أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - محمد أيوب - الكف تناطح المخرز - رواية / 7















المزيد.....


الكف تناطح المخرز - رواية / 7


محمد أيوب

الحوار المتمدن-العدد: 1625 - 2006 / 7 / 28 - 03:48
المحور: الادب والفن
    


لمف تناطح المخرز
رواية
بقلم : د . محمد أيوب
الفصل السابع
- 7 –
- كان قد بيّت في نفسه أمرا ، فقبل أن يعتقل احترازيا ، اتفق مع صديق له ، ترك المدرسة قبل أن يكمل الثانوية العامة ، اتفق معه على أن يبحث له عن عمل ، لم يخبر والده بما استقرّ عليه قراره ، أرادها مفاجأة لوالده ، فهو يعرف أن الأسرة كبيرة ، وأعباء الحياة صعبة ، ولا بد أن يوفر بعض النقود التي يمكن أن تخفف العبء عن والده حين يحين وقت دخول الجامعة ، فهو يرغب في إتمام دراسته الجامعية ، ووالده مصمم على ذلك حتى ولو كان على حساب قوتهم اليومي ، لذلك لا بد من تحمل بعض المسئولية ، على الرغم من أن والده يعارض عمله في الداخل ، كان والده مقتنعا أن أمور التعليم والزواج والبناء ميَسَّرة ، فالله يسهل السبل ما دام المقصد خيرا ، وهي مستورة والحمد لله .
جاءه صديقه بعد آخر يوم من أيام الامتحان، صافحه بحرارة، ودون مقدمات قال :
- هل أنت جاهز يا بطل ؟
- وهل تشك في ذلك ؟
- لقد وجدت لك عملا لعله يعجبك .. أولام " صالة " .. ما عليك إلا أن تقدم الطلبات للزبائن .. الأجرة كبيرة والبخشيش لا تسأل .
- أولام ؟
- وماذا في ذلك ؟ ألا تريد أن توفر بعض المال لدراستك الجامعية ؟ وها هي الفرصة أمامك .
- وهل تعتقد أن والدي يوافق على ذلك ؟
- لا تقل له إنك ستعمل في عولام ، قل له إنك تعمل في مصنع ، أي مصنع .
- لم أتعود أن أخدع والدي ، كنت صادقا معه وسأظل كذلك .
- هناك عمل آخر ، ولكن الأجرة أقل والجهد أكبر .
- متى يمكنني تسلم العمل ؟
- من الغد إن شئت .
- سأرد عليك في المساء بعد أن أبحث الأمر مع والدي .
- لعله يقتنع .
- لا تقلق ، والدي يثق بي .
شربا القهوة ، تناول حياد طاولة الزهر ، فتحها ، وضعها بينه وبين صديقه ، لعبا لعبة المحبوسة ، كان يقذف الزهر وهو شارد اللب .
دوش يا ظالم ؟ قال الصديق .
ضحك حياد وقال : سأمسكك في الخشب إن شاء الله .
_ طبعا يا عم ، زهرك راكب حصان .
انتهت اللعبة أسرع مما توقع الاثنان ، استأذن الصديق وهم بالانصراف ، صافحه حياد وقال :
- مع السلامة ، سأراك في المساء .
سرح حياد ورنا ببصره إلى الأفق البعيد ، ترى هل سيكون حظه في الحياة كحظه في لعبة الزهر ، أم أن زهر الحياة يختلف عن زهر الطاولة ، ليكن ما يكون ، ها قد بدأت رحلة الألف ميل ، وسأصل إن شاء الله .
على مائدة الغداء، وبعد عودة والده من عمله ، تبادلت الأسرة أطراف الحديث ، قال الوالد :
- حياد ، يجب أن تتابع الإعلانات في الصحف ، لا تنس ذلك، حتى يمكننا معرفة مواعيد تقديم طلبات الالتحاق بالجامعات المحلية .
- لن أنسى ذلك .
تابع والده :
- آمل أن تحصل على معدل عالٍ يتيح لك فرصة دخول كلية مناسبة .
- لا تقلق من هذه الناحية ، فأنا واثق من ذلك ، على الرغم من أن بعض الطلاب غشوا في الامتحان ، ربما حصلوا على معدلات أعلى مني ، ولكن الدراسة الجامعية شيء آخر .
