|
حكايات من جزيرة الواق واق
سعد محمد موسى
الحوار المتمدن-العدد: 6824 - 2021 / 2 / 25 - 23:18
المحور:
الادب والفن
الجزء الأول عزلة الفنان في غابة الاساطير منذ زمن بعيد كانت فكرة العزلة وهجر المدينة تراود الفنان بعد أن سئم من حصار الكونكريت وضجيج المدينة والعلاقات النفعية والحياة الرتيبة. كانت روحه تهيم شوقاً وعشقاً الى سحر الطبيعة وطلاسمها والى الاسرار المدفونة بين الصخور وحلمه الذي يشده ويراوده كل ليلة في منامه والذي لا يدرك مغزاه لكنه كان يشعر بوجوده في مكان ما في أعماق الغابة ودائماً ما يستدرجه ويحثه للبحث عنه. اتخذ الفنان قراره بمغادرةِ مدينة "ملبورن" والاستقرار نهائياً دون عودة، نحو الجبل للبحث عن حلمه المفقود وروحه الضائعة في أقاصي الغابات اللامتناهية والتي لا يدرك أسرارها سوى "الابورجنيز" وكلاب الدنكَو الوحشية والكناغر والكوالا الكسولة والساحر"أونداجو" عراب طلاسم الغابة وحكايات مملكة الاحلام الشيخ معلم آلة الموسيقى المقدسة المصنوعة من قصب البامبو "الديدجريدو". اختار الفنان السكن فوق سفح جبل "داندنوگ" بعد أن ودع الأهل والأصدقاء حين كان عمره حينذاك في منتصف العقد الرابع. شيّد داره ومشغله من الصخور والاخشاب ومن تلك المادتين أيضاً جسد النحات منحوتاته وتكويناته عن أساطير أرض الاحلام. قبل أن يبدأ النحات ببناء منزله توقف للوهلة الأولى أمام رهبة الصخور فلم يتجرأ الفنان المجبول بتقديس الطبيعة أن يُزيح أي صخرة كبيرة أثناء البناء إيماناً منه بان الصخور هي الاقدم من الدار وتبقى لصخور الغابة الخالدة أحقية البقاء والابدية قبل تشييد المنازل. عاش الفنان والشاعر حياة العزلة قريبا من الحيوانات والطيور وأهتم بزراعة الخضار والزهور بحديقته الواقعة أمام مشغله. وقد حاول التقرب من سكان الابورجنيز الذين كان يتمالكهم الحذر والارتياب من المستعمرين البيض ومن التقرب اليهم لا سيما بعد أن أستولى الانگليز والاوربيين على أراضيهم في حملات الابادة والاستيلاء في القرن الثامن عشر. فكانت ذاكرة الغابة هي الشاهد الوحيد على المذابح التي أرتكبها البيض ضد السكان الاصليين مثلما فعل قبلهم الاوربيون أيضاً ضد الهنود الحمر آثناء أكتشاف أمريكا والاستيلاء على أراضيهم. لكن الفنان النازح من المدينة أراد أن يعطي أنطباعاً مغايرا عن نفسه لدى سكان غابة الجبل.
عادةً ما كان الابورجنيز يراقبون هذا الغريب وهم شبه عراة من خلف الاشجار بينما هو منشغلا بنحت وجوههم وحيواناتهم وأساطيرهم ورقصاتهم ورحلات صيدهم. كان النحات متأثراً بفنون قبائل السكان الاصليين الذين استلهموا أرثهم التأريخي وأساطيرهم ومعتقداتهم من علاقتهم الوطيدة والمباشرة مع الطبيعة فعبروا عنها بالرسم وكذلك بالرقص وتلاوة الحكايات الشفهية التي كانت تحفظ أساطيرهم وقصصهم ورموزهم وآلهتهم بالسرديات الحكائية كتعويض عن وجود الكتابة التي لا يعرفها الابورجنيز منذ وجودهم قبل أكثر من خمسين الف سنة وحتى يومهم هذا . ولكن بعد أن أخذ الابورجنيز يشعروا بأن ساحر الصخور كان صديقاً للغابة أخذ يطمئن له بعض سكان غابة الجبل وباتوا يتقربون اليه أثناء إشتغاله على الصخور وعلى لحاء الاشجار وهم يحدقون باستغراب بازاميله وأدواته وباصابعه البيضاء الطويلة التي كان يعتقد الأبورجنيز أن هنالك سحراً يحركها كي تبث في صلادة الاحجار أرواح الغابة، فأطلق عليه حينها سكان غابة الجبل "ساحر