعامل مع النص؛ ولأن الإسلام وُجد بتفسيرات متنوعة وتجارب كثيرة، فلا يمكن أن نحمله مسئولية العنف، فالعنف منظور عالمي تولد عن خمسة عوامل:
-         الاضطهاد السياسي علي أيدي الأنظمة المستبدة والتي لا تعرف سبيلًا للديمقراطية.
-         انتشار الفساد والذي هو بدوره وليد للاضطهاد السياسي.
-         ظهور النمط الوهابي مع تراجع النمط المتسامح للإسلام المصري التركي.
-         إحياء قيم البداوة والتي عادت بانتشار النمط الوهابي من الإسلام، فلقد حارب الإسلام الولاء القبلي ونهى عنه ووجه الولاء إلي القبيلة الأسمي "الأمة".
-         نظم التعليم التي لا تتماشي مطلقًا والمدنيَّة، والحداثة.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
الفصل الثاني
نظرة عامة
 
أولًا– التطور الثقافي:
   يمكن للمرء أن يجادل بأن جذور مشاكلنا هي التخلف والرجعية، والتي لم تزرع بسبب الاستعمار كما يعتقد الكثيرون. علي الأرجح، كان الاستعمار النتيجة الطبيعة للعملية الجدلية التي تتكشف في آن واحد في المجتمعات الناطقة بالعربية من جهة وفي أوروبا من ناحية أخرى.
   بعبارة أخرى، القول بأننا كنا متخلفين لأننا استُعمرنا يمكننا تشبيهه بـ "إيقاف العربة أمام الحصان"، والعكس صحح؛ لأننا لما كنا متخلفين استُعمرنا. وفي اعتقادنا أننا كنا متخلفين؛ لأن المدرسة المتحفظة التي تُقاوم التجديد أو التَّغَيُّر انتصرت علي مدرسة العقل، والمنطق، والفلسفة.
   بعد الحقبة الاستعمارية جاء الاستقلال، وبما أن الاستقلال لم يتحقق من خلال العمل الفكري والثقافي، ولكن من خلال العمل السياسي القومي، فقد اتُبع ذلك النهج في المجتمعات الناطقة بالعربية، إما من قبل الملكيات الأسرية (امتداد للنظام القبلي العربي) أو الجمهوريات التي يديرها ضباط مع القليل من الرؤية وندرة أي تكوين ثقافي علي الإطلاق (والذين تواجدوا وسادوا بأعداد كبيرة والتي تميزت بالفساد علي المستوى الشخصي والعائلي الذي لم يسبق له مثيل في تاريخ البشرية).
   بعد ما يقرب من نصف قرن من استقلال المجتمعات الناطقة بالعربية، اندلعت الثورة ضد الأنظمة التي كانت قد تولت مقاليد السلطة في مرحلة ما بعد الاستقلال وكانت المفاجأة الكبري أنها انبثقت من مصدر غير متوقع علي الإطلاق.
   سيأتي إما من الجماهير المعدمة التي تعيش في الأحياء الفقيرة والمدن العشوائية أو من معتنقي أفكار الأصولية الإسلامية، والمفاجأت كانت للعالم بأسره أنه تمت قيادتها وتوجيهها من قبل المتعلمين والمثقفين أبناء وبنات الطبقة الوسطي الذين فهموا معنى المواطنة والالتزام بالقواعد في المجتمعات المعاصرة بفضل التكنولوجيا (وبالتحديد تكنولوجيا الاتصالات الحديثة).
   في حين أن هناك طريقة للخروج من المأزق بالنسبة للمماليك العربية علي الأقل نظريًّا، في تحولها من ملكية مطلقة إلي ملكيات دستورية، وأن المخرج الوحيد للجمهوريات العربية هو الاستجابة للشعار الرائع للثورة "الشعب يريد إسقاط النظام" بالنسبة لقادة الجمهوريات (نظرًا لمستوى التعليم المتدني للغاية والافتقار إلي الثقافة، ناهيك عن مستويات الفساد غير المسبوقة التي ارتكبوها هم وأسرهم والمقربون منهم علي مر السنين) فهم علي هذا الوضع ليس لديهم قابلية للإصلاح ويجب إزالتهم حتمًا (كما أطاح التونسيون ببن علي والمصريون بمبارك).
   يجب محاكمة هؤلاء القادة الفاسدين والهدامين، ومحاسبتهم علي أن يكونوا عبرة لخلفائهم، والشيء الغريب في المجتمعات العربية هو أن شيوخ النفط كانوا أكثر حكمة نسبيًّا في معظم الأمور من الجنود النفطيين، علي سبيل المثال: (ليبيا، والعراق، والجزائر)، أولئك الذين ارتكبوا جرائم أبعد مما يتخيله البشر بشكل عام والسرقة بوجه خاص.
   حقق التاريخ الإسلامي أكثر فترات حياته الفكرية والثقافية إثارة في القرن الرابع الميلادي بعد القرن السابع الميلادي، وخلال تلك الفترة تمت ترجمة مئات الكتب من اليونانية، وخاصة في مجالات العلوم، والمنطق، والفلسفة. ونتيجة لهذا السعي الحيوي للمعرفة، أنتجت المجتمعات الناطقة بالعربية العديد من المدارس الفكرية، مع علماء مستقلين أعطوا تفسيرات مختلفة للإسلام، وأنشئت معاهد للتعليم ركزت بشكل أساسي علي العلوم الطبيعية والرياضيات، ومع ذلك طوال هذا العصر الذهبي كانت الحياة الفكرية في صراع بين تيار محافظ أصر علي التفسير الحرفي للنص المقدس وتمجيد ممارسات الأجيال الأولى من المسلمين (السلف الصالح) بين اتجاه ليبرالي أيد أولوية العقل.
   كان الاتجاه السابق ممثلًا بعلماء السنة الذين خلفوا أبا حنيفة النعمان، مؤسس علم الفقه الإسلامي.
   كان كل من الفقهاء المنتمين إلي هذه المدرسة الفكرية أكثر تحفظًا من سلفه. وهكذا كان ابن حنبل أكثر تحفظًا من محمد بن إدريس الشافعي، بينما كان الشافعي أكثر تحفظًا من مالك، الذي كان أكثر تحفظًا من أبي حنيفة، أما بالنسبة للمفكرين الذين يكمن اهتمامهم بالفلسفة والمنطق، فإن تفكيرهم كان أكثر ليبرالية، ومن أبرزهم المعتزلة (1)، وابن سينا، والفارابي، كان أعظمهم بطل العقلانية والاستدلال الاستنباطي، ابن رشد الأندلسي.
   وفي حين شهدت القرون الثلاثة االتي استمرت من بداية القرن التاسع إلي القرنين االحادي عشر والثاني عشر حربًا شرسة بين المدرسة المتحفظة (أنصار المذهب المتشدد للتقاليد) والمفكرين الأكثر ليبرالية (الذين طبقوا قواعد المنطق، والفلسفة، والعقل)، وظهر المحافظون كمنتصرين ظاهرين. وقد انعكس انتصارهم في موقف المؤسسة السياسية، التي كانت تميل بشدة لصالح المتحفظين، مع إظهار العداء لمدرسة العقل التي كانت مستوحاه من روح الفلسفة اليونانية.
   وبالاستفادة من الانتصار الذي حققوه علي مؤيدي العقل، جاء المتحفظون المتشددون بسلسلة من الفتاوي التي أدانت بشكل أساسي أولئك الذين أقروا الاستدلال الاستقرائي علي أنهم مختلو العقل.
   يمكن القول إن أهم هذه الفتاوي هي تلك التي قدمها الشربتلي في القرن الثاني عشر، والتي شجب فيها استخدام المنطق الاستنباطي بأنه خاطئ واستنكر أولئك الذين لجأوا إلي مثل هذه الأساليب ووصفها بأنها الأساليب التي يمتلكها الشيطان، إن هذا الاتجاه التراجعي الذي حظي بدعم المؤسسة هو أمر غير شرعي تؤكده العديد من الأمثلة، مثل الدعم الأعمي للمعتصم (2) للحنبليين الذين أعطوا الضوء الأخضر لذبح خصومهم المعتزلة في أزقة دمشق.
   وحرق كتاب ابن رشد في قرطبة بناء علي أوامر الحاكم. ونتيجة لذلك لم يغدُ لمدرسة العقل وجود تقريبًا بحلول نهاية القرن الثاني عشر، لذلك، دخلت المجتمعات الناطقة بالعربية في القرن السادس عشر مجردة كليةً من مدارس التفكير الناقد، ولم يهتم علماؤهم إلا بالتجميع وهذا جعلهم عرضة للقوي الخارجية وسقطوا فريسة سهلة للمستعمرين الأوروبيين وفي نفس الوقت كان التيار التقليدي المحافظ يعزز انتصاره علي مدرسة العقل، والمنطق، والفلسفة في المجتمعات الناطقة بالعربية، وكانت شعوب أوروبا في جوهرها تعمل من خلال اتجاه مضاد علي إنهاء السيادة والسيطرة التي يمارسها المحافظون علي المجتمعات الأوروبية، ولتمكين أنصار التفكير الحر في أوروبا من الانتصار. كان من الطبيعي أن يؤدي المناخ الليبرالي الجديد إلي نهضة علمية في العديد من المجالات علي سبيل المثال، فان اكتشاف البارود مكن الأوروبيين من المضي قدمًا في مشروعهم الاستيطاني وتوسيع هيمنتهم علي أجزاء كثيرة من العالم، بما في ذلك المجتمعات الناطقة بالعربية.
 
ثانيا– الركود العقلي:
   كنت أقوم بالاطلاع علي عدد من أعمال الدكتور علي شريعتي (3) التي تمت ترجمتها إلي العربية والإنجليزية، وقرأت مرة أخرى كُتيّبًا بعنوان "استخبارات– استعمار" مترجمة إلي العربية عام 1991م. وأفاد... لقد سقط مصير الدين في أيدي أعداء الإنسانية، وقوات "الاستعمار" والعديد منهم يشيرون إلي أنفسهم كفئات "روحية"، أو "أخلاقية"، أو "صوفية"، أو "كهنه"، ولكن كل منهم استخدم الدين كوسيلة للسيطرة (والخداع) علي الناس، سواء بشكل فردي أو جماعي...
   أنا أتكلم هنا عن التضليل الديني، "الحكم باسم الدين"، وعن الاستحواذ علي السلطة، والمال، والنفوذ، التي يسيطر عليها فئة من المسئولين الذين يدعون التدين ويسعون بدورهم إلي السلطة، والقوة، والربح، وقد ازدادت كمًّا بسبب تمسكهم وحفائهم علي الوضع الراهن.
   كيف يمكن لهذا الدين المزعوم أن يخدع الناس؟
   في حين أنه لا يمكن سرقة ذكاء االشخص أو المسئولية الاجتماعية، إلا إنها يمكن أن تتسلل بشكل مخادع إلي العقل برسائل مثل: "إن الحياة ليست طويلة، قد يكون عمرك ثلاثين، أو أربعين، أو خمسين سنة"
   ليس للحياة قيمة، وعندما تنتهي، "كل شيء سيكون انتهي". "بضع سنوات من الحياة التي لا قيمة لها علي الإطلاق"... اترك العالم لأولئك الذن يريدون الحياة. من يدعون ذلك هم أنفسهم "رجال الدين" وشركاؤهم في السلطة قبل أربعين سنة، كانت إحدي القضايا المطروحة للحصول علي درجة الماجستير في القانون هي قضية الفقه الإسلامي وهو مسعى إنساني ضخم ومحض، وقد عرفه المؤسس الإمام الأكبر أبو حنيفة النعمان بأنه علم استخراج الأحكام العملية من البراهين القانونية... امتد الموضوع إلي أبعد من المدارس الفقهية الأربع االتي أُنشئت، (الحنيفة- المالكية– الشافعية- االحنبلية) وحتى خارج المدارس الشرعية التي أسستها طوائف سنية أخرى التي سقطت منذ ذلك الحين في غياهب النسيان، وفي مجال الفقه الشيعي كانت مدرسة علم أصول الفقه الإسلامي، والتي عشقتها كثيرًا وهي المعتزلة وتفرعاتها، وخاصة أفكار غيلان الدمشقي، التي تحدت مبدأ عقيدة القضاء والقدر علي أساس أنه ينكر مسئولية الرجل عن أفعاله، الجيدة والسيئة، والتي أدت بي إلي طرح عدد من الأسئلة المزعجة. وقد عاش الفقهاء الذين أسسوا المدارس السنية الأربعة الأساسية أبو حنيفة، وملك بن أنس، ومحمد بن إدريس الشافعي، وأحمد بن حنبل في الفترة ما بين 70- 220 هجرية (690م إلي 840م).
   ومن الغريب أن أقرب هؤلاء الفقهاء كان أكثر ليبرالية من خليفته، في حين أن الرابع كان الأكثر تحفظًا علي الإطلاق، ولم يسمح بأي مجال للتفكير المستقل، ويؤكد علي أولوية التقليد (النقل) علي العقل.
  في حين أن أبا حنيفة، علي سبيل المثال، سمح للفقهاء بأن يرفضوا تأسيس أحكامهم علي الأحاديث (الأقوال أو الأفعال المنسوبة إلي النبي محمد صلي الله عليه وسلم) المعروف باسم الأخبار كان (روايات الأفراد)، الذي باشره أحمد بن حنبل، ووثق بالحجج أكثر من عشرة آلاف حديث كنصوص تشريعية، وليس من المستغرب إن كانت الغالبية العظمي منها... روايات الأفراد كان المحافظون في التاريخ الإسلامي انتقائيين فيما قدموه إلي طالبي المعرفة بفضلهم، يعتقد الكثير من المسلمين اليوم أن أعظم المفكرين الإسلاميين يؤمنون دائمًا بالمصداقية، لكن العديد من المفكرين الإسلاميين العظماء الأخرين، علي سبيل المثال، القدريون (4) رفضوا عقيدة القضاء والقدر، هناك عدد لا يحصى من الأمثلة الإضافية عن الطريقة الشخصية التي شوهت بها العناصر المحافظة الحقائق التاريخية في عالم الإسلام لتتناسب مع غرضها؛ كانت النتيجة التشويه الذي أدى إلي إنتاج وإضافة نمط سلبي إلي عالم المعرفة والثقافة بين المسلمين، الثقافة والعلوم من أشهر الأمثلة علي ذلك إخفاء المحافظين لرأي أبي حنيفة عن عقوبة الردة – الموت– رغم أنه لم يرفض العقوبة بشكل كامل، إلا أن الفقيه العظيم يبطلها بفاعلية من خلال الإصرار علي أن المرتد يمكنه أن يتوب، وأن فترة التوبة "هي طول حياة المرتد".
   بعض أعظم المفكرين المسلمين، مثل: ابن سينا، والفارابي، وابن رشد، وغيرهم، وصفوا بأنهم كفار من قبل الحنابلة، علي الرغم من أن ابن تيمية أحد اتباع ابن حنبل، في رأيي كان رجلًا محدود القدرات الفكرية، عاجزًا عن التعامل مع القضايا الفلسفية العميقة، وأعطي لنفسه الحق في اتهام المفكرين النبلاء الذين كانوا متفوقين عنه بكثير في كل شيء وهكذا، بسبب الحاكم الغائب الخليفة العباسي الثامن المعتصم، وبسبب تنامي نفـوذ وتأثر الفقهاء المسلمين المحافظين، مثل: أحمد بن حنبل، والمفسرين الفوريين لمعتقداته: ابن تيمية، وابن القيم الجوزية – أصبح العقل المسلم مصابًا بحالة فريدة من الصلابة، السلبية والركود– حتى الجمود.
   وهذا الركود الذهني، والفكري، والثقافي، لا يمثل خطرًا علي البشرية فحسب، بل علي المسلمين أنفسهم، حيث إنه يضعهم ومجتمعاتهم في حالة من العداوة، والحرب مع بقية البشرية، ومن بين سمات أخرى مقيدة...
   لكن في مرحلة ما، وعلي الرغم من التخلف والتميز الشديد الذي أصاب عقول الملايين من المسلمين اليوم الذين أصبحوا مستقطبين حول وجهة نظر عالمية مطلقة تمامًا عن واقع العصر ومع العلم والثقافة المعاصرين، فإن المستقبل سيُزلزل العقل المسلم ويدمر العديد من الأفكار المتحجرة التي امتدت لفترة طويلة، علي غرار المسيحية بعد الهزة التي أحدثها مارتن لوثر، وجون كالفين، سوف يدرك المسلمون ضرورة الحفاظ علي الدين منفصلًا عن الدولة وعن التشريعات الدستورية والقانونية.
   هذا من شأنه أن يسمح بآراء مستنيرة متوافقة مع العصر، ومسيرة التقدم البشري فيما يتعلق بالمرأة والآخر، ولكن قبل الوصول إلي هذه النقطة، فإن العديد من السنوات والعقود ستكون قد انقضت، والكثير من المعارك المريرة ستحارب العقل، والعلوم والتقدم، ولا يمكن أن يتحقق النصر علي تراث الظلام في رحلة بدأت مع حاكم سمح للحنبلية بذبح المعتزلة في أزقة دمشق، بالمعنى الحرفي للكلمة.
   منذ ذلك اليوم وحتى اليوم، يستمر الذبح ضد المفكرين الأحرار في مجتمعاتنا، سواء بالمعنى الحرفي أو المجازي، أو بالقوي التي تمارسها قوي الظلام بشكل لا مثيل له في سجلات التاريخ.
 
 
هوامش
____
1-  المدرسة الإسلامية لأصول الدين علي أساس العقل والعقلانية، تأسست بالعراق فيما بين القرن الثامن إلي العاشر الميلادي وقد بلغ انتصار الرجعيين علي العقلانيين ذروته بتهم الجنان التي استمالت العلماء المسلمين ضد ظهور وتلألؤ بعض العقلانيين، مثل: الفارابي عام (870م– 950م)، وابن سينا عام (980م- 1037م)، وابن رشد عام (1126م– 1198م).
2-  (794م– 842م) الخليفة الثامن من العصر العباسي.
3- د. علي شريعتي (1933م- 1977م)، الذي كتب أعماله ونشرها قبل سقوط شاه إيران، هو واحد من أبرز المفكرين الإيرانيين في القرن العشرين.
4- تترجم إلي الإنجليزية بـ "القدري" (Kadarist).
 
 
 
 
 
 
 
 
 
الفصل الثالث
الظاهرة– ظهور التعصب الإسلامي
 
   نسب الكثيرون انتشار التطرف الديني اليوم في بلدان مثل مصر، علي سبيل المثال، إلي عوامل خارجية، مثل التحريض الأجنبي والتمويل الأجنبي للحركات المتطرفة بشكل عام، والجماعات الإسلامية الأصولية بصفة خاصة. وهذا الإسناد خطير للغاية، لأنه يعرض مسألة التطرف الديني كمشكلة أمنية، يتم التعامل معها من قبل الشرطة والهيئات الأجنبية الأخرى بإزالتها من المشاكل القابلة للحل السياسي.
   وينبغي لأولئك الذين يسارعون إلي توجيه أصابع الاتهام إلي القوى الخارجية أن يدركوا أنه لو كانت مصر ملاذًا للتسامح الاجتماعي، والإخاء، والسلام، لما كانت عرضة للتدخل من الخارج، وهذا يعني أن العوامل المحلية الأخرى خلقت مناخًا مواتيًا لنجاح مثل هذه المحاولات. وعلي مدى العقود القليلة الماضية، تعرض العديد من المجتمعات في البلدان الإسلامية لأنواع مختلفة من الحكام المستبدين، الذين يحكمون بلدانهم بقبضة حديدية في إطار الحكم الاستبدادي الواسع النطاق.
   وأدى هذا في كثير من الحالات إلي دوامة التراجع والهبوط، ومن أخطر الآثار السلبية العديدة للقمع السياسي عرقلة الحراك الاجتماعي. والقمع السياسي يضعف الفرصة المتاحة للكثير من المواطنين لتولي المناصب القيادية والوصول إليها في مختلف المجالات.
   إن اختفاء وعدم اتباع الإجراءات السيلمة للحراك الاجتماعي يؤدي، إلي وضع متيبس لا حراك فيه وهذا هو الوضع الذي يتقلد فيه الأشخاص غير الأكفاء ومتوسطو الكفاءة المناصب العليا من خلال ولائهم غير المشروط لرؤسائهم وبفضل قبولهم، للقمع وممارسة الاستبداد.
   بعبارة أخرى، فاليوم بشكل عام يتم وضع المجتمعات العربية والإسلامية في معادلة يمكن تسميتها معادلة التدمير، فالقمع والاستبداد لا ينتجان إلا أتباعًا، وليس أشخاصًا علي مستوًى عالٍ من الكفاءة أو علي قدر من المسئولية، ويؤدي الافتقار إلي الحراك الاجتماعي وغيابه إلي تدمير الكفاءات في جميع المجالات وعلي كافة المستويات المجتمعية. وبدوره الافتقار إلي الكفاءات، يؤدي إلي انهيار جميع المؤسسات وإلي انتشار هذه الصورة بشكل واسع النطاق التي تصبح عندئذ هي القاعدة الأساسية للمجتمع.
   وهذا يولد طاقة هدامة قوية من اليأس والغضب، التي يكون نتاجها عقلية تتسم بالعنف، فهذه العقلية تدور حول التقليل من قيمة وأهمية الحياة البشرية، سواء من الذات نفسها أو من الآخرين، وكذلك نشر الرغبة في الانتقام. لقد أصبحت "عقلية العنف" المكتسبة هذه تتخلل العديد من هذه المجتمعات ويحول الطغاة دون نمو المجتمع المدني، والتوسع في تمكين فاقدي الكفاءة وتقسيم الحياة السياسية إلي مستويين:
-         مستوى يعلو سطح الأرض الذي ينتمي حصرًا إلي الحكام، وجماعاتهم، والمتواطئين معهم.
-         مستوى تحت الأرض ينتمي إلي الوهابية أو أي تيارات إسلامية متطرفة أخرى، مثل تلك التي أنشأها المُنَظِّر سيد قطب من جماعة الإخوان المسلمين المحظورة في (الخمسينات والستينات) من عام 1950م إلي عام 1960م في غياب المجتمع المدني، ومع عدم وجود الحراك الاجتماعي وانتشار انعدام الكفاءة يتم إعداد المسرح لتعلوه مجموعة جديدة من الطغاة الذين هم في حقيقة الأمر غير مؤهلين ويفتقرون إلى الكفاءة.
   فلن ننتظر وقتًا طويلًا حتى تحدث تغييرات تتسبب في سقوط وإقصاء الحاكم المستبد، والذي يتقمص دور القائد الإسلامي في هذه المجتمعات مثل سوهارتو في إندونيسيا، وصدام حسين في العراق، ونتيجة لما سبق تولد المستوى الثاني (تحت الأرض) وهم القوة السياسية الأخرى والذين قاموا بتنصيب أنفسهم كحماة للدين وكمنقذين للأمة واعتلو المشهد ومسرح الجريمة والذي فُسر بتعصب الإسلام، لذا فإنهم سيقودون مجتمعاتهم فقط إلي أعماق الرجعية، ويباعدون بينهم وبين العصر الحديث، ويزجون بهم في عميق المشاكل الاجتماعية.
   والسؤال الصحيح هنا هو لماذا يكون هذا النموذج هو الوحيد الذي يظهر عندما يسقط نظام قمعي في بلد مسلم أو عربي؟
   والجواب هو ببساطة أن هذه نتيجة طبيعية لليأس الواسع الانتشار الذي يشعر به من يعيش في ظل نظام استبدادي لا يسمح بأي نشاط سياسي يفتح ذراعيه للجميع. ومن ثم، فإن المنظمات الوحيدة التي يمكن في ظلها البقاء علي قيد الحياة هي تلك التي تعمل تحت الأرض.
   يجب أن يبدأ العلاج بالحلقة الأولى في السلسلة، وليس بالحلقة الأخيرة، والمؤسسات التعليمية والإعلامية عاجزة عن معالجة هذه الكارثة، وقد أُفسدت أيضا علي أيدي قيادة تنقصها الكفاءة.
 
أ – الوهابية والقيم القبلية:
   هناك أربعة مدارس سنية للفقه، ثم هناك الشيعة، وأربعة مذاهب رئيسة للخوارج، ومدارس تفسيرية مثل المؤرخ الفارسي الطبري (1) في القرن العاشر، والمصري الليث بن سعد (2). وعلاوة علي ذلك، كان هناك رجال الدين الجدليون (المُتكَلمة) الذين نشأوا في القرن التاسع، وأيضًا التعاليم الفلسفية المعاصرة للمعتزلة، التي كانت تعتمد علي الأسباب والعقل، وفي القرن العاشر ظهر الأشعرية، والمذاهب السرية المختلفة، الباطينية (تشير إلي الجماعات التي تميز بين الخارجي وهو الظاهر والباطني وهو الخفي أو المستتر).
   إن القضية هنا ليست استكشاف كل هذه المذاهب والمفكرين المختلفين، ولكن للإشارة إلي أن أي جهد لحصر الإسلام في تفسير واحد ووضع جميع المذاهب الأخرى جانبًا، وإنكار حقيقة أنه كان هناك تعدد في المذاهب. النصوص الإسلامية قابلة للتفسيرات العديدة.
   بعض الأوائل الذين اعتنقوا الإسلام اعترفوا قبل حوالي 1400 سنة عندما قال الخليفة علي بن أبي طالب: "القرآن يعرض العديد من الجوانب"، مرة أخرى ما يهم هو الشخص الذي يقرأ ويفهم ويعرض تفسيرًا نصيًّا. إن الممارسة المتمثلة في الاعتماد علي نص واحد مع تجاهل النصوص الأخرى هي عملية مدمرة يمكن أن يساء استخدامها.
   إذا درس المرء نصوصًا يهودية مثل التوراة والتلمود، فمن الواضح أنه لا يمكن أن نأخذ بعين الاعتبار والاستناد علي الكلمات التي نطق بها جوشوا، وابن نون في مناسبة معينة وفي سياق معين، وعلي نفس المنوال وعلي سبيل المثال، فإن المهر لا يمكن أن يقال إنه مادة من مواد العقيدة اليهودية لمجرد أن الملك "شاول" طلب ذلك المهر من "داود بن جيسي" من بيت لحم (الملك داود لليهود، والنبي داود للمسلمين) ليد ابنته "ميشال"، ولا يكفي الالتفاف علي النص كوحي إلهي خارج إطاره التاريخي، والبشري، والتسلسل الزمني.
   وهذا ينطبق علي الإسلام أيضا، فعلي سبيل المثال، تختلف مصادر الفقه وعدد الأحاديث النبوية التي تعتبر مصادرًا للعقيدة والمذاهب الدينية بشكل كبير من مدرسة إلي أخرى، فقد قبل الفقيه العظيم أبو حنيفه ما يزيد قليلًا عن مائة حديث نبوي، بينما قبل العالم المتحفظ أحمد بن حنبل أكثر من عشرة آلاف (10000) حديث في كتابه "المُسند".
   ثم لدينا أولئك الذين يصرون علي تفسير حرفي للنصوص المقدسة وآخرون. والذين تجنبوا التفسير الضيق لمصلحة الاستدلال الاستنتاجي (التأويل)، مثل ابن رشد، حتى عندما يتعلق الأمر بتناول المشروبات الكحولية لدينا آراء مختلفة، ففي حين أن معظم الفقهاء يفسرون النص الذي يتناول الموضوع علي أنه يحظر الشرب كليًّا، يعتقد آخرون مثل أبي حنيفة أن الحظر لا ينطبق إلا علي حالة أن يتسبب تناول الكحل بالتسمم. وهو يجعل وجهات نظره حول هذا الموضوع واضحة في المقطع التالي: "إذا ألقي بي في جهنم لن أشربه، لكني لن أصفها بأنها خاطئة حتى لو سيلقي بي في الجحيم".
 