- في بير زيت لا بد من امتحان قبول ، وهذا وحده كاف للكشف عن المستوى الحقيقي للطالب .
قال حياد :
- والدي أريد التحدث إليك في موضوع .
- وهل تحتاج إلى إذن يا حياد ؟ ! قل .
- أرجو أن تفهمني كما عودتني دائما .
- قل يا حياد ، قل ، نحن أصدقاء .
قال بعد تردد :
- لقد طلبت من صديقي يوسف أن يبحث لي عن عمل ، وقد فعل .
قطب الوالد ما بين حاجبيه :
- آه يوسف ، ذلك الشاب الذي ترك المدرسة قبل أن يكمل التوجيهي .
- صحيح أنه ترك المدرسة ، ولكنه حصل على دبلوم من مدرسة الصناعة التابعة للوكالة ، وها هو يعيل أسرته ، وأخلاقه كما تعرف .
حاول الوالد تلطيف الجو قليلا :
- وما العمل الذي وجده لك ؟
- أولام " صالة " ، والأجر مغر جدا .
صعق الوالد :
- أولام يا حياد ؟! أولام ؟ ! هذه آخرتها ؟ هل تظن أنني عاجز عن الإنفاق عليك ؟
قال حياد بتودد :
- والدي لست صغيراً ، أدرك أن العبء ثقيل ، وأنك مثل أي موظف ، دخلك محدود ، وأخوتي يحتاجون إلى مصاريف ، وأنت تثق بي ، أليس كذلك ؟
اغتصب والده ابتسامة لم تكتمل :
- ولكنني أخشى عليك يا ولدي ، أنت ابني البكر ، أرى فيك نفسي ، لا أريد لمفاسد الحياة أن تلوثك .
- ثق بي يا أبي ، وستجدني عند حسن ظنك .
- استسلم الوالد كعادته ، فهو يثق في تربيته لابنه ويثق بابنه ، وبأن ذهابه للعمل سيكون خبرة جديدة تصقله في مواجهة بحر الحياة الهادر .
***
في المساء ، توجه إلى صديقه يوسف وأخبره أنه أقنع والده ، وأنه سيتوجه إلى العمل يوم الأحد ، ذكره صديقه أن يجهز نفسه في تمام الساعة الثالثة صباحا حتى لا يتأخر .
وقبل أذان الفجر كان قد أعد كل شيء ، لم ينم كالمعتاد ، كان نومه متقطعا يشوبه قلق مبهم لا يدرك له سببا ولا يستطيع أن يفسره ، نهض من فراشه قبل الساعة الثالثة ، رجته أمه أن يأكل، فالمشوار طويل ، وربما كان العمل شاقا، وفي تمام الساعة الثالثة كان جاهزا ينتظر قرع جرس الباب ، أخذ يروح جيئة وذهابا ، أفكاره تلاحقه ، الامتحان والنتيجة ، الحبس الاحترازي ، أبو كفاح وأحاديثه في ذلك اليوم الذي ود لو يطول ، العولام وما أدراك ما العولام ، ترى أي نوع من الناس سيصادفهم في العولام ؟
قطع حبل أفكاره جرس الباب وصوت صديقه يوسف :
_ حياد .. يا حياد .
فتح حياد الباب دون أن يرد ، أشار بيده إلى أمه محييا ، سقطت دمعة على خد أمه حاولت أن تخفيها ولكن تهدج صوتها فضح أحاسيسها ومشاعرها :
_ الله يسهل دربك ويرشد نَوّك يا ابني يا حياد ، روح الله يسهل عليك .
صافحه يوسف قائلا : هيا بنا فالشاحنة تتحرك في الساعة الثالثة والنصف ، ولا بد لنا أن نجد مكانا وإلا قضينا طول الطريق واقفين .
- لم أنم هذه الليلة ، لم أشبع من النوم كالمعتاد .
- غمز يوسف بعينه اليمنى ضاحكاً :
- يا سيدي أكمل نومك في الشاحنة .
- وهل يمكنني أن أنام ؟!
- سوف ترى وتسمع .. الكل ينام ، حتى الواقفون يغطون في نوم عميق ، ويتناثر صوت الشخير هنا وهناك ، لا يبقى مستيقظا إلا الشائق ، وربما نام هو الآخر ، كان الله في عونه .
