|
حكايات من جزيرة الواق واق / الجزء / 3
سعد محمد موسى
الحوار المتمدن-العدد: 6834 - 2021 / 3 / 7 - 22:30
المحور:
الادب والفن
رقصة النار والكناغر في أولورو انتبذ ساحر الصخور مكاناً على سفح جبل "أولجا" المطل على قبيلة "البيتجان"، التي لم تمانع من وجود الرجل الابيض المسالم، لا سيما بعد أن علموا بنزوحه من غابة الجبل. انبهر ساحر الصخور بقدسية، وسحر "أولورو"، التي يتغير لونها ويتفاوت متوهجاً باللون الاحمر من شروق الشمس حتى مغيبها. أما في موسم الأمطار، فيتفاوت لون الصخرة ما بين الفضيّ، والرمادي. بينما الكناغر كانت تتقافز في الغروب حول الصخرة المقدسة وهي تحج حولها، جلب انتباه النّحّات وجود حجرة مستطيلة قريبة من الكوخ، فترآى في صلاتها موسيقى القلب، وملامح أكارا، فجلب المطرقة وأزاميل النحت، ثم حفر، ونحت، وكوّن منحوتة أخرى لفتاة الغابة، وبعد أن أنجز عمل التمثال خلال خمسة أيام، والتي عمدها بدموعه، وعرقه المتصبب فوق جسد المنحوتة، وهو يتخيلها، ويستحضر تفاصيلها، وملامحها بلهفة الوثنيّ الذي يخلق آلهته. شعر النّحّات بسعادة تغمره، مما خفف عنه وحشة العزلة في جبل أولجا. حين غادر ساحر الصخور غابة الجبل مثقلاً بالغياب، والعاطفة الجياشة المفعمة بالشوق ... بقي هنالك قلبه المشتعل بحرائق الغابة مصلوباً ما بين داره، وأطلال قبيلة أكارا. ثم نقش أسم اكارا في طرف سبابته فوق الرمال الحمراء التي تحتضن المنحوتة لوعته، وحنينه فوق تضاريس الكثبان.
بعد عشر سنوات ونيف قضاها مع قبيلة البيتجان، وشعب "أنانغو"، الذين عاملوه وكأنه أحد أفراد قبيلتهم، تعلم منهم لغتهم، وطقوسهم، ورقص معهم حول النار، وتعلم النفخ على آلة الديدريجو أيضاً . كانت منذ زمن بعيد تتعاظم في أعماق ساحر الصخور والناسك هياماً، ورغبة للحج الى هضبة التبت، والنيبال، والهند؛ لكسب المزيد من التجارب الروحية والمعرفية... أرادت روحه المتعطشة للتحليق بعيداً مثل طيور تغرس أجنحتها في خاصرة السحاب نحو عالم الرهبنة، والبوذية، والهندوسية في محاولة للتقرب من طلاسم، وتساؤلات كانت تلح في ذاته، والبحث عن سراب الروح الضائعة في الآفاق اللامتناهية!!
في الليلة الاخيرة، قبل أن يشد رحاله، تفقد ساحر الصخور منحوتاته، وطلب من صديقه الذي يعمل مرشداً للبعثات الاستكشافية، والسياحية، ومربياً للإبل من أصول أفغانية "كهلان بدر الدجى"، أن يهتم بالمنحوتات، لاسيما تمثال أكارا بعد رحيله. تجمع كثير من أفراد قبيلة البيتجان، وأنانغو، وأقاموا احتفالاً لتوديعه على مقربة من صخرة أولورو، واضرموا النار هناك، وطافوا حولها. في الصباح الباكر ركب كهلان بدر الدجى، وساحر الصخور مع ناقتيهما، وبرفقتهما كان جملاً يحمل فوق سنامه الماء، والطعام، والكلأ، وانطلقا نحو ميناء البواخر، والسفن باتجاه مدينة داروين إلى أقصى شمال استراليا على ساحل بحر "تيمور". كان مربيّ الإبل عارف باتجاهات الصحراء، وعارفاً بالنجوم، والمجرات، ودرب التبانة، وكأنه يحمل بوصلة ذاتية يتحسس بها الاتجاهات. جلب الإنكليز الإبل من أفغانستان بعد أن شحنوها في سفنهم الحربية المتوجهة نحو مستعمرتهم الجديدة استراليا. كانت الجِمال مفزوعة، وهائجة في أقفاصها، وسط أمواج المحيط برفقة مربيها الأفغان. حين رست السفن المحملة بغنائم الشرق من نوق، وتوابل، وحرير إلى سواحل استراليا بعد عدة أشهر، تعالى رغاء الإبل الخائفة، فجفلت الكناغر، وأستفاقت الكوالا الوديعة الكسولة المتربعة فوق أشجار اليوكالبتوس من نومها الطويل، وكلاب الدنكَو الوحشية رفعت آذانها مستغربة، وهي تشارك صدمتها مع قبائل الابورجنيز الذين يشاهدون لأول مرة هبوط سفن الصحراء؛ التي جلبت للقيام برحلات استكشافية، لمناجم الذهب، والحديد، ولمعرفة أسرار تلك الجزيرة الشاسعة، فتكيفت الإبل بعد حين مع الصحراء الجديدة وتناسلت بسرعة. كانت الإبل تتهادى بأحمالها، بعد أن حلّ الغروب، أناخ كهلان