|
مرح البقاعي: الشاعرالفرد في مواجهة العالم
مرح البقاعي
الحوار المتمدن-العدد: 1624 - 2006 / 7 / 27 - 11:25
المحور:
الادب والفن
قراءة بقلم: أحمد فرحات*
لأنها عميقاً أصيبت في حريتها وانتمائها، انطلقت الشاعرة مرح البقاعي تدافع بمرارة وسخط عن كيانها المستقلّ... وكذلك بتمرد عال وهجوم مسدّد لا قِبَل له إلا بالكشف الأمدائي البعيد... لعلها بذلك ترفع الضيق والوحشة عن ذاتها وعن الآخر، وتبدع وطناً شخصياً جديداً فوق أنقاض الوطن المهزوم.
وإذا كانت الحرية قد ابتعدت اليوم عن أن تكون مفهوماً ميتافيزيقياً مجرداً، أو مقولة وهمية متعالية، وصارت حاجة ملموسة للفرد تبدأ من الجسد وتنتهي فيه، مُزجية خطى مصيره في دوي الحياة الحقة، فإن الشاعرة مرح البقاعي سعت لتوكيد حريتها الفردية في الصميم من خلال تلك العلاقة الحسية مع الحرية، إذ هي تمسك بها في الواقع وفي الموقف.. فضلاً عن الغفلة والوهم.. والحرية التي يزخمها الشعر هي من أخطر أنواع الحريات، لأنها تضع الشاعر في قلب مواجهة الحصار برسوخ اندفاعي لا انكفاء له، ولا مجال معه إلا لفضح الأمور في ذرواتها.
فالشاعرة تندس في كل شيء.. حتى في المستحيل لتدفع بفيض أسئلتها وصلتها البرهانية غير الفاقدة للنشوة والبداهة، إنها أيضاً لن تكون مشغولة إلا بإجراء التوثيق وفق مقتضى أحوال الجسد والعقل والروح، لذا هي لا ترتجل أو تتصنّع البطولات والجراءات في سبيل هدفها الذي قد تبصره أحياناً ولكن لا تدركه. المهم أنه يتألب فيها ويحتشد بالاندفاعات الحسية بعيداً من صيغ المبالغات والأضاليل الفجة.
شعر مرح البقاعي يتضمن نسقاً مسرحياً يفصح عن نفسه بعناصر أسئلته.. وهو تمسرح غير مقصود لذاته.. فرضته حالته التي تمد معها وعيها المنشطر، وكذلك كل الدوافع التصوراتية والإبداعية التي ترابط فيها الشاعرة.. هذه التي تتحرك داخل مناخ سياسي واجتماعي يسيطر فيه الاستبداد وأشكال الدوغمائيات كافة سواء الإيديولوجية منها أم الثيولوجية.
وطبيعي لشعر يتحرك في مناخ كهذا أن تنتعش في نصوصه مناخات صراعية وسجالية يتم تصريفها في المحصلة على هيئة ديالوغ مسرحي (ليس في القصائد كلها طبعاً) تجتهد فيه الذات الشاعرة تبعاً لمواجهة مرحلة اختلاط المواقع، وتداخل المتناقضات، فضلاً عن السلبية والنكران وأغراض القهر وشوائب الارتجال السطحي التي يمارسها علينا الواقع العربي كل يوم.
فإنساننا العربي (والشاعرة منه هنا في الصميم) ملقى على حضيضه.. جريحاً، كسيحاً، تائهاً ومحروماً حتى من مستقبله... وليس له من مدبِّر في آخر الأمر غير الضرب في المجهول والجنون واختراق الفوارق كلها... وهل آخر الرعب إلا الجنون؟!
ولا غزو، فالقيمة المواجهة التي يفترضها المبدع لإبداعه المستَبدَل تظل تحمل في منطلقها قيمة شمولية يهبط في ضوضائها خيار الجسد الذي كان ويكون وسوف يكون.
من هنا نجد مراساً خاصاً "ومتفلتاً" للكتابة الشعرية لدى مرح البقاعي.. تعرف كيف تنتقل داخله وخلاله بين المتعالي والتجريبي، المركَّب والسهل.. ومن ثم الإحالة في النتيجة إلى متن شعري عابث التصور، يكشف عن تعبيرية معقودة على نفسها وضوئها الغريب، وابتداعاتها التي هي أيضاً فوق خط نفسها.