ب - جذور الوهابية:
   إلي جانب وجود اتجاهات ومذاهب ومدارس فكرية مختلفة، كان للإسلام نصيبه من المتشددين المتعصبين علي مر العصور، منذ نشأته حتى الوقت الحاضر، فمنذ القرن الأول من التقويم الإسلامي، عرف الإسلام الطوائف المتطرفة التي طالبت بالالتزام الأعمي بقراءتها الجامدة لنصوص العقيدة، جنبًا إلي جنب مع الاتجاه السائد للإسلام المعتدل، الذي يتجنب أتباعه العنف والتطرف، ولا يعتنقون عقد احتكار الحقيقة.
   بدأت هذه الظاهرة بظهور الخوارج (الأكراد) في 660م – وهو منتصف القرن الأول من الإسلام، وقد عظموا التفسير الحرفي والصارم للكتاب المقدس ومارسوا نسخه من الخطاب تكفير من لا يتبعهم أو يتبني أفكارهم.
   كانت هذه أول طائفة من هذا القبيل، ولكن بأي حال من الأحوال خلال تاريخ الإسلام، كان الإيقاع الهادئ للحياة الدينية معطلًا مرات عديدة من قبل المجموعات الهامشية التي حاولت فرض وجهات نظرها المتطرفة علي الأغلبية بوسائل عنيفة(3).
   وكان من بين أوائل القادة حمدان بن قرمط، مؤسس طائفة إسلامية متطرفة أنشئت في شرق الجزيرة العربية قرب نهاية القرن التاسع الميلادي الذي أخفي الحجر الأسود من الكعبة، أقدس مزار في الإسلام.
   والأخير هو أسامه بن لادن الذي اختبا في كهوف "وزيرستان" عام 1957م إلي عام 2011م وبين هذا وذاك كان سيد قطب، الذي جاء مع نظريته التي ستظل جدارًا يفصل المسلمين عن بقية البشرية ودون أي أملٍ في التقدم حتى يتم هدمه. وكما تفترض نظرية السيادة الإلهية أن البشر لا يحكمهم البشر، بل يحكمون من قبل الله.
   وقد يُطرح سؤال، من من البشر سيُعرف إرادة الله؟ الجواب هو، "نحن، العلماء".
هذه هي النظرية التي تحمل المسلمين الثيوقراطية (نظام حكم يستمد شرعيته وسلطاته مباشرة من الإله، وفيه تتكون الطبقة الحاكمة من الكهنة ورجال الدين الذين يعتبرون أنفسهم موجهين من قبل الإله) التي تجاوزتها مسيرة التقدم البشري ويضعهم تحت رحمة هيكل السلطة التي هيمن عليها طائفة من رجال الدين، علي الرغم من إنه في معظم المذاهب الإسلامية لا يوجد شيء مثل رجال الدين لا وسطاء بين الإنسان والله وفما يتعلق بالمفهوم الهزلي لرجال الدين الذين يصفون أنفسهم كرجال الفقه والعلم علي مستوى ونطاق واسع، وهي الترجمة الإنجليزية لكلمة "العلماء"، فإن الحادث الأخير يوضح حقًّا مدي محدودية مواردهم الثقافية والمعرفية.
   وفي سياق النقاش سأل أحد هؤلاء العلماء، المرشد العام للإخوان المسلمين في مصر عمَّا إذا كان يعرف من هو "بيل جيتس": فكان رده أنا لا، وليس من المهم أن نعرفه!" هذا الرد المدهش أيضًا يبين كيف كانت الحياة التي يعيشها انعزاليه عن واقع الحياة الحديثة هم حقًّا السلطات الذين تصبوا أنفسهم ذاتيًّا جماعة الإخوان المسلمين.
   وخلال عام 1940م شارك جناحها السري في أعمال تخريبية وعنيفة ضد شخصيات سياسية بارزة وآخرين كانوا ينظر إليهم علي أنهم أعداء لها. وفي عام 1954م حظر جمال عبد الناصر الجماعة وقمعها بإعدام زعيمها سيد قطب.
   استأنفت الحركة أنشطتها في السبعينات في ظل التحرير السياسي للسادات، بل ونشرت مجلتها الخاصة بها، علي الرغم من توقف نشرها بعد تجدد القمع السياسي في سبتمبر 1981م.
   وعلي الرغم من أن الحركة تؤكد علي طبيعتها السلمية وتبعد نفسها عن الجماعات الأكثر تطرفًا وعنفًا، فإن الحظر الرسمي عليها لا يزال مستمرًّا. وعلي الرغم من ذلك، تستمر الحركة في العمل، بل وتشارك في الانتخابات المصرية بتقديم مرشحيها كمستقلين أو بإقامة تحالفات مع الأحزاب الشرعية.
   وينبغي التأكيد علي أن الجماعات والطوائف التي يصر أعضاؤها علي التفسير الحرفي للنصوص المقدسة والتي أرست قواعد صارمة تنظم جميع جوانب الحياة ليست هي القاعدة أو الاتجاه السائد. كان الاتجاه الرئيس متمثلًا في المدارس السنية الرئيسة (وأهمها الحنفية، والمالكية، والشافعية، والحنبلي، وفروعهم، الليث، والطبري)، فضلًا عن الشيعة، الذين ينقسمون إلي عدد من الطوائف.
   وفي إطار هذا الاتجاه العام ظهر أنصار بارزون ينتهجون أسلوب التفكير الاستنباطي، مثل الفقيه العظيم أبي حنيفة، فضلًا عن أبطال الحزم والصرامة في الرأي الذي لا هوادة فيه، مثـل: أحمـد بن حنبل، وقد عمل المتحفظ ابن حنبل كحصن للتراث وللمذهب السني ضد أي مسعي فكري، ولفترة من الزمن كانت له سيطرة كبيرة علي المسعي الفكري والخيال العام للناس. وقد تضاءل نفوذه في نهاية المطاف، ولكن قبل التضاؤل الذي سبق نهايته الكبري والأخيرة في 1744م، ترك مكانة صغيرة جدًّا لاستخدام العقل. وكان التلميذان الرئيسان لابن حنبل هما ابن تيمية وابن قيم الجوزية اللذين لم يسمحا، مثلهما مثل معلمهم، بأي مجال للعقل أو التفكير المستقل، بل أصرا علي التمسك الحرفي والصارم بالأحاديث كمصادر موثوقة لجميع الأمور الروحية والزمنية، ووضع مبادئ توجيهيه صارمة لحكم كل جانب من جوانب الحياة اليومية، بالإضافة إلي ذلك كان عالم الإسلام مسرحًا لمعركة الأفكار بين أبي حامد الغزالي (1058م– 1111م) (المعروف باسم الغزالي) التقليدي المتشدد الذي لم يعتقد أن العقل البشري قادر علي استيعاب الحقيقة كما رسمها الله، وابن رشد (افيريس) الذي دافع عن أسبقية العقل وقد خاضت الأسس التي قامت عليها هاتان المدرستان معركة مريرة أطلق فيها الغزالي الأول كتابه (تهافت الفلاسفة) وطرح ابن رشد أطروحته الرائعة في الدفاع عن العقلانية (تهافت التهافت)، لكن علي الرغم من دفاعه الحماسي كانت نتيجة المعركة بوضوح لصالح الغزالي، وتبنت الغالبية العظمي من فقهاء المسلمين أفكاره.
   الذين يفسرون تعاليم الشريعة الإسلامية من خلال النداء إلي قوة التقاليد ورفض الاستدلال الاستنتاجي تمامًا.
   وقد سيطر المتكلفون علي المذهب الفقهي الإسلامي، الذين أكدوا علي أولوية التقليد (العقل)، الذي دعا إليه ابن رشد، و(النقل) كما دعا إليه الغزالي في حين انتصر "عبدة الكلمة" و"أسري التقليد"، فإن نظرية ابن رشد لسيادة العقل، رغم رفضها من قبل العالم الإسلامي، إلا أنها ترسخت بقوة في أوروبا، خاصة في فرنسا، التي احتضنت رؤيته بكل إخلاص.
   كان مكسب أوروبا خسارة لنا لأننا في إدارة ظهورنا لابن رشد، فقدنا فرصة تاريخية للتنمية. إن القراءة الدقيقة لأعمال ابن تيميه، وكذلك أعمال تلاميذه، من ابن القيم الجوزية إلي محمد بن عبد الوهاب في نهاية القرن الثامن عشر، تعمق نفور المرء من هذا الاتجاه والإعجاب بالمعتزلة، الذين شددوا علي المسئولية الإنسانية في شئون الدين وكذلك للمفكرين الليبراليين الذين اختاروا طريق العقل علي العقيدة، مثل ابن سينا (980م– 1037م)، والفارابي (870م– 950م)، والاسم الرائد لهذه المدرسة هو ابن رشد وحتى اليوم، يمكن للقارئ أن يري بوضوح أن أعمال الغزالي تفتقر بالفعل إلى العقلانية (4) في المقابل، فإن العقلانية تسود كتابات ابن رشد(5).
   إذن لماذا انتصر المسلمون للغزالي ودعاة العقيدة والتقاليد التي كانت تعني المعرفة لهم فقط هي معرفة الدين، والتي رفضت دور العقل تمامًا عن طريق إنكار إمكانية اكتساب المعرفة من خلال الحدس، وكانت هزيمة ساخنة لابن رشد، الذي أيد سيادة العقل وزرع بذور نهضة اخترنا عدم جنيها ويمكن تلخيص الإجابة علي هذا التناقض في كلمة واحدة: الاستبداد، ومن المدهش إخفاء مؤرخي الفكر الإسلامي حقيقة أن الغزالي كان داعمًا بلا كللٍ للحكام المستبدين، بينما كان ابن رشد مصدرًا دائمًا لمناهضة الطغاة العازمين علي إبقاء رعاياهم في حالة من الجمود الفكري.
   بالتالي ضمان استمرار الوضع الراهن وسلطتهم المستمرة وغير المطعون فيها، فالعقل النشط هو مصدر الاستجواب، والأسئلة تؤدي إلي المساءلة، وكما قال أحد الأصدقاء المستنيرين، فإن الأسئلة لها أعين والأجوبة عمياء في الوقت الذي كان فيه الاستبداد في منطقتنا من العالم في ذروته، ليس من المستغرب أن يكون الحكام المسلمون قد وجدوا أفكار الغزالي أكثر جاذبية من تلك التي طرحها ابن رشد. وكان المذهب السني أيضًا أكثر جاذبية لرعاياها الذين وجدوا أنفسهم أكثر أمانًا، تحت غمامة الطغيان وأقل تطلبًا منهم أن يتفقوا مع آراء أولئك الذين لم يطلبوا منهم شيئًا أكثر من إيقاف مهارة التفكير الناقد، وفي أوروبا كان الاستبداد يتراجع حين كانت قوة التنوير تخوض مواجهة مع النزعة الكتابية التي خنقت المبادرة الفكرية والفكر العقلاني، وهذا يفسر في القرن الثالث عشر لماذا، دعمت مراكز مرموقة للتعليم مثل جامعة باريس أفكار المسلم العربي ابن رشد علي أفكار المسيحيين الأوروبيين "توماس الأكويني" فيلسوف القرن الثالث عشر الذي يعتقد أن الحقيقة يمكن أن تكون معروفة من خلال كل من العقل والإيمان ظل العالم الإسلامي يحكمه الطغاة الذين لم يقبلوا أي تحد لسلطتهم... والمؤسسة الدينية المتشددة شجبت استخدام العقل وطالبوا بالالتزام الأعمي بالتقاليد.
   يرتبط هذان العاملان ارتباطًا وثيقًا بالطرق، والدوافع، والأهداف، مما أوجد جوًّا ضارًّا معاديًا للسعي إلي المعرفة دون عوائق.
   ومع ذلك، لم تكن الأمور سوداء أو بيضاء، صحيح إن المسلمين فقدوا فرصة تاريخية لاستخدام أفكار ابن رشد كنقطة انطلاق يمكن أن تضعهم علي مسار مماثل للمسار الذي أخذته أوروبا من الفكر الظلامي في القرن الثالث عشر إلى المناخ الفكري القوي المشجع علي الحوار، والتفكير الحر، والحريات العامة والإبداع في الأدب، والفن، والعلوم، ولكن من الصحيح أيضًا أن المسلمين قد عرفوا تفسيرًا واحدًا للإسلام سمح بقبول "الآخر"، وتفسيرًا آخر كان جامدًا، عقائديًّا، وقمع بعنف الفكر الحر... وقد ترسخ الأول في المناخ الأكثر حيوية من الناحية الفكرية الذي ساد بين الشعوب المنحدرة من الحضارات القديمة في أماكن، مثل: مصر، والعراق، وتركيا، وفي بلاد الشام، والتي أسميها "النموذج التركي المصري للإسلام".
   وأفضل وصف للنموذج الثاني هو النموذج البدوي، وقد تبنته الطوائف السرية (المحدودة العدد والمؤثرة) التي ظهرت في المناطق النائية من شبه الجزيرة العربية مع صعود الحركة الوهابية، وهي حركة إحياء المتزمتين التي أطلقها محمد بن عبد الوهاب من نجد حيث ولد في عام 1730م، والتي تمركزت ووصلت إلي وسط المملكة العربية السعودية.
   علي الرغم من أن النموذج الأول للإسلام لا يمكن وصفه بأي حال بأنه علمائي، إلا إنه تبني مقاربة مستنيرة للدين، تعامل معها كنظام من المعتقدات الروحية وليس كنظام يحكم كل جوانب الحياة ويحكم شئون المجتمع، حتى لو لم يكن بإمكانه الادعاء بأنه حقق قدر من التنوير والتفكير التقدمي والحرية التي اتسمت بها أفكار ابن رشد، فقد كان إسلامًا لطيفًا ومتسامحًا يمكن أن يتعايش مع الآخرين.
   كان النموذج البدوي للإسلام المختلف يتشكل بالكامل بين المجتمعات المنعزلة جغرافيًا التي تعيش بعيدًا عن السواحل ومن ثم لم يتعرض قط للعالم الخارجي، وقد وفرت عزلتهم أرضًا خصبة مثالية لأفكار ابن تيمية، وابن القيم الجوزيه، وتلي ذلك قرب نهاية القرن الثامن عشر ظهور محمد بن عبد الوهاب وكان هذا هو النموذج الذي أنتج الإخوان السعوديين الذين شنوا الحرب علي الملك عبد العزيز بن سعود (1870م– 1953م) في العشرينات من القرن العشرين وقد تحولت منذ ذلك الحين إلي أيديولوجية قوية بفضل مزيج من أفكار سيد قطب، وأموال النفط، وسلسلة من الأخطاء من جانب الجهات الفاعلية الدولية، والإقليمية، والمحلية، وكان خطأ واحد من هذا القبيل ما حدث في أفغانستان في نهاية السبعينات من القرن الأخير.
   ومن القرارات الأخرى التي اتخذها الرئيس المصري الراحل أنور السادات إطلاق العنان للجماعات الإسلامية واعتبارهم حلفاء في حربه علي اليسار خلال ذلك العقد.
ليس من المستغرب أن تكون هذه الخطوة قد تم تنظيمها من قبل أعضاء بارزين في جماعة الإخوان المسلمين يتصرفون من خلال الناطق باسمهم، رجل الأعمال الثري والصديق المقرب من السادات، عثمان أحمد عثمان.
   لم يكن الرجل الذي أسس الوهابية عالمًا وفقيهًا بل داعيًا ومصممًا علي تحويل المؤمنين إلي صفته الإسلامية القاسية.
   كان محمد بن عبد الوهاب من الناحية الفكرية، قريبًا من علماء الدين الإسلامي الشرعيين الذن أكدوا علي أولوية التقليد (النقل) علي العقل، كان محمد بن عبد الوهاب تلميذ لابن تيمية. وهو رجل مُتمسك بالتقاليد يتشدد لم يسمح بنطاق محدود للتفكير أو الفكر المستقل. كان أيضا نتاجًا لبيئته الجغرافية، وهي بؤرة نائية قديمة.
   وخلافًا لمصر، وسوريا، ولبنان، والعراق، واليمن، حيث ازدهرت الحضارات القديمة وتركت بصماتها علي تاريخ البشرية، أو أماكن مثل الحجاز وعدد من المدن الساحلية الخليجية، التي كانت تقع علي الطرق التجارية وتعاملت باستفاضة مع العالم الخارجي. تأتي صحراء نجد في المنطقة الشرقية للمملكة العربية السعودية فلا توجد لها حضارة للحديث عنها قبل الإسلام.
   كما أنها لم تصبح أبدًا مركزًا ثقافيًّا مثل العواصم المختلفة للخلافة، مثل: المدينة المنورة، ودمشق، وبغداد من القرن السابع إلي السادس عشر، وبفضل المناظر الطبيعية القاحلة، ظلت نجد (6) بمعزل ثقافي، ومساهمتها الوحيدة في الفنون كانت شكلًا تقليديًّا من أشكال الشعر، والذي يتحدث عن المسائل القبلية الضيقة والتي عفا عليها الزمن في عام 1744م، أقام عبد الوهاب تحالفًا مع حاكم الديرية محمد بن سعود، وهو زعيم قبلي، والذي أصبح صهره... هذا وأدى التحالف إلي التجسيد الأول للدولة السعودية، التي توسعت، بحلول عام 1804م، للسيطرة علي منطقة شاسعة في شبه الجزيرة العربية، وكان التصادم بين نموذجي الإسلام أمرًا حتميًّا، وفي العقد الثاني من القرن التاسع عشر، واجها بعضهما البعض في ساحة المعركة.
   محمد علي (7) الحاكم المصري الذي قاد بلده والمنطقة بشكل عام إلي العصر الحديث، أرسل جيشًا ضخمًا إلي شبه الجزيرة العربية لتدمير الدولة الوهابية المنشأة حديثًا والمحكومة وفقا للتفسير الوهابي الصارم للإسلام في عام 1818م، ظهر الجيش المصري منتصرًا، ومعه النموذج التركي المصري الأكثر استنارة للإسلام هزموا العدو، ودمروا عاصمتهم، وأسروا قائدهم في الديرية، الذي أعدم فيما بعد في إسطنبول كان لقرار محمد علي بتدمير أول دولة وهابية انعكاسات تتجاوز الطموحات السياسية أو العسكرية لرجل واحد.
   في الواقع، كان تعبيرًا عن مواجهة "ثقافية/ حضارية" بين نموذجين للإسلام محمد علي، الذي كان معجبًا للغاية بالنموذج الأوروبي للتنمية، وفلم يرَ أي تناقض بين الآليات التي جاء بها معتقداته الإسلامية، كان يعتقد ان الفهم الوهابي للإسلام يقف عقبة رئيسة في طريق الحلم الذي كان قد ترعرع منذ مجيئه إلي السلطة في عام 1805م– ظل هذا الحلم حتى تنازل عن سلطاته لابنه إبراهيم في 1848م– ليضع مصر علي الطريق المماثل للتنمية الذي سبقه إليه أبوه، وعلي الرغم من إن الصيغة المعتدلة والمتسامحة والسائدة للإسلام، التي قبلت التعايش السلمي مع الآخرين، ولم تكن متعارضة من الناحية المرضية مع التقدم والحداثة، فقد خرجت منتصرة في تلك الجولة الخاصة من مواجهتها مع قوي ظلامية، اضطرت في وقت لاحق إلي التراجع أمام عوامل داخلية مثل القمع، وغياب الحراك الاجتماعي، وانتشار عدم الكفاءة واليأس، والنظم التعليمية التي عفا عليها الزمن والفساد ورياح التغيير تهب في جميع انحاء المنطقة، والسنوات التي تلتها لم تكن طيبة لتركيا ومصر.
   وأدى انهيار الإمبراطورية العثمانية بعد الحرب العالمية الأولى إلي إنهاء صعود تركيا، في حين تراجع نفوذ مصر مع تراجع اقتصادها ونظامها التعليمي. وفي الوقت نفسه، فإن أنصار نموذج الإسلام الذي طالب بالتقيد الصارم بخطاب الكتاب المقدس أغلقوا الباب بقوة في وجه العقل والمنطق ووجدوا أنفسهم فجأه في منتصف القرن العشرين، يسيطرون علي ثروة هائلة لم يسبق لها مثيل في التاريخ، هذا أعطي الوهابيين تفوقًا هائلًا علي منافسيهم المعتدلين وسمح لهم بتوسيع نفوذهم إلي المعاقل التقليدية للنموذج التركي– المصري للإسلام، حيث شنوا حملة منظمة لاستمالة الشخصيات والمؤسسات، ونتج عن نجاح هذه الحملة ظهور حركات متعصبة مثل حركة طالبان في أفغانستان.
وهكذا، وجدت تلك النسخة الأخرى الأكثر صرامة من الإسلام فرصًا لنشر رسالتها التي لا هوادة فيها إلي كل ركن من أركان العالم لأول مرة، بمساعدة من خلال الظروف الدولية – وغياب الرؤية– التي سمحت بما كان في الماضي أن طائفة غامضة محصورة خلف الكثبان الرملية لصحراء نجد تفرض نفسها علي المسرح العالمي وتعلن بجرأة شارتها الإسلامية كإسلام واحد أوحد.
   ومع تواتر الأحداث، اختار بعض المتفرجين النظر في الاتجاه الآخر، لأن البطل الذي كان يمسك بالسيف أسامة بن لادن كان يلعب الدور المطلوب منه في ذلك الوقت من خلال قتال السوفييت في أفغانستان، وهكذا فشلوا في إدراك أن البطل لم يعد ملتزمًا بالسيناريو الذي وضع له، بل لعب الآن دورًا أكثر مركزية وخطورة.
   كان من الممكن تفادي هذه الحالة المؤسفة إذا كانت غالبية المسلمين قد دعمت أفكار ابن رشد أو إذا لم تدفع الظروف إلي تراجع النموذج التركي– المصري بالبيئة القاسية التي لا ترحم وهي التي عاش فيها النجدي، وتفسر لماذا وجـد محمد بن عبد الوهاب جمهورًا متقبلًا للاتجاه القاسي للإسلام وغير العادل الذي بشر به.
   نفس البيئة التي أنتجت مؤسس الوهابية أنتجت لاحقًا حركة الإخوان المتطرفة التي اعترضت علي سلطة الملك عبد العزيز بن سعود.
   في العشرينات من القرن العشرين اتخذ الملك الإجراءات اللازمة ضد الإخوان الذين كانوا يتهمونه علنًا بالانحراف عن الايمان الحقيقي لقد خاضوا صراعًا علي جني ثمار التنمية الحديثة التي هددت رؤيتهم الأصوليه للعالم.
   وقاموا من بين أمور أخرى، بحظر شواهد القبور وأي هياكل تحدد مواقع الدفن (المقام)، وأصروا علي إنشاء القبور التي لا تحمل أبنية تعلو الأرض وحاربوا التصوف، وهو التصوف الشرقي، باعتباره مخالفا لتعاليم الإسلام، حتى إن الإخوان قاموا بهجوم مسلح علي المحمل المصري، وهي الفرش أو الغطاء المزخرف بشكل رائع الذي يرسله المصريون كغطاء جديد للكعبة كل عام، وكان حمل تحرك المحمل مناسبة مرحة يحتفل بها المصريون بحبهم التقليدي للموسيقي، والرقص، والابتهاج.
   وبالنسبة إلي النجديين، أطلقوا حركة النهضة المتزمتة لتطهير الإسلام مما رأوه من انحرافات عن المسار المستقيم والحققي للسُّنة، فبالنسبة لهم لم يكن من الممكن التغاضي عن هذه الأعراض غير اللائقة، وفي حين أن الصحراء القاحلة في المنطقة الشرقية لشبه الجزيرة العربية عانت كثيرًا من موقعها الجغرافي وتضاريسها عبر التاريخ، فقد وجد في الأزمنة الحديثة أنها تحتوي علي أغنى حقول النفط، وقد أدت الثروة الناتجة التي اشتدت بسبب طفرة أسعار النفط التي بدأت في السبعينات إلي تحويل المملكة الصحراوية إلي قوة مالية كبيرة، وكان من المحتم أن يحاول هذا الجزء من العالم تسويق أفكاره. هكذا فعلت مع الحماسة الدعوية والتبشيرية في النصف الثاني من القرن العشرين ومع توفر الأموال التي لا نهاية لها في الواقع، تمكن الوهابيون من نشر نموذجهم الإسلامي بنجاح في جميع أنحاء العالم العربي والإسلامي.
   فالسكان المحبطون الذين يواجهون مشاكل داخلية ضخمة بسبب الاضطهاد السياسي وعواقبه كانوا فريسة سهلة، وانتقل الإسلام آنذاك تدريجيًّا إلي النموذج الوهابي المتشدد الذي قدم نفسه الآن باعتباره الإسلام الوحيد والأوحد.
 
ج-  تعليم معيب:
   الأنظمة التعليمية التي لا تتناسب مع الفئة العمرية هي حلقة حيوية في سلسلة التدمير. إن الأنظمة التعليمية في معظم المجتمعات الإسلامية والعربية تشجع علي الانعزالية وتعزز الشعور بالعزلة عن بقية الشعوب والإنسانية، وتشجع التعصب وتضع دون أي أساس علمي أطرًا دينية للنضالات السياسية البحتة.
   من خلال استحضار النصوص الدينية المأخوذة من السياق، فإنها لا تعزز فقط عدم التسامح، وعدم قبول "الآخر"، وعدم الإيمان بالتعددية، بل أيضا تكريس وضع المرأة المتواضع.
   علاوة علي ذلك، صممت معظم المناهج الدراسية لتطوير عقلية "الرد" بدلًا من "الاستجواب والسؤال" في عالم يقود فيه التقدم والتنمية ديناميكيات الاستجواب.
   في معظم المجتمعات الإسلامية والعربية، تخفق البرامج التعليمية في إقناع الشباب بأن "التقدم" هو عملية إنسانية، بمعنى أن آلياتها ليست شرقية ولا غربية، بل عالمية. هذا ما تؤكده حقيقة أن قائمة الدول الأكثر تقدمًا في العالم تضم بعضًا من الغربيين/ المسيحيين، مثل: الولايات المتحدة، وأوروبا الغربية، وغيرهم من اليابانيين، أو الصينيين، أو حتى من لديهم خلفية مسلمة مثل ماليزيا، هناك اتجاه واضح ومتنامٍ في العلوم الإنسانية والعلوم الاجتماعية للتحلل من الالتزام، كما كان من الصندوق المشترك للتجربة البشرية والتركة المتراكمة. علي مر العصور من قبل الحضارات المختلفة بالنسبة للكثيرين في الأجيال الماضية، علي سبيل المثال أولئك الذين ولدوا في الأربعينات والخمسينات كانت هناك فرصة لقراءة كلاسيكيات الأدب العالمي والفكر باللغة العربية لكُتاب مثل اسكيليوس، وسوفوكليس، وفيرجيل، ودانتي، وشكسبير، وراسين، وموليير، وفولتير، وجان بول سارتر، وبيرانديللو، وألبرت كامو، وجون شتايربك، ووليام فولكنر، وجواهر الفلسفة الألمانية من التي ترجمت من بعض الأشخاص من بلاد، مثل: مصر، وسوريا، ولبنان، وتم نشرها بشكل أساسي في مصر ولبنان.
   أن تكون قادرًا علي قراءة هذه الكلاسيكيات الخالدة دون أن يقال إن صاحب هذا الكتاب "غير مسلم" أو خائن، وربط العديد من هؤلاء المثقفين بالإنسانية بطريقة لا يمكن تصورها اليوم.
   كما انخفض عدد هذه الترجمات في الوسط الثقافي في الدول العربية والإسلامية اليوم، اتسعت الفجوة وزادت بشكل كبير بين عقول الشباب في المجتمعات الإسلامية والعربية وروائع الإبداع البشري.
   وأصبحت الأجيال الجديدة "محدودة ومحلية" بصورة متزايدة، وهي لا تزال بعيدة عن الإنسانية وتزداد وتزيد من عقلية العنف وثقافته لديها.
 
د- التعليم الديني في مصر:
   حوالي ثلاثة ملايين إلي خمسة ملايين من الشباب الذين يتلقون تعليمهم من بداية المرحلة التعليمية إلي نهايتها في المؤسسات الدينية، هذه الظاهرة التعليمية لابد أن يكون لها تداعيات اجتماعية، وسياسية، واقتصادية بعيدة المدي:
   أولًا، لماذا ينتهي مجتمع مثل مصر بإرسال أعداد كبرة من شبابه للدراسة في المدارس الدينية؟
   هل كان مخططًا أم أنه تطور عشوائي نشأ من واقع لا يحكمه التخطيط الاستراتيجي ولكن بالتفاعلات والبيروقراطية؟
   وبصرف النظر عن المملكة العربية السعودية، وإيران، وأفغانستان، وباكستان، والسودان، واليمن، لا توجد ظاهرة مماثلة في أي دولة أخرى من أكثر من 200 دولة في العالم.
   وبناء علي ذلك، هل ظهر هذا الموقف لأن المصريين لا يطمحون إلي أن يكونوا مثل: اليابان، أو سنغافورة، أو فرنسا، أو كندا، أو إسبانيا (تربويًّا وبالتالي ثقافيًّا)، أو مثلهم مثل: المملكة العربية السعودية، وإيران، وأفغانستان، وباكستان، والسودان، واليمن؟
   وهل هذا ما استهدفه المصريون عندما وضعوا سياسة تعليمية استراتيجية في إدراك تام لآثارها وعواقبها؟
   ويعتقد البعض منهم بأنهم يستطيعون عن علم أن يضعوا سياسة تربوية تهدف إلي حصول عدد كبير من الشباب الملتحقين بالنظام التعليمي علي تعليمهم في المؤسسات الدينية.
   في الواقع، فإن البلاد لم تضع مثل هذه السياسة أو في الواقع، أي سياسة تعليمية علي الإطلاق!
   وقد انتشر العدد الضخم من المؤسسات الدينية التعليمية بصورة عشوائية كرد فعل علي مشاكل محددة، مثل الافتقار إلي المؤسسات التعليمية التي يسهل الوصول إليها من الأطفال الذين يعيشون في البلدات والقري الصغيرة، وكمكان من الملاذات التعليمية للتلاميذ الذين لا يستطيعون ذلك، سواء بسبب الافتقار إلي التعليم من الوسائل المادية أو الحد الأدني من المتطلبات التعليمية، والانضمام إلي نظام التعليم العام.
   ومن المثير للقلق أن إنشاء هذه الشبكة من المدارس الدينية كان الحل الأسهل لمشاكل تعليم الطبقات الاجتماعية الدنيا وشرائح المجتمع التي لديها الإمكانيات التعليمية الأكثر فقرًا.
   وإذا كان الأمر كذلك، فإن هذا يعني أن أعدادًا كبيرة من العناصر الأكثر حرمانًا في المجتمع اقتصاديًّا واجتماعيًّا، أما من حيث مهارات التعلم يجري تسريبها، من وجهة نظر استراتيجية، إلي نظام تعليمي ديني دون بذل أي جهد للنظر في النتائج الاستراتيجية، والسياسية، والاقتصادية، والاجتماعية من هذا "الوضع" علي مستقبل المجتمع.
   وعندما سألوا الذين لديهم بعض الوسائل القليلة عما إذا كان أطفالهم ملتحقين بمدارس الأزهر، أجابت الغالبية العظمي من الأشخاص بالنفي وأعربوا عن ازدرائهم لنوعية التعليم الذي توفره هذه المدارس، وهذا من شأنه أن يجعل التعليم الديني الملجأ الأخير لأولئك الذين لا يلجأون إلي نظام التعليم العام بسبب انعدام القدرات الاجتماعية، أو الاقتصادية، أو العقلية. والسماح لهذه الظاهرة بالازدهار دون رادع سيكون له عواقب وخيمة علي المجتمع ككل. علي مدي العقود القليلة الماضية، اجتاحت المجتمع المصري موجة قوية من الظلامية، كما يتضح من الفهم البدائي والقديم للدين الذي أصبح منتشرًا جدًّا. ومع ذلك، لا يبدو أن أحدًا قد درس العلاقة بين هذا الاتجاه وحشود أفراد المجتمع المحرومين والأقل حظًّا، الذين درسوا في المؤسسات التعليمية الدينية والذين هم، ولأسباب واضحة، عرضة بشكل خاص متشدد مفرط للدين، هل نظر أي من مفكرينا الاستراتيجيين في هذه الظاهرة من زاوية أخرى وسألوا أنفسهم عن تأثير هذه الأعداد الضخمة من الطلاب المصريين الملتحقين بالمؤسسات الدينية علي العلوم العلمية في البلاد – كالقطاعات التكنولوجية، والصناعية، والتجارية؟
   هل سيكون لذلك أثر، كما حدث في بلدان أخرى وسعت نطاق التعليم الديني إلي درجة أدت إلي ظهور كادر من رجال الدين مصممون علي منع مجتمعاتهم من الانضمام إلي مسيرة التقدم؟
   قيم التقدم هي مجموعة تشكل جزءًا لا يتجزأ من روح كل مجتمع مزدهر. ومن أهم هذه الأمور الإيمان بالتنوع البشري، والتعددية، وعالمية المعرفة، وحقوق الإنسان، وحقوق المرأة.
   وبمراجعة المناهج الدراسية التي تقدمها مؤسسات الأزهر التعليمية حول مواضيع مختلفة مثل: الثقافة، والأدب، واللغات، تجد أنها إما خالية تماما من أي محاولة لغرس بذور هذه القيم في عقول طلابها أو بنشاط تعزيز القيم المتعارضة لإنتاج الخريجين الذين يغرس في ضمائرهم وعقليتهم قيم تتعارض تمامًا مع قيم التقدم، والتي سيكون لها تأثير سلبي مدمر علي مصر.
   والسماح لهذا العدد الضخم من المؤسسات التعليمية الدينية يخدم في نهاية المطاف اتجاهًا وصفته الدولة بحق بأنه أسوأ عدو للمجتمع المدني. هل يمول المجتمع والدولة أعداء المجتمع المدني والتقدم؟
 
هـ - غياب الكفاءة:
   علي مدي العقود الأربعة الماضية، كتب الكثيرون عن ظاهرة العنف المتصاعد في عدد كبير من المجتمعات الإسلامية والعربية.
   الغريب أن أيًّا من أولئك الذين كتبوا استخدموا المصطلحات "المختصة" أو "غير الأكفاء" في تحليلهم لهذه الظاهرة (8) اليأس الذي يشعر به الكثيرون في المجتمعات الإسلامية والعربية، والشعور بالعجز واليأس الذي يولد الغضب ثم العنف، ينبع من حقيقة أن هذه المجتمعات تدار من قبل أناس مختارين ليس لكفاءتهم لكن لخنوعهم للولاء. فالكفاءة، علي النحو الذي يحدده العلم الإداري الحديث، ليست مصدر قلق كبير للنظام السياسي الاستبدادي – مصر كمثال– تنبع جذور التطرف الديني في مصر من ثلاثة مصادر الأول هو المعاملة القاسية التي يلقاها أتباع التيار الإسلامي في مصر من قبل نظام جمال عبدالناصر في الخمسينات والستينات اندلعت النزاعات بين النظام والإخوان المسلمين ووصلت إلي وضع وصراع خطير، ولجأ النظام إلي القوة والتعذيب ضد أعضاء الحركة، وهذه الأساليب التي استخدمها ناصر ضد القوي السياسية الإسلامية – التي تعرض أعضاؤها للاضطهاد، والسجن، والنفي، والتعذيب. أوجدت أجيالًا من المتطرفين بين أولئك الذين عانوا علي يديه. ولو لم يضغط عليهم عبد الناصر بقسوة شديدة لما أخرج الإخوان المسلمون علي الأرجح عناصر متطرفة ورجعية ومنعزلة مثل الجماعات الإسلامية المتشددة المعاصرة. ويتسبب قمع الأفكار والمعتقدات في أشكال غير متوقعة من التطرف، والعنف، والإرهاب, والجريمة. وفي مصر أيضًا، ولدت سنوات عديدة من الدكتاتورية القمعية مناخًا من التطرف لم يكن موجودًا فيها من قبل.
   المصدر الثاني للتطرف في مصر اليوم هو الوضع الاجتماعي والاقتصادي السائد. العديد من العوامل تتضافر لخلق المناخ المثالي للتطرف وانتشار النزعهات الشمولية، سواء نحو اليسار إلي الجماعات الماركسية (الشيوعية)(9). أو نحو الطائفية الدينية المتشددة.
   وهذه العوامل هي الفقر، وانخفاض مستويات المعيشة، وظهور أقلية ثرية جدًّا والتي لوحظت باستهلاكها الواضح، والمشاكل المروعة للحياة اليومية، والفوضى الاجتماعية التي تخلقها، فضلًا عن انهيار نظام المجتمع والقيم. والتي تسببت في أزمات تولد مشاعر الإحباط العميق، لا سيما بين الشباب، الذين يئسوا من نيل حقهم المشروع في حياة كريمة.
   فعدم الحصول علي الضروريات الأساسية مثل المسكن، والغذاء، والملبس، والتعليم يجعلها عرضه لمتشددين الذين يدعون أن المجتمع فاسد ومحكوم عليه بالهلاك، وأنه ينبغي تدميره لإفساح المجال لأناس أفضل.
   لم يعُط هؤلاء الشباب المحرومون أبدًا الأدوات اللازمة لمعرفة مجتمعهم، بغض النظر عن عيوبه، إلي الحلم الواهم الذي يتم تقديمه لهم، وهكذا، فإن الأزمة الاقتصادية الساحقة، والانهيار اللاحق للقيم الاجتماعية يوفران فرصة ممتازة لدعاة التطرف، سواء كانوا شيوعيين أو عناصر دينية متشددة، لتجنيد أفكارهم..
   إن إيجاد حلول حقيقية للصعوبات الاجتماعية والاقتصادية المحدقة بمصر سيساعد بالتأكيد علي استئصال بعض هذه المشاكل من خلال الحد من جاذبية التطرف ويمكن أن يعزى المصدر الثالث إلي عوامل خارجية.
   مصر في وسط عاصفة من التطرف التي تحيط بها من كل اتجاه في الشرق الأوسط، وخاصة من إيران ولبنان، وتتم المساعدة علي انتشار العدوى بالتمويل الأجنبي والتحريض.
   إن حماية المجتمع المصري من ويلات التدخل والتمويل الأجنبي بالطبع مهمة قوات الأمن، ولكن مهما كان الأمر، فإن دورهم في التعامل مع ظاهرة التعصب الديني لا يمكن أن يزيل أسبابه، ولا أن يوقفه العلاج الصحيح الوحيد الذي هو مزيج من الديمقراطية الحقيقية (بدلًا من غلق أبواب الحوار) والعمل الحازم من قبل شخصيات دينية بارزة الذي ينبغي عليهم استخدام سلطتهم الأخلاقية لاحتواء المشكلة، لا أن تشعل لهيب التطرف كما يفعل الكثيرون. أخيرا وليس آخرًا... يقظة الأمن.
   هناك حاجة للقوات، لا سيما في صعيد مصر حيث تشكل القيم القبلية التقليدية مقترنة بالتعصب الديني خليطًا شديد الخطورة.
   وبالتالي فإن عقلية العنف الناتجة عن العوامل الداخلية هي متغير لم يظهر إلا في العقود الأربعة الأخيرة.
 
صراع الحضارات.. صحيح أم خطأ؟
   إدراج هذه المسألة باعتبارها نهجًا ثابتا ليس جبرًا في "صراع الحضارات"، بل ينتمي أيضًا إلي عالم الخيال العلمي أكثر من التحليل السياسي.
   علي سبيل المثال الكتاب الشهير لصامويل هنتجنتون، والذي ترتبط نظريته بقضية عقلية العنف ارتباطًا وثيقًا. نُشر لأول مرة كمقالة في عام 1993م تحت عنوان "صراع الحضارات"(10)، وتم تدعيمه بعد ذلك ليصبح كتابًا ونشر في العام التالي تحت العنوان نفسه. ولكن بدون علامة استفهام (11). كان للكتاب انتشار واسع، وأثار المزيد من الجدل عن أي كتاب آخر واقعي في ذلك العام. العيب الرئيس للكتاب هو أن المؤلف يتحدث عن الإسلام كنظام أحادي، كما لو كان النموذج الوهابي هو النسخة الوحيدة للإسلام.
   غير أن الإسلام السائد يختلف تمامًا عن التفسير الوهابي للإسلام وثقافته. العلاقة الوحيدة بين الإمبراطورية العثمانية التي مثلت الإسلام سياسيًّا كقوة عظمي لعدة قرون، والوهابية كانت أحد أشكال العداء الشديد. لو استخدم هنتنجتون مصطلح "الإسلام الوهابي"، لكانت أطروحته أكثر منطقية. وهناك عيب آخر هو أنه لم يقدم أي دليل لدعم نظريته عن الصدام الوشيك بن الغرب وما يسميه المجتمعات "الكونفوشيوسية" (12)، مما يجعل النظرية أقرب إلي الخيال، وتحديدًا إلي كتابات "اتش جي ويلز" (13) من التحليل السياسي. كما أنه يدين بالكثير لنظرية "نعوم تشومسكي" (14) التي لا أساس لها من المساواة بأن الولايات المتحدة بحاجة إلي عدو للبقاء علي قيد الحياة، وأن هذا الدور شغلته الكتلة الشرقية من عام 1945م إلي عام 1990م بعد انهيار الشيوعية.
   ويعتقد تشومسكي أن الإسلام هو الآن المرشح الرئيس لهذا الدور، ولكن إذا كان الأمر كذلك، كيف يمكن للمرء أن يفسر التقدم الهائل الذي أحرزته؟
   كيف يمكن للمرء أن يفسر أنه علي الرغم من جهود ونستون تشرشل(15) من 1939م إلي 1941م لإقناع الولايات المتحدة للانضمام إلي الحرب بجانب الحلفاء، لم يكن إلا بعد الهجوم الياباني علي "بيرل هاربور" في 1941م إن هذه الجهود توجت بالنجاح.
   كيف استطاعت الولايات المتحدة أن تقاوم فرصة الاستفادة من وجود عدو جاهز، يحتاج إلي بقائه، وفقا لما قاله تشومسكي؟
   وهناك عيب ثالث هو أنه لم يكرس مساحة كافية في كتابه لأكبر صراع في التاريخ، كان أيضا صراعًا داخل العالم المسيحي. ومع ذلك، لم يذكر أحد علي الإطلاق الدين كعامل في هذا الصراع الهائل، الذي كان في المقام الأول صراعًا بين الفاشية الأوروبية والديمقراطيات الأوروبية ولدحض الادعاء بأن الجماعات العنيفة التي تُدير ظهرها للتقدم وتدعو إلي العودة للعصور الوسطي هي الممثل الحقيقي للإسلام، فإن علي المرء أن ينظر فقط في كيفية عمل بعض المجتمعات الإسلامية الرئيسة في مطلع القرن العشرين. بلدان مثل: مصر، وسوريا الكبري(16)، التي ضمت لبنان في ذلك الوقت وتركيا كانوا نماذجًا للتسامح، وغالبية سكانها المسلمين يعيشون في سلام مع أقليات من ديانات أخرى وكانت المدن العالمية الشهيرة مثل: الإسكندرية، وبيروت، والقاهرة موطنًا لتنوع كبير من الأقليات. وكانت السمات المشتركة بين كل هذه المجتمعات هي قبول "الآخر" والحداثة، فضلًا عن التنوع لروائع الإبداع البشري العظيمة، وعلي الرغم من أنهم كانوا في وئام تام مع النتائج العلمية، والفلسفية، والفنية لعصر النهضة، إلا أنهم احتفظوا بهويتهم الوطنية كمصريين، وأتراك، وسوريي، لقد كان الوقت الذي لم يرَ فيه المسلمون أي تناقض بين عقيدتهم الدينية وحماستهم لثمار الثقافة للحضارة الأوروبية.
   وفي ظل الإسلام غير الوهابي، كانت الجاليات المسلمة في مصر، وسوريا، ولبنان، وتركيا تتطلع إلي المستقبل وتنسجم مع العصر وتعيش في وئام مع المجتمعات المسيحية واليهودية الكبيرة.
   ومن غير المتصور أن تتسامح الوهابية مع المجتمعات العالمية والواسعة التي ازدهرت في الإسكندرية، والقاهرة، وإسطنبول، وبيروت، ودمشق، وحلب في مطلع القرن العشرين.
   علي العكس من ذلك، فإن النسخة النجدية من الإسلام تحُض أتباعها علي البقاء في مواجهة مستمرة مع الآخرين، مع العصر، ومع التقدم وفي ظل النموذج الوهابي للإسلام، تفسر كلمة الجهاد علي أنها الحاجة إلي حمل السيف في جميع الأوقات حتى الآن، فَهم الاتجاه السائد للاسلام لعدة قرون هذه الكلمة بأنها تتطلب من المسلمين اللجوء إلي القوة فقط للدفاع عن أنفسهم ضد العدوان الخارجي... حتى من الناحية اللغوية، فإن كلمة الجهاد لا علاقة لها مطلقًا بفكرة الجهاد المسلح. إنها تنبع من الجذر "جهاد"، ولها الفعل العربي "يجتهد" وهو ما يعني شيئًا بين "المحاولة الجاهدة" و"النضال"، وقد قبل الاتجاه السائد للإسلام أيضا إمكانية اندماج المسلمين مع بقية البشرية (خاصة قبل أن تنتشر الثقافة القبلية المتعصبة في نجد)، في حين أن الوهابية تعتبر ذلك غير ممكن وغير مقبول.
    والواقع أنه يعتبر مرادفًا للخنوع، وهو مصطلح يستخدم علي نطاق واسع من قبل أولئك الذين يتشكل تفكيرهم بالنموذج الوهابي للإسلام.
   إن التعايش السلمي والمتناغم بين المسلمين الورعين والأقليات الدينية التي تعيش في وسطهم، وعلاقتهم المتناغمة بالتساوي مع ثمار الحضارة الغربية تُثبت بشكل قاطع أن معتنقي الإسلام "الحقيقي" ليسوا عنيفين ومتعصبين، وأن التيار الإسلامي لا علاقة له بالنموذج الوهابي للإسلام المتشدد، الذي يعود نجاحه في الفوز إلي الظروف المتدهورة والمحبطة في العديد من المجتمعات الإسلامية.
   الإيمان بالنظام الإسلامي لا يؤدي حتمًا إلي العنف والاشتباكات مع "الآخر". إن العنف والتعصب سمتان لطائفة هامشية واحدة غير معروفة تقريبًا خارج صحاري نجد في الأونة الأخيرة قبل قرن واحد.
   ساد الإسلام غير الوهابي في المجتمعات الإسلامية حتى حدث اثنين من التطورات الكارثية أجبرتها علي التراجع:
(1) ثوران النموذج العنيف للإسلام من رواء الكثبان الرملية.
(2) انخفاض مستويات المعيشة في العديد من المجتمعات الإسلامية التي سمحت لها بالانتشار.
    وفي حين أن عقلية العنف ناتجة في المقام الأول عن عوامل داخلية، فقد أسهم عامل خارجي في انتشاره، وهي المحاولات المضللة التي يقوم بها البعض لاستخدام القوة التي تنتجها عقلية العنف لأغراض سياسية، والمثال علي ذلك هو الدعم الذي يساعد علي خلق نظام يستمد شرعيته من التفسير الوهابي للإسلام في بداية القرن العشرين. وكانت حركة نجدي، المعروفة باسم الإخوان أو الإخوة، مثالًا رئيسًا علي هذا الاتجاه. أجبر الملك عبد العزيز بن سعود علي الذهاب إلي الحرب ضدهم في العشرينات من القرن العشرين، بعد أن اتهموا الملك بالانحراف عن تعاليم ما فسروه بأنه "الإسلام المعتدل الحقيقي"، وذلك بقبول الفظائع الغربية مثل أجهزة الراديو، والسيارات، والهواتف، وغيرها لدخولها للبلاد.
   وخلال الفترة نفسها، شهدت مصر تحالفًًا بين البريطانيين والنظام الملكي، حيث كان لكليهما مصلحة في خلق كيان سياسي يستمد جاذبيته من شعبية الدين في مصر لمجابهة حزب الوفد المؤثر (17)، مثال ثالث علي اللعبة الخطرة التي يستخدمها السياسيون الذين يلعبون بعقلية العنف علي أمل أن يتمكنوا من استخدامها لتحقيق أهدافها الخاصة، كالترويج الأمريكي في أفغانستان للجماعات الإسلامية المتطرفة ضد الاتحاد السوفيتي.
   ولو لم تكن الحرب الباردة والاعتقاد القصير النظر من جانب البعض بأن الدين يمكن أن يستخدم كبطاقة رابحة في المواجهة، لما كانت عقلية العنف قد وصلت أبدًا علي أبعادها الحالية المقلقة. وهكذا علي الرغم من كونه نتاجًا للعوامل الداخلية، إلا أن عقلية العنف أعطت دفعة هائلة من ثروة البترودولار اللامحدودة، وتركنا جانبًا الخطأ الأمريكي الهائل الذي يمكن وصفه بأنه أكبر خطأً في القدير في حقبة الحرب الباردة: استخدام الإسلام السياسي لمواجهة الشيوعية. وهكذا فإن العالم، بعد أن خلص نفسه من الفاشية والنازية، ومن ثم الشيوعية، يجد نفسه الآن محاصرًا في مواجهة أخرى، هذه المرة بعلامة من الإسلامي السياسي المتشدد، الإسلام السياسي الناجم عن تحول في مركز الجاذبية في العالم الإسلامي هجرته من مصر إلي الجزيرة العربية.
   كان اغتيال الرئيس أنور السادات من قبل جماعة متطرفة دعوة للاستيقاظ تنبه العالم إلي نمو وانتشار النموذج الإسلامي الوهابي المدعوم من الجزيرة العربية وتراجع النموذج التركي– المصري. شهدت سلسلة من الأحداث المشابهة الانتشار الخطير لهذا النموذج في معظم المجتمعات ذات الأغلبية المسلمة، مثل: نيجيريا، والجزائر، ومصر، والجزيرة العربية، وباكستان، وأفغانستان، وإندونيسيا. في صباح 11 سبتمبر 2001م، شنت مجموعة من المتعصبين، تنتمي إلي التيار الوهابي، هجمات علي نيويورك وواشنطن، هذه الهجمات توضح كيف يري أعضاء هذه الطائفة "الآخر" بشكل عام والحضارة الغربية بشكل خاص.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
الهوامش:
ـــــ
1-  أبو جعفر محمد بن جرير الطبري (838 م– 923م) مؤرخ فارسي، مؤلف كتاب تاريخ الرسل والملوك (تاريخ الأنبياء والملوك)، (ألباني، نيويورك: مطابع جامعة ولاية نيويورك 1985م– 2007م) وجامع البيان في تفسير آيات القرآن. (تعليق علي القرآن)، القاهرة: (1902م- 1903م).
2-  الإمام ليث بن سعد (94- 175 هجري) رجل دين (فقيه) مسلم (رجل دين) وشيخ للإمام مالك؛ عاش في مصر، انظر المتكلم، محمد رواس، موسوعة الفقه الليث بن سعد (موسوعة الفقه الإسلامي في الليث بن سعد)، (الكويت: جامعة الكويت، مجلس النشر العلمي، 2002م).
3-  قام البروفيسور محمود إسماعيل عبد الرازق بتجميع تاريخ شامل لهذه المجموعات في عمل مرجعي موثوق به بعنوان "الطوائف السرية في الإسلام"، (القاهرة: سينا للنشر، بيروت): مؤسسة الانتشار العربي (الطبعة الخامسة، 1997م)، يولي المؤلف اهتمامًا خاصًا للقرامطة، الذين حملوا الحجر الأسود للكعبة وخبأوه في منطقة نائية في شرق الجزيرة العربية لأكثر من قرن من الزمان.
4-  علي سبيل المثال "إحياء علوم الدين" (ترجمة علوم الدين) (كامبريدج: جمعية النصوص الإسلامية 1990م، "معيار المعرفة" (معيار العلم)، (القاهرة: المطبعة العربية، 1927م)، ميزان العمل (ميزان الحسابات)... لبنان: دار الكتب العلمية 2000م)، "الخلاص من الهرك"، (بيروت: اللجنة الدولية للترجمة، 1959م)، والعقيدة الدينية (المصطفي من علم الأصول) (بيروت: مؤسسة الرسالة، 1997م). "التنافر من الفلاسفة" (تهافت الفلاسفة)، (القرن الأول – متاح في http//www.ghazali.org/works/taf/eng/pdf)
5-  بما في ذلك، "الكتاب التمهيدي للفقيه الموقر" (بدايات المجتهد ومقاصد الحياة). (مختارات الإنجليزية – ليدن: بريل، 1977م) "العلاقة بين الشريعة الدينية والفلسفة" (فضل المقصود في ما بين الشريعة والحكمة من الاتفاق)، (القاهرة، دار المعارف،1972م)، و "المذهب الإسلامي وبراهينه" (الكشف عن المناهج والأدلة في عقيدة المسلم)... (مصر: المكتبة المحمودية التجارية، 1935م.
6-  أصبحت العاصمة السعودية من 1744– 1818 ميلادي.
7-  (1769م– 1849م) حاكم مصر مؤسس مصر الحديثة والسلالة التي حكمت مصر حتى طرد الملك فاروق في 26 يوليو 1952م (تبعها إلغاء النظام الملكي في 18 يونيو 1953م.
8- هذا ينطبق علي أساتذة بارزين في جامعات رفيعة المستوى، مثل هانتجتونهارفارد، وموائيل، وفرانسيس فوكوياما كما هو في وسائل الإعلام، التي أخذت هذا المفهوم واستخدم بشكل معيب – إن لم يكن أساءت استخدام مفهوم هانتجتون وحولته إلي حد ما شعار.
9- (1818م– 1863م) (16) الفيلسوف الثوري البروسي والاقتصادي السياسي، مؤلف كتاب "البيان الشيوعي" في عام 1848م.
10-     هنتنجتون، صموئيل. صراع الحضارات؟ الشئون الخارجية، "صيف 1993م".
11-     هنتجنتون، صموئيل. صراع الحضارات وإعادة النظام العالمي، (نيويورك، سمون وشوستر).
12-     المتعلقة بتعاليف كونفوشيوس، المفكر الصيني الشهير والفيلسوف الاجتماعي (551 – 479 قبل الميلاد).
13-     1866م– 1946م الكاتب الإنجليزي. (20)
14-     فيلسوف أمريكي ولد في فيلادلفيا، 1928م بالولايات المتحدة بين 1500م و1900م.
15-     رئيس الوزراء البريطاني من 1940م إلي 1945م ومن 1951م إلي 1955م.
16-     منطقة الشرق الأوسط تغطي تاريخيًّا من شرق البحر الأبيض المتوسط إلي الشام.
17-     الحزب السياسي الذي تأسس في مصر من قبل سعد زغلول في 1919م الذي قاد النضال المصري من أجل الدستور والبرلمان والاستقلال. أصبح الحلف معروفًا في السر، وهو معروف الآن لأي شخص يدرس تاريخ مصر الحديث.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
الفصل الرابع
عرقلة التقدم والحداثة
 