الصخور"!! وحين سمعت الفتاة "أكارا" بوجود نحات من أصول إنكَليزية في أطراف الجبل دفعها الفضول لمراقبته ولمشاهدة مسكنه ثم التعرف عليه لا سيما أنها كانت الوحيدة في قبيلة الأبورجنيز في غابة الجبل تتحدث اللغة الانكليزية. ذات صباح ربيعي كان النحات يبحث حول داره عن ثمار التوت البري وكذلك عن جمع الاغصان الجافة لاشعال موقده، فتناهى الى مسامعه هسهسة فوق أوراق الاشجار المتساقطة والاغصان التي كانت تطأها أقدام من وراءِ أحدى أشجار الغابة المطرية فترآى له شبح فتاة تتخفى خلف جذوع الاشجار وهي تراقبه بفضول. نادى ساحر الصخور على الفتاة بكلماتِ ترحيب وأطمئنان وبمفردات من لغة قبيلتهم المحلية التي بدأ يتعلم النطق بها قليلاً، لكن الفتاة ردت عليه باللغة الانكَليزية حينها أثار ذلك لديه استغراباً كبيراً لدى سماعها. -رجاءً أطمئني أنا جئت الى جبلكم وغابتكم لأني أحب أن أتقرب اليكم: أجاب النحات بصوت يشوبه التوسل والوداعة. وحين تقربت أكارا بحذر من الرجل الغريب صُدم بملامحها الفاتنة والغريبة في الغابة والتي كانت مزيجاً ما بين ملامح الابورجنيز ببشرتهم الداكنة السمراء والملامح الانكَلو ساكسونية البيضاء. كانت فتاة الغابة ذات العشرين عاماً مُذهلة بقوامها الممشوق ونهديها النافرين مثل نهديّ تمثال الآلهة أفردويت... أما عينيَ أكارا الزرقاوين أضفى لملامحها استثنائية نادرة ومغايرة لملامح سكان قبيلتها. دعى النحات فتاة الغابة أن تشاهد منحوتاته وأن يقرأ لها بعضاً من قصائده. ثم سألها عن معنى أسمها؟؟ أكارا تعني في لغة قومي السماء: أجابت الفتاة!! أيتها السماء أتوسل اليك أن تحدثيني عنك وعن سكان قبيلتك الذين يعتقدون أن السحرة جلبوني الى هنا كي أجعل الصخور تنطق أما أنا وفي حضرتك الان تشدنيّ الرهبة والفضول لمعرفتك: سأل النحات مترجياً الفتاة قهقهت الفتاة بصوت عالي .. وأثناء صدى ضحكتها في فضاء الغابة، تردد صوت الطائر الضحاك " كوكوبارا" وهو كان يقلد ضحكتها الجذابة متخفياً بين أغصان شجرة الاوكالبتوس. ازداد استغراب النحات لما يحصل من علاقة طائر الكوكوبارا الذي كان يتعقب الفتاة !!؟؟ أطمئن أيها الفنان أنا لست بساحرةٍ، أنا أبنة هذا الجبل: أجابت أكارا !! ثم أردفت بسرد قصتها الحزينة التي تأثر بها ساحر الصخور حين تعرضت أمها الى أغتصاب من قبل أحد الضباط الانكَليز أثناء مرورهم بالجبل. ثم أختطافها فيما بعد من أحضان أمها ومن الغابة كي تتبناها عائلة أيرلندية في مدينة ملبورن حين كانت بعمر الخمس سنوات وبعد عشر سنوات أرجعتها العائلة الطيبة حين شعرت بالذنب الى قبيلتها والى أمها والى موطنها. ... بعد أن تردد حضور أكارا عدة مرات الى مشغل النحات الغريب والقادم من المدينة الى جبل داندنوگ أخذت أقاويل ووشايات نساء غابة الجبل تنتشر بين القبيلة وتُؤول الحكايات مما أغضب الفتى "أدونا" الذي كان يعشق أكارا وقد حاول كثيرا أن يظهر تودده وحبه لها وعادة ما كان يستعرض رقصاته حول النار وهو يصبغ جسده بخطوط لونية من مساحيق التراب وطحين الصخور المكونة من الابيض والاحمر والاسود والاصفر التي ترمز الى لون علم الابورجنيز وكان ينفخ مواجعه وعشقه في آلة "الديدجريدو" وهو يتعقبها حيثما تذهب للبحث عن ثمار الفاكهة أو قطف الزهور البرية من الغابة لكنها لم تكترث باهتمامه ومشاعره. كانت قبيلة الجبل تتهمها بالغرور لا سيما إنها كانت تتمتع بجمال ودلال بعد أن عاشت