حياد بفزع : وماذا لو نام السائق ؟ يوسف ضاحكا :
- لا تقلق ، فالشاحنة تعرف الطريق ، تحفظه عن ظهر قلب كما كنا نحفظ أناشيد الصباح .
كانا يسيران وهما يتبادلان الأحاديث ، شاهد حياد أشباحا آدمية تجلس القرفصاء على رصيف الشارع .
همس يوسف :
- قرفص يا أبو الشباب ، قرفص إلى أن تأتي الشاحنة .
- جلس حياد القرفصاء ، أخذ يرقب عقارب الساعة وهي تتحرك ببطء شديد ، نسيم الصباح يداعب خصلات شعره ، شعر برعشة في جسده ، كان الجو لطيفا ، بدأ الصباح يتنفس تدريجيا ، وأخيرا جاءت الشاحنة ، بدأ العمال في الصعود واحداً بعد الآخر .
توجه يوسف إلى المقعد الخلفي ، تبعه حياد وجلسا جنبا إلى جنب ، توقف تدفق العمال إلى داخل الشاحنة ، بقيت بعض المقاعد خالية من الركاب ، أدار السائق محرك السيارة التي أصدرت صوتا أشبه بالشخير ، انزلقت عجلاتها تدريجيا، سار السائق ببطء حتى وصل سوق الظهرة قرب مدارس الوكالة ، توقفت السيارة فتدفق سيل العمال من جديد ، امتلأت المقاعد الشاغرة ، أخذ الممر الموجود بين مقاعد السيارة يزدحم بالركاب الواقفين ، تحرك السائق ببطء ليتوقف قرب مسجد بلال ليتدفق العمال من جديد ، لم يعد باستطاعة الشاحنة أن تستوعب المزيد من العمال .
جاوزت الساعة الرابعة حين تحرك الساق للمرة الأخيرة بلا توقف ، وأثناء مرور السيارة بالقرب من مسلخ البلدية طرقت أسماعهم أصوات الذبائح مختلطة بروائح الدم المتخثر والروث المتعفن ، وذلك السيل الكريه الرائحة من مياه غسل الحيوانات ودمائها الذي يتدفق كل صباح منحدراً نحو الشرق وكأنه تحية الصباح يقدمها المسلخ لسكان المعسكر والمدينة القاطنين على جانبي شارع البحر ، أفواج الذباب بدأت تهاجم الشاحنة ، تحاول سرقة النوم من عيون أولئك الذين بدأ شخيرهم يعلو داخل الشاحنة ليختلط بصوت الحيوانات المذبوحة .
انحرف السائق يمينا ثم يسارا ، عمارة " أبو دقة " إلى يمين السائق ، تلك العمارة التي كانت حديث الناس عند إقامتها ، كانت قصرا يومها ، ولكنها أخذت تتضاءل تدريجيا بعد أن بدأت تنبت إلى جانبها عمارات أخرى ـ فقد أصبح الميدان يعج بالعمارات العالية التي تلاصقت في تحد وكأنها تتنافس في الوصول إلى كبد السماء ، جامع السنية " أهل السنة " الذي اتخذه السلفيون مقرا لحركتهم يقبع إلى اليسار، مال السائق إلى اليمين ، دار حول دائرة مزروعة بالأعشاب النجيلية ، هاهو موقف السيارات المؤدي إلى بني سهيلا ، استمر السائق في سيره ، اجتاز مزلقان السكة الحديد ، اتجه شرقا إلى مدرسة حيفا الثانوية للبنات التي أصبحت مقرا للحكم العسكري تطل من اليسار ، ومدرسة خان يونس الثانوية تطل من اليمين ، الشارع المؤدي إلى بني سهيلا يتجه صاعدا نحو الشرق ، مال السائق نحو اليسار تاركا بني سهيلا إلى يمينه وخان يونس إلى يساره ، اتجه شمالا على الطريق الرئيسي إلى غزة ، فكر حياد باستغراب ، داهمته الفكرة لأول مرة : لماذا أصبحت دير البلح مدينة بينما بقيت بني سهيلا في عداد القرى ؟ مع أن الثانية أكبر من الأولى وأكثر عمرانا وسكانا ؟
- إيه دنيا وفيها العجايب .
قالها حياد بصوت مسموع .