 
   "القلم يشهد علي ما نقول يجب ألا ننام، لا، ولا نتردد، بين "نعم" و "لا"
                                                                                                               "أمل دنقل"
   خلال السنوات الخمسمائة الأولى من ظهور الدين الإسلامي، شهد المسلمون اختراقات فكرية هائلة عبر مجموعة واسعة من المواضيع في الفكر الإسلامي، بما في ذلك أساسيات الفقه، واللغويات، والتفسير، والتأريخ.
   قد أسفرت هذه التطورات الفكرية عن ثورة في الآراء والتفسيرات التي اختلفت عن اليمين المتطرف – مثل المذهب الحنبلي– إلي أقصى مستوى من التفسير القائم علي العقل، والذي اقترحه المفكر العظيم ابن رشد بين هذين النقيضين، كان هناك العديد من المذاهب الأخرى للفكر. ومع ذلك، فإن الجمع بين الأنظمة الاستبدادية العقلية، والنظم التعليمية القديمة، ووسائل الإعلام التي تسيطر عليها الدولة، والفهم الجامد المتطرف للدين في كثير من الأحيان، جعل الكثير من المسلمين والعرب قلقين من مفاهيم مثل "التقدم" و"الحداثة". وقد قادت كل من العوامل الداخلية وبعضها الخارجي العقل العربي المسلم إلي الاعتقاد بأن الدعوة إلي التقدم والحداثة هي إحدي الطرق للاعتماد علي الغرب، ومن ثم فقدان الخصوصية الثقافية...
   وما فاقم الوضع هو أن العديد من العرب والمسلمين يشعرون بأن قيم الحضارة الغربية هي للغربيين فقط، وليس للجميع. والواقع أن التقدم هو في المقام الأول ظاهرة إنسانية، وليس لهذا التقدم أي جنسية أو دين، كما تؤكده الخلفيات الثقافية المختلفة للمجتمعات المتقدمة النمو، مثل: الولايات المتحدة، واليابان، وماليزيا، وتايوان، وكوريا الجنوبية.
    ولا يختلف الفرق بين المجتمعات الناجحة والفاشلة غير الأسلوب والنهج الوطني، فقد تطورت اليابان بسرعة علي نفس الأسلوب تمامًا الموجود في الغرب ومع ذلك فالتقدم في اليابان (بنغمة) يابانية لذلك تبقي يابانية مميزة. من ينكر أن التقدم هو ظاهرة إنسانية بحتة وأن العملية المؤدية إليه هي أيضًا إنسانية لم تشهد أبدًا آليات التقدم بشكل مباشر.
   ومع ذلك، فإن الأنظمة القمعية تريد أن تقنع شعبها بأن الحداثة تتطلب الاعتماد علي الغير وفقدان الهوية الوطنية والدينية، ومن المرجح أن يوافق المواطنون الذين يفتقرون إلي التعليم الواسع والمعزولون عن العالم الخارجي علي هذه الفكرة. سيميلون إلي أن الديمقراطية ليست حقًّا من حقوق الإنسان، بل سلعة من ابتدعها الغرب لا تناسب سوي الغربيين.
   وبالمثل، فإنهم يعتقدون أن مجتمعهم، وهويتهم، ومعتقداتهم غير ملائمة للديمقراطية، ومع ذلك، ورغم وجود أشكال عديدة من الديمقراطية، فإنها تشترك جميعًا في وجود آليات تجبر الحكام علي الاستجابه لمساءلة الشعب لهم، هذا يجعل الحكومات خدم المجتمع بدلًا من أسياد المجتمع... إن السؤال حول ما إذا كان الإسلام السياسي حركة دينية – ثوقراطية– أو حركة سياسية بالمعنى المعاصر للمصطلح سيحدده موقفه من نظام القيم الذي يعتبره المثقفون في المجتمعات المتقدمة أساس التقدم والحداثة، لذا من الضروري محاولة تحقيق تقارب بين بعض القيم إن لم تكن كل القيم الأساسية التي تشكل النظام من ناحية، وأفكار وسلوك حركات الإسلام السياسي من جهة أخرى.
   هذا ما سأحاول فعله هنا، علي أمل المساعدة علي جعل الإسلام السياسي أقرب إلي قيم الحداثة والتقدم.
 
أولًا– مفهوم الدولة الحديثة:
   الإسلاميون غير قادرين علي فهم وقبول نظام الدولة الحديث (ناهيك عن الإعجاب به)، الذي هو نتاج قرون من الصراعات السياسية، والثقافية، والاجتماعية، والاقتصادية من أجل النهوض بالجنس البشري... النموذج الذي يؤمنون به مختلف جدًّا.
   عندما كان النبي محمد صلي الله عليه وسلم علي فراش الموت، طلب من رفيقه المقرب أبي بكر الصديق أن يؤم المسلمين في صلاة الجمعة بدلًا عنه.
   عند وفاته بعد فترة وجيزة، كان الإجماع العام في معظم أنحاء العالم الإسلامي هو أن ترشيح أبي بكر كان علامة علي أن النبي كان يعتقد أنه أفضل رجل لخلافته.
   ومن ثم، فقد تم انتخاب أبي بكر ليؤم المسلمين من قبل مجلس من شيوخ القبائل كأول خليفة ومن اليوم الأول اعتبر خليفة الرسول المعين لا يزال هذا النموذج التاريخي البسيط يسيطر علي تفكير العديد من الإسلاميين الذين يرون الدين والسياسة متشابكين بشكل وثيق، لا ينفصلان في الواقع.
   بعد عدة عقود، بذلت محاولات لإعطاء هذا النموذج أساسًا فلسفيًّا ونظريًّا في عدد من الكتب التي تُعرف اليوم باسم "الأحكام السلطانية" أو المراسيم العليا (ومن بينها كتاب المواردي الذي يحمل نفس العنوان) (1). علي الرغم من أن تفاصيل هذه "المراسيم" ليست سوي مرآة تعكس مراحل تطور الفكر السياسي في الفترة ما بين القرن السابع والقرنيين التاليين – وهي تفاصيل مبسطة، وساذجة، وبدائية– لا يزال الإسلاميون اليوم معجبين بهم ويعتبرونهم كبديل قابل للتطبيق لنظام الدولة الحديثة.
 
ثانيًا– التعددية:
   ومفهوم التعددية مترسخ بقوة في ثقافة وعقلية المجتمعات المتقدمة، حيث ينظر إليه علي أنه أحد المحركات الرئيسة للتقدم، ومطلب للنهوض بالإنسان والمجتمعات التي لا تؤمن بالتعددية، والتي لا يتجه مناخها الثقافي العام إلي قبول نتائجها لا يمكن أن تمضي قدمًا.
   ومثلما دقت الماركسية ناقوس الموت المتمثل في التعددية، فإن كل النظم السياسية، والاقتصادية، والثقافية، والاجتماعية التي وضعتها كانت تقوم علي سحق التعددية أيًّا كانت ومن لم يمتثل لمبادئها الأساسية.
   لذا فإن الإسلام السياسي هو الآخر بشكل أساسي ضد التعددية، حتى لو زعم الإسلاميون خلاف ذلك. بالنسبة للإسلامي الذي يعتقد أن أيديولوجيته هي الحقيقة المطلقة، فإن أي انشقاق هو أمر بغيض يتعارض مع كلمة الله نفسه.
   والواقع إن الإسلاميين يقحمون الله في جميع المجالات الدستورية، والقانونية، والسياسية، والاقتصادية، والثقافية، والتعليمية حتى العلمية، ومن الأمثلة علي ذلك نظرية التطور (2) التي أدانها الإسلاميون علي نحو تدريجي باعتبارها تدنيسًا للدين.
 
ثالثًا– الآخر:
   قبول الآخر، هو الثمرة الجدلية للتعددية.
   بالنسبة للمؤمن بالتعددية، تعتمد الحياة بالنسبة له علي التنوع في جميع المجالات، والنظم، والأفكار، والمبادئ. يستلزم هذا قبول الآخر بغض النظر عن الشكل الذي يأخذه الآخرون...
   عندما يدعي أحد الإسلاميين، الذي يعتقد أن الله يقف بجانبه، وأنه يقف أقرب إلي الحقيقة، أن يقبل الآخر، فإن قبوله هو علي الأقل متواضع ونسبي في بعض الأحيان، ولتبرير ذلك يطبقون مبدأ الغاية تبرر الوسيلة. وقد يقول أحدهم إنه يؤمن بحقوق المرأة لكنه سيقول بعد ذلك أن المرأة يمكن أن تحتل "معظم الوظائف" ليس "جميعها".
   ومن المؤكد أنهم سيقولون أيضًا إنه لا يمكن لأي من النساء، أو النساء غير المسلمات أن يصبحوا رؤساء دول. سيقول من يعتقد ذلك إنه يؤمن بحرية العقيدة، ولكنه سيحدد ما يعتقده الآخرون في مصر اليوم، وفي 2012م يقول الإسلاميون أن الشخص قد يكون مسلمًا، أو يهوديًّا، أو مسيحيًّا، ولكن لا يمكن أن يكون بوذيًّا أو بهائيًّا، كما أنهم لا يوافقون علي أن حرية المعتقد تعني أن المسلم يمكنه اعتناق دين آخر.
 
رابعًا– النسبية:
   يولد قبول الآخر من رحم الإيمان بالتعددية. من رحم كل منهما ولدت "النسبية"، بمعنى أن فكرة واسعة الانتشار في المناخ الثقافي للمجتمعات الأكثر تقدًما هي أن تكون الآراء، والأحكام، والنظريات، والتفسيرات نسبية وليست مطلقة.
   قد يدَّعي أحد الإسلاميين أنه يؤمن بالنسبية، لكن أي مناقشة معه حول النساء، أو غير المسلمين أو نظرية التطور، أو الآراء التي تختلف عن أفكاره الخاصة، سوف تثبت دائمًا أنه لا يمكن أن يؤمن تمامًا بالنسبية. لقد نقل مفهوم المطلق من عالم الشئون الخاصة إلي الشئون العامة. ولهذا السبب فإن الإسلاميين هم الأشخاص الوحيدون في العالم الذين يعتقدون اليوم أن أيديولوجيتهم تقدم حلولًا دائمة ليست عرضة للتغيير بالنسبة للمشكلات التي هي بطبيعتها قابلة للتغيير. وإذا تناقشنا بأن هذه الحلول تنتمي إلي وقت ومكان معينين، فإن الإسلاميين سيرفضون هذا المنطق بغضب.
   وفي أغسطس 2012م المرشد العام السابق للإخوان المسلمين هو "غبي وجاهل"، تعبر كلماته هذه عن الطريقة التي يري بها الإسلاميون أي أفكار تختلف عن أفكارهم.
 
خامسًا– حقوق الإنسان:
   إن حقوق الإنسان بما في ذلك حرية العقيدة وحرية التعبر وحرية الرأي وغيرها من الحقوق الأساسية المكرسة في الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، هي ثمار نضال إنساني طويل وشاق.
   إن مشكلة الإسلاميين مع حقوق الإنسان هي أنهم سيقبلون فقط أولئك الذين يعتقدون أن ما يفعلونه متوافق مع إرادة الله.
   وإذا أخبرنا شخصًا إسلاميًّا أنه من حق الشخص أن يكون بوذيًّا أو بهائيًّا، فسوف يجادل بأن حرية العقيدة تنطبق فقط علي الأديان الإبراهيمية الثلاثة.
   وإذا أخبرناه أن المرأة يحق لها أن ترتدي ما ترتضيه، فإنه سيرفض على أساس خلفياته الأخلاقية الشخصية التي تعكس، مرة أخرى، إرادة الله! إذا أخبرناه أنه يحق للمسلمين أن يعتنقوا الديانة اليهودية، أو المسيحية، سيستخدم مرة أخرى يقينه الأخلاقي المطلق لدحض هذا الحق الإنساني. وهكذا فإن حقوق الإنسان لها سقف يُبني من تصوراته عن إرادة الله.
 
سادسًا– المرأة:
   إن الخوف والرغبة لدى النساء، والحاجة إلي وضعهن في قفص وإبقائهن تحت السيطرة المستمرة، هي الخصائص الرئيسة لرؤية المتأسلمين للمرأة، ولا شك في أن الإسلاميين يعتبرون النساء كائنات أقل شأنًا، ولو بدرجة طفيفة بالنسبة للرجال، وسيستخدم ما فرضته الطبيعة علي النساء لإثبات وجهة نظره مثل الحيض الذي يجعل للمرأة مكانة دينية أقل من مكانة الرجل فيما يتعلق بالإسلاميين. معظم الإسلاميين مهووسون بالمرأة بشكل مرضي مثل اليهود الحسيديين (3) يعتقدون أن المرأة هي مصدر كل الشرِّ، وعلي هذا النحو، يجب أن تظل المرأة تحت سيطرة مُحكمة. تتجلي هذه النظرة إلي النساء في المذهب، حيث تتعرض النساء للقيود الأكثر تطرفًا التي يمكن تخيلها. ليس من المستغرب أن تحدد هذه البيئة سقفًا منخفضًا للغاية لحقوق المرأة (4)، وأي محاولة لرفع السقف تصطدم بمقاومة شرسة.
   وبقدر ما نشعر بالقلق تجاه الإسلاميين، فبعض القضايا ليست عُرضة للمناقشة. واحدة من هذه القضايا هي الطريقة التي تكون بها شهادة المرأة في المحكمة لا تساوي سوي نصف شهادة رجل.
   تنطبق هذه القاعدة علي جميع الأصعدة، فعلي سبل المثال، كوري (5) الفائزة بجائزتي نوبل، إذا استدعيت للشهادة في المحكمة، فإن شهادتها لا تساوي سوي نصف شهادة رجل قد يحمل شهادة المدرسة الابتدائية، وثمة مسألة أخرى لا يرغب الإسلاميون في إعادة النظر فيها هي قوانين الميراث التي تنص علي أن حصة المرأة في الميراث هي نصف نصيب الرجل، القائمة لا حصر لها.
   امرأة قد لا تصبح رئيسًا للدولة: لا يجوز للمرأة أن تسن قوانين تتناول الزواج، والطلاق، وحضانة الأطفال، وما إلي ذلك.
 
 
سابعًا– سيادة القانون بمعناها المعاصر:
   يعتقد الإسلاميون اعتقادًا راسخًا بأن سن القواعد الدستورية والقانونية التي من صنع البشر خطأ فادح من وجهة النظر الدينية والاجتماعية؛ لأنهم يعتبرون أن البشر ليسوا مؤهلين لإرساء الإطار الدستوري والقانوني لحكم أنفسهم.
   منذ أن اعتمدت مصر نظامًا قانونيًّا حديثًا في 1883م، كان الإسلاميون يعارضون اعتماد القوانين التي هي من صنع الإنسان وعندما أصبحت أعمال السيد قطب (1906م– 1966م) أهم أدب الإسلام السياسي (الكثير منه مأخوذ من المفكر الإسلامي الهندي الباكستاني أبي الأعلي المودودي عام (1903م– 1979م).
   جاءت النظرة الإسلامية للقوانين التي من صنع الإنسان موضحة بالعبارات التالية: الله وحده يعرف عيوب البشر بالتالي فإنهم لا يصلحون لوضع القواعد التي تحكم العلاقات بين الناس بجميع أشكالها. ومن هذا نشأت "نظرية الحاكمية" التي يؤمن بها جميع الإسلاميين، علي الرغم من أنهم يختلفون عن المدة التي سيستغرقها تطبيق النظرية.
   إن حجر الزاوية في النظرية، وهو جوهر الفكر الإسلامي، هو أن البشر يجب ألا يضعوا القواعد والقوانين التي تحكم العلاقات بين الناس، ولكن لا يمكن أن يحددها إلا الله سبحانه وتعالي. حتى يومنا هذا، لم يمعن زعيم واحد من أي حركة للإسلام السياسي النظر في فكرة الحاكمية التي أدخلها سيد قطب في أطروحته الشهيرة علامات علي الطريق (1964م– اعتبر إعادة صياغة للأفكار التي صاغها في الأصل المودودي).
   بالتالي فهو لديه مشكلة دائمة مع القواعد الدستورية والقانونية التي من صنع الإنسان، علي الرغم من أن الفقيه الكبير الدكتور السنهوري (الذي صاغ القانون المدني المصري في عام 1948م) قال إنه لم يرَ سيئًا في أحكام ومواد القانون المستوحاة من القانون المدني الفرنسي، ولا أنها انحرفت عن مبادئ الشريعة الإسلامية.
   هذا لا يعني شيئًا لأي من مدارس الإسلام السياسي، الذين لا يزالون مقتنعين بأن مهمتهم السياسية الأساسية هي تطبيق نظام قانوني شامل مستمد من الشريعة، التي في منظورهم تعبر عن إرادة الله.
   من المؤكد أن قيادات معظم مدارس الإسلام السياسي ترفض وصف الهجمات الانتحارية التي شنها المتعصبون المسلمون ضد المدنيين علي أنها هجمات إرهابية. بالتأكيد لا أحد منهم ينظر إلي أسامه بن لادن علي أنه إرهابيًّا، في الواقع، معظمهم يكنون له احترامًا كبيرًا.
 
ثامنًا: أمريكا الإرهابية:
   في الواقع، لا يمكن للإسلاميين إدانة العنف ضد المدنيين بجميع أشكاله وأوجهه، مما يؤدي مباشرة إلي إخفاق المجتمع الدولي في التوصل إلي تعريف للإرهاب مقبول للجميع.
   الإسلاميون متحدون في اعتقادهم بأنهم مخولون، بل عليهم التزام واجب، بالامتناع عن قبول تعريف الإرهاب قبل أن يكونوا في السلطة... أنا متأكد من أن أكثر من نصف الناس الذين يعيشون في مجتمعات مثل المملكة العربية السعودية، وباكستان، واليمن سيرفضون وصف بن لادن بأنه إرهابي.
 
تاسعًا– تكوين معرفي متوازن:
   لقد اعتقدت دائمًا أن هناك سمة مشتركة بين المتعصبن في جميع أنحاء العالم هو عدم وجود تكوين معرفي متوازن. وهذا صحيح بالنسبة لليهود الحسيديين المتطرفين كما هو الحال بالنسبة للمسلم حيث يتم صد عقولهم عن ثمار الإبداع البشري في كل أو أكثر المجالات الثقافية، والفكرية، أو معظمها.
   وعلي العكس من ذلك، فإن الشخص الذي تم إثراء عقليته من ثمار الإبداع البشري التي تولدت من حضارات اليونان القديمة وروما، وعصر النهضة، والثورة الفرنسية، والثورة الصناعية، والأمثلة الرائعة للإبداع البشري علي القرون الثلاثة الأخيرة، الغني في تاريخ البشرية، لا يمكن أن يكون أصوليًّا أو متعصبًا. لقد حددت لنفسي أشياء مهمة منها أن أقرأ نفس نصوص الكتب المفضلة لليهود الحسيديين، والمسلمين السلفيين، والمسلمين المحافظين في الاقتناع بالمذهب الديني، وهي مجموعة تضم جميع رجال الدين في المملكة العربية السعودية، ومصر، وجميع البلدان الإسلامية السنية الذين يقتنعون بالفتاوي التي وضعها الفقهاء والدعاة لهذه العقيدة القاسية، مثل ابن تيمية، وابن القيم الجوزية، ومحمد بن عبد الوهاب.
   فالأغلبية العظمي من هؤلاء يقرأون أدبيات عقيدتهم الخاصة فقط. في هذا الصدد، سمعت الكثير من رجال الدين البارزين يحذرون من مخاطر قراءة ما أراه أفضل الأمثلة للإبداع الإنساني، بدءًا من هومر إلي دانتي، ومن شكسبير وراسين إلي فولتير وجان جاك روسو وديدرو، ومن ديكوارتس إلي كانط، ومن فيكتور هوجو إلي ألبرت كامو، وإن نفورهم من الموسيقى، والفن، والمسرح قوي بنفس القدر.
   ولعل الحكاية التالية ستوضح حجم هذه الحالة المفجعة: في أغسطس 2012م عاد رواد الفضاء الصينيون إلي الأرض من مهمة في الفضاء، ونشرت صورة لرائدة الفضاء تتسلق سفينة الفضاء بمساعدة زميل لها.
   قام موقع سلفي علي شبكة الإنترنت بالتعليق علي الصورة ولم يتطرق التعليق إلي الكثير من الجوانب الرائعة التي تمثلها الواقع، بدلًا من ذلك قام بالتركيز علي فساد رجل يحمل أنثي من ذراعها لمساعدتها علي الخروج من سفينة الفضاء، وفي حادثة مأساوية تم الإبلاغ عنها علي نطاق واسع قبل بضع سنوات، اندلع حريق في مدرسة للبنات، ثم منع العديد من الفتيات اللواتي حاولن الفرار من المبني المحترق من مغادرة المبني من قبل رجال الإطفاء؛ لأنهن لم يستطعن ارتداء الحجاب، ونتيجة لذلك، احترقوا حتى الموت.
 
عاشرًا– الإنسانية:
   تستند الأدبيات الإسلامية، والثقافية، والإيديولوجية علي تقسيم العالم والإنسانية إلي معسكرين:
   الأول يسمي دار الإسلام، والثاني دار الحرب وما زالت هذه الشعبة تهيمن علي مجموعة العقول الإسلامية، التي تجد صعوبة في فهم وقبول المفاهيم المعاصرة للإنسانية، وإلي أي مدي وصل هذا الفهم إلي إزاله الحدود بين الثقافات والمجتمعات.
   أعتقد أنه حتى يومنا هذا ينظر الإسلاميون إلي الآخر كعدو يحملونه مسئولية جميع مشاكلهم، من وقت الاستعمار إلي الصعاب التي يواجهونها اليوم. فقبل عامين، نشر عبدالمنعم أبو الفتوح (مرشح في الانتخابات الرئاسية في مصر في مايو 2012م) كتابًا أكد فيه أن جميع المشاكل التي تواجهها المجتمعات الإسلامية اليوم يمكن أن تنسب إلي الاستعمار، ما لم يخبرنا به السيد أبو الفتوح هو سبب استعمار الأوروبيين لنا وسبب عدم استعمارهم لنا! كما أنه لم يخبرنا لماذا ظلت معظم شبه الجزيرة العربية في حالة من التخلف الشديد للسنوات المائة الأخيرة علي الرغم من أنها لم تكن مستعمرة.
 
حادي عشر– التقية:
   مبدأ التقية أو التشويه هو عقيدة أساسية لمذهب الشيعة الذي تسلل إلي ممارسات الإسلام السياسي المعاصر، سواء كان شيعيًّا أو سنيًّا. ما يعنيه في الأساس هو إنه عندما يجد المؤمن نفسه في موقف خصومة وفي حالة تصاعد الخصومة يسمح له بالمجاهرة ظاهريًّا بعكس معتقداته الحقيقية، وقد اعتقد الإخوان المسلمون هذا المبدأ بإخلاص.
   ومنذ سقوط الرئيس الأسبق حسني مبارك، قاموا بالإدلاء بسلسلة من التصريحات المتناقضة، واتخذوا موقفًا متناقضًا ومعاكسًا في اليوم التالي. إن استخدام التقية واضح لإخفاء نواياهم الحقيقية – ومقلق– في التصريحات التي يصدرونها في لقاءات مع مسئولين من الإعلام الذي أظهر كذبهم حول أشياء مثل نبذ العنف، وتمسكهم بحقوق المرأة واحترامهم لغير المسلمين، علي الرغم من أن هذه التصريحات تتعارض مع معتقداتهم ونواياهم الحقيقية، إلا أنها مسموح بها دينيًّا طالما أن الإسلاميين لم يُثبتوا لأنفسهم بعد بقوة في السلطة. لو سمع ميكيافيللي ما تعنيه التقية لبعض المسلمين فإنه سيحييهم أكثر من الميكافليين أنفسهم (مذهب ميكافيلي القائم علي الخداع والمخاتلة) في الختام، بعد أربعين عامًا من متابعة الإسلام السياسي، وأعماله، وكتاباته عن كثب، بما في ذلك أطروحة حول نظام العقوبات الإسلامي، لا أري أية إمكانية للتوفيق بين الإسلام السياسي وبين قيم التقدم والحداثة.
   لكن في الوقت نفسه، أعتقد أن ممارستهم للسلطة السياسية في إطار دستور حديث وقوانين حديثة يمكن أن تجعل أحزاب الإسلام السياسي مشابهة لنظيراتها المسيحيية في أوروبا.
   لكنني أتحدث هنا عن عملية ممكنة، ولكن بعيدة كل البعد عن رحلة طويلة لم يشرعوا فيها بعد.
   في الواقع، ارتكب المسلمون خطًا فادحًا ضد أنفسهم ودينهم عندما أغلقوا الباب أمام الاجتهاد (التفسير عن طريق المنطق) وتوقفوا عن البحث عن مفاهيم وحلول جديدة.
   لقد أصبحوا راضين ببساطة عن محاكاة وتكرار ما أنجبه أسلافهم، علي الرغم من أن تلك المفاهيم والحلول كانت نتيجة لزمن توالت بعده السنون.
   ولذلك، فإن المسلمين يعيشون في بيئة الوضع الراهن حيث يجتذبون أفكار الآخرين الذين بذلوا جهودًا لوضع مفاهيم تتناسب مع عصرهم وزمانهم وذلك قبل ثمانية قرون بالمقارنة مع رجال الدين المسلمين القدماء مثل ابن رشد والذي اعتبره بالنسبة لي شخصًا مهمًّا فكريًّا، مثل أرسطو، يميل علماء المسلمين الحاليون إلي استخدام المصادر العربية فقط، وليسوا علي دراية بالعلوم الحديثة، ويجدون أنفسهم في بيئات اجتماعية تمنعهم من أن يكونوا مفكريين منفتحين للابتكارات الإنسانية في مختلف مجالات العلوم الاجتماعية والإنسانية.
 
العلماء:
   في الطريق إلي جنوب إيطاليا، حيث المناخ الثقافي أقل تأثرًا بأوروبا من البحر المتوسط، كان هناك خلاف قبل إقلاع الطائرة، وتبادل حار بين رئيس المشرفين الإيطالي وشيخين مصريين يرتديان الجلباب... من الجامعة الدينية الرائدة في مصر الأزهر، وقد اندلع الخلاف حول المكان الذي كان يجلس فيه الشيخان: أصر المسئول علي أن يجلسوا في مقاعدهم المخصصة في الدرجة الاقتصادية، بينما أصر الشيخان علي الانتقال إلي مقاعد درجة رجال الأعمـال، عندما أوضحـت – كمترجم- أن عليهم الجلوس في المقاعد المحددة في تذاكرهم، أعربوا عن استيائهم الشديد لما وصفوه بالغرور الأوروبي وعدم المرونة. لم يكن هناك في نهاية المطاف أي خيار سوي الإشارة إلي أنه بما أنهم دفعوا ثمن تذاكر الدرجة السياحية، فليس لديهم الحق في الحصول علي مقاعد في درجة الأعمال. هذا بدا لهم غير مرضٍ؛ ازداد غضبهم تجاه أوروبا وأصبح أكثر فظاعة، وقد تم حل الوضع في النهاية من قبل قائد الطائرة، الذي أوضح لراكبيه الغاضبين أنه ليس لديهم سوي خيارين: إما الجلوس في مقاعدهم المخصصة أو النزول من الطائرة، مع الاعتراف والإحساس بالهزيمة قبل الأزهريين الحل الأول، واستقروا في مقاعد الدرجة الاقتصادية التي دفعوا مقابلها.
   بالعودة إلي مقعدي، تذكرت شيخًا آخر سافر إلي أوروبا عام 1826م كمرافق ومرشد لمجموعة من الشباب المصريين أرسلهم محمد علي للتعلم وللدراسة في عدد من المعاهد الفرنسية. نجح الشيخ رافع رفاعة الطهطاوي (1801م– 1873م) في فرنسا لمدة خمس سنوات في تجديد الفكر المصري في القرن التاسع عشر. بعد عودته عام 1831م كتب عددًا من الكتب التي أدخلت القراء المصريين إلي الحضارة والثقافة وعايشتهم معها، التي واكبها خلال تلك الفترة.
   إقامته في باريس لمدة خمس سنوات، أكثرها إثارة للإعجاب هي ما قام بكتابتها عنها: "تخليص الإبريز في تلخيص باريز"، و"المرشد الأمين في تربية البنات والبنين"، و"مباهج الآداب العصرية"، بالإضافة إلي كتاباته الخاصة.
   ترجم الطهطاوي أكثر من 25 كتابًا من الفرنسية إلي العربية في الأدب. هذا الأزهري العظيم، علي الرغم من أن ذهابه إلي فرنسا ليس كطالب ولكن كان كمعلم ديني، أو إمام في البعثة، استخدم وقته للتعمق بالدراسة في مجموعة متنوعة من القضايا. لقد كان طهطاوي، الذي كان ينعم بعقل فضولي وعاطفي، وكذلك لشخصية نافعة، من أشد المعجبين بإنجازات الحضارة الغربية، ليس فقط في مجال العلوم التطبيقية، بل أيضا في المجالات الثقافية، والفكرية، والأخلاقة. كان علي ما يبدو معجبًا بشكل خاص بالاهتمام الممنوح للتعليم الحديث في أوروبا، والاحترام الذي يعامل به الرجال النساء، وتخطيط ونظافة المدن، وسلامة الأوروبيين، وأخلاقيات العمل الراسخة.
   إن الحادث الذي وقع في رحلة القاهرة إلي روما أكد عيبًا خطيرًا في الأساس الثقافي للشيخين الأزهريين، علي الرغم من العيش علي ما يبدو في روما لمدة خمس سنوات، لم يتحدثا أي لغة أخرى غير اللغة العربية. علاوة علي ذلك، لم يريا أيًّا من مزايا الحضارة العربية، علي النقيض من عزلتهما هذه، تعلم الطهطاوي التحدث بالفرنسية بطلاقة رغم أنه لم يتمكن من نطق كلمة منها قبل عام 1826م. وفي الواقع، تعلم الأبجدية الفرنسية علي السفينة التي أخذت المهمة من الإسكندرية إلي مرسيليا، وقال إن أكثر ما يحظي بإعجابه في فرنسا هو الديمقراطية، واحترام الفرد، واحترام المرأة، والأهمية الكبري التي يحظى بها التعلم والتعلم، كان سلوك الشيخان علي متن الطائرة، اللذين رفضا الالتزام بقواعد السلوك الحضاري، نقيضًا للعظماء.
   السلفي، رفاعة رافع الطهطاوي رجل قادر علي التقدير والاحتفاء ليس فقط بحضارته العظيمة، ولكن أيضا بإنجازات ومساهمات الحضارات العظيمة الأخرى، سواء كان ذلك علي ضفاف النيل، أو علي ضفتي نهري دجلة والفرات في الأرض المعروفة الآن باسم العراق، وفي جنوب إيطاليا، في أقصى الطرف الجنوبي، تقف بلدة "برينديز" (الاسم اللاتيني يعني طقرون الغزلان)، الذي يطل علي البحر الإدرياتيكي. هناك يمكنك أن تري صورة للعالم الإيطالي المتميز جاليليو 1564م– 1642م التي من شأنها أن تتسبب في حدوث دوي في قلبك إذا قارنت بين البيئة الثقافية المحطمة التي نعيشها في مصر اليوم والتي عاش فيها العالم العظيم.
   عُرف "جاليليو" في المجتمعات المتقدمة كأب للعلوم الحديثة، في السبعينيات من عمره، وتمت محاكمته بتهمة الجنون لقوله إن الأرض تدور حول الشمس – "جريمة" سلفه "جيورد انوبرونو" (1548م– 1600م)، قبل بضع سنوات، تم حرقه علي قيد الحياة. نُقل جاليليو إلي زنزانة حيث عُرض عليه أدوات التعذيب التي كانت ستستخدم لتعذيبه ما لم يكن قد تراجع عن رأيه؛ وقضي ما تبقي له من حياته حيث لا يُسمح له بمغادرة منزله. كان "برونو" ونتائجه متعارضة مع الكتاب المقدس في وقت كانت فيه ثقافة العقيدة الدينية المتشددة مسيطرة، عندما لم يكن المجتمع ولا الحقائق العلمية تخضع لما اعتقدت به المؤسسة الدينية أنه حقائق دينية.
   في فرنسا، استحوذ الطهطاوي علي ما رآه في سبيل الحرية والتقدم والاحترام الذي تعامل به النساء. كان هناك إلي حد اعتقاده أن السماح للنساء بحرية الاختلاط مع الرجال والطريقة الحديثة في شكل الملابس لا يؤدي بالضرورة إلي الفساد والانحطاط. كان الشيخ المستنير يحب رؤية الرجال والنساء يرقصون معًا، ووصف الرقص بأنه "شكل من أشكال الفن الذي لا يعني (بالضرورة) الفجور". ومن أهم الملاحظات التي تحدث عنها عن الأوروبيين في كتابه "تخليص الإبريز في تلخيص باريز"، يقول: "قرَّرت عقولهم (وليس نصًّا دينيًّا) أن العدالة والإنصاف هما من بين أسباب ازدهار الأمم وراحة البشر".
   لا شك أن الطهطاوي كان نتاجًا لمشروع التحديث الرائع الذي أطلقه محمد علي، أما بالنسبة لشيوخ الأزهر علي متن الطائرة، فمن الواضح أنهم نتاج لمرحلة تطورية مختلفة تمامًا، والتي تميزت بالعقم الفكري، وسطحية المعرفة، والركود العقلي، والانحدار الثقافي والعقليات المنغرسة في العصور المظلمة.
   إن عمليات التفكير الخاصة بالمصابين بهذه العقلية مليئة بالعيوب الخطيرة وأخطرها أنهم لا يؤمنون بالتنوع أو بقبول الآخر، وهم غير متسامحين مع أي رأي يختلف مع رأيهم الخاص، ويعتقدون أنهم أصحاب الحقيقة المطلقة.
   ثم هناك موقفهم المتشدد تجاه النساء الذين يحرمون من أي هامش من التسامح الديني أو الثقافي. إن عقلية هؤلاء الشيوخ هي العقلية والمطابقة التي لا تحتفي - في الواقع- إلا بالقمع، والتفكير النقدي، والإبداع في أعماقهم لا يؤيدون فكرة الإنسانية المشتركة: العالم في عيونهم ينقسم إلي "لنا" (عالم الإسلام) و "لهم" (عالم الحرب).
   إنه انقسام لا يضر بمفهوم الإنسانية فحسب، بل بأي مفهوم للسلام العالمي وبالتالي، فإن العالم الناطق بالعربية هو في أمس الحاجة إلي جيل جديد من العلماء، الذين يمكنهم فهم العلوم، والثقافات، والمعرفة في العصر الحالي، وكذلك فهم تراث المسلمين في وقت مبكر.
   قبل سبعين عامًا، قد كان الإمام الأكبر للأزهر، الدكتور مصطفي عبد الرازق، أستاذًا للفلسفة في جامعة السوربون، وليس جامعة الرياض أو جامعة صنعاء(6)، إذًا لماذا يزدخر الفاتيكان برجال الدين وبدارسين يمتلكون خلفيات تربوية وفكرية وتوسع رائع في مجالات المعرفة المختلفة، بينما لا يعرف العلماء المسلمون أي شيءٍ عن الإبداع البشري في العديد من فروع المجتمع المختلفة والعلوم الإنسانية مثل ذلك الشيخ يوسف القرضاوي، الرجل الذي اعتبره الكثيرون من أتباعه من جماعة الإخوان أكبر فقيه مسلم وواعظ في زمانه. كان مصري الجنسية مع الجنسية القطرية وفر من مصر خلال الصراع بين الإخوان المسلمين وجمال عبدالناصر في عام 1954م (علي رأس قائمة المطلوبين للعدالة من جماعة الإخوان المحظورة).
   وفي المقابل استخدم علماء الفاتيكان لغات متعددة، وأظهروا أنهم يمتلكون مجالات واسعة من المعرفة وكانت الفجوة هائلة. والمطلوب آنذاك هو جيل من علماء الدين المسلمين الذين درسوا ديانات أخرى، وتاريخ البشرية، والأدب العالمي، والفلسفة، وعلم الاجتماع وعلم النفس، ويمكن أن يتكلموا لغات عدة، وهذا يشكل في مجمله لغة الحضارة.
   وإلي أن يحدث ذلك، سيبقي العلماء المسلمون في حالة عزلة عن الحضارة والإنسانية، كما إن المسلمين لم ينالهم التقدم في جميع مجالات العلوم، كما أنهم لم يقدموا في دراسة دينهم. إن تخلفهم في الإسلام هو نفس تخلفهم في الطب، والهندسة، وتكنولوجيا المعلومات، وأبحاث الفضاء، بالتالي فإن الهوة بين المسلمين وتقدم البشرية ستزداد. سوف تتصاعد حملات النقد ضدهم وقد تتكرر الصدامات بين الإسلام والغرب، وسيصبح المسلمون (أو لنكن أكثر دقة، قطاعات كبيرة من السكان المسلمين) العدو الرئيس للحضارة الغربية أو قد يصبحون حتى العدو الرئيس للإنسانية جمعاء.
 