بالإبل، وعقر قوامهم بالحبال، ثم أنزل الحمولة، وأخذت الإبل قسطاً من الراحة، والكلأ، ثم أفترش البسط المصنوعة من وبر الإبل فوق الرمال، مع وسائد صوفية، ثم توضأ كهلان بدر الدجى من قربة الماء، وتوجّه صوب الكعبة مقيماً صلاة المغرب، ثم تناولا العشاء المكوّن من الخبز، ولبن النوق. بعدها دار حديث السمر، وقبيل منتصف الليل خلدا إلى النوم بحراسة متناوبة، خشية من هجوم كلاب الدنكو. كان بمعية كهلان بدر الدجى بندقية انجليزية "لي إنفيلد"، ورثها من أبيه الذي قدم مع جِماله منذ قدوم قوافل المستكشفين الإنكليز الأوائل إلى استراليا من تخوم كابول، وكان يعتز بها وترافقه في جميع رحلاته. في الصباح الباكر سارت سفن الصحراء في رحلتها وسط أمواج الرمال وكثبانها، فقطع غناء كهلان صمت الصحراء وهو يطلق العنان لحدّائه الذي أطرب الإبل، فرفعت بأعناقها عاليا، وانتظم إيقاع خفوفها على ترانيم غناء الحادي الذي كان يمزج بغنائه ما بين العربية ولغته الام "البشتوية". كان لصدى ترانيم حادي العيس شجن، وسحر ينساب إلى أعماق ساحر الصخور، وهو يرتحل بأخيلته نحو أكارا، وزهورها، وضحكاتها، وفراقها. بعد أسبوع وصلت القافلة الصغيرة إلى مدينة داروين، فودّع حينها الرفاق بعضهم بعضا، وعاد كهلان بدر الدجى إلى موطنه أولورو، بينما بقي ساحر الصخور منتظرا السفينة التي ستبحر باتجاه تيمور الشرقية، ثم جزر جاوة وصولاً الى جاكارتا عاصمة اندنوسيا.
#سعد_محمد_موسى (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
حكايات من جزيرة الواق واق/ الجزء /2
-
حكايات من جزيرة الواق واق
-
مكابدات الرحّال / الجزء الأخير
-
مكابدات الرحّال / الجزء السابع عشر
-
مكابدات الرحال / الجزء السادس عشر
-
مكابدات الرحال / الجزء الخامس عشر
-
مكابدات الرحال / الجزء الرابع عشر
-
مكابدات الرحال/ الجزء الثالث عشر
-
مكابدات الرحّال/ الجزء الثاني عشر
-
مكابدات الرحّال/ الجزء الحادي عشر
-
مكابدات الرحّال/ الجزء العاشر
-
مكابدات الرحّال / الجزء التاسع
-
مكابدات الرحال/ الفصل الثامن
-
مكابدات الرحّال ظ
-
مكابدات الرحّال/ الجزء السابع
-
مكابدات الرحّال / الجزء السادس
-
مكابدات الرحّال - الجزء الخامس
-
مكابدات الرحّال القمر ورحلة البغّال الجزء الرابع
-
مكابدات الرحّال الرحلة الشاقة الجزء الثالث
-
مكابدات الرحّال
المزيد.....
-
بشعار -العالم في كتاب-.. انطلاق معرض الكويت الدولي للكتاب في
...
-
-الشتاء الأبدي- الروسي يعرض في القاهرة (فيديو)
-
حفل إطلاق كتاب -رَحِم العالم.. أمومة عابرة للحدود- للناقدة ش
...
-
انطلاق فعاليات معرض الكويت الدولي للكتاب 2024
-
-سرقة قلادة أم كلثوم الذهبية في مصر-.. حفيدة كوكب الشرق تكشف
...
-
-مأساة خلف الكواليس- .. الكشف عن سبب وفاة -طرزان-
-
-موجز تاريخ الحرب- كما يسطره المؤرخ العسكري غوين داير
-
شاهد ما حدث للمثل الكوميدي جاي لينو بعد سقوطه من أعلى تلة
-
حرب الانتقام.. مسلسل قيامة عثمان الحلقة 171 مترجمة على موقع
...
-
تركيا.. اكتشاف تميمة تشير إلى قصة محظورة عن النبي سليمان وهو
...
المزيد.....
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
-
التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا
...
/ نواف يونس وآخرون
-
دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و
...
/ نادية سعدوني
-
المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين
/ د. راندا حلمى السعيد
-
سراب مختلف ألوانه
/ خالد علي سليفاني
-
جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد
...
/ أمال قندوز - فاطنة بوكركب
-
السيد حافظ أيقونة دراما الطفل
/ د. أحمد محمود أحمد سعيد
-
اللغة الشعرية فى مسرح الطفل عند السيد حافظ
/ صبرينة نصري نجود نصري
-
ببليوغرافيا الكاتب السيد الحافظ وأهم أعماله في المسرح والرو
...
/ السيد حافظ
المزيد.....
|