ضحك يوسف :
- لم تنم حتى الآن ؟ ظننت أنك شبعت نوما !
- كيف يمكن أن أنام مع هذا الضجيج الذي يصدر عن محرك السيارة .
قال يوسف بلا مبالاة :
- ستعتاد عليه ، بل سيساعدك على النوم ، إنه أشبه بصوت وابور الكاز الذي كانت تشعله أمي لتعد لنا الشاي ، فأغفو على صوته ، كما كنت أغفو على صوت المطر فوق ألواح الأسبست والزينكو التي تغطي غرف الوكالة بدلا من القرميد الذي تلف ولم يعد يجدي نفعا .
اقتربت السيارة من القرارة التي أصبحت قرية وأصبح لها مجلس قروي ، عبر مزلقان السكة الحديد ، إلى اليمين تربض بنايات القرارة ومزارعها ، بينما يطل الأسفلت الممتد إلى مستوطنة " غوش قطيف " من اليسار كلسان ساخر ، يسخر من المارة ليل نهار ، وبعد القرارة بقليل يطل من اليمين شارع ترابي كان يؤدي إلى تبة 86 قبل عام 1967م، لطالما كانت لهذه التبة معاركها ، ولطالما تصدت للاعتداءات الإسرائيلية ، ولكنها أصبحت اليوم في خبر كان ، لم تعد هناك تبة ولا معارك ، بيارة أبو هولي إلى اليسار ، كفار داروم تقترب ، تلك القرحة التي أصابت وجه الأرض على حين غرة ، كانت مدرسة للتجارب الزراعية في زمن المصريين ، وبعد الاحتلال أهملت المزرعة الموجودة غربي الشارع ، وظهرت تلك القرحة شرقي الطريق .. إلى الشمال قليلا من جسر وادي السلقا ، لطالما حدثه والده عن هذا الجسر ، فقد كان المصريون يعسكرون هنا عام 48 ، يحاولون إعادة الناس الراغبين في الهجرة إلى الجنوب بعد أن أضاعوا أسدود والنقب والمجدل .. على رأي المثل : " بعد ما ضرّطت .... " ، كانت هنا مستوطنة دمرها المصريون عام 1949م بعدما اعتدت على جلالة الملك ، لقد ثأر الملك لكرامته ولم يثأر لكرامة الوطن ، مدينة دير البلح ترقد في حضن البحر ، وفي مقابل الشارع الرئيسي المتجه إليها يوجد شارع يتجه شرقا ، وقد ترددت إشاعات بعد شقه بأنه أعد لربط القطاع بالضفة بعد الإعلان عن مشروع المملكة المتحدة.
أخذ السائق يزيد من سرعة سيارته ، معسكر المغازي يتراجع إلى الجنوب ، وها هما مخيما البريج والنصيرات يقتربان ، يحتضنان الشارع العام ، كأنهما يقفان شاهدين على بؤس اللاجئين ، يفقآن بالحقيقة الناصعة عيون المتغنين بديمقراطية العالم الحر ، دلفت السيارة إلى جسر وادي غزة الذي بناه المصريون قبل أن يرحلوا ، كما قال له والده ، لا يذكر ما الذي قاله والده بالضبط ، .. أهي شركة النيل للمقاولات أم شركة عثمان أحمد عثمان هي التي بنت الجسر عوضا عن الجسر القديم الذي كانت تغمره مياه وادي غزة فتقطع الطريق بين غزة وجنوب القطاع ، وتغرق بعض السيارات المارة إلى أن تم بناء الجسر الجديد ، وكأنه فأل نحس جلب معه الاحتلال .
تصعد السيارة من وادي غزة متجهة شمالا ، ينحرف السائق شرقا إلى طريق المطار ، هذه الطريق أقل ازدحاما من منطقة الشجاعية في مثل هذا الوقت ، منعطف حاد يفاجئ السائق ، سيارة صغيرة كادت تدخل تحت الشاحنة لولا أن سائقها انحرف يمينا في آخر لحظة ، قال كهل استيقظ لتوه لدى سماعه صرير الفرامل :
- لقد تسبب هذا المنعطف في حوادث كثيرة ، وعلى الرغم من ذلك لم يفكروا في توسيعه .
علق آخر :
- والمفترق ؟ كم حادثة وقعت فيه بين السيارات القادمة من الشمال أو الجنوب وتلك القادمة من الشرق أو الغرب ؟ .