المؤسسات:
   وعلي الرغم من الحاجة الماسة إلي ذلك، فمن المستبعد جدًا أن تحدث هذه التنمية داخل المؤسسات الدينية الإسلامية. إن أكثر المؤسسات الإسلامية في العالم الحديث، وخاصة في المملكة العربية السعودية ومصر، لا تفتح أبوابها لأي شخص يطالب بأدني إصلاح أو تغيير. إذا كان الأمر كذلك، فما الذي ينبغي أن تتوقعه عندما يتم التعبير عن المطالبة بتغييرات شاملة؟
   رفضت جامعة إسلامية بارزة الدكتور أحمد صبحي منصور(7) لرفضه الأحاديث النبوية كمصدر للمبادئ الفقهية، وكان ينبغي للجامعة أن تناقش الاختلافات في وجهات النظر باستخدام طريقة علمية يمكن أداؤها في إطار حوار وتنظيم مناقشات لمختلف العلماء لتبادل الآراء، والغريب أن أبا حنيفة النعمان أحد الفقهاء المسلمين الأربعة العظماء منذ عدة قرون كان في نفس وضع منصور عندما قرر الاعتراف بعدد قليل من الأحاديث النبوية في وقت كان فيه فقهاء آخرون يقبلون كل الأحاديث. إذا كان أبا حنيفة قد شاهد كتابًا مثل "صحيح البخاري"(8) وهو أكثر مجموعة من الأحاديث ثقة اليوم، لكان قد رفض أكثر من 90% من محتوياته. وفي هذه الحالة، كانت بعض الجامعات الإسلامية الحديثة تعتبر أبا حنيفة "كافرًا"، علي الرغم من إنه كان أول الفقهاء الإسلاميين الأربعة العظماء وأعطي لقب "الإمام الأكبر" أو "كبير الأئمة"، والأوضاع في المؤسسات الدينية الإسلامية اليوم لا تسمح لهذه المؤسسات بإنتاج رجال من نوعية أبي حنيفه وابن رشد. هم يزدادون عزلة وتهميشًا مع المراجع الدينية التي أصبحت هشة مع العمر، وعلي مدي قرون اقتصر دورها في تفسير الإسلام علي نصوص الكتب وليس علي سياقاتها. وقد أصبح من النادر العثور علي أحد العلماء في الجامعات الإسلامية الذين يقرأون حتى كتاب واحد بلغة غير اللغة العربية. إن التغيير الذي طال السعي إلي تحقيقه بين المؤسسة الإسلامية يتوقف الآن علي وجود قيادة سياسية راغبة في الميل نحو تفسير عقلاني للتاريخ ورؤية للمستقبل.
   ولسوء الحظ، لا يمكن العثور علي هذه المؤهلات بسهولة داخل المجتمعات الإسلامية. ومع ذلك، يجب علينا أن نطالب بقيادة سياسية تعمل من أجل تحقيق تغيير جذري في الإجراءات داخل هيكل المجتمع العلمي الإسلامي، الذي يرغب في جعل هذا المجتمع منسجمًا مع عصر العلم وتقدم الإنسانية، وبدون هذه القوة الدافعة سيتجه المسلمون إلي مواجهة واسعة النطاق مع الإنسانية ستكون كارثية مثل الاصطدام بين الأجرام السماوية.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
الهوامش
_____
1-    فقيه مسلم من العصر (الحقبة) العباسي (972م– 1058م) "2". 
2-    إشارة إلي النظرية التي اقترحها تشارلز داروين (1809م-1882م).
3-    فرع من الديانة اليهودية المتطرفة.
4-    تم تأليف الكتاب قبل التغييرات الجذرية التي شهدتها المملكة العربية السعودية فيما يتعلق بالنظرة إلي دور المرأة، ومنها السماح لها بقيادة السيارة.
5-    ماري كوري (1867م- 1934م)، بولندية حازت علي جائزة نوبل مرتين في الفيزياء والكيمياء.
6-    واحدة من أقدم وأهم الجامعات في فرنسا وفي العالم بأسرة (جامعة باريس الثانية).
7-    أستاذ جامعي سابق، مسلم سني ليبرالي.
8-    http//www.holyebooks.org/islam/hadith_of_bukhari/index.html
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
الفصل الخامس
نشأة المواجهة
 
   بالنسبة إلي الأوروبيين العاديين أو الأمريكيين غير المتعادين علي بعض الحقائق المعروضة سابقًا، من السهل الاعتقاد بأن الإسلام، والعنف والإرهاب يسيران جنبًا إلي جنب. إن مفهوم الإسلام اليوم لدي العديد من غير المسلمين دين متعصب وعنيف. هذا هو التصور السطحي؛ لأنه يتجاهل حقيقة وجود نموذجين علي الأقل للإسلام: نموذج، متعصب ومتشدد في وجهات نظره، ونموذج متسامح، معتدل، وإنساني.
   وهو أيضا تصور ساذج يمكن أن يؤدي إلي قرارات خطيرة مثل سياسات الغرب التي اتخذت عند قيام الغرب بغض الطرف وتجاهُل انتشار الوهابية وإقامة روابط وثيقة مع الحركات الإسلامية المتطرفة مثل طالبان في أفغانستان، لكن أولئك الذين لديهم فهم أكثر شمولًا لهذه القضية يعرفون أن النظرة إلي الإسلام لا تقبل المساومة، وأنها قد ترسخت فقط لأن النموذج الإسلامي الأصولي المتشدد، والهامشي، وغير الفعال، جعل العالم يعتقد أن تفسيره للإسلام هو الشكل الوحيد للإسلام الحقيقي الفعال قبل أن تضعه الثروة النفطية علي الخريطة، ومع ذلك، لم يكن لدي النسخة الوهابية من الإسلام التي طرحها الوهابيون أي أتباع بين مسلمي العالم قبل توسع نفوذهم في أعقاب الطفرة النفطية. بقي الملايين من المسلمين في مصر، وتركيا، والمشرق، والعراق، وإندونيسيا، وجميع أنحاء العالم محصنين من جاذبية الرسالة المتعصبة، والعنيفة، والدموية.
   كل ذلك تغير مع وجود عاملين في شبه الجزيرة العربية.
   أولًا: قبل كل شيء، التدفق الهائل للدولارات النفطية إلي خزائن المملكة العربية السعودية، التي استفادت الحركة الوهابية من ثروتها الجديدة لنشر رسالتهم المحلية مع ازدياد النشاط الدعوي. ومن ثم، فإن الإسلام المتشدد يُحسب كقوة علي الساحة العالمية، وهي قوة تمثل الآن تهديدًا خطيرًا للسلام العالمي وللإنسانية، وأيضا تهديدًا علي قدم المساواة للإسلام والمسلمين.
   ثانيًا: أصبح كثير من الناس فريسة سهلة للاقتناع بالتفسير الوهابي للإسلام مع نظراته بعد الانخفاض في مستويات المعيشة التي عانوا منها منذ ذلك الحين علي يد حكام مستبدين وفاسدين، ورأي سيد قطب الإسلامي السني، وضراوة مدارس الشيعة...
   فعلي سبيل المثال، عانت مصر من تراجع الثروة علي كافة المستويات ابتداء من الستينات من القرن العشرين، بما في ذلك تراجع المناخ الثقافي العام، مما سمح للتأثير الوهابي بالتسلل إلي الأزهر.
   وقد فتحت هزيمة عام 1967م يونيو الباب علي مصراعيه أمام الجماعات التي تبنت الفهم الوهابي للإسلام والتي ترجمت وجهات نظرها المتطرفة إلي عمل سياسي، تحت تهديد السلاح في كثر من الأحيان وتبدأ هذه العوامل بالأوتوقراطية، وبعقلية العنف، مما يؤدي إلي انعدام الكفاءة، وانخفاض مستويات المعيشة، واليأس، وانهيار النظم التعليمية، ومن ثم، فإن الحالة المعاصرة للإسلام ليست ظاهرة اجتماعية دائمة، وإنما هي نتيجة للظروف والعوامل.
   ومع ذلك هناك سبب مشروع للخوف من أن النموذج المعتدل للإسلام غير الوهابي أصبح هو المنهج العقلي الرئيس بين غالبية المسلمين لعدة قرون قد خرج من دوره المركزي ولن يعود النموذج المعتدل للإسلام إلي وضعه السابق، إلا إذا تم حل العوامل التي تشكل معادلة الانهيار الداخلي، التي تتعرض لها المجتمعات الإسلامية.
   وثمة عاملٍ ثالث هو الحالة الدولية، وما لم يدرك العالم الخارجي أن تبني مواقف معادية ضد الإسلام والمسلمين بشكل عشوائي لا يمكن إلا أن يثير ردود فعل سلبية، ففي هذه الحالة فإن النموذج المعتدل لن يتكرر. وهذا صحيح بالدرجة الأولى نظرًا لأنهم كانوا شركاء مع المسئولين عن بدء دوامة والهبوط، وساعدوا في إحداث سلسلة من العوامل الخارجية التي سمحت لدورة العنف ببلوغ مستواها الحالي.
   وفشل الإنسانية في دعم وتعزيز النموذج المعتدل غير المسلح للإسلام، والذي تنتمي إليه معظم المجتمعات الإسلامية حتى عهد قريب، من خلال المساعدة في إزالة "الألغام الأرضية" الداخلية والخارجية التي أدت إلي تآكل قدرة تلك المجتمعات علي التصدي للهجوم علي الإسلام المتشدد يعتبر جريمة ترتكبها الإنسانية ضد نفسها. إنها الجريمة التي تكلف ثمنًا باهظًا، وهكذا، فإن السؤال المتعلق بمستقبل العقل الإسلامي لا يزال هو نفس السؤال حول مستقبل المجتمعات الإسلامية:
   هل هو مستقبل من الحرية، والديمقراطية، والازدهار، والتقدم، أو العكس؟ الإجابة علي هذا السؤال ستحدده الإجابة علي سؤال حول مستقبل العقل الإسلامي: هل ستتبع طريق الإسلام المعتدل أم الإسلام الوهابي؟
   يعد تسريع الإصلاح السياسي، والاقتصادي، والتربوي الطريقة الوحيدة للحد من الشعبية غير المنطقية للإسلام المتشدد. بمجرد أن يبدأ الناس في المجتمعات الإسلامية بجني ثمار الحرية والمشاركة الفعالة، بالإضافة إلي التحسن الملحوظ في ظروفهم الاقتصادية، والمعيشية، والإصلاح التعليمي الحقيقي، فإن إعجابهم بالجماعات الإسلامية سيتضاءل وسوف يدركون أن رفاهيتهم لن تأتي، علي أيدي مجموعات قياداتها متشددة، ضيقة الأفق، وبعيدة عن متطلبات العصر ويشكل اليأس، والظروف المعيشية البائسة، ومشاعر الظلم، والواقع القاسي للحياة، والفساد المستشري، بيئة مثالية للتحول إلي أيديولوجية الإسلام السياسي، التي توفر الأمل في جو من اليأس.
   لكن زرع الأمل هو الشرط الوحيد، مع عرض الموضوع بشكل جيد يجعل الأمر مختلفًا تمامًا. إن الإسلاميين يبيعون الأحلام والسراب، والوعود الزائفة التي تدَّعي أن لديهم صيغة لعلاج جميع أمراض المجتمع، لكن في الواقع، يفتقرون إلي الكفاءة اللازمة للقيام بمثل هذه المهمة. التقدم هو مفهوم إداري حديث يمكن تحقيقه من قبل أي شخص – المسيحيين، واليهود، والمسلمين، والبوذيين– طالما أن عناصره متاحة، هذه العناصر هي عناصر سياسية، وإدارية، واقتصادية، وتربوية، وإنسانية، بغض النظر عن الدين والجنسية.
الدعاة أو الأتباع:
   استخدمت كلمة الإرهاب لوصف أنشطة المجموعات المختلفة علي مدي نصف القرن الماضي. فعلي سبيل المثال، ندد البريطانيون بالعمليات التي يقوم بها الجيش الجمهوري الأيرلندي كإرهاب، بينما طبق نفس الوصف علي أنشطة الجماعات المسلحة، مثل: جماعة الباسك الثورية (منظمة إرهابية تبحث عن الحكم الذاتي لمنطقة الباسك الواقعة بين إسبانيا وفرنسا)، والأولوية الحمراء في إيطاليا، و"ماينهوف" في ألمانيا، والجيش الأحمر في اليابان، وحركات مماثلة في أمريكا اللاتينية.
   ومع ذلك، عندما يتم ذكر كلمة "الإرهاب" اليوم، فإن ما يقفز فورًا إلي الذهن (في مجتمعات أخرى غير العرب والمسلمين) هو أن عربيًّا أو مسلمًا قد ارتكب عملًا من أعمال العنف. لقد نمت العلاقة بين الإرهاب والمسلمين خلال السنوات الست الماضية، مما أدي إلي الخوف غير الطبيعي من الإسلام والمعروف باسم "الإسلاموفوبيا" في الواقع، ليس هناك شك في أن المسلمين أو العرب متورطون عادة في أعمال وصفها العالم اليوم بأنها أعمال إرهابية.
   وعندما يتعلق الأمر بمعالجة هذه الظاهرة، توجد مدرستان فكريتان رئيستان؛ من يستنكر ويدين المسلمين بعبارات مطلقة، والمدرسة (الإسلامية) الأخرى التي تبرر ما يفعله المسلمون علي أنه رد فعل علي ما تعرضوا له وما زالوا يتعرضون له.
   نهج جديد يستخدم هنا هو تحديد مصادر أو أعمدة إحدي الظواهر التي أصبحت واحدة من المجالات المثيرة للقلق في جميع أنحاء العالم يختلف النموذج العربي/ الإسلامي للإرهاب عن الآخرين من حيث الحجم، أي بسبب العدد الكبير من الأتباع الذين يدعون ويطالبون به.
   وبعبارة أخرى، في حين أن المدافعين عن هذا الشكل من أشكال الإرهاب قليلو العدد ومما لا يضاهيه أولئك الذين يعملون في سياقات ثقافية ودينية أخرى، فإن عدد التلاميذ الذين اجتذبوا إلي الأفكار التي طرحها المدافعون عن العنف في الحالة الإسلامية بشكل ملحوظ.
   هناك تمييز حاسم بين "الدعاة" و"الأتباع"، وهو المفتاح لإيجاد الحلول والتعامل بنجاح مع ظاهرة ينظر إليها كثيرون خارج المجتمعات الإسلامية باعتبارها أكبر تحد للبشرية والحضارة في القرن الحادي والعشرين، ولا يستطيع المؤيديون الذين يحاولن الانتصار علي قضيتهم اجتذاب أعداد كبيرة من المتابعين، إلَّا إذا كانت الحالة العقلية والنفسية لجمهورهم والظروف السياسية، والاقتصادية، والاجتماعية، التي يعيش بها أتباعهم المحتملون تجعلهم يتقبلون الرسالة.
   في جميع الأديان، والطوائف، والأعراق هناك دعاة ينشرون أفكارًا متطرفة للغاية وأحيانًا شديدة العدوانية، لكن عدد الأتباع الذين يتبنون تلك الأفكار يخلتف من حالة إلي أخرى، فعلي سبيل المثال ينادي بعض القادة اليهود والمسيحيين بأفكار تتناقض كليًّا مع الشراكة الإنسانية، ومع التسامح وقبول "الآخر"، بل إنهم في بعض الأحيان ينادون بالموت للآخرين. لكن عدد الأتباع الذين يؤمنون بقضيتهم لا يقترب من نجاح عدد أولئك الذين يناصرون بعض الأفكار الإسلامية المتطرفة.
   إن العديد من الأنظمة السياسية التي يدعمها بعض الأعضاء المفكرين للأسف تقوم بالقبض علي الأعضاء من كلا المجموعتين المدافعين عنهم وأتباعهم معًا ويتعاملون معهم من خلال جهاز أمن الدولة، وهو نهج لا ينتج عنه إلا المزيد من المشاكل ويفاقم المشكلة فقط علي الرغم من أن المدافعين عن العنف يكونون خطرين من خلال خطابهم، إلا أن المخاطر الأمنية التي يمثلونها محدودة.
   رسالتهم لا تستطيع في حد ذاتها دفع أي مجتمع للوصول إلي النقطة التي وصل إليها عدد من المجتمعات الإسلامية اليوم.
   استخدام أساليب الشرطة ضدهم لن يؤدي إلي نتائج إيجابية في الواقع، بل يمكن أن يؤدي إلي نتائج عكسية، لنذكر حالة سيد قطب، المفكر لجماعة الإخوان الذي أعدمته الحكومة المصرية عام 1966م. وقد عاشت أفكاره بعد موته لتصح، بعد اندماجها مع المذهب الوهابي، المصدر الأيديولوجي الأساسي الذي ترسمه معظم الحركات المتطرفة في الإسلام السياسي اليوم.
   السبيل الوحيد لتقليص التأثير الذي يمارسه المدافعون عن العنف هو من خلال حملة ثقافية وإيديولوجية منسقة من قبل أشخاص مستنيرين من المثقفين فقط الأفكار يمكن محاربتها بالأفكار والمعقدات بالمعتقدات.
   وإذا نجحت الحملة، فلن يعود الفضل إلي المثقفين "المعنين من قبل الدولة"، الذين يفتقرون إلي المصداقية والذين هم بيروقراطيون أكثر من المفكرين المستقلين.
   ويري المؤلف في تحليله النهائي أنه، ومع ذلك، ليس دعاة العنف الذين يشكلون حجر الزاوية في الظاهرة المعروفة باسم الإرهاب الإسلامي، ولكن أيضا أتباعهم. إن حل مشكلة العنف السياسي المبرر باسم الإسلام يكمن في الإجابة علي السؤال التالي:
   ما الذي يجذب الناس في العديد من المجتمعات المسلمة، ولا سيما الشباب إلي شبكة الدعاة الذين يُدرسون الأفكار المتطرفة، ويبررون العنف ويدعونهم إلي عزل أنفسهم عن مسار الحضارة الإنسانية؟
   ما الذي يجذب الناس في العديد ن المجتمعات المسلمة، ولا سيما الشباب، إلي شبكة الدعاة الذين يدرِّسون الأفكار المتطرفة، ويبررون العنف، ويدعونهم إلي عزل أنفسهم عن مسار الحضارة الإنسانية؟
   الإجابة علي النداء الذي وجهه دعاة العنف للشباب في المجتمعات الإسلامية يكمن تلخيصها في كلمة واحدة "الغضب"، ومصادر هذا الغضب كثيرة، وبدلًا من أن ندينها، يجب أن نبذل مزيدًا من الجهد لفهمها، وإذا أدي التفاهم إلي شيء من التعاطف، فلا حرج في ذلك.
   من وجهة نظر إنسانية وتاريخية، فإن الفهم والتعاطف لا يعني التغاضي، أو التبرير، أو القبول وبشكل آخر، يجب الاعتراف بأننا نتعامل مع مرضي يعانون من مرض موهن وخطير جدًّا، وهؤلاء المرضي كل ما يحتاجونه هو العلاج، وليس الإجراءات الأمنية، والعنف، والإكراه، والتعذيب ومن أسباب انتشار الغضب في المجتمعات المسلمة بين الشباب:
·       الخوف الشديد من أن فرصهم في الحصول علي حياة كريمة محدودة للغاية، سواء تحصلوا علي قدر من التعليم أم لا، فهم غير قادرين علي إيجاد عمل مناسب يمكن أن يوفر لهم مستوى معيشيًّا مناسبًا.
·       الهوة الشاسعة بين الأغنياء والمُعدمين، ففي الحقيقة هناك فجوة ولكن ليست بالفجوة الضخمة الحجم، والغموض المحيط بكيفية اكتساب الأثرياء ثرواتهم، ونفوذهم القوي، وشهرتهم، لم يكن هذا هو الحال دائما، علي سبيل المثال عرف الناس أن محمد طلعت حرب(1) الاقتصادي المصري والمصرفي من خلال وسائل مشبوهة.
·       اختفاء العدالة من معظم مجالات العمل وأحيانًا حتى من الأنشطة التجارية، حيث المحسوبية تعد أكثر أهمية من الكفاءة، وحيث أولئك الذين يتمتعون بالنفوذ السياسي القوي (الذي لا يتوفر للأغلبية الساحقة) هم علي ثقة من التقدم والنجاح.
·       غياب الشخصيات ذات الصفات القيادية والكفاءة في معظم الأرجاء، والعلاقة الوثيقة القائمة بين الأثرياء أصحاب النفوذ والفرع التنفيذي للحكومة ووسائل الإعلام.
·       الإشاعات حول الفساد في الأماكن المرموقة والتي، علي الرغم من عدم وجود أدلة ملموسة لإثباتها، إلي أن الناس يميلون لتصديقها.
   دراسة هذه الركائز التي يرتكز عليها الغضب الذي يولد العنف، والرفض، والعداء، والإرهاب، هي مسألة سياسية، وثقافية، واستراتيجية. والتصدي لها فقط من منظور أمني يؤدي إلي ظلم خطير للمجتمع ولجميع الأطراف المعنية، بما في ذلك المؤسسات الأمنية نفسها. وعلي المدي الطويل لا تشكل أساليب الشرطة حلًا للظواهر ذات الأبعاد السياسية، والاقتصادية، والاجتماعية، والثقافية العديدة.
 
 
 
 
الهوامش
_____
 
1-    (1867م– 1941م) الخبير الاقتصادي المصري، المؤسس المشارك لبنك مصر في 1920 ميلادية. 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
الفصل السادس
وهم الأحزاب الدينية
 
أولًا– تشويه البشرية:
   هناك أكثر من سبب منطقي وسليم لرفض إنشاء أحزاب سياسية تستند في تأسيسها إلي الدين:
   أولًا، تمجيد الفقه الإسلامي وتقديسه هو عمل لا أساس له؛ لأنه مجرد تفسير النصوص المقدسة هو عمل من اختلاق الإنسان، وفقًا للتعريف الأكثر ثباتًا وانتشارًا للفقه الإسلامي "الفقه هو العلم المعنى باستنباط القواعد العملية انطلاقًا من مصادرها الشرعية"، وهي عملية إنسانية وليس لها علاقة بالله، حيث تتطلب حتمًا استخدام اللغة والمنطق وهناك دليل آخر علي الطابع الزمني للفقه، وهو إرث السنين للفقهاء العظماء – أبي حنيفة، ومالك، والشافعي، وأحمد بن حنبل– الذين أنشأوا هذا الفقه في أقل من مائتي عام، ومع ذلك اختلف مالك والشافعي، وإن كانا معاصرين، في آرائهما بشأن الفقه.
   كما نشر مالك مذهبًا فقهيا مختلفًا عن أبي حنيفة، وأخرج الشافعي نظامين فقهيين مختلفين، أحدهما للعراق والآخر لمصر(1) بالتالي، فإن المبادئ التي يعتبرها البعض المعتقدات الإسلامية من الحكم الشاملة ليست سوي الاجتهاد(2). وقد أصبحت هذه التفسيرات تسمي الأحكام "السلطانية".
   يعرف الخبراء أن الحكام أثناء العصور الأموية أو العباسية، قد أثروا بشدة علي معظم ما كتب عن الأحكام، وقد تصرف هؤلاء الحكام بهذه الطريقة لكي يضمنوا أن كل ما كتب عن القوانين سيتفق مع رغباتهم وفهمهم فيما يتعلق بإدارة مجتمعاتهم المحلية. وبطبيعة الحال، حدثت عمليات مماثلة في أماكن أخرى بالتالي، فإن وجود الأحزاب الساسية التي تتشكل علي أساس ديني وحده أمر غير منطقي لأن مبادئ ما يسمي بالمذهب الإسلامي في الشئون الحكومية هي بالكامل من الإنتاج البشري. إنها لا تعكس سوي تفسيرات البشر، الذين يمكن أن يكونوا علي صواب أو خطأ، فالإسلام لا يضع إطارًا شاملًا لتنظيم الأنظمة الحكومية الحكومية التي يمكن أن تحل محل التفاصيل المعاصرة الموجودة في الدستور.
   ولم تكن الخطوط العريضة لهذه المخططات التفصيلية مهمة الإسلام ولا هدفه، ومع ذلك فإن إلقاء اللوم علي الإسلام لعدم تقديمه نظامًا سياسيًّا متميزًا هو بمثابة إلقاء اللوم عليه لعدم وجود نظرية شاملة في علم النفس، أو علم الاجتماع، أو العلوم الإدارية.
   في الواقع، جاء الإسلام مع مجموعة كاملة من القواعد العامة، والتي من شأنها أن تكون أكثر فائدة كمبادئ توجيهية أكثر تفصيلًا عند صياغة اللوائح، وأُخذ كتاب المواردي(3) بالقرن الحادي عشر - التي أصبحت في وقت لاحق نوعًا خاصًّا بها- مع العديد من الكتب حول نفس الموضوع كأمثلة لمثل هذه اللوائح التفصيلية، هو أفضل من المطالبة بالكثير من التصريحات الإسلامية المبهمة.
   تلك الأعمال هي اجتهاد من صنع الإنسان تعكس قدرات المؤلفين الأكاديمية والعقلية، بالإضافة إلي خلفياتهم الثقافية والتحفيزية، مع الأخذ في الاعتبار الأثر الذي لا مفر منه للعوامل التاريخية والجغرافية. وقوي يمكن أن تقضي علي وجهة النظر التي تدعو إلي إنشاء أحزاب سياسية علي أساس ديني، ما يسميه البعض "أنظمة الحكم في الإسلام" كان مجرد استقطاعات للرجال الذين عاشوا منذ أكثر من ألف عام، ووضعوا القواعد التي ظنوها في زمانهم ومكانهم، وبقدر فهمهم، ومعرفتهم، وشروطهم، ستؤدي إلي تأسيس نظام حكم يمثل القيم الأساسية للإسلام. وهكذا، فإن ما يسمي "نظام الحكم في الإسلام" هو وصف غامض وغير دقيق لما كتبه الفقهاء المسلمون منذ أكثر من ألف عام في محاولة جادة ومحترمة لتشكيل سياسات تحكم مجتمعاتهم في انسجام مع المبادئ والقيم الإسلامية.
 
   ثانيًا– المعضلة الزمنية:
   إن كتابات علماء المسلمين القدماء فيما يتعلق بالقوانين والحكومات هي محاولات قيمة استلهمت جوهر الإسلام. إذا كانت هذه الفرضية مقبولة، فقد كان هناك نقص في الطموح داخل المجتمع الإسلامي لأكثر من ألف عام لتحديث وتوسيع هذه التقاليد السياسية، ومن الضروري مراجعة كتابات الفقهاء القدماء فيما يتعلق بأحكام السلطان، لإصلاح الأنظمة السياسية والدستورية المعاصرة.
   وهكذا، فإن أي مناقشة تدعمها الكتابات التي نشرت قبل ألف سنة وتتجاهل القضايا الفقهية الإسلامية المعاصرة، سيكون مثل استخدام كتاب جُمع في القرن العاشر الميلادي كحجر أساس للطب والصيدلة لإنشاء أنظمة ومؤسسات طبية حديثة. بالتأكيد، وبالطبع، هذه الممارسة ستؤدي إلي الحكم بالموت علي جميع المرضى، مثلما تحدث الإسلام عن الحمير والماشية كوسيلة هامة للنقل، وكما تحدث عن مبدأ الشورى (التشاور)، ولكن لم يتحدث بشكل مباشر حول الديمقراطية والمواطنة وحقوق الإنسان بالمفهوم المعاصر. ومع ذلك، من المخجل أن يصر رجل مُعاصر علي استخدام الحمير كأنها وسيلة النقل الوحيدة. هذا النوع من القرار أدي إلي الصراع بين الوهابيين، برئاسة فيصل الدعويش، والملك عبد العزيز(4)، عندما رفض الوهابيون جميع جوانب الحضارة الحديثة كالسيارات، والهواتف، وأجهزة الراديو(5).
   الفرد الذي يُصر علي استخدام مفهوم الشورى فقط مثل الشخص الذي يعتقد أن وسائل النقل يجب أن تقتصر علي الحمير والماشية علي أساس أن الإسلام تحدث عن الحمير ولم يتحدث عن السيارات، أو القطارات، أو الطائرات.
   الحقائق السياسية الحالية تتساءل: "لماذا يمكننا كمسلمين، تأسيس أحزاب سياسية تقوم علي أساس ديني؟
   هناك العديد من الأحزاب السياسية في أوروبا التي وصفت بأنها مسيحية، والأكثر شهرة منها علي الأرجح هو الحزب الديمقراطي المسيحي الألماني، ولكن في دساتير جميع البلدان التي لديها أحزاب مسيحية وفي منابر تلك الأحزاب لا توجد كلمة واحدة تعني أن هذه الأحزاب ستحكم وفقا للأسس الدينية، ولكن بالأحرى وفقًا للقيم الواردة في دساتير كل منها.
   هذه الأحزاب مسيحية بالاسم فقط فهي أحزاب سياسية تمثل وجهات نظر متحفظة ذات طبيعة علمانية، وعلي الرغم من أن مبادئهم وقيمهم مستوحاة من المسيحية، إلا أنهم يحكمون ويُحكِّمون وفقًا لأحكام دساتيرهم وقوانينهم المعمول بها.
   لم يجرؤ أنصار جماعة الإخوان يومًا في مصر علي الإعلان عن أن هدفهم إنشاء حزب سياسي هدفه الوصول إلي إطار عقلي مماثل لحال الأحزاب الديمقراطية المسيحية في أوروبا، ولا تزال هناك حجة، ألا وهي أن الأحزاب السياسية التي تصف نفسها بأنها إسلامية تتصرف كهيئات سياسية بحتة، فهي مجرد كيانات سياسية تسعي للحصول علي السلطة، وهذه الأهداف هي في حدِّ ذاتها أهداف مشروعة.
   ومع ذلك، فإن بعض هذه الأحزاب تلعب علي الوتر النفسي والعاطفي عندما تصف نفسها بأنها إسلامية، إنها ليست سوي حركة سلفية (أصولية) تعيش علي المفاهيم، وما أخذ من البشر الذين عاشوا منذ أكثر من عشرة قرون مضت عالجت قضايا أعمارهم من خلال حلول كانت من خلال زمانهم ومكانهم. ليس هناك دليل أفضل من أن محمد بن إدريس (الإمام الشافعي) نشر نظامًا فقهيًّا جديدًا عندما وصل إلي مصر، حيث إن عقيدته الفقهية المنشورة سابقًا كانت مناسبة فقط لسلطة سياسية في العراق.
   إنها كارثة عندما يرفض الشعب تحديث مذهب سياسي لمدة 1000 سنة، ويريد أن يستمر في الحكم علي فهم الآخرين الذين عملوا بجد وبذلوا كل جهد قبل عشرة قرون لإرساء السياسات لزمانهم. لقد تطرق الإسلام إلي القيم النبيلة المتعلقة بالعدالة والمساواة وفضائل المعرفة. ومع ذلك، فإن الإسلام، لكي يكون مناسبًا لأوقات وأماكن أخرى غير التي كانت في فجره، لم يفصح عن رموز محددة مفصلة.
   وعلي هذا النحو، فإن أتباع التيارات السياسية الإسلامية الفكرية يقاتلون من أجل إنشاء نظام حكم شامل لا ينطبق في العصر الحديث، ولم يشرع الإسلام مثل هذا النظام التفصيلي، ولذلك فإن الحركات الإسلامية السياسية في نهاية المطاف تتشبث بالقضايا التي ليس لها أهمية تذكر في العصر الحديث، مثل عدم جواز الفوائد البنكية في الإسلام وقانون العقوبات من بين أمور أخرى...
   أفضل شيء بالنسبة للحركات السياسية الإسلامية هو الاعتراف بأن الإسلام دين سامٍ وليس كتابًا عن الاقتصاد، أو السياسة، أو علم الاجتماع، أو علم النفس، أو الكيمياء، أو الطب. ومع ذلك، إذا تقبلوا ذلك فكيف سيلعبون لعبة السياسة؟
   وإذا ما قاموا بذلك، فإنهم سيتخلون عن أقوي أداة لدعايتهم السياسية بالإضافة إلي ذلك، سيكونون مطالبين بتقديم برنامج سياسي، واقتصادي، واجتماعي واقعي، وليس المراوغة المعتادة والشعارات مثل "تطبيق أوامر الله"، و"الإسلام هو الحل"، و"البركة".
   مثل هذه الشعارات المجردة والشائعة، إذا تم تمحيصها في ساحة المعركة العملية للحياة، لن تثبت إلا فقاعات هواء فارغة كبيرة لا تحتوي علي سياسة ولا تنتمي إلي دين علي الإطلاق. وفي البحث عن "البركات" وفيما يعلق بمسألة "البركة، فإن المسلمين البسطاء يعتقدون أن وجود الناس الذين يحكمون باسم الإسلام علي رأس المجتمع يكفي لتحقيق النعمة والبركة لأولئك الذين يفكرون بهذه الطريقة، لاحظوا أن المسلمين الأوائل قد هُزموا في معركة أحد، عام 625م، فلو كان النصر، أو النجاح، أو التقدم، أو الرفاهية، قابلة للتحقيق من خلال البركات وحدها، كان للمسلمين أن ينتصروا في أحد، ومع ذلك فإن هزيمة المسلمين في أحد تثبت أنه تمامًا كما خلق الله كل مخلوقات العالم فقد أنشأ أيضًا قواعد وقوانين معينة لإدارة الكون، ومن بينها قوانين الطبيعة، وأحد هذه القوانين تقول أن كل من يخوض حربًا دون الإمكانيات المادية والعملية للنصر سوف يُهزم، ومن خلال هذه القوانين فاز المسلمون بقيادة طارق بن زياد(6) في القرن التاسع بغزوهم للأندلس، وبسبب القوانين ذاتها هُزم المسلمون في عام 732م في معركة "تورز" في جنوب فرنسا(7)، كل من يعتقد أن البركات ستأتي إليه فقط لأنه يقول أنه يحكم باسم الإسلام سيحصل علي نتائج في جميع المجالات المشابهة للهزيمة في معركة أحد.
   إن النصر والتقدم والقيادة الناجحة لا تأتي إلا من خلال العلم والإدارة الجيدة، وهي مبادئ إنسانية عالمية ولا تنتمي إلي أي دين، أو طائفة، أو جنسية. لا يوجد دليل علي أن أولئك الذين يريدون أن يحكموا مجتمعاتهم باسم الدين لديهم مثل هذه المبادئ. علي العكس، لدينا أدلة تم الحصول عليها من خلفياتهم، وتاريخهم الأيديولوجي، وعلاقتهم بالعلم والمعرفة العالميين وقيم التقدم التي لم يفعلوها بأنهم لن ولم يكتسبوا هذه المبادئ.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
هوامش الفصل السادس
ـــــــــــ
1-     الشافعي، محمد بن إدريس، "ام"، (بيروت، لبنان: دار الكتب العامرية، طبعة الجديدة)، 2009م.       
2-     التفسير المستقل للمصادر الفقهية في الإسلام.
3-     فقيه مسلم من العصر العباسي، (972– 1508) ميلادية.
4-     (1880– 1953) ميلادية الملك الأول للمملكة العربية السعودية.
5-     انظر علي سبيل المثال السيرة الذاتية للثلاثة: توماس، لورانس دبليو لاري، والرحلات الجوية من المملكة العربية السعودية، وملف أندرسون، (الكاتب، 2002م).
6-     زعيم مسلم من البربر الأمويين، وهو أحد أهم القادة العسكريين في إيبيريا (القرن الثامن الميلادي).
7-     المعروفة أيضا باسم معركة "بواتييه"، 732 ميلادي.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
الفصل السابع
الصفات المكتسبة
 