إن كتابتها الشعرية ذات الجرأة العالية تذكّر أيضاً بكتابة ذاك الشاعر الفرد في مواجهة العالم.. وهي مواجهة مدمِّرة ومدَمَّرة في آن واحد حتى ولو أفضت إلى مضمار سماع الفرد لنفسه واستطلاعه لمجرى مغامراته وصمته المر والفعّال بنفسه.
ومرح البقاعي في وسط ذلك كله تعرف بكتابتها الشعرية كيف تحافظ على طزاجة الموقف الشعري واللغة الشعرية بمخيالها وتقنيّتها المقنّعة ففي كل نص من نصوصها ثمة قوى عمل وتوترات وإشارات تسحب "المفهومية" الشعرية من تجريديّتها ورمزيتها وتجعلها متجانسة الإطلاق والدلالة والتشخيص المردّد في الاستعمال.
إنها بمعنى آخر في حال أداء النفس الحسي المباشر، تحاول أن تتخلص حتى من نفسها ومن أي مفهوم للكتابة الشعرية وهي تكتب.
والمهم أكثر، أنها تكتب بذائقة من يجدِّد نفسه شعرياً ويلوذ بعزلتها، إنما من غير الدفع بها إلى منطقة الظل..
ولغتها إجمالاً ما تخلصت من بساطة النسق وصفاء الحضور وتفاؤل حركة العلامات. إنها تحرص على أن تظهر في كل ما هو جميل ومنيع وله فرادته الخالصة التي تظل تشي بالاختلاف الخالص.
مقطع القول، يظل الشعر نسياناً فعّالاً أيضاً، يلهم شاعرتنا الحيرة، الخوف، الضجر، الأسى والفقد، حيث تتساءل عن "جدوى الفاكهة أو إضراب الجسد".. وتتساءل أيضاً عن جدوى بياض "الوالد الراحل" أو "الزندقة".
وهي دوماً من "الساطعات فوضىً" و"الغائبات قسراً".. ومن "الخالقات ارتجالاً" و"الخافقات شهوة".. "تَقسِم الفجر بسكّينها" و"تجاهر بالخيانات الطفحية" ثم "ترسم قبعة أو مسرباً لغصَّة اللغة".
و"أشرس" ما تريده الشاعرة مرح البقاعي هو "أن تتمسرح".. وهذا التمسرح إنما ينم عن ازدواج داخلي شهوي تتحرك فيه الشاعرة وتعرف كيف تقذف بالألغاز ذات الكمالات الغامضة – الواضحة والملأى بالصعقات.
وهي من جهة أخرى تجيد فن امتصاص التفاصيل النابضة بالمرونة والحياة وكتابة الحقيقة في الغياب.. فالألوان هي "دمها" ومساحة البياض هي "ترفها" ومبتغاها هو "التشنج" حيث لا تستقر في النهاية إلا على نزفها إنما دونما موت أو انتحار.
إنها هكذا، فوضى تنظم نفسها في مفتتح نفسها.. تطوّح بجميع الحالات والأماكن الحصينة في السياسة والعائلة والاجتماع والأخلاق إلخ... وتقدم امتيازها من خلال أسئلة شعرية حسيّة تظل تستدعي تحليلاً لا نهاية له.
خلال كتابتها التي تنوء تحت عبء ميثولوجيا الرغبة والجسد، لا تخاطب مرح البقاعي الرجل كفرد، بل كجبهة، وتحاكم هذه الجبهة بتوكيدات على الجراح المتبادلة الطالعة من أرض واحدة يقضمها البؤس والتقنع والخوف المخاتل.. أو الإرث المرضي بحالاته كافة.
وإذا كان الرجل هو قطب الغواية الآخر، فهي تريد أن تبسط له من خلالها وليمة الرؤية الجديدة والدعوة المبدعة إلى المفاتيح السرّية وذلك كي يسقيا معاً في النتيجة حضارة إنسانية واحدة نبيلة ومتجاوزة.. لا يتهددها جدار القنوط المسدود.
إنها كشاعرة إذاً تلحق بجبهة الرجل إلى حيث هي غائبة في الرجل عينه، وترغب في تكييف مهمات هذه الجبهة النفسانية والجسدية والسياسية ودفعها بالتالي، بما هي صيغ متجددة يتم تطويعها ورفعها إلى مستوى الأسطورة، لمعانقة الحياة وقطف ثمارها المحرمة وغير المحرمة.. قطفها بجرأة معبّدة بالحرائق وبأشد اللحظات واقعية وخصوبة.