عقداً من الزمن في المدينة برعاية العائلة الارستقراطية الايرلندية وكذلك كان يربطها إنتماء للعرق الابيض من أصول الأب الانكَليزي. طلب ساحر الصخور من أكارا أن تكون له موديل كي ينحتها ويجعل منها أيقونة جمال وسط الغابة. ترددت في البدء من طلب النحات ولكن بعد الحاحه وافقت على مضض، ثم طلب منها أن تستلقي فوق جذع الجوز الضخم عارية. كان النحات يمعن عميقا بتأمل جسد فتاة الغابة وهي عارية تستلقي فوق جذع الشجرة بجسدها الخُلاسي الرشيق فكان يشعر بالحمى وبالهام ورغبة بملامسة جسد الموديل. فالحجر يفقد صلادته حين يتحول الى روح وجمال وموسيقى للجسد وكأن الصخر رسول مشاعر ما بين أصابع النحات وجسد أكارا، فالجاذبية لا تحتاج الى لغة لتجسيد وهج العشق، لقد أدركت أعواد الثقاب أتقادها والغابة حرائقها منذ لقاءهم الاول في المشغل، وكان النحات يتعمد الابطاء في أنجاز منحوتة فتاة الغابة كي تكرر زياراتها له. ثم أكمل ساحر الصخور منحوتته مبهوراً وسعيداً بانجازه الفني الذي كان من أجمل ما جسده منذ مجيئه للغابة.
#سعد_محمد_موسى (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
مكابدات الرحّال / الجزء الأخير
-
مكابدات الرحّال / الجزء السابع عشر
-
مكابدات الرحال / الجزء السادس عشر
-
مكابدات الرحال / الجزء الخامس عشر
-
مكابدات الرحال / الجزء الرابع عشر
-
مكابدات الرحال/ الجزء الثالث عشر
-
مكابدات الرحّال/ الجزء الثاني عشر
-
مكابدات الرحّال/ الجزء الحادي عشر
-
مكابدات الرحّال/ الجزء العاشر
-
مكابدات الرحّال / الجزء التاسع
-
مكابدات الرحال/ الفصل الثامن
-
مكابدات الرحّال ظ
-
مكابدات الرحّال/ الجزء السابع
-
مكابدات الرحّال / الجزء السادس
-
مكابدات الرحّال - الجزء الخامس
-
مكابدات الرحّال القمر ورحلة البغّال الجزء الرابع
-
مكابدات الرحّال الرحلة الشاقة الجزء الثالث
-
مكابدات الرحّال
-
مكابدات الرحال
-
حقائب مهجورة في قطار قديم
المزيد.....
-
-البحث عن منفذ لخروج السيد رامبو- في دور السينما مطلع 2025
-
مهرجان مراكش يكرم المخرج الكندي ديفيد كروننبرغ
-
أفلام تتناول المثلية الجنسية تطغى على النقاش في مهرجان مراكش
...
-
الروائي إبراهيم فرغلي: الذكاء الاصطناعي وسيلة محدودي الموهبة
...
-
المخرج الصربي أمير كوستوريتسا: أشعر أنني روسي
-
بوتين يعلق على فيلم -شعب المسيح في عصرنا-
-
من المسرح إلى -أم كلثوم-.. رحلة منى زكي بين المغامرة والتجدي
...
-
مهرجان العراق الدولي للأطفال.. رسالة أمل واستثمار في المستقب
...
-
بوراك أوزجيفيت في موسكو لتصوير مسلسل روسي
-
تبادل معارض للفن في فترة حكم السلالات الإمبراطورية بين روسيا
...
المزيد.....
-
تجربة الميج 21 الأولي لفاطمة ياسين
/ محمد دوير
-
مذكرات -آل پاتشينو- عن -العرّاب-
/ جلال نعيم
-
التجريب والتأسيس في مسرح السيد حافظ
/ عبد الكريم برشيد
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
-
التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا
...
/ نواف يونس وآخرون
-
دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و
...
/ نادية سعدوني
-
المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين
/ د. راندا حلمى السعيد
-
سراب مختلف ألوانه
/ خالد علي سليفاني
-
جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد
...
/ أمال قندوز - فاطنة بوكركب
المزيد.....
|