"التقوى" كشف النقاب:
   الكثيرون في مصر اليوم يتحدثون عن اثنين من السمات التي أصبحت تهيمن علي المشهد الاجتماعي في البلاد.
   الأول، هو أن مظاهر التقوى أصبحت أكثر انتشارًا في الآونة الأخيرة مما كانت عليه قبل قرن من الزمان.
   والثاني، هو أن هناك طفرة ملحوظة في الانحرافات السلوكية علي المستوى المجتمعي، حيث أصبح التوتر، والعنف، والعدوان، وانعدام الكياسة في التعاملات بين أفراد المجتمع هي القاعدة.
   وفي حين أنه لا يمكن إنكار أي من هاتين الملاحظتين، فإن هناك تناقضًا بينهما. إذا كان التدين الذي تخلل المناخ الثقافي للمجتمع، ومظاهر التقوى التي أظهرها أعضاؤه، لم يمنع تراجع المعايير الأخلاقية، والكياسة، والأخلاق الاجتماعية، فإن هذا يعني فقط أن التقوى، أو بشكل أدق، فهم التقوى التي أصبحت تسود، لا يخدم مصالح المجتمع، ولن ننكر بأي حال من الأحوال أن هناك من بين أولئك أمثلة جديرة بالإعجاب الذين يؤيدون هذا الفهم للتقوى من الاستقامة الأخلاقية. ولا يمكن حل هذا التناقض، إلا إذا لوحظ أن ما أصبح يسمي التقوى هو في الواقع ليس بتقوى علي الإطلاق.
   إن مصر غارقة في التباهي بمظاهر التقوى والورع كتقوى النساء الملفوفات بما يسمي بالزي "الإسلامي" وإطلاق الرجال للحى، وارتداء الفضة وتحريم الذهب للرجال – وعُصابات الرأس في الزفاف، وعلامات السجود علي جباههم والتي تشهد علي عدد الساعات التي قضوها في السجود علي سجاد الصلاة ناهيك عن الكيفية التي تتعرض لها الحواس للإهانة باستمرار بالكتابة، ومن المنبر، ومن خلال وسائل الإعلام المرئية والمسموعة بأصوات تحث المؤمنين علي مراعاة الجوانب الدينية للشعائر. إذا كان يحق للبعض أن يعتبر أن هذا يشكل تقوى، فإن البعض الآخرن بما في ذلك كاتب هذه السطور، يؤكد أن الشعائر والطقوس لا علاقة لها بالتقوى الحقيقية. أن تكون متدينًا يجب أن يكون لديك قانون أخلاقي قوي، وأن تكون مفيدًا للآخرين، وأن تتحلي وتبرز الصفات الشخصية النبيلة مثل الإيثار، والتسامح، وأخلاقيات العمل القوية.
   أما بالنسبة لمظاهر التقوى المذكورة، فهي نتيجة لمزيج من العوامل السياسية، والاقتصادية، والاجتماعية، والتعليمية، والثقافية، والنفسية، التي يمكن تحديدها بسهولة.
   وفقًا لمذهب الفلسفة الوضعية الذي أسسه المفكر الفرنسي "أوجست كونت" في القرن التاسع عشر، لا يمكن لأحد أن يدعي أن قدرًا أكبر من التدين سيضع الأمور في نصابها الصحيح، لأن التجربة العملية تثبت أن الدين المفرط يمكن أن يزيد من تدهور الوضع في المعايير العامة للسلوك، وكذلك العنف والغضب في التعامل بين الناس.
   إن التدين الموجود في كل مكان والذي نشهده اليوم علي شكل التزام صارم بالجوانب الدينية والشعائر تنبع من مجموعة متنوعة من المصادر أكثر من نصف قرن من عدم المشاركة السياسية أو المشاركة السياسية الوهمية.
   أكثر من نصف قرن من التدهور الاقتصادي وتآكل الطبقة الوسطي بسبب البعد الكامل للمصريين عن النظام التعليمي وما يحدث في بقية العالم، وعزلتهم عن النظم التعليمية الحديثة وانعكاساته للعيوب الثقافية، مثل: النزعة المتنامية نحو العزلة، والتعصب الأعمي، والافتقار إلي التفكير الناقد. إن تعاقب القلة التي حكمت الحياة السياسية والاجتماعية لأكثر من نصف قرن هو أيضا مصدر للتدين المفرط الذي خضع له المجتمع.
   يضاف إلي كل ما سبق تدهور نوعية ومستوى وجودة المؤسسة الدينية التي أصيبت بأفكار عفا عليها الزمن. بالإضافة إلي ذلك، فإن هناك غيابًا لأشياء أخرى يمكن أن تغذي الشعور بالانتماء بين شباب مصر غير الدين.
   وقد أصبح غمر أنفسهم في طقوس الاحتفال الديني ملجأً نفسيًّا لأولئك الذين لا يجدون شيئًا آخر يمكنهم أن يرسخوه في زمن من عدم التيقن بوجود (الأمل، أو الطبقية)، أو الطموح، أو الفرح، أو الواقع الأفضل، أو نموذج ثقافي (محدد)، كل شخص علي وجه الأرض (باستثناء أقلية صغيرة والتي تُولي الولاء الوحيد لأفكارهم، والمبادئ، وقيمهم الخاص)، فهو أو هي يحتاج إلي الشعور بالانتماء "أن ينتمي" إلي شيء أو غيره، وفي المجتمعات المتقدمة التي يتمتع أعضاؤها بمستوى معيشي مرتفع، فإن شعور الناس بالانتماء يمكن أن يتخذ أشكالًا متنوعة، وهناك الذين ولاؤهم للنجاحات الشخصية الخاصة بهم، والبعض الآخر إلي حزب سياسي، إلي طبقة اجتماعية معينة مع ثقافتها وقيمها، أو إلي حركة إيديولوجية أو ثقافية محددة.
   ومن خلال هذا الشعور بالانتماء، يحقق الشخص الرضا والوفاء اللازمين لرفاهية كل فرد، وهذا يمكن أن يساعد في تفسير شعور المصريين بالانتماء للحركة الوطنية التي قادها سعد زغلول في العشرينات من القرن العشرين، وكذلك السبب في أن معظم الشعب المصري عرف عن كثب ذلك المشروع الناصري بعد بضعة عقود. في كلتا الحالتين كانت هناك حركة نجحت في كسب ولاء قطاعات عريضة من المجتمع، بغض النظر عن مدي نجاحها في الوفاء بوعودها أو الارتقاء إلي مستوى شعاراتها. ومع اختفاء هذه الحركات، التي جذبت نظر واهتمام معظم أفراد المجتمع وطاقاتهم وولاءهم ، تُرك المجال مفتوحًا علي مصراعيه لنوع مختلف من الولاء لتولي زمام الأمور، وهو أمر أكثر جاذبية، نظرًا للعموميات والافتقار إلي الدقة، وحيث إن الولاء للماركسية، علي سبيل المثال يتطلب درجة عالية من الوعي والثقافة والذكاء، فإن ذلك لا ينطبق عندما يتعلق الأمر بالانضمام إلي جبهة الشعارات الدينية.
 
 
 
 
الشعارات الدينية:
   التي هي في الواقع سياسة بحتة وليست دينية علي الإطلاق – تدين باستئنافها لتراجع وتآكل الأدوار الي لعبتها حركات أخرى كانت فعالة للغاية في المراحل الأولى من تاريخنا الحديث علي مدى القرنين الماضيين.
   إن ممارسة الشعائر علي النحو الذي أقرَّته كتابات رجال، مثل: ابن تيمية، وابن القيم الجوزية، وفي تطبيقات محمد بن عبد الوهاب، والخبرات المستوحاة من المدرسة التي تعمل علي المسار الخارجي وليس الداخلي، كانت مثل نظام المرور الصارم يضع قواعد صارمة تحدد ما يمكن للناس فعله وما لا يمكن القيام به، وفي مدرسة التفكير التي قد تكون مناسبة للمجتمعات البدائية مع رصيد محدود من التعليم، والثقافة، والمعرفة، ولكن ليس للمجتمعات المعاصرة، والمتقدمة، والحضارة.  
   يمكن أن تبدو المجتمعات الي تحكمها هذه المدونة الصارمة منظمة من الخارج، ولكنها من الداخل مليئة بالعيوب وأوجه القصور. إنه يتعامل مع الناس كأنهم حيوانات السيرك المدربة بالسياط علي اتباع الروتين المحدد لها، لكن التقوى بالمعنى أو بالمفهوم الصوفي، والمسيحي، والبوذي تعمل علي الذات الداخلية للشخص وتسعى إلي الحصول علي ما بداخله من مزايا وما هو مفيد للطبيعة البشرية لكي ينتصر علي قاعدة العدوانية وأركانها.
   ليس من قبيل المصادفة أن المجتمعات الإسلامية الي تحكمها أكثر القواعد الدينية صرامة، أي القواعد المُصممة للحفاظ علي مظهر خارجي من التقوى، هي الأكثر إزعاجًا، وأكثرها هوسًا بالجنس، والمرأة، وجميع أشكال التساهل الحسي. إن محاولة السيطرة علي هذه الانحرافات من "الخارج" دون محاولة التعامل من "الداخل" يخلق نوعًا من الانقسام، وهو انقسام مَرَضي بين ما يقال في العلن وبين ما يجري علي انفراد والذي ربما لا يكون متوازيًا مع العالم.
 
رؤية أم كابوس:
   محمود فهمي النقراشي، وجمال عبد الناصر، وأنور السادات، وحسني مبارك، هم الرؤساء التنفيذيون لمصر طوال معظم السنوات الستين الأخيرة من القرن العشرين، واستُهدفوا جميعهم بالاغتيال من قبل الجماعات الإسلامية التي نجحت في القضاء علي اثنين من الضحايا المستهدفين، النقراشي والسادات.
   وفي اعتقاد خاطئ بأنهم يمكن احتواء أحد أهم قادة تلك الجماعات في مصر، منح الأمريكيون عمر عبد الرحمن المصري، زعيم الجماعة الإسلامية الإرهابية تأشيرة دخول إلي الولايات. لكن ما إن استقر بعد ذلك، كان هو من نسق أول هجوم علي مركز التجارة العالمي، هذا ليس سوي مثال من الأمثلة المحبطة للحقائق الي تتبادر إلي الذهن عندما يتحدث الناس عن الحاجة إلي إشراك الإسلاميين في الحياة السياسية في مصر.
   إن احتمال إعطاء رأي يستمد من هذه العصور المظلمة، كالقول كيف يجب علي المصريين إدارة حياتهم هو أمر صعب عندما يفكر المرء في موقفهم تجاه النساء أو الأقباط، فالجماعات لا يمنحونهم إلا وضعًا يزداد بقليل عن وضع أسرى الحرب أو العبيد. إن تصور سيناريو يحقق فيه "الإسلاميون" جميع أهدافهم ويشرع في فرض رؤيتهم لما ينبغي أن يكون عليه العالم الإسلامي، والذي سيشمل سمات رئيسة مثل:
-         رحيل الغرب، ولا سيما الولايات المتحدة من الأراضي الإسلامية وإزالة الملوك والرؤساء الذين يعتلون الآن السلطة الذين يرونهم أتباع أسامة بن لادن عملاء للولايات المتحدة.
-         الاستيلاء علي السطة من قبل أتباع أسامة بن لادن وأمثاله، وإعادة تنصيب الخلافة، وإلغاء القانون القائم واعتماد نسختهم من الشريعة الإسلامية.
   ويمكن أن يتجلي هذا السيناريو بطريقتين:
-         أحدهما: سيكون العزلة الكاملة للعالم الإسلامي في جميع المجالات العلمية، والاقتصادية، والعسكرية، والثقافية، وسوف تتحول المجتمعات الإسلامية إلي بحار شاسعة من الإنسانية بمعرفة قليلة بالعلم أو بالكيفية التي يمكن بتطبيقها لها أن تحسن نوعية الحياة علي الأرض، وبطبيعة الحال، فإن هذا لا يهم المسلم الذي يهتم أكثر بما يحدث له في الحياة الأخرى مما هو عليه في حياته مع الكثير، والتي بالنسبة له ليست سوى لحظة في المخطط الأعظم للأشياء، مرورًا إلي الآخرة.
   في ظل الإسلام السياسي ستكون هذه المجتمعات مكتظة بالسكان؛ لأن حكامهم سيخبرونهم بأن الشريعة تفرض علي المسلمين أن يتكاثروا؛ لأن كثرتهم ستجعل النبي يفتخر بهم يوم القيامة، وسيكون المستوى المعيشي لأعضاء هذه المجتمعات كئيبًا، لمقاطعتها العلوم الغربية المدنسة، من جميع النواحي.
   ولكن هذا أيضا غير مهم، لأن العالم المادي لا أهمية له بالنسبة للمسلم الورع، الذي يعتبر أن الحياة ليست إلا جسرًا قصيرًا يجب اجتيازه للوصول إما إلي السماء (مع تدفقاتها المستمرة، والفواكه النضرة، والعذاري ذات العينين السوداوين)، أو إلي الجحيم (مع حرائقها المستعرة). مثل هذا المجتمع يشجع علي العنف للانتقام من الكفار تارة ويتفق معهم للهجوم علي آخرين تارة أخرى، بأسلحتهم المتقدمة التي تمطر الخراب علي نطاق واسع علي العالم الإسلامي وتحويلها إلي أرض قاحلة فارغة حيث التخلف والفوضي السائدة بالنسبة للمسلمين، الذين لا يصنعون أسلحتهم الخاصة، ولكنهم مجبرون علي شرائها من أعدائهم الأكثر تقدمًا، وليس لديهم وسيلة للدفاع عن أنفسهم الأسلحة المتطورة المستخدمة ضدهم.
   يمكن للمرء أن يستمع إلي الأئمة في المساجد وهم يلقون خطابًا دينيًّا مثل الرعد من منابرهم، والتي تطمئن رعاياهم بأن الله قد ألحق الهزيمة بهم ليختبر عقيدتهم وأنهم إذا اجتازوا الاختبار فإنه سيرسل لهم نصرًا محققًا.
   ويرسمون صورًا محفوفة بالورود للمسلمين للانتصار علي الكفار وينهي الخطيب موعظته بالدعوة إلي الله بالقتل وإلحاق الدمار بالمسيحيين الوثينين وأبتاعهم اليهود.
-         الطريقة الثانية، التي يمكن أن يكون عليها السيناريو يفترض أن قادة الإسلام السياسي بعد تحقيق الأهداف المذكورة سابقًا لن يشرعوا لعزل المسلمين عن العالم غير المسلم، ولكن بدلًا من ذلك، سيلجأون إلي التعامل مع غير المؤمنين وفقا لمبدأ ثابت من الفقه الإسلامي الذي يري أن "الضرورات تبيح المحذورات".
   في هذا السيناريو، ستكون هناك معاملات واسعة مع العالم غير المسلم في جميع القطاعات الاقتصادية، والعلمية، والاجتماعية، والصناعية، والزراعية، والخدمات. سيكون اكتساب المعرفة هدفًا ذا أولوية عالية علي أساس أن المسلمين "يجب أن يطلبوا العلم حتى ولو كان في الصين"، ومع ذلك، فإن هذا السيناريو الأقل رعبًا سيؤدي حتمًا إلي عودة المجتمعات الإسلامية إلي ما كانت عليه قبل قرن من الزمان عندما يتعلق الأمر بالتعامل مع غير المسلمين. طرف يتعلم من الطرف الآخر، أحد الأطراف يشتري من الطرف الآخر، أحد الأطراف يحاول اللحاق بالآخرين.
   لكن سواء ساد السيناريو الأول أم الثاني يبقي السؤال الأهم: لِمَ المعاناة، وتدفق الدماء؟
   ومع ذلك، هناك سيناريو ثالث يفترض أن المجتمعات المسلمة ستختار التنمية والتقدم والديموقراطية، وفي هذه الحالة ستكون السلطة مع الأشخاص الذين سيمارسونها من خلال ممثليهم المنتخبين بالطرق الرسمية.
   لسوء الحظ، فإن هذا السيناريو الأخير لا يحظي باهتمام جدي في الدوائر السياسية.
 
الإحساس بالفشل:
   حتى قبل عامين، ولسنوات عديدة قبل ذلك، كنت أرى أن توجيه أي نقد إلي جوانب معينة من الأفكار، أو النصوص، أو الشخصيات الإسلامية، من شأنه أن يجعلنا نحن دعاة الحداثة في وضع نفور، وبعض أو معظم أولئك الذين كانوا يحاولون الساعدة في الخروج من المستنقع البدائي والخلفي الذي وقعوا فيه.
   اليوم يجب أن أعترف أنني كنت مخطئًا، علي الرغم من إنني عبرت عن هذا الرأي مرارًا وتكرارًا بكافة أشكال النوايا الحسنة، فقد أجبرتني الأحداث التي تكشفت في العالم العربي خلال العامين الماضيين علي إعادة النظر في وجهة نظري واستنتاج أنني مخطئ.
   تعلمنا عن طرق العلم ألا نستبعد أي موضوع، أو شخص، أو فكرة من الفحص والنقد، وهكذا أدركت أن إيماني بالحاجة إلي إبقاء مناطق معينة من التجربة الإسلامية خارج نطاق التفكير النقدي هو اعتقاد يستند إلي أسباب براجماتية بحتة ولم يكن، يخدم أي غرض بالإيجاب، كما ظننت من قبل. يحق للباحثين التحقيق والبحث في أي موضوع أو فكرة بطريقة علمية وموضوعية، ولا ينبغي ردعها بحجة أن انتقاد ما يعتبره البعض مقدسًا سيضر أكثر مما ينفع في الواقع. الوضع عكس ذلك تمامًا، مراقبة المحرمات، والقبول بأنها مناطق غير مقبول الاقتراب منها وغير قابلة للمناقشة - ناهيك عن النقد- يضر أكثر مما ينفع.
   وإن كنت قد آمنت بأن المجتمعات المتقدمة لها الحق، بل كل الحق في إجبار جميع الثقافات علي قبول الأفكار التي يمكن الرد عليها بالأفكار، والكتابة بالكتابة، وإن بعض الناس الذين لديهم أفكار ونصوص وأفراد معينون لهم قداسة لا يبرر ذلك إعفاءهم من التعرض لوجهة نظر نقدية علمية.
   كنا نظن أننا سنُنَغص عليهم إذا ما انتقدنا رموز تبجيلهم الديني، ولكنهم سوف يحاولون رسم عناصر للنهوض بالمجتمع من خلال نظرتهم البدائية للعالم سنجد أننا أمام كهف مظلم وعفن مليء بالأساطير والخرافات والقواعد، التي لا هدف لها سوي الحفاظ علي قبضتهم علي المجتمع.
   ومن الحماقة أن نقبل أن يُعاملوا مثل الأطفال الجامحين الذين يندفعون إلي نوبة غضب كلما اقترب أي شخص من رموزهم المقدسة. هذا هو في الواقع كيف أن بعض المحللين في المجتمعات المتقدمة يتعاملون مع هذه الظاهرة، ويعلنون أن المسلمين هم مثل أطفال عنيفين ومشاغبين والذين يصبحون غاضبين عندما يجرؤ أي شخص علي الانتقاد المباشر لقضايا معينة، وبدلًا من التصرف بطريقة عقلانية، وعندما يحدث ذلك ينفجرون بشكل غاضب، ويدمرون، ويضرمون النار في كل مكان حولهم ويقتلون الأبرياء... وعندما كتب سلمان رشدي "الآيات الشيطانية"(1) رفضوا الأفكار وهددوه بالموت بسبب محتويات الكتاب الذي يعتبر مسيئًا للنبي محمد صلي الله عليه وسلم، وأصدر المرشد الأعلي لإيران آنذاك (آية الله الخميني) فتوى دينية تدعو إلي إهدار دم رشدي، وكان الأخير يعيش في الخفاء لما يقرب من عقد من الزمن، فاختاروا اللجوء إلي العنف والتهديد بالقتل، ولم يستخدموا الحجج المنطقية لإثبات خطئه. وقد تكرر هذا المشهد مرات عديدة، وكان آخرها رد فعل غاضب من بعض المسلمين لفيلم غامض يصور الشخصية الأكثر تبجيلًا في الإسلام بطريقة خسيسة، تعشق الجنس، وتتعطش للدماء والعنف(2). وبدلًا من التعبير عن غضبهم عن الفيلم بطرق سلمية، مثل كتابة المقالات أو إنتاج فيلم يدحض مزاعمه البشعة والهجومية، خرج آلاف المسلمين إلي الشوارع في مظاهرات عنيفة ومدمرة.
   وكما أخبرني صديق أمريكي أن الفيلم محل العنف هو محاولة خبيثة صنعها المتعصبون الهواة لتشويه سمعة الإسلام، لكن الغاضبين الذين عبروا عن سخطهم من إهانة نبيهم بالقيام بالهياج، أعطوا العالم فيلمًا أسوأ مما شاهدوه، مليئًا بمشاهد العنف والدماء، وهو فيلم فقد فيه عشرات الأشخاص حياتهم. أنا لا أقترح بأي حال من الأحوال أن المسلمين الذين أغضبهم كتاب مثل "آيات شيطانية" أو أفلام مثل "براءة المسلمين" يجب أن يظلوا صامتين، علي العكس يجب عليهم أن يردوا بالمؤلفات والكتب التي تقدم حججًا وينتجوا أفلامًا مضادة جيدة الصنع والإنتاج تستند إلي حقائق تكشف كذب الصور المشينة في الأفلام التي تهاجم معتقداتها المقدسة، أود أيضًا أن أقترح علي أولئك الذين يدافعون عن معاملة بعض الغوغاء الهائمين (في باكستان وأماكن أخرى) مثل الأطفال غير المنضبطين أن هذا النهج يضر بجميع الأطراف ولا يفيد شيئًا.
   لا أستطيع أن أكتب عن هذا الموضوع الهام دون أن ألفت الانتباه إلي جانب من جوانب ردود الفعل العنيفة الذي قابلت نشر "الآيات الشيطانية" لسلمان رشدي، وهو جانب أعتقد أنه غير واضح لدى الكثيرين، فمعظم المسلمين اليوم لا يعرفون شيئًا عن أصول هذه "الآيات الشيطانية"، التي ورد  ذكرها في العديد من السير الذاتية المبكرة للنبي، جهلهم شبيه بجهل الشباب المصري الذي قام بمحاولة فاشلة لوأد حياة أعظم روائي عربي في العصر الحديث نجيب محفوظ، بعد حصوله علي جائزة نوبل للآداب.
   اعترف القاتل في التحقيق بأنه لم يقرأ أيًّا من أعمال محفوظ! وفي عام 1992م، عندما أطلق شبان إسلاميان النار وقتلوا المفكر المصري المستنير فرج فودة، واعترف القاتل أيضًا بأنه لم يقرأ كلمة واحدة كتبها ضحيته! إن النقطة التي أحاول أن أدونها هنا هي أن ردود الفعل العنيفة والدموية لبعض المسلمين علي الإهانات لرموزهم الدينية الأساسية لا تثيرها حادثة معينة (كتاب، أو مقالة، أو رواية، أو فيلم، أو كاريكاتير).
   وبدلًا من ذلك، فإن هذه الحوادث توفر لهم ذريعة للتنفيس عن الغضب المكبوت بداخلهم، وإلا كيف تُفسر لماذا يجب علي الرجل أن يقتل آخر بسبب رواية كتبها الضحية ولم يقرأها قاتله؟
   علي الرغم من أنني أعتقد أننا يجب أن نتعامل بطريقة رشيدة مع ظاهرة الغضب غير الرشيد الذي يثور ويثار في أي استفزاز، لا أعتقد أن معالجة ومعاملة واعتبار المشاغبين الخارجين عن التحكم كأطفال مندفعين هي أفضل طريقة لمعالجة هذه القضية، وأعتقد أن المخزون الهائل من الغضب المدمر الذي يثور بانتظام محبط قد تراكم علي مدي قرون من الإحباط والشعور بعدم الكفاية. قبل ألف سنة، توقف المسلمون عن إضافة أي شيء جديد إلي مسيرة التقدم العلمي، وقد جاء هذا التراجع نتيجة لانتصار مدرسة التقاليد والعقيدة (أبرز ممثلي هذه المدرسة هو رجل الدين ابن تيمية) علي مدرسة العقلانية والاستدلال الاستنتاجي (الذي كان أبرز ممثل عن هذه المدرسة هو ابن رشد).
   ولا أشك إطلاقا في أن هذا التراجع قد ولَّد شعورًا بالفشل لدي معظم المسلمين. ولكن بدلًا من النقد الذاتي كان من الأسهل إلقاء اللوم علي الآخرين لهذا التراجع! والبعض الآخر مسئول عن وصولنا إلي حالتنا الراهنة، وهي حالة توقفنا فيها عن الإسهام في مسيرة التقدم البشري والعلمي ويجب تحميل الآخرين، وليس أنفسنا، المسئولية عن هذا الوضع.
   وهل يجرؤ أي من هؤلاء (الآخرين) علي انتقاد مقدساتنا؟ ساعتها سنيفجر البركان الكامن ليخرج ما بداخله عن غضب مكبوت.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
الهوامش:
_____
1-     رواية نشرت لأول مرة في 1988م، الذي كتبها الكاتب البريطاني الهندي (السير) سلمان رشدي.
2-     "براءة المسلمين"، فيلم مناهض للإسلام، (2012م).
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
الفصل الثامن
استخدام القوة
 
أولًا- انتشار القوات:
   ويمكن أن ينسب العديد من العواصف التي تجتاح الجزء الخاص بنا من العالم إلي حقيقة أن الحركات التي تمارس السياسة باسم "الإسلام السياسي" لا تزال تحكمها عقلية الانقلاب، ولا تزال تعمل كحركات سرية "تحت الأرض" بدلًا من المؤسسات السياسية الحديثة التي تحترم القانون وتتقيد به. في الواقع، فإن كلمة "عقل"، التي تفترض استخدامها المدارس العقلية، هي التسمية الخاطئة التي لا تطبق في هذه الحالة، لأن معظم هذه الحركات تعتمد أكثر علي القوة دون العقل، وتعتمد أكثر علي القوة الغاشمة دون العقل، الذي يحكمه احترام القوانين والدساتير والعقلانية، والحكم السليم.
 
        أ‌-        الأحداث المأساوية:
   خذوا قضية لبنان، فلها حكومة منتخبة وبرلمان يمثل الشعب، ومع ذلك فإن أكبر حركة معارضة، وهي منظمة دينية –سياسية، ترفض الاعتراف بسلطة ممثلي الأمة المنتخبين وتستمع فقط إلي الأصوات الحادة التي تدعو إلي العودة إلي الماضي.
   الطوائف الدينية "حزب الله" حزب مسلح واحد يسعي لدفع لبنان إلي الوراء لقرون وفي الوقت المناسب يلعب هذا الحزب لعبة القوة الغاشمة العمياء للاستحواذ بقوة علي مبادئ الديمقراطية والشرعية الدستورية، والقوانين.
   حزب الله ينقلب علي الجميع، كمظهر للاحتقار الكامل للبرلمان المنتخب الذي يجب أن يكون له الحكم النهائي بدلًا من حشود المتظاهرين الذين تم التلاعب بهم من خارج البلاد من قبل نظام ثيوقراطي يمول تدمير لبنان، ثم هناك الوضع في الأراضي الفلسطينية الخاضعة للحكم الذاتي، حيث الحركة الدينية (حماس) التي خرجت من بين خيوط العنكبوت في العصور الوسطي، لا تعتبر نفسها ملزمة بأي من الالتزامات التي تعهدت بها الحكومات السابقة. وفيما يتعلق بالأمر، فإن الأحداث بدأت تتكشف في اليوم الذي وصلت فيه إلي السلطة.
   وعندما دعا أبو مازن زعيم السلطة الفلسطينية بحكمة، ولو في وقت متأخر إلي حد ما، إلي العودة إلي الشعب، مصدر السلطة، رفض دعوته حكومة الثيوقراطيين الذين يقتصر فهمهم للديمقراطية علي فائدتها كوسيلة للوصول إلي السلطة، والحركة الدينية بحكم تعريفها غير ناضجة ديموقراطيًّا، قد تكون غير قادرة علي فهم أن الديمقراطية جلبتها إلي السلطة ولكنها لن تمنعها - بنفس الطريقة- من التمسك بالسلطة إلي أجل غير مسمي. وحكمهم من خلال عقلية انقلابية تتناقض تمامًا مع فكرة الديمقراطية ذاتها، فإن أعضاء هذه الحركة مدفوعون بالهستيريا الدينية (وليس العقيدة الدينية)، مقترنة بأسلوب عنيف وتصادمي في العمل السياسي.
   لم تمر حركات الإسلام السياسي بعد بالمرحلة الضرورية من دراسة أفكاره – من فصل القشر عن الحَب – إذا جاز التعبير ولم تشهد هذه الحركات أي تطورات إيديولوجية داخلية تتحدث عنها.
   في الواقع، تعرض التفكير الإسلامي إلي العديد من التغييرات الجذرية في مئات السنين التي تفصل بين وفاة أول كبار القضاة الأربعة السُّنة – أبي حنيفة النعمان (في منتصف القرن الثاني من التقويم الهجري) – ووفاة الأخير– أحمد بن حنبل (بعد أكثر من قرن من الزمن) خلال اثنى عشر قرنًا منذ وفاة ابن حنبل في القرن الثالث من التقويم الهجري.
      ب‌-      صدفة أم عقلية؟
   ومن المثير للاهتمام التكهن بالتشابه بين ما فعله حزب الله في لبنان في مايو 2008م – عندما استولت ميليشياتها علي بيروت لإجبار الحكومة علي التراجع عن عدة مراسيم، مع وفاة مائة فرد لبناني– وما فعلته حماس في غزة في يونيو عام 2007م عندما سيطرت علي قطاع غزة وقتلت حوالي مائة فلسطيني وحقيقة أن كلًّا منهما يظهر نفس نمط السلوك وتتضح العقلية التي يتشاطرها جميع الأصوليين الإسلاميين، السنة والشيعة علي حد سواء.
   وقد تدعي الحكومة الدينية، التي تعتبر معتقداتها السياسية دالة علي معتقداتها الدينية، أنها تؤمن بالديمقراطية، ونظم الدولة الحديثة، والتعددية، والتنوع (أي قبول واحترام حقوق "الآخر")، ولكنها تفعل ذلك فقط لأسباب المصلحة الخاصة، وهم يعلمون جيدًا أن التشدق بالكلام عن هذه المشاعر النبيلة – إن لم يكن مفيدًا في مرحلة معينة– إلا أنه يمكن أن يخدم مصالحهم ويجنبهم المشاكل في الواقع، الأصولي الذي يمارس السياسة يتحرك بناء علي عقيدة الاقتناع بأن الله يقف بجانبه، وأنه هو القناة التي تنتقل من خلالها إرادتهُ سبحانه وتعالي إلي عالم السياسة.
   بالتالي لا يوجد مجال في نظام المعتقدات الأصولية لمفاهيم مثل الديمقراطية وتناوب السلطة، والتعددية، أو التنوع، ففي إيران علي سبيل المثال، المرشد الأعلى لا يضع سياسات الدولة العليا فحسب، بل يتدخل أيضًا في مثل هذه التفاصيل الدقيقة من الحياة السياسية للبلاد، كما يقرر ما إذا كان يحق للمرشح الترشح أولًا للانتخابات البرلمانية.
   ثم تأتي حالة الحياة السياسية الفلسطينية، حيث أظهر قيادات حماس عدم احترام واستخفافًا سافرًا وواضحًا بالديمقراطية.
   علي الرغم من أن الديمقراطية هي التي جلبتهم إلي السلطة، فما كادوا يجلسون في مقر السلطة حتى داسوا عليها، ثم تحولت حكومة حماس إلي أداة للاستبداد والقمع، وإلي القضاء علي خصومها جسديًّا بشكل منهجي وليس رمزيًّا. في بعض الحالات، تم إعدامهم بطريقة وحشية للغاية، مثل رميهم من المباني العالية. وليس من المستغرب أن يلجأ أولئك الذين يخلطون الدين بالسياسة إلي مثل هذه الممارسات الهمجية.
   الدين السياسي – وليس الدين العقائدي نفسه– هو مثال علي النظام المغلق الذي لا يُسمح فيه بأي انحراف عن الطريق الرسمي، الذي يُعتبر المسار الحقيقي والوحيد. ما فعله حزب الله في لبنان هو نسخة جديدة من اللعبة الشيطانية التي تمزج السياسة بالدين.
   لا يكتفي الحزب بالزج بلبنان في حرب عام 2006م دون موافقة الدولة وهي الحرب التي ادعي أنها خرجت منتصرة بفضل التدخل الإلهي، ولكن حزب الله هو دولة داخل دولة - بشكل أكثر دقة دولة خارج الولاية- قام حزب الله بتثبيت شبكة اتصالات خاصة بالكابل. بعد أن أصدرت الحكومة مرسومًا يحظر شبكة اتصالات الحزب، وعليه اكتسحت ميليشيات حزب الله مدينة بيروت، وفي عمل يبلور الطريقة التي تعمل بها عقولهم، قاموا بإشعال النار في المبني الذي يضم قناة تليفزيون "المستقبل"، التي يملكها الحزب المنافس.
   التشابه بين إجراءات المرشد الإيراني الأعلي "علي خامنئي" في تحديد من يمكنه الترشح لمنصبه، وإجراءات حماس في غزة، التي رمت خصومها من مبانٍ عالية والتحريض علي التوغل عبر الحدود المصرية، وبين حزب الله في احتلال بيروت لفرض إرادته علي المعارضين السياسيين ليست مصادفة. كل هذه الإجراءات وهذه الأعمال تشهد علي عقلية أنصارهم في العصور الوسط، وهي عقلية معادية للحرية، والديمقراطية، وأنظمة الدولة الحديثة. سيدفع العالم ثمنًا باهظًا لو وقف مكتوف الأيدي في حين أن هذا الأمر سيجذب البشرية ومجتمعات بأكملها من الألفية الثالثة إلي الألفية الأولى.
 