نلاحظ في شعرها أيضاً نسقاً شبه ثابت في اتجاه الوفاق مع المقدَّس والهجس بطاقة إيحاءاته المفتوحة وراء تكامل البريق.. كما نلاحظ أيضاً تبشيراً بطفولة لاهية على أنقاض العقل العاجز.. إنها تحت سطح مستجداتها الشعرية المتواترة، تخفي تململاً وجودياً لا يرضى بأقل من مجرى جديد لنهر الصراع القديم بين معنى الرجل ومعنى المرأة.. أي بين الحياة والحياة في الحياة المرصوصة بينهما.
ومع كتابتها الثملى، المثيرة والملحة بالشهقات، نلحظ أيضاً إيقاعات محملة بالجاذبية والهذيان حتى أقصى منعرجاتها تتضافر لصياغة "الأثر الشعري" الواضح الذي يوري في نفسه شعوراً مريراً بالخيبة ومحاولات التنصُّل منها عبر مرويَّات حدسية أيضاً فيها هذه القدرة على استبصار الشعري ذائباً في طراوة الحلم وأحشاء اللذة واللاوعي.
مرح البقاعي شاعرة تصرّ على التحدي باللغة والجسد.. إن فيها نشوة عميقة ومصممة على الامتلاء والتوثب للامتلاء من جديد.
إنها لوحدها تمسك سهمها المسنون لتصيب حقيقة ذاتها المترنِّحة.
*شاعر لبناني ـ مدير تحرير مجلة الفكر العربي
#مرح_البقاعي (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
عين سوريا السينمائية
-
ليس للمساجلة
-
إعلان سوريا
-
الشعر بين القبض على الماء أو الانسحاب في نجمة
-
هي
-
انقلاب رجالّي لإنقاذ سوريا
-
إلى سجين
-
سينما الهويات
-
الاثر والبخور واليمن السعيد
-
شعر العالم: الشاعرة سو كووك كيم
-
عاطفة الضوء
-
شعر العالم
-
بين الأرضين
-
مجزرة الاعلام السوري
-
كونشرتو البصر: أوب آرت
-
ما وراء سياسيات الكره وشوفينية الانغلاق
-
هنا
-
لسان العالم
-
توق الشاعرة
-
مجموعة مرح البقاعي الشعرية الجديدة بالإنكليزية
المزيد.....
-
من باريس إلى عمّان .. -النجمات- معرض يحتفي برائدات الفن والم
...
-
الإعلان عن النسخة الثالثة من «ملتقى تعبير الأدبي» في دبي
-
ندوة خاصة حول جائزة الشيخ حمد للترجمة في معرض الكويت الدولي
...
-
حفل ختام النسخة الخامسة عشرة من مهرجان العين للكتاب
-
مش هتقدر تغمض عينيك “تردد قناة روتانا سينما الجديد 2025” ..
...
-
مش هتقدر تبطل ضحك “تردد قناة ميلودي أفلام 2025” .. تعرض أفلا
...
-
وفاة الأديب الجنوب أفريقي بريتنباخ المناهض لنظام الفصل العنص
...
-
شاهد إضاءة شجرة عيد الميلاد العملاقة في لشبونة ومليونا مصباح
...
-
فيينا تضيف معرض مشترك للفنانين سعدون والعزاوي
-
قدّم -دقوا على الخشب- وعمل مع سيد مكاوي.. رحيل الفنان السوري
...
المزيد.....
-
التجريب والتأسيس في مسرح السيد حافظ
/ عبد الكريم برشيد
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
-
التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا
...
/ نواف يونس وآخرون
-
دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و
...
/ نادية سعدوني
-
المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين
/ د. راندا حلمى السعيد
-
سراب مختلف ألوانه
/ خالد علي سليفاني
-
جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد
...
/ أمال قندوز - فاطنة بوكركب
-
السيد حافظ أيقونة دراما الطفل
/ د. أحمد محمود أحمد سعيد
-
اللغة الشعرية فى مسرح الطفل عند السيد حافظ
/ صبرينة نصري نجود نصري
المزيد.....
|