ساد صمت ثقيل بينما انسابت السيارة في طريقها بين البيارات القابعة على جانبي الطريق ، تنبعث منها رائحة أزهار البرتقال الممتزجة بندى الفجر .
كانت الطريق تتماوج صاعدة هابطة تحت بطن السارة ، هبت رائحة قمامة تحترق ، بخرت من الأنوف والرئات بقايا شذى أزهار البرتقال ، أطلت مصانع تشميع البرتقال عن اليمين ، مال الركاب إلى اليمين وإلى اليسار حين عبر السائق ذلك المنعطف الموجود في المنطقة ، اتجهت السيارة إلى الشمال بينما أخذ مفترق الشجاعية يقترب ، لاحت عن بعد أشباح آدمية ، مئات العمال ينتظرون سيارات تقلهم إلى أماكن عملهم ، أطفال في عمر الزهور التي تفتحت قبل الأوان ينتظرون على الطريق ، البعض يدخن ، وآخرون يشترون ساندويتشات الفلافل والفول ، بعض العمال يجرون هنا وهناك، المفترق يضج بالحياة في هذا الوقت من كل يوم ما عدا يوم السبت ، خلفت السيارة هذا الحشد وراءها لتندفع في طريقها ، صوت طلمبة موتور مياه ينفث دخانه من خلال ماسورة طويلة مصدرة صوتا جميلا متقطعا .. طق .. طق .. طق ، لطالما أثار هذا الصوت أشجان كبار السن ، فقد كان يذكرهم بأيام العز قبل هجرة عام 1948 ، رائحة أزهار البرتقال تشع في المكان، الشارع الرئيسي يطل من جديد ، محطة وقود " ديلك " بلونها الأخضر المميز تطل عن اليمين ، تربض على الزاوية تحت إبط الشارع الرئيسي لتستقبل السيارات القادمة من الجهات الأربعة ، توقف السائق عند الكف ، تأكد من خلو الطريق ، رفع قدمه عن الكابح وأدار مقوده إلى اليمين فاتجهت السيارات إلى جهة الشمال ، إلى الغرب تقع بيت لاهيا ، وهاهي الطريق المتجهة إلى بيت حانون تطل من مسافة غير بعيدة ، مداخن المنطقة الصناعية التي تقبع فوق الرمال في " إيريز " تطل عليهم ، هياكل سيارات الباص القديمة تربض على جانب الطريق ، سيل من السيارات يملأ الشارع طولا وعرضاً ، زاد عدد صفوف السيارات عن خمسة صفوف ، بعض السيارات تميل إلى خارج الطريق من الجهة اليمنى محاولة أن تتخطى دورها علها تصل إلى الحاجز قبل غيرها ، بينما كانت بعض السيارات تحاول التسلل من اليسار ، لكن السائقين كانوا حريصين على عدم ترك أية فراغات بين سياراتهم اللهم إلا بضعة سنتيمترات تكفي لتفادي الاصطدام ، كان السائق يدوس على الكابح ليعود فيطلق له العنان من جديد ، وهكذا تتكرر عملية التوقف والتحرك بشكل ممل ولمسافات قصيرة جدا ، كانت عملية السماح للسيارات بالعبور بطيئة جدا ، كان الجنود ينزلون الركاب ، يطلبون منهم الاصطفاف على جانب الطريق ، ليبدأ أحد الجنود في تفحص بطاقات الهوية بلا مبالاة ، بينما كانت نيران الغضب تشتعل في نفوس المنتظرين ، استمر هذا الوضع أكثر من ساعة ونصف ، تجاوزت عقارب الساعة السادسة بقليل عندما وصلهم الدور، طلب منهم جندي النزول خارج الشاحنة ، بينما طلب آخر منهم إبراز بطاقاتهم الشخصية وأخذ يتفحصها على مهل ، سأله الجندي :
- ما اسمك ؟
اغتصب ابتسامة ، فكر في نفسه .. ترى ، ألا يعرف القراءة أم أنه يتفلسف ؟!
نبهه صوت الجندي :
- ما اسمك ؟
أجاب باقتضاب : حياد .
- من أين ؟
- من المخيم .. مخيم خان يونس .