ثانيًا: "السيادة الإلهية":
   العديد من العقبات تقف بين الاتجاهات التي تتبنى الإسلام السياسي، بما في ذلك الإخوان المسلمون، والنضج السياسي.
   ولعل أكثر ما لا يمكن التغلب عليه هو تمسكهم بنظرية الحاكمية أو "السيادة الإلهية" التي قدمها سيد قطب وأبو الأعلي المودودي، المُنظر الباكستاني للإسلام الراديكالي (المتطرف) الذي توفي عام 1979م.
   هذه النظرية المستمدة من الأصل العربي، والتي تعني الحكم، لها بريق سطحي يستهوي بعض الناس، ولكنها في الواقع تستند إلي اقتراح لا يمكن الدفاع عنه ويجعله عديم الجدوي يفترض أن البشر لا يحكمهم بشر بل الله، وهذه سفسطة خطرة، حيث لا يوجد اتصال مباشر بالذات العليا، بالمعنى الحرفي للكلمة "مباشر" نظرًا لوجود الطبقة الدينية الحاكمة باسمه، وفقًا لفهمهم للنوايا الإلهية.
   وجاء المفكران مع نظرياتهما، وهي أفكار خيالية، ومن الواضح إنه لا يمكن تنفيذها في الممارسة العملية، كرد فعل علي تجربتهما الشخصية الصادمة.
   وقد شهد كلا الرجلين ما يطلق عليه الآن بالصدمة الثقافية، صدمة المودودي في مواجهة الثقافة القوية والنابضة بالحيوية في الهند، وقطب الذي أمضي أقل من عامين في الولايات المتحدة في أوائل الخمسينات، في مواجهة ثقافة أمريكية صدمته بجوهرها. والذي أصبح معها غير قادرٍ علي التعامل مع واقع العصر، واختار الهروب إلي زمن أقل تحديًّا ألا وهو الماضي وهكذا، فإن العقبة الأولى هي نظرية الحكم التي يشترك فيها جميع معتنقي هذه الحركات التي يجب أن تتغلب عليها حركات الإسلام السياسي إذا أرادوا أن يعيشوا بسلام في العصر الحديث مع بقية المجتمعات البشرية؛ لأن نظرية الحكم لا يمكن تطبيقها ما لم نُحوِّل عقارب الساعة إلي الوراء أكثر من ألف سنة ونعتبر جميع الثقافات الأخرى كأعداء مميتة.
 
ثالثًا– قوانين الإلحاد:
   عندما ردت الجماهير في العديد من المجتمعات الإسلامية بشراسة (وأحيانًا بعنف) علي الفيلم الذي أنتج عن النبي محمد صلي الله عليه وسلم، أراد العديد من قادة عدد من المجتمعات الإسلامية أن تتبنى الأمم المتحدة اتفاقًا يحظر "الإهانة" للشخصيات والرموز المقدسة، وهي دعوة يرى الكثيرون أنها تعكس نفيًا مطلقًا لأساس الحضارة الغربية. وأوضح الكثيرون أيضا أنه مع وجود اتفاق دولي علي هذا النحو، سيتم حظر فولتير (1694م– 1778م) لكتابة مسرحيته (المأساة) في عام 1736م، وأيضًا دانتي اليجييري (1265م– 1321م) سيكون كتابه عن النبي محمد محظورًا في المجلد الثالث (جحيم) من "الكوميديا الإلهية". وعلي نفس الاتجاه قد ينضم وليام شكسبير (1564م– 1616م) إلي قائمة المؤلفين المحظورين إذا زعمت جماعة يهويدة متطرفة أن ما كتبه في عام 1596م عن اليهود في مسرحيته "تاجر البندقية" يسئ إليهم. وفي الواقع، يجب حظر معظم الفلاسفة! علي سبيل المثال، ما كتبه فريدريك نيتشه (1844م– 1900م) عن الله سيضعه بشكل لا يمكن إنكاره في صدارة قائمة المفكرين المحظورين.
   في البيئات المتحضرة، سيكون لكل شخص الحق في اللجوء إلي المحكمة عندما يتم نشر أو عرض المواد المسيئة بأي شكل من الأشكال، أو إنتاج ما يعتقد أنه تمثيل للواقع، ولكن في اللحظة التي نبدأ فيها "آلية الحظر"، سنطلق جوًّا من شأنه أن يعيد البشرية إلي ظلمات العصور السابقة لعصر النهضة. هناك عشرات الأسئلة الصعبة التي تحتاج إلي إجابة من أولئك الذين يريدون تجسيد القوانين ضد أي عمل يعتقدون أنه يمثل الإهانة لشخصيتهم المقدسة أو نصوصهم. ولقد علمنا التاريخ أن قوانين التكفير تؤدي إلي الديكتاتورية والديمقراطية.
   هل يدرك أولئك الذين يهدفون إلي فرض قوانين التكفير ما هي عواقب مثل هذه القوانين وما هي آثارها المميتة علي الأمم والإنسانية؟
   من يقرر ما هو النقد، وما هي السخرية، وما هو الإلحاد؟ هل ينطبق هذا علي جميع الأديان علي الرغم من اختلافها مع بعضها البعض؟ هل ستحظر الأديان التي تحتوي علي نصوص تكفيرية للأديان الأخرى بموجب قانون التكفير؟ هل ستكون الاكتشافات العلمية لكوكبنا وعلاقته بالكون كُفرًا إذا كانت تتناقض مع الكتب المقدسة القديمة؟ هل تعتبر نظرية داروين للتطور إلحادًا؟ هل يعتبر عدم الإيمان بأي ديانة سببًا للإلحاد؟ اقترح قادة الإخوان المسلمين في الوقت الذي حكموا مصر واشترطوا في صياغة الدستور أن كلمة "دين" تعني فقط الأديان الثلاثة اليهودية، والمسيحية، والإسلام، كما أنه يجب أن يوضح أن كلمة الإسلام تعني الإسلام السني فقط.
   وعليه، يجب تجاهل المسائل المقدسة لنصف البشرية أثناء إعداد القوانين المطلوبة! يتساءل المرء ما يمكن أن يقوله المسيحيون في جميع أنحاء العالم عن سخرية الكثير من المسلمين تجاه عقيدة الثالوث، الذي هو جوهر إيمانهم.
   ماذا يقول العالم عن وجهات النظر التي عبر عنها كثير من المسلمين فيما يتعلق بعبادة الكثير من البشر "للبقرة" والتي تضم مئات الملايين من المؤمنين بعبادة البقر! كان هؤلاء القادة يسعون إليها خلال الدورة العادية السابعة والستين للجمعية العامة للأمم المتحدة (نيويورك، سبتمبر 2012م)، أو ربما كانوا يقدمون مثل هذا الطلب العبثي فقط لإرضاء الجماهير بدلًا من تحولهم إلي العقلانية، أليست هذه حالة من الفوضى أو علي وجه التحديد فوضى تافهة! وأخيرًا: هل كلمات مثل "البدع"، و"الكفر"، و"الكفار" تنتمي إلي القرن الواحد والعشرين أو القرن الحادي عشر الميلادي!؟
 
الديمقراطية سبيل الخلاص:
   الخطوة التالية هي أن يقوم قادة حركات الإسلام السياسي بتطوير فهم أفضل للديمقراطية بين أتباعهم ويؤمنون بها بقوة. إنهم بحاجة إلى فهم الديمقراطية باعتبارها عملية متميزة عن الشورى (التشاور)، علي الرغم من عدم وجود تناقض بينهما، إلا أن الشورى ليست سوى جزء من الكل أي الديمقراطية.
   بالنسبة لأولئك الذين يعتبرون ذلك إهانة للإسلام، أود أن أشير إلي أنه بينما صحيح أن الإسلام تحدث عن الشورى ولم يتحدث عن الديمقراطية، فإنه صحيح أيضا أنه تحدث عن الحيوانات كوسيلة نقل ولم يتحدث عن السيارات والطائرات. فالهدف من رسالة الإسلام لم يكن التنبؤ بإنجازات المستقبل مثل: الديمقراطية، والطائرات، وحقوق الإنسان، والليزر، والتقدم الطبي، ونظم الإدارة المدنية، وتكنولوجيا المعلومات، وغيرها.
   قادة الحركات السياسية الإسلامية بحاجة إلي تربية جيل جيد من الأجيال الذين يعتقدون أن الأمة هي مصدر السلطة، وأن الدستور هو القانون الأعلى للقوانين الوضعية، وأنه في هذا اليوم وفي هذا العصر لا يمكن قيادة المجتمعات من قبل رجال الدين (خاصة عندما لا يسمح الدين لطبقة من رجال الدين بالعمل كوسيط بين الإنسان والله)، ولكن من خلال أحدث الاكتشافات في العلوم والإدارة والأفكار وتكنولوجيا المعلومات.
   حتى علي الأقل بفصل بعض هؤلاء القادة عن النهج العقائدي في الدين الذي ابتلي به العقل المسلم لأكثر من ألف سنة، وما لم يتمكنوا من تكوين أجيال قادرة علي فهم أن الأمة هي مصدر كل السلطة وأن المجتمعات لا يمكنها إلا أن تدار بالإدارة والعلم، لا ينبغي لنا أن نندهش بأن نجد أعضاء شبابًا من الحركات الإسلامية التي تحاول تشكيل الميليشيات في محاولة منهم لحكمنا بالعواطف الجياشة، والأصوات الحادة، والقوة الغاشمة غير المدربة بدون عقل أو منطق سليم.
   هذه هي السمات الرئيسة للتيار السائد من الإسلام المتعصب.
   ولكن هل مثل هذا التيار يصل إلي هذه الدرجة من القوة، والنفوذ من دون راع قوي وأمين؟
   الجواب هو "بالتأكيد لا".
   هل وجدت رعاية مناسبة؟
   نعم بالتأكيد.
   حاليًا التيار الذي يهدد حجر الزاوية للإنسانية، والتقدم، والحداثة يحظى برعاية جيدة؛ كانت من راعٍ يجلس علي أكثر من ربع الاحتياطيات النفطية المتبقية للعالم بأسره.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
الفصل التاسع
الراعي
 
أولًا– الملك والسيف:
في نوفمبر 2007م قدم ملك المملكة العربية السعودية للبابا سيفًا خلال زيارته للفاتيكان، وقد دفعني اختيار العاهل السعودي لهديته أن أتخيل كتابة الرسالة التي كان من الأفضل أن تسلم للبابا لو أن مستشاريه كانوا علي دراية بالثقافة والعقلية الغربية لتكون علي النحو التالي:
   "قداستكم... وباسم المملكة العربية السعودية التي يشرفني أن أمثلها، وباسم الإسلام الذي يشرفني أن أنتمي إليه، أحمل إليكم تحيات السلام. وفي الواقع، فإن كلمة "إسلام" باللغة العربية هي عبارة عن جناس لكلمة "سلام" بالنيابة عني، وبالنيابة عن الشعب الذي أمثله، أقول دعوانا نشرع في حقبة جديدة تقوم علي الاحترام المتبادل؛ حقبة لا يؤذي فيها أي من الطرفين مشاعر الآخر، وكلاهما يمتنعان عن العدوان، ضد بعضهما البعض، المعنوي أو المادي، المباشر أو غير المباشر.
   أدعوكم وعلي الجانب الآخر أتعهد بأن لا يجوز اللجوء إلي العنف أو الإكراه أو استخدام السيف ضد أي دين أو أتباعه، وإن كان يحق لهم دعوة الآخرين إلى عقيدتهم، علي أن يكون ذلك باللجوء إلي الإقناع والاستدلال لإقناعهم بمزايا الإيمان الذي ينتمون إليه بدلًا من العنف. أنا هنا لأعلن اليوم أن "الجهاد" لا يعني إلا الدفاع عن النفس ومقاومة العدوان، ولكن ليس الشروع في النزاع، أو محاولة لإجبار الآخرين باعتناق ديننا عن طريق العنف. لا يوجد شيء مثير للشفقة أكثر من دين لا يستطع كسب قلوب وعقول الناس إلا من خلال استخدام العنف. كما أحث جميع الأطراف علي أن يكونوا أكثر اهتمامًا بنوعية اتباع كل دين من معاناتهم في هذا الصدد. هناك الكثير مما ينبغي عمله لديننا العظيم لتحسين وتعديل سلوك المؤمنين.
   أدعوكم وأدعو أتباعنا إلي الامتناع عن السخرية أو إهانة "الآخر" والاستخفاف بمعتقداتهم أو تحقير نصوصهم المقدسة.
   وأدعوكم وأدعو من أمثِّل لدخول حقبة جديدة يتمتع فيه الجميع بحرية المعتقد، وحرية العبادة، وحرية بناء دور العبادة في أي مكان في أي وقت. بما أن نبي الإسلام محمد صلي الله عليه وسلم رحب بمسيحيي نجران (في جنوب غرب شبه الجزيرة العربية) عندما جاءوا إليها، وسمح لهم بالصلاة في مسجده، الذي يعرف الآن باسم المسجد النبوي الشريف في المدينة المنورة، أعلن أمامكم أننا سنبدأ فصلًا جديدًا من التعامل مع غير المسلمين كإخواننا في الإنسانية.
   سأدعو جميع المسلمين في العالم إلي النظر إلي مصطلحات مثل دار الحرب ودار السلام لتكون نتاج حقبة تاريخية لعصر مضى ولم تعد قابلة للتطبيق اليوم، وإننا لنطمح الآن إلي عالم لا ينقسم إلي معسكرات الحرب ومعسكرات السلام. ترحب مساجدنا بكل من يخطو أبوابها، وديننا دين متين لا يجبر أي شخص علي أن يبقى سجينًا من مبادئه – قداستك– لقد اخترت اثنتين من الهدايا لتقديمها لكم اليوم: واحدة هي نخلة ذهبية ترمز إلي تاريخنا وبيئتنا، والأخرى مخطوطة قديمة للكتاب المقدس تعود إلي قرون عديدة. لقد رفضت اقتراحًا بتقديم سيف لنيافتك، لأن السيف أولًا لا يمثل أحد رموزكم التاريخية.
   وثانيًا، لا نريد الرسالة التي تحمل غموضًا إلي علاقتنا المستقبلية، ستبذل بلادي قصاري جهدنا لضمان أن يشعر الأجانب في أرضنا، في المستقبل، بأنهم موضع ترحيب، وأنهم يتمتعون بكرم الضيافة والتسامح بكل معنى الكلمة، بما في ذلك الحق في الصلاة والعبادة في الكنائس أو المعابد وفقًا لمعتقداتهم. إن مشهد أبراج الكنائس أو قباب المعابد التي ترتفع أمامنا لن تؤذي مشاعرنا، تمامًا كما أن رؤية مآذن المساجد في أوروبا، وأمريكا، وكندا، وإريتريا لا تؤذي مشاعر غير المسلمين هناك. أتعهد أمامكم بأننا سننظر في القريب العاجل في عدم تطبيق القوانين المستمدة من ديانتنا علي معتنقي الديانات الأخرى.
   دعونا نبدأ حقبة جديدة من قبول الآخر، والتسامح، وتعزيز مفهوم "النسبية" في منطقة المعتقدات الدينية، أي لا ندع أي شخصٍ علي وجه الأرض يتصرف كما لو كان دينه هو الأوحد والحقيقة المطلقة، مع اعتقاده أن جميع الأديان الأخرى علي خطأ كامل بالنسبة له.
   دع الله يقرر الأمور التي لسنا مطالبين بها ولا مطالبين بأن نقلق عليها، حيث يتوق كل هؤلاء إلي تحطيم معتقدات الآخرين، فأدعوكم وجميع من أمثلهم لدخول حقبة جديدة من التسامح وقبول الآخر والاحترام المتبادل. "أود أن أغتنم فرصة هذا الاجتماع لاقتراح تشكيل لجنة مؤلفة من أفضل علماء الدين من جميع الأديان، ليس فقط من الأديان الإبراهيمية الثلاثة العظيمة، ولكن كذلك من جميع الأديان الأخرى، لمراجعة المناهج التعليمية في جميع أنحاء العالم، من أجل تحقيق الأهداف التالية:
-         إزالة أي من المواد الهجومية أو الضارة المدونة بالمناهج الدراسية ضد معتقدات الآخرين.
-         إزالة المواد التي تزرع بذور التعصب الديني من المناهج الدراسية والشعور بالتفوق علي الديانات الأخرى.
-         إزالة المواد التي تثبط التسامح وقبول الآخر واستبدالها بمواد تعزز الإعجاب بالتنوع والاختلاف باعتبارها أهم سمات الحياة والمصادر الرئيسة لثرائها وجمالها من المناهج الدراسية.
   اسمحوا لي الآن أن أقدم لقداستكم مع شجرة النخيل الذهبية مخطوطة العهد الجديد التي يعود تاريخها إلي انتشار المسيحية في منطقة نجران، إحدي محافظات المملكة العربية السعودية الهامة اليوم".
   وهذا إذن هو الخطاب الذي لم يقدمه الملك، والذي كان يمكن أن يساعد علي دخول حقبة جديدة من التعاطف والتفاهم بين الشعوب من جميع الأديان.
 
ثانيًا– التحصين ضد الكراهية:
   إن علم اجتماع قبائل شبه الجزيرة العربية هو المفتاح لفهم الشخصية العربية والعقلية، وعدم التسامح مع "الآخر".
   من أجل تتبع السمات التاريخية لتلك العقلية، والتعصب، يجب أن نحاول تخيل طريقة الحياة في المناطق النائية الداخلية للمناطق الشرقية من شبه الجزيرة على مدى القرنين الماضيين.
   لماذا المناطق الشرقية وليست الغربية؟
   سنشرح ذلك بعد تقديم مسح بانورامي للخصائص التاريخية للشخصية والعقلية للقبائل التي تسكن المناطق الشرقية من شبه الجزيرة العربية، وعلي وجه التحديد القبائل في المناطق النائية، دون المناطق الساحلية.
   أستاذ في قسم دراسات الشرق الأوسط في إحدى الجامعات الغربية الرائدة يقول: في معظم الأوساط الأكاديمية هنا في الولايات المتحدة، نحن نعتبر أن من المسلم به أن كراهية العرب للغرب هي نتيجة لتدخل القوى الغربية في حياة الشعوب العربية، بدءًا من استعمار الجزائر في 1830م، ومصر في 1882م، والمغرب في 1912م، وغيرها من الدول.
   في الواقع، فإن كراهية شعوب المنطقة للاستعمار هي ظاهرة صحية ومشروعة في حد ذاتها؛ ولا يعني بالضرورة الكراهية لكل ما هو غربي أو التقدم الغربي. وفي الواقع، تمكنت البلدان ذات التراث الثري من الحضارة والتاريخ مثل: مصر، وسوريا الكبري، والعراق من الجمع بين كراهية الاستعمار والإعجاب الصادق بالتقدم، مما يظهر فهمًا حقيقيًّا بـ"التقدم" باعتباره متميزًا عن "الطابع الغربي" وإظهار الوعي الاجتماعي المكرر والمستنير، وكان البديل هو أن نعجب بصورة عشوائية بكل من الاستعمار والتقدم بوصفهما كيانًا واحدًا، وهو ما كان وسيكون ظاهرة مُهينة ومُشينة لا يمكن أن تؤدي إلَّا إلى موت الكثير من الأشياء العزيزة علينا.
   ومع ذلك، سيكون من الخطأ افتراض أن جميع البلدان في المنطقة متشابهة. وهذا ينطبق علي المجتمعات ذات التاريخ الغني بالثقافة والحضارة، والأماكن التي سبق ذكرها، فضلًا عن الآخرين في المغرب العربي (المغرب، وتونس، وليبيا)، ويليها بدرجة أقل المناطق الساحلية في شبه الجزيرة العربية، والوضع الجيوسياسي (الجغرافي السياسي) مما جعلها أكثر انفتاحًا علي العالم الخارجي من تلك التي تقع في البقاع البدوية في المناطق النائية.
   لا يمكن للوضع الجغرافي السياسي القاسي لهذا الأخير إلا أن يؤدي إلي عقلية قبلية متحجرة وغير مرنة وعقلية متعطشة لرفض "الآخر" (أيًّا كان هذا "الآخر") بطريقة معادية.
   إن تاريخ الكراهية لهذه المجتمعات الصحراوية تجاه أي شخص يختلف عنه في الدين أو الفكر هو أمر معروف للجميع. علي عكس ما قد يعتقده البعض، فإن هذا العداء ليس نتيجة للشكل الحنبلي للإسلام (ولا سيما تفسير ابن تيمية) (1)، ولكن هذه المدرسة الجامدة التي رفضها العالم الإسلامي ككل رفضًا قاطعًا لم تجد سوى القبول في هذه المنطقة المقفرة. في الواقع، لأكثر من ألف سنة، لم تجد الأفكار والمراسيم التي طرحها ابن تيمية والتي تحض علي القسوة، والتعصب، والكراهية لغير المسلمين أي صدى في مصر، وسوريا، والمغرب العربي؛ لأن أحفاد هذه الحضارات المتطورة جدًّا لا يقبلون العزلة عن بقية الجنس البشري؟
   في الواقع، علي مدى القرنين الماضيين، كانت القبائل التي تعيش في المناطق الشرقية من شبه الجزيرة العربية تعيش حياة رعوية علي عكس الحياة المستقرة والتجول في البحث عن المراعي والمياه.
   ونتيجة لأسلوب الحياة هذا، لا يُمكن فهم موقف رجل القبائل العربي الذي يعيش في تلك المناطق تجاه مفاهيم مثل: الولاء، والموضوعية، والحياد، بمعزل عن علم اجتماع الحياة البدوية، ونمط ثقافة القبائل البدوية التي أجبرتها بيئتها علي التحرك باستمرار بحثًا عن القوت، والولاء غير المشروط (المحفوظ) للشيخ (المسن) من القبيلة، والموضوعية هي مفهوم غريب، والحياد شبيه بالخيانة. وكما أشار الناقد المصري البارز جلال العشري في رسالته حول الإبداع العربي، فإن المنطقة الإبداعية الوحيدة التي برع فيها العرب كانت الشعر(2). لم ينتجوا مسرحيات، أو روايات، أو ملاحم، أو موسيقي، أو أشكالًا إبداعية أخرى مثل اليونانيين، وقبلهم، المصريين، والسومريين.
   إن الشعر الذي يتألف من الشعراء القادمين من المناطق الشرقية لشبه الجزيرة العربية هو مرآة تعكس نظام قيم القبائل في المنطقة، وأصولهم، ومخاوفهم، وسلوكهم، وتفكيرهم، وتقانيهم في تمجيد هذه القيم القبلية، وظلت الصورة التي يعكسها شعرهم علي حالها منذ قرون.
   قصيدة مكتوبة بالعربية الكلاسيكية علي مدى عشرة قرون من قبل شاعر من نجد اليوم تعكس نفس القيم ورؤية كتبها شاعر يعيش في نجد.
   فمعظم الشعر القديم والجديد في المنطقة، يدور حول موضوعات رئيسة هي الكبرياء والتفوق البدوي لمنتصر دائمًا، ولم يهزم أبدًا، الذي لا ينحني لأحدٍ ويقف عاليًا فوق كل الآخرين.
   في الواقع في اللغة العربية أن كلمة نايف، وهي كلمة تعني "النبيل"، ومنها نواف وناف، وهذه هي الرسالة التي جاء فيها أن آلاف القصائد التي قام بها شعراء من نجد، والإحساء، والقصيم، قد حاولوا أن ينقلوا اللغة العربية منذ ظهورها إلي حيز الوجود بشكلها الحالي وحتى يومنا هذا. وعلم الاجتماع يلخص هذه النظرة إلى الحياة التي يعكسها شعر القبائل البدوية والعقلية العربية القبلية التي تشكلت في الصحاري الداخلية من شبه الجزيرة العربية الشرقية، والتي تولت قيادة الحياة الفكرية في المجتمعات العربية والمسلمة بالعقلية القبلية المولودة في الجزء الشرقي القاسي لشبه الجزيرة العربية تختلف من مجتمع إلي آخر بما يتناسب مع التراث التاريخي والثقافي لكل مجتمع، ووفقًا لمبادئه السياسية والظروف الاجتماعية والاقتصادية.
   وهكذا، في حين كان تأثيرها شديدًا في المناطق الداخلية لشبه الجزيرة العربية، فقد كان أضعف في المدن الساحلية من شبه الجزيرة، وأضعف في مجتمعات مثل: مصر، والمغرب، وسوريا، والعراق، والهند، التي تتمتع بتراث أكثر ثراء بالتاريخ، والحضارة، والثقافة من شبه الجزيرة العربية.
   ومع ذلك، فإن نظرة العالم البدوي الذي ترعرع في الصحاري القاحلة لشبه الجزيرة العربية، والتي تم التعبير عنها في الشعر الذي يُشعر به شعراء المنطقة، هو أهم مفتاح لفهم طرق التفكير السائدة في العديد من المجتمعات العربية والإسلامية. إن نمط الثقافة الذي شكل وجهة نظر العالم البدوي يتناقض كليةً مع مفهوم الدولة، فالولاء لشيخ القبيلة شخصي بطبيعته، بينما الولاء للدولة هو فكرة أكثر تجريدية.
   وفي نظام القبيلة، فإن طاعة ورغبات وتعليمات الشيخ هي نظير التزام المواطن الحديث بالتقيد بالقواعد الدستورية والقانونية للدولة. وفقًا لعلم اجتماع العقلية القبلية، والتي تم وصف خصوصياتها بشيء من التفصيل هنا أعلاه، ينظر إلى "الآخر" علي أنه عدو أو في أفضل الأحوال عدو محتمل لتحييده.
   في نظام الدولة الحديثة، من ناحية أخرى، يعتبر "الآخر" تعبيرًا طبيعيًّا عن تنوع الحياة، ولا يستلزم الرفض ولا العداء.
   وفي البيئة القبلية، لا يمكن أن يكون هناك نقاش حول قضايا مثل: التنوع وقبول "الآخر"، والانخراط في النقد الذاتي وقبول النقد، والطابع العالمي للمعرفة أو الاعتراف بأنه الإرث الجماعي للإنسانية باعتبارها كلها، ثمار الدولة الحديثة التقدمية المتحضرة.
   وبالفعل فإن مفهوم الإنسانية ذاته غريب علي المجتمع القبلي إذا كنا نقترض من نظرية الفيلسوف الكبير ابن خلدون(3) حول التمييز بين المجتمعات المدنية والبدوية (4)، يمكننا القول أن العقلية الإسلامية المعاصرة (وليس الإسلام نفسه) – مشروطة بنوع من الإسلام كما هو مفهوم، قديمًا– انتشر علي مدي نصف القرن الماضي من قبل القبائل البدوية التي تعيش في الصحاري الداخلية لشبه الجزيرة العربية الشرقية.
   بالنظر إلي أن معظم المراكز والمدارس الإسلامية التي أُنشئت في أمريكا الشمالية، وأوروبا، وأستراليا، وفي مناطق غير مسلمة في آسيا وأفريقيا، تم إنشاؤها بمبادرة، وبتمويل من ممثلي هذه العقلية القبلية المعزولة، فليس من الصعب أن نفهم لماذا يري العالم اليوم نفسه مضطرًا إلي مواجهة كبري بين الإنسانية والإسلام.
   لكن الحقيقة هي أن المواجهة هي بين الإنسانية ونموذج للإسلام يتم تقديمه وتمويله ونشره من قبل العقلية البدوية أو النجدية.
   السبب إذن، التركيز علي المناطق الشرقية الداخلية في شبه الجزيرة العربية بدلًا من التركيز علي المناطق الساحلية الشرقية ومنطقة الحجاز(5)، هو أن المناطق الداخلية هي البوتقة التي تم فيها صياغة أفكار الوهابية نموذج للبنية الفوقية (الفكر) المولودة من بنية تحتية محددة (السمات الجيوسياسية والاقتصادية لصحراء نجد)؛ لا يمكن لأتباع هذه الأفكار أن يتصوروا أنه ما من مكان آخر علي وجه الأرض كان سيحتمل مثل هذه المعتقدات.
 
"الدم الدم، والدمار الدمار":
   وقد وضع مؤسس الوهابية محمد بن عبد الوهاب الخطوط العريضة لمنهجه الفكري قبل 1798م، وهو العام الذي شهد أول مواجهة مع الغرب في العصر الحديث، أي حملة نابليون في مصر(6).
   تعرضت الدولة السعويدة الوليدة لحملة عسكرية علي يد الأمير المصري إبراهيم باشا سنة 1818م، كما اصطدمت الدولة السعودية الثانية مع الحداثة والحضارة الحديثة، وكانت هناك إشكالية ليس فقط في التعامل مع غير المسلمين، ولكن أيضًا في المسلمين الذين لم يتبعوا نفس المبادئ.
   لم يرَ المسلمون المصريون أو السوريون شيئًا خاطئًا في الغناء، علي سبيل المثال، كانت الوهابية الأولى والثانية تعتبر أنه لا فرق بينهم وبين الكافر. وعندما حاربت جماعة الإخوان المسلمين الملك عبد العزيز بسبب أنه سمح بظهور علامات الحضارة الحديثة، مثل الإذاعة والسيارات، والأجانب في المملكة كانوا ببساطة يفسحون السبيل أمام العقائد والمعتقدات القديمة لنظام الفقه، والتي لم يكن لها مكان في العصر الحديث، ولا يوجد لها أي مكان إلا فيما بين التضاريس والمعالم الجغرافية التي فرضت عزلتها.
   لم يكن محمد بن عبد الوهاب بأي حال من الأحوال فقيهًا بل كان مجرد داعية يسعى إلي التحول إلي النموذج النجدي للإسلام. عندما تم تشكيل التحالف بين محمد بن سعود (7) ومحمد بن عبد الوهاب، حيث وافق الأول علي الحكم وفقًا للعقدية التي بشر بها الأخير، أدت الشراكة بين الرجلين إلى أول تجسيد للدولة السعودية الأولى ما اعتبرته ممارسات جنونية، بما في ذلك بناء المقابل والموسيقى، والغناء، والرقص، وأي مظهر آخر لما وصفوه بالسلوك غير الإسلامي. كان مُعتنقو الأديان الأخرى يُكرهون ويُحتقرون علي أنهم "نجس"، وكانت هذه هي شكل من أشكال الكراهية للأجانب فقد بصق الإخوان أعضاء المذهب المتطرف من الحركة الوهابية الأصلية علي المستشارين الأوروبيين الذين أحضرهم الملك عبد العزيز في بداية القرن العشرين، واعتبر وجود غير المسلمين علي الأرض المقدسة في شبه الجزيرة العربية تدنيسًا، وكذلك أي تلميح إلي الحداثة حتى عندما يتعلق الأمر بأمور ليست ذات قيمة مثل شكل اللحى والشوارب...
   بالنسبة لعلماء الوهابية، فإن التفسير الصحيح الوحيد للإسلام يكمن في المذهب الحنبلي – الذي أسسه أحمد بن حنبل ومزيد من الإضافات من قبل اثنين من تلاميذه الرئيسين، هما: ابن تيمية، وابن القيم الجوزية– علي الرغم من إنها في رأيي أضعف مدارس الفقه السني (الحنفي، والمالكي، والشافعي، والحنبلي).
 
ثالثًا– الشاب السليل (الحفيد):
   بعد هزيمة إبراهيم باشا للبدايات الأولى للوهابية دخل السعوديون مع شركائهم الوهابيين في تحالف مع عائلة الرشيد، التي حكمت المنطقة الشرقية من شبه الجزيرة العربية من مركزهم بحائل.
   واستمر التحالف بين الرشيدين – الذي كانوا في السابق– للدولة السعودية الثانية منافسين شرسين حتى انقلب الراشدون ضد عائلة سعود وأرسلوهم إلي المنفى في الكويت في 1891م، وفي عام 1901م استرد الشاب سليل الأسرة السعودية، عبد العزيز بن عبد الرحمن بن فيصل آل سعود، المولود في 1875م - والذي يتمتع بصفات القيادة- الرياض في غارة ليلية.
   من عام 1902م حتى 1925م شن حملة أخرى أخرى لتأكيد سيطرته علي شبه الجزيرة العربية، وبعد الاستيلاء علي مكة المكرمة ثم المدينة في 1925م، أعلن نفسه حاكمًا علي نجد وغيرها من المقاطعات المعروفة الآن باسم المملكة العربية السعودية في مسيرة تاريخية لا مثيل لها في التاريخ، فإن تصرفات، وسياسات، وأقوال، وأعمال عبد العزيز بين عامي 1902م، و 1925م لم تؤكد فقط صفاته القيادية الاستثنائية، ولكن أيضا فهم مفصل لطبيعة السلطة، من حيث القيمة المطلقة كما تمارس من قبل القوى العظمي، سواء الإمبراطورية العثمانية، أو الإمبراطورية البريطانية، أو الإمبراطورية التي كانت ستظهر لاحقًا، إلا وهي الإمبراطورية الأمريكية.
   لعب عبد العزيز بن سعود دوره بمهارة كبيرة، مستخدمًا كل فطنته لتحقيق الهدف الذي رسمه لنفسه خلال سنوات المنفي في الكويت كضيف لعائلة الصباح بشكل عام.
   قبل وقت طويل من استخدام الأمريكيين للإسلاميين خلال الحرب الباردة لمساعدتهم علي هزيمة الإمبراطورية السوفيتية (خاصة بعد الغزو السوفيتي لأفغانستان عام 1979م)، استخدم عبد العزيز بن سعود الإسلاميين لتعزيز سلطته.
   انتهت العلاقة التكافلية بين عبد العزيز والإخوان في عام 1930م بمعركة شرسة بين الحلفاء السابقين، عندما قام السعوديون بقيادة الملك عبد العزيز بسحق الإخوان بقيادة فيصل الدعويش. كانت وجهات نظر الإخوان الدينية متطرفة لدرجة أنها اعتبرت أي علامة علي الحداثة أو التقدم من عمل الشيطان.
   وحيث إن تحالفهم مع ابن سعود تزامن مع فترة من التقدم العلمي الكبير، فقط كان لديهم الكثير من الرجس الذي يتعاملون معه: كل البرقيات، والسيارات، والهواتف، وأجهزة الراديو كانت تعتبر كلها خاطئة، وكل من لم يقاومها كافر، بالكفر.
   وكان هذا هو التعصب لهذه الجماعات المتطرفة المجنونة أن أحد أعضائها تقدم إلي السلطان (عبد العزيز بن سعود) مع زوج من مقص، وشرع في تقصير ثيابه علي مرأي ومسمع من حاشيته، وقاد سيارته عائدًا برسالة مفادها أن مبادئ الوهابية أقوى من سلطة السعوديين.
   علي ما يبدو أن الجلباب القصير هو عقيدة أساسية للوهابية، والفشل في مراعاة هذا المطلب الأساسي لأصحاب الطائفة هو جنون!
   أولًا: اعتمد عبد العزيز - واليًا، ثم السلطان، ثم الملك- علي الإخوان عندما احتاجهم إلي توسيع نفوذه؛ لأنهم كانوا مقاتلين شجعان مثل كل أولئك الذين يرحبون بالموت كجواز سفر إلي الجنة، ولكن كانت المشكلة أنهم كانوا لا يهابون مواجهة عبد العزيز عندما اعتبروه قد انحرف عن الطريق الصحيح.
   خلال سنوات تحالفهم المضطرب بشكل متزايد من عام 1912م إلي أن نجح عبد العزيز في تأكيد سيطرته علي معظم شبه الجزيرة العربية في عام 1925م، اندلعت اشتباكات عنيفة بينهما في كثير من الأوقات. لم يرضَ الملك بأي تحد لنفوذه كزعيم بلا منازع لمعظم شبه الجزيرة العربية.
   بالكاد كان لديه الوقت للاستمتاع بتوهج انتصاره الذي حققه بشق الأنفس علي الهاشميين وتوسيق سيطرته علي الأراضي التي كانت تحت سيطرتهم قبل أن يحاول الإخوان غل يده. تم القبض على زعيمهم فيصل الدعويش وسجنه، ومات في الأسر بعد عدة سنوات.
 
خامسًا: النتيجة:
   لكن السؤاال هو: هل نجاح الدولة السعودية عندما هزمت أعداءها كان بنفس القدر من النجاح في التخلص من المتشددين؟ هذا لا يعني بالضرورة التخلص من الأفكار التي طرحها إخوان نجد ضد استخدام السيارات، والبرقيات، وأجهزة الراديو، وتقصير الجلباب، وحلق الشوارب، وإطلاق اللحى. الحقيقة هي أن الدولة السعودية، سواء كانت في تجسيدها الأول، أو الثاني، أو الثالث، لم تكن أبدًا خالية من الآثار الضارة للعقيدة التي بشر بها الإخوان حتى يومنا هذا، لا يزال الفقهاء السعوديون ملتزمين برواية الإسلام التي طرحها ابن حنبل، وابن تيمية، وابن قيم الجوزية، علي الرغم من إنهم يحتلون مكانة أدنى بكثير من هؤلاء الفقهاء الشاهقين مثل: أبي حنيفة النعمان، ومالك بن أنس، وجعفر الصادق، وابن رشد (المعلم الثاني بعد أرسطو الأول) حيث اعتمد الفقهاء أمثال: أبي حنيفة، وابن رشد علي أدوات العقل والاستدلال الاستنتاجي، كان التجميع هو السمة المميزة لمدرسة المذهب الحنبلي، والتي لم تسمح بأي مجال للعقل أو التفكير المستقل، ولكنها أصرت علي التأويل التقليدي للنصوص المقدسة.
   وهكذا، في حين اعتمد أبو حنيفة علي الاستحسان (تفضيل استخدام القليل من التقاليد من خلال استخلاص واستنباط الأحكام من القرآن التي تضمنت أفكاره) وابن رشد علي التأويل (المنطق الاستنباطي) أصر ابن حنبل علي التفسير الحرفي للنصوص المقدسة.
   هذا أدي به إلي قبول أكثر من عشرة آلاف من حديث النبي، كما أنها ولدت مناخًا يحبذ التمسك بالتقاليد بشأن استخدام الملكات العقلية الانتقادية، وخلق أجيال من المتابعين والمقلدين، وقيادة المجتمعات الإسلامية إلي النقطة التي يجدون أنفسهم فيها اليوم: مهمشين من التاريخ والعلم ومسيرة التقدم البشري.
   لقد حول المذهب الحنبلي العقلية الإسلامية إلي متلقٍ سلبي للإجابات بدلًا من طرح الأسئلة، ناهيك عن السؤال الذي يؤدي إلى الانخراط في التفكير الانتقادي، المحرك الرئيس للتقدم البشري، وعلي الرغم من أن جميع رجال الدين الإسلاميين، منهم ابن حنبل، كان أكثر المؤيدين بشدة التمسك بالعقيدة والتقاليد، حيث لم يكن هناك مجال للاستدلال الاستنتاجي.
   وكان هذا نتاجًا طبيعيًا لزمانه. لقد كانت الفترة التي كانت فيها الإمبراطورية الإسلامية تترنح من هجمات المغول والتتار (8)، كانت سببًا لعدم إمكانية إلقاء اللوم عليه في الأفكار التي كانت مناسبة للعصر الذي عاش فيه. ولكن يقع اللوم علي أولئك الذين يعيشون في زمان ومكان مختلفين، ويركزون أفكارهم علي تلك التي تخص ابن حنبل والمأخوذة عنه.
 