قال الجندي ببلادة :
ما رقم هويتك ؟ أجاب حياد بانفعال :
- وهل تعتقد أنني أحفظ رقم هويتي ؟
دفعه الجندي في صدره بقوة :
لا تناقش أوامر جيش الدفاع .. لا تناقش . ما رقم هويتك ؟
- لا أحفظه ، قلت لك لا أحفظه .
دفعه مرة ثانية بصورة أكثر عنفا :
- في المرة القادمة يجب أن تحفظ رقم هويتك وإلا ...
تناول حياد بطاقة الهوية بينما أخذ العمال يصعدون إلى السيارة بعد أن نزل منها الجندي الذي قام بالتفتيش داخل السيارة تحت المقاعد وفي أمتعة العمال .
وصلت السيارة أخيرا ، ترجل يوسف وحياد بالقرب من مبنى ضخم يقع في وسط مدينة تل أبيب ، سارا بضع عشرات من الأمتار ثم دخلا المبنى ، صعدا على الدرج ، وفي الطابق الثالث دلف يوسف إلى مكتب مؤثث جيدا ، في صدر المكتب يجلس رجل يلبس نظارات طبية ، وأمامه ملف ضخم يقلب في أوراقه ، وفوق رأسه علقت صورة لضابط ببزة عسكرية، يحمل على صدره عددا من الأوسمة والنياشين ، دقق حياد في الصورة وعاد ليدقق النظر في الشحص الجالس على المكتب ، يبدو أن الصورة لذلك الرجل الجالس على المكتب ، ولكنه الآن أكبر سنا مما هو في الصورة ، وقد بدأ الصلع يغزو رأسه ، وبوادر السمنة تظهر على جسده ، نقر يوسف على الباب المفتوح وقال :
- صباح الخير يا سيد روني .
- بوقر طوف " صباح الخير " .
- ها هو حياد الذي حدثتك عنه .
- ها ها .. العامل الجديد ؟
داس بسبابته على جرس المكتب ، جاءته موظفة شقراء الشعر ذات أنف بارز قليلا وجسم بدين ، رسمت على شفتيها ابتسامة عريضة :
- " سليخاه أدوني " معذرة يا سيدي " .
تحدث معها ببضع كلمات باللغة العبرية ، التفتت إلى حياد ، أمسكت يده اليمنى ، طلبت منه بلغة عربية ركيكة أن يأتي معها ، بينما استأذن يوسف وانصرف بعد أن وعد حياد بأن يلتقيا بعد انتهاء العمل ، قادته الموظفة إلى داخل قاعة ضخمة انتشرت فيها الطاولات والكراسي بنظام خاص ، لاح في آخر القاعة بوفيه ضخم ومكان فسيح يبدو أنه أعد للرقص أو ما شابه ذلك ، دلفت الموظفة إلى ممر جانبي ، على جانبيه أبواب مغلقة ، في نهاية الممر باب مفتوح عبره حياد خلف الموظفة التي تركت يده ، وجد أمامه مطبخا ضخما وعددا من مواقد الغاز ، وثلاجة ضخمة وأفران كهربية ، وعددا هائلا من الصحون ، أشارت الموظفة إلى الصحون :
- شغلك هون .. إنت لازم إغسل صخون كويس .
ابتسم حياد ، وفي ذهنه طاف خاطر .. هاي آخرتها يا حياد .
تفتحت مسام عقله ، نسغت منها تلك البيات التي قرأها في كتاب أدب المقاومة في فلسطين المحتلة ، تذكر قول توفيق زياد :
هنا على صدوركم باقون كالجدار
ننظف الصحون في الحانات
ونملأ الكئوس للسادات .
ونمسح البلاط في المطابخ السوداء
حتى نسل لقمة الصغار
من بين أنيابكم الزرقاء
ابتسم حياد .. فعلا ، نحن كذلك وسنظل كذلك ، حتى الساكتون الصامتون ، بل المحايدون أمثالي ، سنظل في حلوقكم كقطعة ، كالصبار ، وفي عيونكم زوبعة من نار .
أشارت الموظفة إلى صابون الجلي ، والليف الموجود على رف خاص ، ثم غمزت بعينها : أنت بتعرف عبراني ؟
- لأ .
- طيب ، شوية شوية ، أنا أعلم إنت
- وماله .