 
 
1-    تصدير الكراهية:
   واليوم، لا زالت بعض الدول الإسلامية تقاوم تعليم المرأة وتوظيفها، وتتجاهلها البرامج التليفزيونية، وتحظر السائقات (9)، وتعتبر الموسيقى والغناء عملًا خاطئًا. المنطق الكامن وراء هذا لا يختلف كثيرًا عن واحدة من أبشع الجرائم التي ارتكبت في تاريخ الإسلام، وهي الاستيلاء علي المسجد الحرام في بداية القرن الخامس عشر بالتقويم الهجري. ويشهد الجميع علي استمرار تأثير أفكار الإخوان في المملكة، وكذلك الحظر علي تدريس الموسيقى والفلسفة في المدارس، ورفض تعيين النساء في مجلس الشورى أو في المناصب الوزارية وهناك أيضًا فيض من الفتاوى مستوحاة من هذا الفكر، مثل الفتوى التي تحرم إرسال الأزهار إلى المرضى! والسبب أن شراء الزهور لإرسالها إلي شخص مريض حرام (بدعة) لأنه العرف الذي نشأ في "البلدان الكافرة". "قد يبدو هذا تافهًا، لكن الأمر ليس كذلك؛ لأنه يكشف عن عقلية ترفض بشكل أعمي أي شيء يأتي من خارج حدودها الضيقة الخاصة.
   كما أنه يكشف عن التناقضات المثيرة للضحك المتأصلة في هذا النوع من الفكر... إرسال الزهور أُعلن أنه خطيئة؛ لأنه "لم يشكل جزءًا من الطريق الإسلامي علي مر القرون"! كما لو كان السفر بالطائرة، أو السيارة، أو استخدام الكمبيوتر – أو في الواقع، استخدام الأسلحة الحديثة المتطورة التي يستخدمها هؤلاء الناس ضد ما يسمي أعداءهم– كانت جزءًا من الطريق الإسلامي علي مر القرون" أي مسلم (خارج عالم ابن تيمية) لا يشعر إلا بالشمئزاز من العقلية التي يمكن أن تفسد هذا النوع من الحكم.
   وتشمل مصطلحات مثل: "هذا هو العرف الذي جاء إلينا من الدول الكافرة واعتمد من قبل أولئك من ذوي الإيمان الضعيف الذين وقعوا تحت التأثير..." عقلية تحارب الزهور، رمز الجمال، الخير، الصداقة، البراءة، والحب عبر جميع الثقافات؛ الزهور، والأسماء الموجودة في العديد من اللغات، التي تشير إلي مجموعة من المعاني الجميلة، ورقي مستوى. فقط الأفق والعقل الضيق لهذه القبائل البدوية قد ترغب في تحويل المسلمين إلى ثقافة الكارهين للزهور! إذا كانت هذه هي الطريقة التي ينظر بها هؤلاء الناس إلي غير المسلمين.
  فلا عجب أنه من وقت لآخر يجب أن يخرجوا أفرادًا مشوهين يطلقون النار بشكل عشوائي علي علامات الحضارة الحديثة وعلي الأجانب "الكفار" الذين "يدنسون" تربة شبه الجزيرة العربية (وصرحوا بأن الأسلحة التي استخدمت من صنع الكفار!).
   ولوقف هذا الجنون، يجب علي المؤسسة السعودية أن تتخذ موقفًا حازمًا ويفضل أن يكون مصحوبًا بحملة نفسية خلال النصف الثاني من القرن العشرين، أنفقت المملكة العربية السعودية مئات المليارات من الدولارات لنشر هذه العقيدة، التي تأثرت بعد ذلك بثلاثة عوامل خارجية: أفكار أبي الأعلي المودودي، العالم السياسي/ الباكستاني – الفيلسوف الذي أسس الجماعة الإسلامية هناك، والإمام المصري سيد قطب، ومدرسة السرورية في فرع الإخوان المسلمين السوري، لكن هذه العوامل لم تضعف جوهر الفهم الوهابي للإسلام.
   علي العكس من ذلك، وبسبب الفكر التبسيطي لمحمد بن عبد الوهاب بالمقارنة مع مدارس المودودي، وقطب، والسرورية، كانت هذه المبادئ هي التي استوعبها قطاع كبير من الجمهور في معظم الأحيان، ومن ثم ساعدت هذه الجماعات علي تعزيزها وتعاظم صفوف أتباعها.
   ومن أكثر التطورات التي أثارت الانزعاج في العقود الخمسة الماضية العقلية الوهابية امتدت إلي مؤسسات إسلامية في دول مثل: مصر، وتونس، والمغرب، وسوريا، مما أدي إلي تآكل معالمها الأصلية والاستعاضة عنها بنظامه. وفي الماضي كنا نعلم عندما نستمع إلى خطبة الجمعة في مصر أن المتكلم إما شافعي المذهب أو حنفي المذهب، وفي المغرب أو تونس أنه كان مالكيًّا، نسمع الآن لحنًا مختلفًا تمامًا.
 
ب – وجهان لعملة واحدة:
   علي الرغم من كل هذا، يجب أن يكون هناك تمييز بين الوهابية والعائلة المالكة، علي الرغم من أنها دخلت في الماضي في تحالف سياسي مع الوهابيين، إلا أنها لا تشارك بالضرورة وجهات نظرهم. في الواقع، لقد توصل آل سعود إلي نقطة تحول في علاقتهم بالتفسير الوهابي للإسلام وبقايا الإخوان. عندما اتضح أن معظم منفذي هجمات 11 سبتمبر 2001م كانوا مواطنين سعوديين، أدركت الأسرة السعودية أن الوقت قد حان للمواجهة. هناك، بعد كل شيء، سابقة تاريخية يمكن الاستناد إليها، وهي الموقف الذي اتخذه والد أميرهم الأكبر الملك عبد العزيز بن سعود، الذي تولى أمر الإخوان وهزمهم بشكل حاسم.
 
جـ- الاختيار الحتمي:
   ما نحتاجه اليوم هو أن السعوديين المعاصرين والمستنيرين يدركون أن مشكلتهم تكمن في معالجة عقلية مشوهة لا مكان لها في عالم اليوم، أو في أي مكان أو وقت. ليس من المناسب أن يكونوا مضطرين للعيش مع هذا النوع علي سبيل المثال مرسوم يحظر علي المرأة قيادة السيارة (بالفعل صدر مرسوم يسمح للمرأة السعودية بقيادة السيارة). في الواقع، لا يوجد نص قرآني يعرقل المملكة العربية من تشكيل كيان جديد يُختار كمصدر للفقه، ومثل هذا البرنامج سوف يشمل:
1-  مقاومة العناصر المتطرفة في البلاد.
2-  إبعاد المتطرفين عن المناصب المؤثرة في المؤسسات التعليمية.
3-  إبعاد المتطرفين عن المناصب المؤثرة في وزارة الأوقاف (الأوقاف الدينية)، والدعوة (الدعوة إلي الإسلام)، والحج.
4-  إعادة النظر في إلغاء نظام لجان الأمن الدينية التي ترعاها الدولة مثل المطوعين وجماعة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر – الذين يقومون بدوريات في الشوارع ويحملون عقابًا فوريًّا لأي انتهاك متصوَّر لسلوك إسلامي صارم. تلك الممارسات تتناقض كليًّا مع مفهوم الدولة الحديثة.
5-  تشجيع الأساتذة المعتدلين في الفقه الإسلامي علي وضع جدول زمني لتدريس الطلاب المصادر الحنفية، والمالكية، والشافعية، بدلًا من مصادر المذهب الحنبلي التي تستخدم الآن حصريًّا بحيث يتحول بمرور الوقت إلي مرحلة النضج الديني، الذي يدركون فيه أن عقيدة الوهابية ليست النموذج الوحيد أو حتى الرئيس للإسلام.
6-  شن هجوم علي المحرمات بشأن قضايا المرأة مثل تعيين الوزيرات وإشراك المرأة في مجلس الشورى، والسماح للنساء بقيادة السيارات، والسماح للمعلمين الذكور بتعليم الطالبات والمعلمات بتعليم الطلاب، من أجل تعزيز مناخ مواتٍ للتنوير والتقدم، بدلًا من مناخ الرجعية الحالية التي ليس لها ما يعادلها علي الأرض.
7-  خطة لتحويل المراكز الإسلامية في جميع أنحاء العالم بوصفها مرتعًا خصبًا للتعصب، والتطرف، والإرهاب إلي مراكز الخدمة المجتمعية.
   جدير بالذكر أن المملكة العربية السعودية قامت في الآونة الأخيرة بسلسلة من الإجراءات الإصلاحية، حيث تبني محمد بن سلمان ولي عهد السعودية، توجيهات انفتاحية فشهدت البلاد لأول مرة السماح للمرأة السعودية بالقيادة، ودخول الملاعب الرياضية، وتفعيل هيئة الترفيه، وتحدث بصراحة عن توجه السعودية لمكافحة التشدد الديني داخل الدولة – يعرف محليًا بالصحوة– ووصفه بأنه دخيل علي المجتمع السعودي.
 
 
 
 
الهوامش
ــــ
1-  ابن تيمية، تقي الدين أحمد "التفسير الكامل"، (بيروت، لبنان: دار الفكر).
2-  جلال العشري، ثقافتنا بين الأصالة والمصارحة – الحياة المصرية– الأمة للكتاب 1981م.
3-  العربية المسلمون متعددي الثقافات (1332– 1406 ميلادي)
4-  ابن خلدون، عبد الرحمن بن محمد، المقدمة متاحة في:
http//www.muslimphilosophy.com/ik/Muqaddimah/Table_of_Contents.htm
5-  غرب المملكة العربية السعودية.
6-  استمرت الحملة الفرنسية في مصر ثلاث سنوات من 1798م إلي 1801م.
7-  حاكم الديرية، وصهر محمد بن عبد الوهاب.
8-  إناس جاءوا من آسيا وقاموا ببناء إمبراطورية علي حدود القارة.
9-  وقت تأليف الكتاب لم تكن المملكة قد سمحت للمرأة بقيادة السيارة بعد.
 
 
 
 
 
 
 
 
الفصل العاشر
الهوية المصرية أمام الهوية الإسلامية
 
أولًا: الخلافة:
   في عام 1923م ألغي كمال أتاتورك (1) الخلافة العثمانية، وأعلن تركيا جمهورية، ولأن حلم الخلافة كان ولا يزال خيالًا متجذرًا في قلوب وعقول عدد كبير من المسلمين، أخذ مفكر مصري مرموق، هو علي عبد الرازق (2) علي عاتقه أن يطلعهم علي حقيقة أن الخلافة عبارة عن نظام سياسي وضعه البشر، ولم يكن له أساس في الدين.
   مرة أخرى لإحباط أولئك الذين أرادوا خلط الدين بالسياسة، كُتب كتابًا صغير الحجم، ولكنه ضخم القيمة، بعنوان "الإسلام وأُصول الحكم". كانت رسالة عبد الرازق في الكتاب الذي نُشر في عام 1925م أن الدين الإسلامي لم يحدد شكل الحُكم السياسي لكنه تركه للبشر لتحديده، تمشيً مع المبدأ: "أنت أكثر إدراكًا للشئون من عالمك".
   أثار الكتاب غضبًا شديدًا عندما نُشر، مع رد فعل أكثر عدائية من القوى التي كانت في ذلك الوقت، وهما الملك فؤاد والمؤسسة الدينية بالأزهر.
   باختصار، ما قرر الكتاب القيام به هو إثبات ذلك وقد ترك الإسلام شئون الحكومة للناس أنفسهم لتنظيمها.
   ويشير صاحب البلاغ إلي أن جوهر أي نظام سياسي هو:
   أولًا، طريقة اختيار الحاكم، وثانيًا، طريقة وقواعد الحكومة القائمة بالإدارة. وهو يثبت في كتابه أن الإسلام لا يصف طريقة اختيار الحاكم أو وضع القواعد التي تحكم كيفية إدارة الشئون الحكومية والإدارية. ويعتمد عبد الرازق علي الحقائق التاريخية لدعم ادعائه، مشيرًا إلي أن كلًّا من الخلفاء الأربعة الأوائل، المعروفين باسم الراشدين (الصحابة) اختيروا بطرق مختلفة جدًّا.
   تم انتخاب الأول، أبي بكر الصديق، في اجتماع لشيوخ العشائر بعد نقاش مطول وعلي الرغم من الثورة التي قامت بها عدة قبائل بقيادة سعد بن عبادة (3). كان اختيار أبي بكر لتولي الخلافة مبنيًّا علي ترشيحه من قبل النبي محمد صلي الله عليه وسلم في فترة مرضه لإمامة المسلمين في الصلاة.
   اختير الخليفة الثاني عمر بن الخطاب؛ لأن أبا بكر سماه خلفه، وفيما يتعلق بالخليفة الثالث عثمان بن عفان، فقد جاءت انتخاباته بطريقة مختلفة تمامًا، فعندما طُعن عمر بن الخطاب من قبل كوفي في المدينة المنورة – بجرح أدى إلي وفاته بعد بضعة أيام – رشح عمر مجلس من ست شخصيات إسلامية بارزة وطلب منهم اختيار واحد منهم كخليفة وأضاف أن ابنه عبد الله هو العضو السابع في المجلس، مع اشتراط أن له الحق في التصويت ولكن ليس له الحق في الترشيح لمنصب الخليفة.
   وبعبارة أخرى، عهد إلي عبد الله بن عمر بالتصويت في حالة تعادل الأصوات في الاجتماع الأول كان اختيار علي بن أبي طالب، ولكن بعد ذلك انتقل إلي عثمان بن عفان.
   الخليفة الرابع، علي بن أبي طالب تم تعيينه في خضم أسوأ أزمة في التاريخ الإسلامي: قتل عثمان علي يد المتمردين المعارضين لطريقة حكمه. كانت الأزمة، المعروفة باسم (الفتنة الكبري)، موضوعًا لعدد لا يحصي من الكتب ولعل أفضل كتاب يقدمه عميد الأدب العربي طه حسين كتابه "الفتنة الكبري" أو "الثورة العظيمة"، في الفصل الذي يحمل عنوان "عثمان، وعلي وأولاده". بعد إظهار أن الإسلام لا يحتوي علي قواعد محددة تنظم طريقة اختيار الحاكم، ينتقل عبد الرازق إلي موضوع آخر، وهو إثبات غياب القواعد المنظمة لتنظيم شئون الدولة. كما سبق ذكره، أثار الكتاب ردة فعل ساخنة عند نشره، خاصة من القصر والأزهر لأنهم أدركوا أن كتاب علي عبد الرازق وقف بينهم وبين تحقيق حلم هاجس الملك فؤاد في ذلك الوقت (بعد إلغاء الخلافة العثمانية): الحلم أنه سيصبح خليفة المسلمين. علي الرغم من الحقيقة التي لا تقبل الجدل وحكمة كل كلمة في كتاب علي عبد الرازق، فإن العديد من المسلمين، سواء بسبب مناخ تربوي ضعيف أو طموحات مستبدة من قبل البعض، ما زالوا يحلمون بهذا الكيان الخيالي "الخلافة" التي كانت من صنع الإنسان وليس أمرًا بموجب مرسوم إلهي.
 
ثانيًا– الهوية المصرية:
   إذا كانت هوية المرء تعتمد علي شيء واحد هو "أنا مسلم"، فهنا تكون المشكلة: في باكستان، في يوم من الأيام خلد بعض الأشخاص إلي النوم بهويتهم هنود مسلمين في اليوم التالي استُئصلت كلمة "هندي" لتصبح "مسلم فقط". أعني أن كل شخص في باكستان ذهب للنوم يوم 15 مايو م1947 كمسلم هندي استيقظ كمسلم فقط.
 
اختفاء كلمة "هندي":
   وفي هذه الحالة، لا يوجد ما يتمسك به المرء، باستثناء هوية المسلم شيء مشابه حدث للمصريين. أي شخص ذهب إلى جامعة القاهرة في عام 1935م وسأل أي شخص: "أخبرني من أنت في كلمة واحدة"، لكان ضحك بتعجب: "أنا مصري"، لكن اليوم قد يقال لك: "أنا عربي"، وقد يقال: "أنا مسلم"، وقد يقال: "أنا مصري"، هناك فرصة للحصول علي أكثر من إجابة واحدة، وقد تحصل أيضًا علي: "أنا مسلم عربي"، وآخر: أنا مسلم مسلم".
   لطفي السيد (4) هو الذي قال في 1930م المصري هو الذي ليس لديه تعريف لنفسه في كلمة واحدة، باستثناء قول: "أنا مصري": وقال: "أخبرني من أنت في كلمة واحدة، لا تعطيني جملة. إذا قلت لي: "أنا مسلم"، حسنًا، أنا عربي، جميل. لكن المصريين كانوا يقولون: "أنا مصري"، "هل كان هذا تناقضًا في النظرة الإسلامية أو القبطية؟ أبدًا كانوا أيضًا مسلمين طيبين ومسيحيين جيدين. لا يمكن تصور أن مسلمي الأجيال السابقة كانوا مسلمين سيئين، لكنهم لم يفعلوا ذلك".
   لدينا معضلة ما يمكن أن نأخذه من الغرب وما الذي لا نأخذه، وهذه معضلة في الوقت الحاضر قارن الكاتب الدرامي النرويجي الشهير "هنريك إبسن" هوية أي أمة ببصلة، بمعنى أن كلاهما يتكون من طبقات عديدة. إذا طبقنا هذا التشبيه إلي الهوية المصرية، الذي قدمه أحد أعظم الشخصيات الأدبية الأوروبية في العصر الحديث وأيده المفكرون الإنسانيون، والذي شبه فيه الهوية المصرية كالبصل، نجد أنه، يتكون من عدة طبقات. والعديد من هذه الطبقات يمكن أن نشبهه بمصر القديمة الطبقة الأولى (المصدر)، وهي الحضارة التي ازدهرت لما يقرب من ثلاثين قرنًا.
   وتستمد العديد من الطبقات الأخرى من العصر القبطي، عندما كانت مصر في مجملها مجتمعًا مسيحيًّا شرقيًّا، ثم هناك عدد لا يحصى من الطبقات التي مصدرها مصر الإسلامية والناطقة بالعربية. هناك العديد من الطبقات الأخرى المستمدة من مصر الحديثة التي حكمها مؤسسها محمد علي من 1805م إلي 1848م، والتي استمرت مملكتها لمدة تزيد قليلًا عن قرن بعد وفاته.
   وأخيرًا، هناك العديد من الطبقات التي كانت نتاجًا لموقع مصر الجغرافي كمجتمع متوسطي، وبشكل أكثر تحديدًا، كبلد في شرق البحر الأبيض المتوسط، ولهذه التركيبة المقدمة حقيقة تاريخية وجغرافية لا جدال فيها. إن التكوين المتعدد الطبقات للهوية المصرية، التي تشكلت علي مدى آلاف السنين، لا يحتوي علي أي تناقضات. فالعقل البدائي بنظرته العالمية أحادية الأبعاد سيشهد تناقضات مُعقدة في الظواهر.
   إن الهوية المصرية الثرية والمتعددة الطبقات، هي نتاج للتفاعل المثمر والتلاقح بين الحضارات والثقافات المختلفة، تتعرض اليوم لخطر جسيم، حيث إنها تواجه محاولات ممنهجة ومتعمدة لتدمير جوهرها ممثلة في العديد من الطبقات التي تشكل شخصيتها الفريدة، وهذه الطبقات هي التي تميز المجتمع المصري عن مختلف المجتمعات المحيطة بتكوين حضاري وثقافي فقير للغاية بسبب تركيبته الأحادية البعد.
   إن الإسلام السياسي كان علي أهبة الاستعداد لاستكمال الانقضاض علي كل مقاليد الحكم في مصر، هذه حقيقة من الحقائق المرة التي مرت بها مصر، ومع ذلك فإن هيمنة هذا الاتجاه علي المشهد السياسي والثقافي للبلاد يشكل خطرًا حقيقيًّا علي الطبيعة المتعددة الطبقات للهوية المصرية. بسبب قبضة المدارس المتحفظة للفكر اكتسبت المدارس الفكرة المحافظة عقول معظم المسلمين اليوم (مع انتشار واسع لأفكار ابن حنبل وتلاميذه، ابن تيمية، ابن القيم الجوزية وجميع المدارس السلفية).
   إن انتشار اتجاه ثقافي معارض للاتجاهات غير الإسلامية للهوية المصرية هو تطور محتمل – وخطير للغاية– نحن نسمع بالفعل عن نذير شؤم عن فظاعة الآثار المصرية القديمة، واحدة من أعظم الحضارات المجيدة في تاريخ البشرية. من المرجح أيضا أن نري انتشار القيم المعارضة للآخرين (أيا كان الشكل "الآخر")، الذي يمثل تهديدًا آخر خطيرًا جدًّا للهوية المصرية القائمة علي التنوع.
   كان هناك أيضًا الخوف الحقيقي من أن الاتجاه الإسلامي سيعيد تعديل البرامج التعليمية من أجل تعزيز البعد الإسلامي/ العربي علي حساب الطبقات الأخرى التي تشكل الهوية المصرية. هذا الاحتمال بعيد كل البعد عن كونه في سياق جميعة تشريعية يهيمن عليها اتجاه فردي. إن عقلية المشرعين الإسلاميين الذين كانوا يترأسون لجنة التعليم وقت قفز الإخوان علي الحكم في مصر كانت تعارض بالتأكيد التنوع الثقافي. ومما لا شك فيه أن هذا الاتجاه سعي إلي تضخيم أهمية البعد الإسلامي/ العربي مع تقليل جميع الأبعاد الأخرى التي تشكل الهوية المصرية. هذا فقط متوقع من برلمان ثيوقراطي (ديني) يدعي هيئة إلهية. لسوء الحظ، بدأ الاتجاه إلي تعزيز هوية أحادية البعد في الواقع قبل بضع سنوات، حيث أصبح التفكير الديني يتخلل عقول المسئولين في أهم قطاع في مجتمعنا ألا وهو التعليم. ويتجلى نجاح هذا الاتجاه أكثر وضوحًا مما كانت عليه في الطريقة التي تطورت بها مناهج اللغة العربية والأدب العربي خلال السنوات القليلة الماضية. وبدلًا من تقديم روائع أدبية من قبل الشخصيات المرموقة مثل أحمد لطفي السيد، وطه حسين، وعباس العقاد، وعبد القادر المازني، وسلامة موسي، وتوفيق الحكيم، ونجيب محفوظ، ويوسف إدريس، ونزار قباني، وبدر شاكر السياب، وميخائيل نعيمة، وآخرين، فدورات اللغة والأدب العربي حاليًا لا يمكن تمييزها تقريبًا من المقررات الدينية.
   الكاتب والمفكر اللبناني المعروف أمين معلوف يصف أية هوية أحادية البعد بأنها "مدمرة"، وفي هذا اليوم وهذا العصر، فإن الهوية المتجانسة التي تنسب نفسها إلي مصدر واحد لابد أن تصطدم بقيم التعددية والتنوع وقبول الآخر والتفكير الناقد، ناهيك عن مفهوم الإنسانية المشتركة، والاعتراف بأن مختلف الحضارات والثقافات ساهمت جميعها في المثل الأعلي للإنسانية المشتركة، والاعتراف بأن مختلف الحضارات والثقافات ساهمت جميعها في المثل الأعلي للإنسانية المشتركة.
   هناك من يدعون أن أسلمة المجتمع المصري تعكس "إرادة الشعب"، وأقول لهم إن التاريخ يعلمنا أن إرادة الشعب ليست دائمًا علي حق. قبل ثمانية عقود، جلبت إرادة الشعب الألماني أدولف هتلر إلي السلطة، وأغرقت البشرية في حروب الإبادة الجماعية والمذابح التي أودت بحياة أكثر من خمسين مليون شخص. هذا المثال يسمح لنا بانتقاد الموجة الثقافية التي حاولت أن تجتاح مصر، وهي موجة كانت تهدد بالانتشار أمام المكونات غير الإسلامية للهوية المصرية وتحويلنا إلي مجتمع ذي هوية أحادية البعد مثل المجتمعات الصحراوية المحيطة بنا حتى تلك الحالة قد نشأت "بإرادة الشعب"، فإنه من الأفضل لنا أن نتذكر، قول فولتير: "لا يزال الخطأ خطأ حتى لو كرَّره آلاف الأشخاص".
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
هوامش الفصل العاشر
ـــــــــــ
1-     مصطفي كمال اتاتورك الرئيس الأول لتركيا ومؤسس جمهورية تركيا (1881م- 1938م).
2-     (1888م– 1966م) العالم الإسلامي المصري والقاضي (2).
3-     من صحابة وأتباع النبي محمد، رئيس قبيلة بني الخزرج.
4-     مفكر وفيلسوف مصري، وصف بأنه رائد من رواد حركة النهضة والتنوير في مصر (1872م– 1963م).
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
الفصل الحادي عشر
مصر: الاستيلاء علي السلطة
التطورات السياسية الأخيرة في مصر
 
   كان سقوط مبارك أمرًا لا مفر منه، وذلك أساسًا بسبب تصميمه علي أن يخلفه ابنه جمال مبارك. تم رفض خلافة جمال مبارك من معظم المصريين ليس فقط بسبب طبيعتها المهينة – ابن رئيس الجمهورية يرث مصر كما لو كانت ملكية خاصة– ولكن أيضًا بسبب احتكاره للنفوذ والقوة وسيطرته علي الحياة السياسية بمصر وفي نوفمبر 2010م ارتكب فصيل جمال مبارك خطأ فادحًا عندما احتكر 98% من مقاعد البرلمان المصري.
   بعد سقوط مبارك، وقعت عدد من الأخطاء المميتة التي عززت جماعة الإخوان وأضعفت الليبراليين، وكان الخطأ الفادح الأول هو تفويض الإسلامي طارق البشري لصياغة التعديلات الدستورية التي أقرها استفتاء شعبي في 19 مارس 2011م. وبدلًا من البدء في الإصلاح الديمقراطي من خلال صياغة دستور ديمقراطي جديد، قررت اللجنة البدء في العملية ليس فقط بانتخاب برلمان جديد كان إسلاميًا بأغلبية ساحقة، ولكن بإعطاء هذا البرلمان الحق في صياغة الدستور.
(أ‌)               التعديلات الدستورية 19/3/2011م.
(ب‌)    الاعتماد علي عدد من المستشارين الإسلاميين، بمن فيهم عصام شرف، رئيس الوزراء لعدة أشهر.
(ج) الاندفاع غير المبرر، الذي يقوده المستشارون الإسلاميون، والذي اتسم بالانتخابات البرلمانية المبكرة، وأيضا بتجاهله التام للمادة التي ينص عليها الدستور، والتي تحظر الأحزاب السياسية التي لديها أجندة دينية، منذ انتصار الإسلاميين في نوفمبر 2011م وقفت المعركة أساسًا بين الإخوان، الذين أصبحوا علي ثقة مفرطة بأن مصر ستقع في نهاية المطاف في أيديهم، وأعضاء المجلس العسكري، الذين كانوا حريصين أساسًا علي حماية الجيش والمكتسبات المصرية.
   فعلي سبيل المثال أعلن الإخوان عن نيتهم تعيين شخصيات من الإخوان المسلمين لقيادة الجيش، وجهاز المخابرات، والأجهزة الأمنية، ووزارة الداخلية، بالتأكيد ليس تعيينهم بناء علي توصية من المجلس الأعلي، ولكن اعتمدوا بشكل رئيس علي أن يكونوا من الشخصيات المعروفة بتعاطفهم مع الإخوان المسلمين.  وقد استفاد الإخوان بشكل كبير عندما تم الضغط علي أحمد شفيق لترشحه للرئاسة المصرية. لم يكن من الصعب علي الإخوان إطلاق حملة من الاغتيالات ضد شفيق، الذي كان عضوًا في الدائرة الضيقة لمبارك بالإضافة إلى أنه رئيس وزراء مبارك الأخير. كان دعم إدارة أوباما للإخوان ذا قيمة كبيرة لمرشحها، وبالتوازي مع الدعم القوي لإدارة أوباما، كانت الصناديق القطرية الضخمة ذات دور فعال.
   علي الرغم من أن هناك شائعات بأن أحمد شفيق حصل علي المزيد من الأصوات، اختار المجلس الأعلي للقوات المسلحة إعلان فوز مرسي، ربما لتجنب عواقب مشابهة لما حدث في الجزائر منذ أكثر من 20 عامًا، ندمًا اندلعت حرب أهلية بعد أن ألغي الرئيس الجزائري نتائج الانتخابات البرلمانية عندما بدا أنها تؤيد الأغلبية الساحقة لصالح الإسلاميين.
   يقال إنه في حالة إعلان أحمد شفيق منتصرًا، لكان العنف قد انفجر في جميع أنحاء مصر. إن دعم إدارة أوباما للإخوان ينبع من فهم خاطئ للغاية لجدول الإخوان، الذي لم يتغير منذ إنشائه في عام 1928م.
   ارتكز هذا المشروع علي شيئين هما:
   أولًا: إلغاء النظام القضائي والقانوني برمته. والذي أدخل في مصر عام 1883م واستند إلي النظام القانوني الفرنسي (قانون نابليون)، وبدلًا من ذلك، قدم الإخوان نظامًا قانونيًا يستند إلي الشريعة الإسلامية، بما في ذلك تطبيق الحدود الشرعية.
   ثانيًا: إحياء الرؤية السياسية للخلافة، التي تهدف إلي توحيد جميع المجتمعات المسلمة تحت حكم واحد، علي غرار الإمبراطورية العثمانية التي ألغاها كمال أتاتورك منذ تسعين عامًا.
   إن رياح التغيير الحالية في الشرق الأوسط هي نفحة طيبة من الهواء النقي في المنطقة، ولكن التسرع في تعزيز الديمقراطية يمكن أن يُغرق المنطقة بعمق – في "الجانب المظلم"، وبذلك يصبح الإخوان المسلمون في السلطة بمصر، وسوريا، والأردن، وأماكن أخرى، في حين أن البعض في واشنطن مستعدون لمواجهة هذا الخطر، فإن العديد منا (من بينهم) الليبرالين يشعرون بالقلق، من العواقب الخطيرة غير المقصودة في المنطقة. تعتبر جماعة الإخوان المسلمين (التي تأسست في مصر عام 1928م) إنها منظمة راديكالية (متطرفة) عابرة للحدود تهدف إلي السيطرة علي العالم الإسلامي من أجل إقامة الخلافة، وكانت أفضل قوة سياسية منظمة في العديد من الدول العربية... سوف تكون هذه الخلافة، وهي دولة عسكرية دينية، قاعدة لشن حرب ضد الغرب الكافر. وبالنسبة لمجتمعاتنا، في الشرق الأوسط والعالم العربي، فإن حكم جماعة الإخوان المسلمين سيؤدي بلا شك إلى: حرية أقل، وزيادة ملكية الدولة، وفصل الطبقات، بالإضافة إلي حقيقة أن غير المسلم لا يمكن أن يصبح رئيسًا أبدًا، كما يمكن أن يؤدي ذلك إلي إعادة تطبيق العقوبات مثل: الرجم، والجلد، وقطع أيدي اللصوص.
 
من هم الإخوان؟
   أطلقت جماعة الإخوان المسملين في عام 1928م لاستعادة الخلافة، وهي حكومة دينية عالمية تهدف إلي نشر الإسلام ومحاربة "غير المسلمين" عارضت المجموعة وجود أي دولة علمانية في جميع المجتمعات الإسلامية في جميع أنحاء الشرق الأوسط.
   قتل الإخوان رئيس وزراء مصر محمود فهمي النقراشي في عام 1948م، ومجموعة من الجهاديين الإسلاميين تآمروا لقتل الرئيس جمال عبدالناصر في أوئل الخمسينيات، ونجحوا في اغتيال الرئيس المصري أنور السادات في 1981م، ومن اغتيال السادات حاول أتباع أسامة بن لادن قتل الرئيس حسني مبارك في 1995م، وفي الجزء الثالث من كتابه كتب المؤرخ المصري المرموق عبد الرحمن الرافعي، في أعقاب ثورة 1919م المصرية تحت عنوان "إيقاع الدماء والإرهاب" (1889م– 1966م): "المساهمة في الارتفاع الهائل في القتل ومعدل الجريمة هو اعتماد العناصر الإرهابية في مجتمع الإخوان المسلمين للعمل السياسي العنيف المسلح كوسيلة للإطاحة بالنظام السياسي، ولا شك أن الهدف من كل ما سبق ذكره هو الاستيلاء علي السلطة. ويتضح بنفس القدر من البيانات التي أدلي بها حسن البنا (1906م– 1949م) المرشد الأعلي لجماعة الإخوان المسلمين، بأنه سيصل إلي السلطة في يوم من الأيام ومع ذلك، لكي نكون منصفين للبنا، سنستشهد بكلمات الكاتب نفسه: يبدو من التصريحات التي أدلي بها أنه أراد الإطاحة بالنظام، ولكن ليس عن طريق إراقة الدماء والإرهاب ولكن بالفوز بأغلبية أصوات الشعب المصري.
   ولكن الإرهابيين من بين أتباعه قد كفروا بالطريق الدستوري إلي السلطة، واختاروا طريق القتل والإرهاب، ومن هنا جاءت الحملات التي أطلقها بعض الإخوان المسلمين في وقت من الأوقات ضد الأنظمة الدستورية. إن تاريخ الإخوان المسلمين موثق جيدًا من قبل عبد الرحمن الرافعي، الذي ميز بين اتجاهين داخل هيكل عضويته. ورأى أحدهم، ومن بينهم البنا نفسه، أن الهدف النهائي للجماعة المتمثل في تحقيق السلطة السياسية يمكن تحقيقه بالوسائل السلمية، أي كسب أغلبية الشعب في دعوته الحاشدة علي أغلبية الشعب في دعوته إلي حشد القوات. ولا يمكن اعتبار هذا الاتجاه إلا عنصرًا مشروعًا في فسيسفاء الحياة السياسية المصرية.
   حتى أولئك الذين يعارضون رؤية وأيديولوجية الإخوان المسلمين ليس لديهم الحق في اعتبار هؤلاء الذين يتطلعون إلي السلطة من خلال وسائل الإقناع من بين أعضائها كأي شيء آخر غير اللاعبين الشرعيين في لعبة الديمقراطية ولا ينطبق الشيء نفسه علي الاتجاه الآخر داخل الإخوان المسلمين الذي يعتبر، وفقًا لقول الرافعي عنهم، أن العمل علي تحقيق السلطة عن طريق تعبئة الرأي العام من خلال الانتخابات سيستغرق وقتًا طويلًا وإن استخدام القوة هو الخيار الوحيد القابل للتطبيق.
   أنصار هذه المدرسة من الفكر ليسوا سياسيين ولكن، علي حد قول الرافعي "إرهابيين"، من بين الإخوان الذين سعوا للوصول إلي السلطة في مصر من خلال استخدام القوة هم الذين قتلوا رئيس الوزراء المصري محمود فهمي النقراشي (1948م)، والقاضي أحمد الخازندار (1948م)، والجنرال سليم زكي (1948م)؛ أطلقوا النار علي جمال عبد الناصر في ساحة المنشية بالإسكندرية (1954م)، وقتلوا وزير الأوقاف الدكتور الذهبي (1977م)، واغتالوا الرئيس أنور السادات (1981م)، وقتلوا المفكر المصري فرج فودة (1992م)، وحاولوا قتل الأديب المصري نجيب محفوظ الحائز علي حائزة نوبل (1993م).
   وينتمي هؤلاء القتلة إلي الاتجاه الذي اختلف عن رأي البنا داخل جماعة الإخوان المسلمين الذين اختلف أعضاؤهم في الرأي، والذي يفضل فيه البنا الفوز بقلوب وعقول الشعب المصري، معتقدين أن السلطة لن يمكن بلوغها بقوة السلاح.
   بالتالي فإن هناك اتجاهين متميزين داخل الإخوان المسلمين: أحدهما يعتقد أن الانضمام السلمي إلي سلطة الدولة أمر ممكن، والآخر يرى أنه لا يمكن الاستحواذ علي السلطة إلا بقوة السلاح منذ اغتيال الإخوان لرئيس الوزراء السيد النقراشي في 1948م حتى محاولة اغتيالهم الفاشلة، وحتى محاولة الاغتيال الفاشلة ضد الرئيس المصري في أديس أبابا في عام 1995م، لا يوجد دليل علي أن الاتجاه الأول الذي يوافق علي مذهب البنا في الوصول إلي السلطة بوسائل سلمية قد أصبح الاتجاه الوحيد داخل المجتمع.
   قد يجادل البعض بأنني مشوش الرأي بين جماعة الإخوان المسلمين وبين الحركات الأخرى مثل الجماعة الإسلامية، أو الجهاد أو الجماعة التكفيرية، ولكن كغيري من دارسي الإسلام السياسي في مصر، أدرك تمامًا أن "مطبخ الإخوان المسلمين" هو مصدر جميع الاتجاهات الأخرى للإسلام السياسي، كما أعلم أن أدبياتهم (سواء كانت سلمية مثل أعمال البنا، أو المتشددين مثل تلك التي جاءت علي لسان سيد قطب) هي المرجع في جميع الاتجاهات المصرية للإسلام السياسي. في الواقع، بل لجميع اتجاهات الإسلام السياسي في العالم، علي سبيل المثال خذ أدب الاتجاه الوهابي، وهو بسيط ومضطلع، وقوته الدافعة هي قوة دفع الدولار النفطي.
   يرتفع الفكر الوهابي إلي مستوى فكر حسن البنا أو سيد قطب (وهو مفكر أعمق بكثير من الرجل الذي ألهمه أبو الأعلي المودودي) علي الرغم من أنني أستنكر وأدين جميع الإجراءات غير القانونية التي اتخذتها السلطات المصرية ضد الإخوان المسمين من 1948م في المنازعة علي السلطة، فإنه يحق لي أن أسأل ما هو الدليل علي أن الاتجاه الذي اختار الإصلاح بالقوة، أي من خلال استخدام العنف وإراقة الدماء داخل جماعة الإخوان قد اختفي؟ أو بالنسبة لهذه المسالة، ما هو الدليل علي أن الوصول إلي السلطة من قبل الاتجاه (السلمي) داخل الحركة لن يعقبه الاستيلاء من التيار غير السلمي الذي سيرفض التنحي، كما فعلت حماس في غزة، بذريعة أنها فقط المؤهلة لتطبيق حكم الله.
   (وهو ما حدث بالفعل بعد وصول الإخوان أثناء فترة حكم محمد مرسي).
 