بدأت تحاول تدريبه على استخدام الكلمات الضرورية في البداية .. سليخاه .. بكاشاه .. أني مودى ليخا ، حاولت أن تبدو لطيفة معه ، قالت : إنت مش بقعد كثير هون ، تعلم بسرعة علشان تقدم طلبات للزبائن ، هلقيت شد خيلك وشوف شغلك .
توجه إلى المجلى ، شمر عن ساعديه ، وبدأ يدعك الصحون بالليفة ومعجون الجلي ، ثم يضعها بعد غسلها على رف خاص لتجف ، بدأ العرق يتصبب من جسده وكومة الصحون لم تتناقص ، همس : كان الله في عونك يمه .
العودة إلى القطاع رحلة عذاب يومية ، تتبعثر المشاعر وتتناثر الأحاسيس أثناء الانتظار ، تتفجر براكين الغضب في النفوس فيأخذ السائقون في الضغط على أبواق سياراتهم بطريقة احتجاجية .
كان حياد قد غادر الأولام " الصالة " في نهاية الأسبوع عائدا إلى البيت ، فقد قرر المبيت هناك ليوفر أجرة الطريق ، اتفق مع بعض العمال أن ينام عندهم طوال أيام العمل ، وقد أمضى الأسبوع الأول على أعصابه ، فالغرفة التي ينامون فيها لا تصلح مكانا لتربية الحيوانات ، جدرانها مليئة بالشقوق التي تبصق آلاف من حشرات شبه دائرية حمراء اللون عند حلول الظلام ، لتبدأ في مهاجمتهم وقض مضاجعهم ، تبدأ هذه الحشرات هجومها وهي رقيقة كأنها قشور السمك ، وما تلبث أن تنتفخ لتصبح في حجم حبة العدس أو أكبر ، وعندما يحاول التخلص منها تنفجر لتخرج دما له رائحة كريهة على أصابعه فتشمئز نفسه ، يشعر بالغثيان الذي يدفعه إلى التقيؤ، ولكن القيء لا يسعفه ليظل الغثيان يتجول في جوفه بحرية تامة ، ضحك أحد العمال عندما لا حظ تقلب حياد في فراشه ، مد يده وأمسك بقة بين أصابعه محاذرا أن يفقأها ، ألقاها على حياد قائلا :
- يا أخي نام .. عمرك ما شفت البق ؟
- آه .. إذن .. هذا هو البق الذي طالما حدثني والدي عنه ، لقد غزا المعسكرات التي بنتها الوكالة في أوائل الخمسينات على شكل عنابر تتكون من ثمانية غرف تفصل بينها جدران طينية عشش فيها البق ، كان والده يسهر ممسكا بيده مصباح الكيروسين بعد أن يشعله في المساء ليتتبع جيوش البق الحمراء التي تسير في طوابير على الجدران ، وما إن تشعر البقة بالحرارة حتى تسقط داخل زجاجة المصباح فتجف وتموت .
- فكر حياد في استخدام مصباح الكيروسين في مكافحة البق، ولكن العمال ينامون في الظلام ، ممنوع عليهم إضاءة النور حتى لا تداهمهم الشرطة فيقضون ليلتهم في السجن إلى أن يفرج عنهم بكفالة إلى حين المحاكمة ، والسجن بالتأكيد ليس أرحم من هذه الغرفة، كما قال له أحد العمال، ضحك عامل آخر كان قد جرب السجن بسبب مبيته داخل الخط الأخضر دون تصريح ، قال العامل :
- يوجد هناك بق أيضا .. لا بد أن تتعود على ذلك .
استفز نفير السيارات أحد الضباط الذي أخذ يعربد على السائقين ويلوح بمدفعه الرشاش مهددا متوعدا ، ولكن نفير أبواق السيارات ظل مستمرا ، فقد ملوا الانتظار ، أكثر من ثلاث ساعات وهم ينتظرون ، أحس حياد خلالها بالضجر يتسلل إلى كل خلية من خلايا جسده ، كان الجنود يطلبون من ركاب السيارات أن ينزلوا وأن يقفوا صفا واحدا بجانب بعضهم ، ثم يأخذ الجندي في تفحص بطاقات هوياتهم ببطء ، وبعد ذلك يطلب من السائق فتح مؤخرة السيارة ليتفحص محتوياتها ، ينتقل بعد ذلك إلى داخل السيارة ، يطلب من السائق رفع المقاعد واحدا واحدا ، وبعد أن ينتهي من داخل السيارة يعود إلى المحرك ليتفحصه ، يقرأ رقم المحرك ورقم الشاصي ، وكان بعض الجمود يطلبون من السائق فك دواليب السيارة واحدا بعد الآخر .

نزل ركاب السيارات من العمال ، أخذوا يتجمهرون ويتدفقون صوب حاجز إيرز ، لم يتمالك الضابط أعصابه فأطلق عدة طلقات في الهواء ، فرد العمال بالتلويح بقبضات أيديهم ، بينما أطلق بعضهم الصفير استهجانا ، صاح أحد العمال : يتعمدون إذلالنا .
عقب آخر : وكأنه لا يكفينا ما نلاقيه من تعب طوال النهار .
خفف الجنود إجراءات التفتيش ، أخذ الضابط يلوح بيده اليمنى للسيارات أن تعبر ، تنفس حياد بارتياح حين أدار السائق محرك السيارة بعد أن أشار له الضابط أن يعبر ، اندفعت السيارة بحدة وكأنها تريد أن تقفز عن الحاجز ، وانطلق المذياع يبث أغنية حزينة .



#محمد_أيوب (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- ثورة يوليو شكلت ضمير الأمة
- إسرائيل والهداف غير المعلنة في لبنان والمنطقة
- الكف تناطح المخرز - رواية ، بقلم : د. محمد أيوب / 6
- الكف تناطح المخرز - رواية ، 5
- الكف تناطح المخرز - رواية ، بقلم : د . محمد أيوب - الفصل الر ...
- الكف تناطح المخرز - رواية /3
- 1 / 2الكف تناطح المخرز - رواية
- الطيارون الإسرائيليون واللعبة القذرة
- المخدرات وسيلة لتدمير المجتمعات النامية
- حول وثيقة الأسرى
- هجران
- الكوابيس تأتي في حزيرا ن 23 / 24 / 25
- الانتخابات الفلسطينية في الميزان
- الكوابيس تأتي في حزيران 21 / / 22
- الكوابيس تأتي في حزيران 19 / 20
- الكوابيس تأتي في حزيران 17 / 18
- الكوابيس تأتي في حزيران 15 / 16
- الكوابيس تأتي في حزيران 13 / 14
- الكوابيس تأتي في حزيران 11 / 12
- التلفزيون الفلسطيني والمصداقية العالية


المزيد.....




- فيلم -سلمى- يوجه تحية للراحل عبداللطيف عبدالحميد من القاهرة ...
- جيل -زد- والأدب.. كاتب مغربي يتحدث عن تجربته في تيك توك وفيس ...
- أدبه ما زال حاضرا.. 51 عاما على رحيل تيسير السبول
- طالبان تحظر هذه الأعمال الأدبية..وتلاحق صور الكائنات الحية
- ظاهرة الدروس الخصوصية.. ترسيخ للفوارق الاجتماعية والثقافية ف ...
- 24ساعه افلام.. تردد روتانا سينما الجديد 2024 على النايل سات ...
- معجب يفاجئ نجما مصريا بطلب غريب في الشارع (فيديو)
- بيع لوحة -إمبراطورية الضوء- السريالية بمبلغ قياسي!
- بشعار -العالم في كتاب-.. انطلاق معرض الكويت الدولي للكتاب في ...
- -الشتاء الأبدي- الروسي يعرض في القاهرة (فيديو)


المزيد.....

- مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة / د. أمل درويش
- التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب ... / حسين علوان حسين
- التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا ... / نواف يونس وآخرون
- دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و ... / نادية سعدوني
- المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين / د. راندا حلمى السعيد
- سراب مختلف ألوانه / خالد علي سليفاني
- جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد ... / أمال قندوز - فاطنة بوكركب
- السيد حافظ أيقونة دراما الطفل / د. أحمد محمود أحمد سعيد
- اللغة الشعرية فى مسرح الطفل عند السيد حافظ / صبرينة نصري نجود نصري
- ببليوغرافيا الكاتب السيد الحافظ وأهم أعماله في المسرح والرو ... / السيد حافظ


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - محمد أيوب - الكف تناطح المخرز - رواية / 7