 
الفصل الثاني عشر
مصر: أسئلة مشروعة
 
   بالنسبة لليبراليين في الشرق الأوسط مثلًا، فإن تعزيز الديمقراطية في الشرق الأوسط أمر حتمي، وإنه شيء سيفيد البشرية.
   ومما لا شك فيه، إنه إذا تم اتخاذ الخطوات الصحيحة، فإن الديمقراطية تتمتع بكل الفرص للازدهار في مجتمعات الشرق الأوسط. ومع ذلك، فإن التحول بشكل متسرع، من المرجح أن يكون كارثيًّا لقوي التقدم في مصر وعلي قدم المساواة في الشرق الأوسط، وينسجم هذا جيدًا مع كلمات المؤرخ "دانييل بورستين"، الذي حذر من أن التخطيط لمستقبل الإنسانية دون إحساس بالتاريخ مثل زراعة الأزهار المقطوفة مسبقًا.
   إذا تم اتخاذ الخطوات الصحيحة، فإن شعوب الشرق الأوسط (كما شرح البروفسور "برنارد لويس" مرارًا وتكرارًا) قادرة علي تمكين الديمقراطية من الازدهار في مجتمعات الشرق الأوسط، ومع ذلك فإن التحول بشكل متسرع قد يكون كارثيًّا لقوي التقدم في مصر وعلي قدم المساواة في الشرق الأوسط، لذلك فمن الطبيعي طرح بعض الأسئلة: إن معيار ترتيب المجتمع علي سُلم الحضارة الإنسانية والتقدم هو انتشار ثقافة قبول الآخر، ذلك المجتمع الذي يحترم التنوع، بل ويعتز به، باعتباره أحد أهم سمات الحياة.
   هل يمكن القول أن عقلية وسلوك الأغلبية المصرية اليوم مؤهل في هذا الصدد؟
   وهل معيار ترتيب المجتمعات علي نطاق الحضارة الإنسانية والتقدم هو انتشار ثقافة القبول الموضوعي والكامل للآخر، بغض النظر عن شكل "الآخر"؟
   هل يمكن القول أن عقلية وسلوك الأغلبية المصرية اليوم مؤهلة في هذا الصدد؟
   وثمة معيار في ترتيب وتصنيف المجتمع علي سُلم الحضارة البشرية والتقدم هذا المعيار هو انتشار ثقافة ذلك المجتمع يمكن أن تعترف بالمزايا النسبية (وليس المطلقة) لجميع الآراء والنظريات، والآراء، والأفكار.
   هل يمكن القول أن عقلية وسلوك الأغلبية المصرية اليوم مؤهل في هذا الصدد؟
   إن معيار ترتيب وتصنيف المجتمع علي سُلم الحضارة الإنسانية والتقدم هو التشديد والتركيز الذي توليه لحقوق المرأة واعترافها بأنها تمثل أكثر بكثير من قيمتها العددية باعتبارها تشكل نصف المجتمع.
   فالنساء يربين جميع أفراد المجتمع ومن مصلحة أي مجتمع أن يكفل تمتعهن بالمساواة الكاملة مع الرجال.
   ويستتبع ذلك نبذ التصور البدائي للمرأة في العصور الوسطى بأنها قادرة فقط علي أن تكون زوجة وأمًّا.
   هل يمكن القول أن عقلية وسلوك الأغلبية المصرية اليوم مؤهل في هذا الصدد؟
   ثمة معيار في ترتيب المجتمع علي سُلم الحضارة البشرية والتقدم هو تبني فلسفة تعليمية مبنية علي الابتكار والإبداع بدلًا من التعلم عن ظهر قلب واختبارات الذكاء.
   هل يمكن القول أن عقلية وسلوك الأغلبية مؤهلة اليوم في هذا الصدد؟
   معيار المجتمع علي سُلم الحضارة الإنسانية والتقدم مرهون بمدي ارتفاع ثقافتها وفلسفتها التعليمية في دور العقل البشري واعترافها بأن التفكير النقدي هو واحد من إن لم يكن أهم محركات التقدم.
   هذا النهج هو النقيض لثقافة الطاعة العمياء والخضوع والتطابق، التي غمرت المجتمعات الإسلامية في ظل الحكم، والشيوخ الذين صاغوا الطريق الذي وضعه أنصار العقيدة والتقاليد بعد انتصارهم علي مؤيدي المنطق الاستنباطي في المعركة من الأفكار التي احتدمت قبل تسعة قرون.
   ومنذ ذلك الحين، أصبح ابن تيمية، وليس ابن رشد، "شيخ الإسلام".
   هل يؤمن أغلبية المصريين اليوم بسيادة العقل البشري، في تشجيع التفكير النقدي وتقليص دور تأثير الثقافة السائدة للطاعة العمياء والخضوع والتوافق؟
   المعيار لتصنيف المجتمع علي سُلم الحضارة الإنسانية والتقدم هو تبني قيم التسامح الثقافي والديني.
    هل يمكن القول أن عقلية وسلوك الأغلبية مؤهلة اليوم في هذا الصدد؟
   المعيار لتدرج المجتمع علي مستوى الحضارة الإنسانية والتقدم هو تمسكها بمفهوم المواطنة، بمعنى ضمان المساواة الكاملة بين أعضائها، بغض النظر عن الدين، أو العقيدة، أو المعتقدات، أو الآراء، أو العرق، أو الجنس.
   هل يمكن القول اليوم أن عقلية وسلوك الأغلبة يتوافقان مع هذا المثال؟
   المعيار لتصنيف المجتمع علي مستوى الحضارة الإنسانية والتقدم هو اعترافه بعالمية المعرفة والعلوم.
   هل يمكن القول أن عقلية وسلوك الأغلبية مؤهلة اليوم في هذا الصدد؟
   وثمة معيار لترتيب المجتمع علي مستوى الحضارة الإنسانية والتقدم هو انتشار المناخ الثقافي العام في ذلك المجتمع الذي يحترم ويحمي الحريات العامة، وأهمها حرية المعتقد وحرية انتقاد أي شيء في إطار القانون.
   هل يمكن القول أن عقلية وسلوك الأغلبية مؤهل في هذا الصدد؟
   وثمة معيار لترتيب المجتمع علي نطاق الحضارة الإنسانية والتقدم هو نبذها لممارسة مقاضاة أي شخص علي أفكاره، أو كتاباته، أو أعماله الفنية، وحظر الكتب، وبعبارة أخرى، رفع سقف حرية الفكر والتعبير والخيال الخلاق.
   هل يمكن القول أن عقلية وسلوك الأغلبية مؤهلة اليوم في هذا الصدد؟
   وثمة معيار لترتيب المجتمع علي نطاق مستوى الحضارة الإنسانية والتقدم هو القيمة التي يضعها علي حياة الإنسان واستنكاره المطلق وغير المشروط لأي عدوان علي المدنيين تحت أي ذريعة كانت.
   ولسوء الطالع، فإن بعض أعضاء مجتمعنا الذين لديهم عقلية بسيطة يبتهجون بالهجمات الانتحارية والعمليات الإجرامية مثل تلك التي استهدفت المدنيين الأبرياء في جزيرة بالي الإندونيسية وأحداث 11 سبتمبر في الولايات المتحدة، فهل يمكن القول أن عقلية الأغلبية في السلطات المصرية وسلوكها اليوم يعارضون بشكل لا لبس فيه ثقافة الموت ويتمسكون بقدسية الحياة البشرية؟
   وهناك معيار لترتيب المجتمع علي نطاق الحضارة الإنسانية والتقدم هو القدرة علي التمييز بين "الحقائق الدينية"، و"الحقائق العلمية"، مع كل الاحترام الواجب لكلاهما، نجحت المجتمعات المتقدمة في الحفاظ علي كلتا الحالتين منفصلتين، حرصًا علي عدم السماح لأحدهم بالتداخل. بالنظر إلي التشكيل الأيديولوجي للأغلبية في مصر اليوم، هل هم قادرون علي التمييز المطلوب بين "الحقائق الدينية" و"الحقائق العلمية"؟
   سوف أختتم هذا الفصل ببديهية نابعة من حضارة اليونان القديمة، اليونان تعني سقراط، وأرسطو، وأفلاطون، وهي قصة يعرفها كل طالب للفلسفة: "الأسئلة كلها رؤية الإجابات عمياء". لا يسعني إلا أن أتمني أن تكون صفحة الأسئلة علي وشك أن تُغلق في مجتمعنا وأن تستبدل بصفحة مفتوحة من الردود القاطعة.
 
ملاحظة مهمة:
 هذا الفصل كتبه المؤلف عندما أنقض الإسلام السياسة بزعامة جماعة الإخوان المحظورة علي الحكم وسرقوا ثورة يناير. والمؤلف يوجه هذه الأسئلة الاستنكارية لهم علي اعتبار أنهم كانوا يشكلون أغلبية كاذبة.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
الفصل الثالث عشر
الجانب الآخر من العملة
 
أولًا- الفكر السياسي للإخوان المسلمين:
   الحقيقة هي أن الإخوان لا يزالون يعارضون بشدة الحضارة الغربية والتسوية السياسية للصراع العربي الإسرائيلي.
   حماس هي فرع فلسطيني من جماعة الإخوان المسلمين، ويمكن تلخيص التفكير السياسي لهذه المجموعة علي النحو التالي:
 
الحريات السياسية:
   علي عكس الديمقراطيات الغربية، التي تضمن المشاركة السياسية لكل مواطن وبغض النظر عن الأيديولوجية، أو الرأي، أو الدين، فإن الإخوان المسلمين يجعلون المشاركة السياسية للأفراد في المجتمع خاضعة لمبادئ الشريعة الإسلامية.
 
حرية المعتقد:
   يضمن الإخوان حرية المعتقد فقط لاتباع الديانات الثلاث (الإبراهيمية)، والمعروفين باسم "أهل الكتاب".
 
الحريات الشخصية:
   في حين أن الديمقراطيات الغربية تتضمن الحرية المطلقة للفرد طالما أنها لا تمس حرية الآخرين، فإن الإخوان المسلمين يضمون حرية الفكر ضمن المعايير الصارمة للمدونة الأخلاقية المستمدة من الشريعة. وهم يدعون إلي استعادة الحسبة، التي تسمح لأي مواطن بمحاكمة أي شخص يرتكب فعلًا يعتبره خرقًا للشريعة، حتى لو لم يكن المدعي نفسه قد أصيب شخصيًّا بفعل من هذا القبيل، وقد مورس الحق في الحسبة من قبل مواطن من عامة الشعب في مصر ضد الدكتور نصر حامد أبو زيد، الذي كانت كتاباته تعتبر مخالفة لتعاليم الإسلام.
   وحكمت المحكمة لصالح المدعي، واصفًا الدكتور أبا زيد مرتدًا وأمره بتطليق زوجته علي أساس أنها المرأة المسلمة لا يمكن أن تتزوج من مرتد، وقد فرَّ الدكتور أبو زيد مع زوجته إلي هولندا.
 
حقوق المرأة:
   في الديمقراطيات الغربية، تتمتع المرأة بنفس الحقوق السياسية التي يتمتع بها الرجل، فبإمكانها شغل المناصب العامة والمشاركة في الحياة السياسية دون أي قيود علي أساس نوع الجنس، ولكن فيما يتعلق بالإخوان، فإن المشاركة السياسية للمرأة ستقتصر علي الانتخابات البلدية، ليس هناك شك، علي سبيل المثال، أن امرأة قد تصبح أو أصبحت رئيسًا للدولة علي الإطلاق.
   ولزيادة تهميش المرأة واستبعادها من أي دور ذي مغزي في الحياة العامة، يدعو الإخوان المسلمين إلي أن تتضمن المناهج التعليمة مواد ملائمة للمرأة، مصممة لتلائم طبيعتها ودورها، علي النحو الذي تتصوره، لا للإضافة إلي المناهج الخاصة للفتيات، فإنهم يصرون علي الفصل الكامل بين الجنسين في الفصول الدراسية وفي وسائل النقل العام، وفي مكان العمل. تجلي التصور الإسلامي للمرأة في "إحدي الدول العربية" ككائنات أقل في الدرجة، حيث أعاق الإسلاميون بشكل مؤقت تمرير مشروع قانون يمنح الحقوق السياسية للمرأة.
 
الاقتصاد:
   يدعو الإخوان إلي إقامة نظام اقتصادي قائم علي احترام الملكية الخاصة، وفي الوقت نفسه، فإنهم يصرون علي أن يستند هذا النظام إلي مبادئ الشريعة الإسلامية، التي تحرم الفائدة البنكية... تناقض غريب! كما إنها تدعو إلي ملكية الدولة للمرافق العامة.
نظام الحكم:
   خلافًا لنظام الحكم المطبق في الديمقراطية، والذي يقوم علي الانتقال السلمي للسلطة من خلال الانتخابات، يدعون الإخوان إلي نظام حكم قائم علي مبادئ الشريعة وإحياء الخلافة الإسلامية.
 
المجتمع المدني:
   إن حرية الحركة التي تتمتع بها منظمات المجتمع المدني في الديمقراطية ستكون، في النظام الإسلامي، مشروطة بتقيدها بقيود الشريعة.
 
الحكومة:
   يعارض الإخوان فكرة الدولة القائمة علي المؤسسات الديمقراطية، داعيين بدلًا من ذلك إلي حكومة إسلامية تقوم علي نظام الشورى (الجمعية الاستشارية)، وتنصيب المرشد الأعلي. وهم قريبون من النظام الإيراني (2).
 
الحريات السياسية:
   في الوقت الذي يراقب فيه الفرع التشريعي للحكومة قوانين الدولة لضمان مطابقتها لقواعد الديمقراطية، فإن قوانين الدولة يتم مراقبتها من قبل جماعات الإسلام السياسي للتأكد من مطابقتها لقواعد الشريعة الإسلامية.
 
الأقليات الدينية:
   علي الرغم من أن جماعة الإخوان (محظورة قانونًا في مصر) لا يذهبون إلي نظرائهم في المملكة العربية السعودية، حيث يحظر بناء دور العبادة لغير المسلمين، فإن موقفهم من مسألة الأقليات الدينية يشمل منع غير المسلم من أن يصبح رئيسًا، وإخضاع غير المسلمين لمبادئ الشريعة التي يقوم عليها النظام القانوني بأكمله.
 
النظام القانوني:
   دعت جماعة الإخوان إلي إنشاء نظام دستوري وقانوني يستند إلي مبادئ الشريعة، بما في ذلك تطبيق العقوبات البدنية في قانون الحدود.
 
العنف ضد المدنيين:
   جماعات الإسلام السياسي لا تدين أبدًا استخدام العنف ضد المدنيين، إلا إذا كان موجهًا ضد مدنيين مسلمين، بل حتى بشكل انتقائي فقط. وأخيرًا يتم تحقيق "التقدم" في عالم اليوم بواسطة آداتين هما "العلم، والإدارة الحديثة"؛ صفتان لا يمتلكهما الإخوان المسلمون وليست لهم مصلحة فيهما.
   إن مناقشة القضايا هي الطريقة الوحيدة لتحويل حزب ديني - علي المدى الطويل- إلي حزب سياسي مدني يؤيد المبادئ الأساسية للديمقراطية: قبول "الآخر"، وتناوب السلطة، واحترام الديانات الأخرى، والمرأة.
   سيكون التحول كاملًا عندما يتخلى الإسلام السياسي عن فهمه المشوه لديننا من فصائل متجذرة في العصور الوسطي ويعكس عقلية البدو الذين ولدوا وترعرعوا في بيئة صحراوية قاسية لا ترحم. ويحق للمجتمع المدني أن يحمي نفسه من أي مجموعة لا تزال حبيسة الزمن وسوف تسحبنا جميعنا معها إلي ماضي بعيد.
   وبما أن الإصلاح في مصر بأي عدد من البدائل أفضل بآلاف المرات من الاستيلاء عليها، كذلك فإن الإصلاح في المملكة العربية السعودية بالبدائل أفضل بألف مرة من الاستيلاء عليها، والذي يمكن أن يُغرق المنطقة بأسرها في فوضى لم يسبق لها مثيل. إن الحفاظ علي استقرار المملكة العربية السعودية وجميع جيرانها أمر حتمي، لكن ضمان الاستقرار مستحيل بدون عملية تاريخية – ضد المتطرفين.
   والسؤال هو ما إذا كانت العناصر المستنيرة في المملكة العربية السعودية ستتبع مسارًا مشابهًا للدورة التي اتخذها حليفها الشهير قبل ثمانين سنة، أو ما إذا كانت ستستمر في التعايش معها حتى تغرق السفينة وجميع من علي متنها.
 
ثالثًا: أسئلة لأنصار الإسلام السياسي:
   يجب أن يجيب الإسلاميين إجابات حقيقة علي الأسئلة التالية:
1-    بعض المنتمين لتيار الإسلام السياسي يوضحون الآن فكرة أن الأقباط هم مواطنون مصريون من الدرجة الأولى بالكامل، هل هذا يعني أن قبطيًّا يمكن، من حيث المبدأ، أن ينتخب رئيسًا لمصر؟
2-    هل يتبع (هؤلاء) النموذج السعودي في فصل الفتيات عن الأولاد في المؤسسات التعليمية مثل المدارس والجامعات وكافة المنظمات الأخرى؟
3-    السياحة غير المرتبطة بالتاريخ (أي السياحة الشاطئية) تولد ما يزيد عن 75% من إيرادات السياحة في مصر، ما هي آراءهم حول بيع المشروبات الكحولية، والقمار، والكازينوهات، والنساء اللاتي يرتدين ملابس سافرة؟
4-    ما رأيهم في معاهدات السلام بين مصر وإسرائيل، وبين الأردن وإسرائيل؟
5-    ما رأيهم في الأشكال المختلفة للتعاون الاقتصادي بين مصر وإسرائيل (المناطق الصناعية المؤهلة– اتفاقية الكويز)، التي تحصل فيها الشركات المشتركة علي امتيازات خاصة لتصدير السلع إلي الولايات المتحدة، (علي سبيل المثال)؟
6-    كيف تصف جماعات الإسلام السياسي مقتل (المدنيين الإسرائيليين) في العمليات الانتحارية التي تقوم بها حماس أو الجهاد الإسلامي؟
7-    هل تعتقد الجماعة أن عقيدة سيد قطب المعروفة باسم الحاكمية أن تلك الحكومة يجب أن تستند بشكل حصري علي قانون الله وترفض الديمقراطية والقانون الإنساني باعتباره كفرًا وارتدادًا عن الدين – ألا تزال أساس نظامهم السياسي؟ 
8-    ما هي آراءهم حول النساء اللواتي يشغلن مناصب حكومية رفيعة بما في ذلك الوزارات، ورئاسة الوزراء، وقضاة المحكمة العليا؟ 
9-    ما هي وجهات نظرهم حول رؤية حل "الدولتين" لإسرائيل وفلسطين ليعيشوا بسلام بجانب بعضهما البعض؟ هل يقبلون أيضًا أن يكون القسم الغربي في القدس هو عاصمة إسرائيل؟
10-   النظام القانوني المصري منذ عام 1883م يستند إلي المفاهيم القانونية للنظام القانوني الأوروبي، ما هي خططهم بهذا الخصوص، وكيف يفكرون في العقوبات البدنية في الحدود؟
11-   علي غرار جميع المجتمعات الحديثة، يقوم النظام المصرفي المصري على مفهوم مصالح الإقراض والادخال، هل سيحافظون عليه؟
12- هل إيران عامل استقرار (أو عدم استقرار) في عالم اليوم؟
   وأخيرًا، يجب علي المرء أن يعرف أن الإخوان مثلا من المرجح أن يستخدموا التقية، وهو مبدأ – بحسب بعض رجال الدين مثل: ابن حنبل وابن تيمية– يسمح للمسلمين بالكذب إذا ساعدهم ذلك في هزيمة الكفار في نهاية المطاف.
 
 
 
 
 
 
 
الهوامش:
ـــــ
1-       (توفي يوليو 2010م) العالم الليبرالي المصري الذي ينظر إلي القرآن علي أنه عمل أدبي أسطوري ديني. أدين بتهمة الردة والبدعة في التسعينات.
2-       أنشأها الخميني (1902م– 1989م)؛ فهي تمكن المحافظين المتعصبين للتأكيد علي تقويض أي عملية إصلاح أو تجديد، وهم المجموعة التي ينتمي إليها المرشد الأعلى.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
الفصل الرابع عشر
ملاحظات ختامية
 
أولًا: نظرة عامة:
   لقد لعب الإسلام دورًا هامًا في صنع التاريخ والثقافة للشعوب الناطقة بالعربية. في حين أن "العقل المسلم" قد عرف فترات من الازدهار (وفقًا لمعايير العصور الوسطي) حتى القرن الثاني عشر الميلادي، فإنه يعرف أيضًا، منذ ذلك الوقت، وهو مسار لحالة من الانحدار، والركود، والعزلة، والتي لا يمكن للمرء أن يغفل ملامحها.
   منذ التفاعل بين شعوب هذه المنطقة مع الغرب (منذ اليوم الأول للحملة الفرنسية في مصر في 1798م)، تجسدت إشكالية في اتجاهين:
 
الاتجاه الأول:
   الاتجاه الأول يؤكد أن تخلف مجتمعاتنا يرجع إلي حقيقة أننا لا نحتفظ بمجموعة العقائد الدينية كطريقة للحياة وعمل الأفراد والمجتمعات.
 
ويعتقد أصحاب الاتجاه الثاني:
   أنه لا مفر من اتباع آليات الحضارة الغربية من أجل تحقيق التقدم في مجتمعاتهم، ويمكن القول (مع بعض التعميم) أن الأجواء السياسية، والثقافية، والفكرية، والتعليمية للمجتمعات الناطقة بالعربية تشهد صراعًا بين هذين الاتجاهين:
   نزعة العودة إلي المصادر والأصول الإسلامية، والميل إلي استخدام آليات وقيم الحضارة الغربية التي تجاوزت حدود الغرب بالمعنى الجغرافي، لأنها أصبحت آليات لعدة مجتمعات خارج أوروبا.
   أعتقد أن دعاة العودة إلي المصادر والأصول إلي جانب الوعود الكبيرة للجماهير ليس لديهم ما يقدمونه، في حين أن المثقفين يعرفون أن التاريخ الإسلامي هو تاريخ إنساني بحت عرف حقبة من الازدهار النسبي (حقيقة ومدى المبالغة في كثير من الأحيان)، والتي تضاءلت ثم انخفضت عندما أصدرت عقلية النسخ، ومعارضة العقل والابتكار، وعندما وضع سقف منخفض لعمل العقل البشري. علي أي حال فإن الفترة التي يطلق عليها البعض "العصر الذهبي" هي فترة تحتوي علي سمات تعكس حقائق الواقع في العصور الوسطي بكل معنى الكلمة. إن المعضلة الكبرى في هذا النقاش (والتي في رأيي غير مجدية) هي خطأ النظر إلي المحركات، والآليات، وديناميكيات، وحوافز الحضارة الغربية باعتبارها "غربية".
   لقد أثبتُ في العديد من كتبي أن التقدم الذي شهدته أوروبا قد حدث بسبب العوامل البشرية وليس العوامل الأوروبية أو الغربية. أول هذه العوامل هو القيود الصارمة المفروضة علي سلطة ونفوذ رجال الدين، يليها رفع سقف حرية الفكر وتشجيع الفكر الانتقادي. هذان هما العاملان اللذان ساعدا في تطور قيم التقديم، وهما "عوامل إنسانية محضة"، وليس عاملًا غربيًا، أو مسيحيًا، أو أوروبيًا.
   من أكثر البراهين الواضحة علي أن قيم وخصائص التقدم البشري العالمي، هو ما حدث علي نطاق واسع في القارة الآسيوية، عندما استخدمت المجتمعات غير الأوروبية آليات وقيم التقدم لإنجاز التنمية، وكانت قادرة علي تحقيق التقدم المطلوب.
   هذا ما شهده العالم في اليابان، وكوريا الجنوبية، وسنغافورة، وتايوان، ثم في مجتمعات أخرى مثل المجتمع الماليزي نعتبره أكبر دليل علي أن قيم وآليات التقدم عالمية وإنسانية. من الواضح أن العودة إلي المجتمعات الناطقة بالعربية، وتحليل ظواهرها السياسية، والاقتصادية، والاجتماعية، والثقافية، والتربوية، والإعلامية الحالية، تبين أن بيئاتها خالية تمامًا من قيم التقدم التي كانت، كما ذكر سابقًا، مع أن هذه القيم إنسانية وعالمية، والتحدي الأكبر الذي سيواجه هذا النهج سيأتي دائمًا من المؤسسات الدينية، ليس لدوافع دينية بحتة (أو حتى لأي دافع ديني علي هذا النحو)، ولكن للدفاع عن السلطة والنفوذ غير المحدودتين لحكم وتوجيه الحياة في مجتمعاتهم.
   ويمكن التأكيد بالمثل علي أن المنطقة المقدسة التي يجب أن تعتبر حجر الزاوية في مشروع التنمية هي مؤسسة التعليم، بما في ذلك التعليم الديني. وأي عمل خارج هذه الدورة لن يكون له إلا أثر هامشي ومردود، حيث إن حصاد ذلك يعتمد علي ما سيحدث في المؤسسات التعليمية (وأكرر، بدءًا بمؤسسات التعليم الديني) إن إصلاح التعليم العام، وبنفس القدر من الأهمية، التعليم الديني هو حجر الزاوية في مشروع التقدم والتنمية، الذي لا يمكن لأحد في مجتمعاتنا (الناطقة بالعربية) أن يحققه قبل الإصلاح التعليمي، ولا سيما إصلاح التربية الدينية، وغرس قيم التقدم في أذهان الناس وضمائرهم بوصفها قيمًا إنسانية وعالمية في المقام الأول.
 
ثانيًا– قيم التقدم:
   نظرة عامة أو (نظرة من أعلى) للمجتمعات المتقدمة، مع معرفة متوازية (عميقة) بتاريخها ومسيرتها تقول إن تقدم المجتمعات التي قد تقدمت في مسارها نحو التنمية والتقدم هو نتيجة لمجموعة من القيم التي تم جعلها أساسية للمجتمع، من خلال جعلها أساسية للمسألة الدينية؛ وعلي أساس هذه القيم تحتاج مجتمعاتنا الناطقة بالعربية إلي إعادة بناء مؤسساتها التعليمية، ومن بينها مؤسسات التعليم الديني.
 
 
القيمة الأولى للتقدم:
   هي السبب، والنقد، ومساحة كبيرة من الفكر الانتقادي "روح النقد". هذه القيمة الأولى للتقدم ستكون دائمًا الأكثر تعرضًا للهجوم الديني، والذين يعرفون الآثار المترتبة علي جعل هذه القيمة أساسية للمؤسسة التعليمية لأي مجتمع.
 
القيمة الثانية "التعددية":
   باعتبارها واحدة من أهم خصائص الحياة بشكل عام، والمعرفة، والعلوم، والثقافة علي وجه الخصوص.
 
والقيمة الثالثة هي "الآخر":
   والتي جوهرها وفحواها قبول الآخر، بغض النظر عن شكل أو عرق الآخر. والألفة هي نتيجة طبيعية لزرع التعددية.
 
والرابعة من هذه القيم هو "شمولية العلم والمعرفة":
   هذه القيمة لها ارتباط جدلي قوي بالقيم الثلاثة المذكورة سابقًا.
 
القيمة الخامسة هي قيمة "التسامح" الديني والثقافي:
   باعتبارها النتيجة الطبيعية للاعتقاد في تنوع جوانب الحياة المختلفة.
 
 
وتتعلق القيمة السادسة بالمرأة ومكانتها في المجتمع":
   بدءًا بفكرة أن المرأة مساوية تمامًا للرجل، ولها حقوق وواجبات متساوية، ولها قسيمة إنسانية متساوية.
   والصلة بين التقدم ووضع المرأة هي صلة جدلية مزدوجة: فمن ناحية، تمثل المرأة نصف عدد المجتمع، وإذا شل حركة نصف المجتمع قد يؤدي إلي تأثيرات سلبية فقط، فالمرأة تربي النصف الآخر من المجتمع، وإذا لم تنشأ المرأة علي القيم ومبادئ الحرية، وإذا لم يكن المجتمع حرًّا، فسوف يكون هذا النصف في تكوينه مزجًا من العيوب والمساوئ الناجمة عن كونه تربي علي يد شخص غير أهل للتربية.
 
القيمة السابعة هي واحدة من "حقوق الإنسان":
   وفقًا للمفهوم الذي تم تطويره خلال القرنين الماضيين.
 
القيمة الثامنة هي "المواطنة":
   باعتبارها أساس العلاقة بين المواطنين والدولة.
 
القيمة التاسعة هي المفهوم الحديث للدولة و "سيادة القانون":
   الذي يختلف عن مفهوم القبيلة والقرية والعائلة.
 
القيمة العاشرة هي "الديمقراطية":
   أنبل اختراع بشري في القرنين الأخيرين.
القيمة الحادية عشرة هي قيمة "العمل":
   بما في ذلك المفاهيم الحديثة المحيطة بالعمل، مثل العمل الجماعي، والكفاءة، وتقنيات الإدارة الحديثة، وثقافة الجماعة بدلًا من ثقافة الأفراد.
 
القيمة الثانية عشرة هي "الاهتمام بالمستقبل":
أكثر من الاهتمام المفرط بالماضي والتي هي سمة من سمات الثقافة العربية.
 
القيمة الثالثة عشرة هي قيمة "الموضوعية":
   والتي حتى لو كانت نسبية، تختلف عن الذاتية التي تسود في بعض الثقافات القديمة، فالثقافة العربية هي واحدة من أهمها إن علم اجتماع القبيلة التي تحكم الثقافة العربية علي نطاق واسع تفضل الذاتية، وهي بعيدة عن مفهوم الموضوعية.
 
القيمة الرابعة عشرة هي "نسبية العلم والمعرفة والإدارة البشرية":
   إن مسار العقل البشري خلال هذه القرون الثلاثة الأخيرة قد جعلها بعيدة عن ثقافة الحكم المطلق، وقادتها إلى ثقافة الحكم النسبي.
 
"المشاركة" وعدم اتباعها هي القيمة الخامسة عشرة:
   وهي القيمة التي تعارض بقوة أهمية متابعة، وتأطير المشاركة التي تفرزها الثقافات العربية.
 
ما الذي يجب فعله؟
   خلال القرنين الأخيرين، تقدم أنصار العلم، والعقل، والحداثة تقدمًا طفيفًا في مجتمعاتنا، ثم تراجعوا إلي المركز الثاني وبفارق كبير بالعودة خلف مدرسة الجذور والأصول.
   وفي رأيي، هناك عدة أسباب لهذا، أهمها أن يظل النقاش علي الصعيد العالمي (الكلي)، دون التركيز علي التغيير الجذري للعقلية من خلال التعلم. عمومًا يعتمد الحوار علي المستوى العالمي علي الشعارات الأكثر جاذبية للجمهور، فغالبية مؤيدي العودة إلي الأصولية يحملون شعارات تجذب الجماهير، حتى لو كانوا علي قدر متوسط من التعليم أو متوسطي الثقافة (وهذا هو حال معظمهم)، حتى عندما سنحت لهم الفرصة في شكل قيادة قادرة علي القيام بالعبور من ظلام الواقع إلي ضوء التقدم (كما حدث في تركيا من 1923م إلي 1938م، وفي تونس من 1956م إلي 1987م)، والعمل علي التعليم ظلت المؤسسات التعليمية غير مكتملة. وبلغ حجم التعليم الديني (البعيد تمامًا عن عقلية التقدم والحداثة)، في دول رئيسة مثل تركيا ومصر، بين 15%، و20% من عدد أطفال المجتمع المتحقين بعملية التعليم.
   أعتقد أنه علي الرغم من صعود موجة العودة إلي الأصول والجذور، والوضع العالمي، وتدفق التاريخ لصالح السلطات السياسية وسلطات المجتمع المدني، ومجموعة مختارة من المفكرين، وسلطات التعليم والإعلاميين الذين يؤمنون بالتقدم؛ ستكون قادرة في ظل الظروف العامة علي زرع بذور الإصلاح في أرض التعليم بشكل عام، والتعليم الديني بشكل خاص.
 
 
 
رابعًا: إصلاح المؤسسات الدينية وعدم تجاهلها:
   بعد أن راقبتُ الظروف الثقافية للمجتمعات الناطقة بالعربية منذ ما يقرب من أربعين عامًا، فإنني علي يقين أنه لا يمكن تجاهل الدين أو الهجوم عليه من قبل أقلام وألسنة غاضبة، فالدين هو عنصر أساس في الهواء الذي تتنفسه شعوب منطقتنا الناطقة بالعربية.
   من الأفضل العمل علي إصلاح المؤسسات الدينية، والثقافة الدينية، والتعليم الديني، والتعليم بشكل عام، بدلًا من خوض معارك علي نمط "دون كيشوت"، والتي لن تؤدي إلا بالخسارة للشعوب ونبذها. وهنا يكمُن خطر بعض مجموعات المثقفين العرب الذين حددوا مهمتهم الأساسية في الهجوم العنيف علي الدين بدلًا من العمل علي طريقة فهم الناس للدين.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
الفهرس
 
الإهداء
روشتة
الفصل الأول: الإسلام هو من يشكل العقل.
الفصل الثاني: نظرة عامة.
الفصل الثالث: الظاهرة – ظهور التعصب الإسلامي.
الفصل الرابع: عرقلة التقدم والحداثة.
الفصل الخامس: نشأة المواجهة.
الفصل السادس: وهم الأحزاب الدينية.
الفصل السابع: الصفات المكتسبة.
الفصل الثامن: استخدام القوة.
الفصل التاسع: الراعي.
الفصل العاشر: الهوية المصرية أمام الهوية الإسلامية.
الفصل الحادي عشر: مصر: الاستيلاء علي السلطة.
الفصل الثاني عشر: مصر: أسئلة مشروعة.
الفصل الثالث عشر: الجانب الآخر من العملة.
الفصل الرابع عشر: ملاحظات ختامية.
 
بطاقة الفهرسة
 
حجي، طارق، 1950م
الطاعون: قراءة في فكر الإرهاب المتأسلم.
طارق حجي، ترجمته من الإنجليزية سحر شوشان.
القاهرة: دار أخبار اليوم، 2018م،
168 ص 20سم – (كتاب اليوم)
تدمك: 5 – 1799 – 08 – 977 – 978
1- الإسلام – حركات الإحياء والإصلاح والتجديد.
2- الإرهاب - مكافحة
أ -  شوشان، سحر                               (مترجم)
ب-  العنوان
                                                                           219
رقم الإيداع: 27016/ 2019
الترقمي الدولي I.S.B.N
978-977-08-5
 
 



#طارق_حجي (هاشتاغ)       Tarek_Heggy#          



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- مقتطفات من دفتر يوميات طارق حجي - المجموعة الأولى.
- خواطرٌ مصريةٌ صرفٌ.
- هوامش على دفتر الإنتخابات الأمريكية.
- التعليم ... ولاشيء غيره
- حقائق المجتمعات العربية السبع.
- نظرة ماكرو للثقافة الذكورية.
- ذكريات كردستانية.
- مصرُ بين مصيرين ...
- لبنان فى الميزان ...
- إشكالية الهوية المصرية.
- من خواطر طارق حجّي
- دانات من أقصي الشمال البريطاني - مقالات قصيرة.
- ذكريات ...
- من أهم جذور محنة المسلمين التاريخية.
- المرأة فى أبشع تراث ...
- الواقع المصري بين الأمراض والأعراض.
- من دفتر اليومية : 26 مارس 2019
- خواطر مثقف معني بالتنوير
- مقدمة كتاب -الوهابية- - تحت الطبع
- الصراع من أجل الحداثة فى مِصْرَ


المزيد.....




- دراسة: السلوك المتقلب للمدير يقوض الروح المعنوية لدى موظفيه ...
- في ظل تزايد التوتر المذهبي والديني ..هجوم يودي بحياة 14 شخصا ...
- المقاومة الاسلامية بلبنان تستهدف قاعدة حيفا البحرية وتصيب اه ...
- عشرات المستوطنين يقتحمون المسجد الأقصى
- مستعمرون ينشرون صورة تُحاكي إقامة الهيكل على أنقاض المسجد ال ...
- الإعلام العبري: المهم أن نتذكر أن السيسي هو نفس الجنرال الذي ...
- ثبتها فوراً لأطفالك.. تردد قناة طيور الجنة 2024 على نايل سات ...
- الجنائية الدولية تسجن قياديا سابقا في أنصار الدين بمالي
- نزع سلاح حزب الله والتوترات الطائفية في لبنان.. شاهد ما قاله ...
- الدعم الأميركي لكيان الاحتلال في مواجهة المقاومة الإسلامية


المزيد.....

- مأساة العرب: من حزب البعث العربي إلى حزب الله الإسلامي / حميد زناز
- العنف والحرية في الإسلام / محمد الهلالي وحنان قصبي
- هذه حياة لا تليق بالبشر .. تحرروا / محمد حسين يونس
- المرحومة نهى محمود سالم: لماذا خلعت الحجاب؟ لأنه لا يوجد جبر ... / سامي الذيب
- مقالة الفكر السياسي الإسلامي من عصر النهضة إلى ثورات الربيع ... / فارس إيغو
- الكراس كتاب ما بعد القرآن / محمد علي صاحبُ الكراس
- المسيحية بين الرومان والعرب / عيسى بن ضيف الله حداد
- ( ماهية الدولة الاسلامية ) الكتاب كاملا / أحمد صبحى منصور
- كتاب الحداثة و القرآن للباحث سعيد ناشيد / جدو دبريل
- الأبحاث الحديثة تحرج السردية والموروث الإسلاميين كراس 5 / جدو جبريل


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني - طارق حجي - الطاعون قراءة في فكر الإرهاب المتأسلم