نبيل ياسين
الحوار المتمدن-العدد: 1623 - 2006 / 7 / 26 - 08:57
المحور:
الادب والفن
سيرة قصيدة .. سيرة رأي
مهرجانات .. صعود المسرة
لست اترك تلك الذكرى للنسيان . لقد تفتح هناك ، في قاعة الشعر ذلك الحب الذي كان يخفق في الممرات والساحات وقاعات الدرس في الجامعة ، بين جيل من الشباب ، اؤلئك القادمين من ارياف المدن او من المدن او من بغداد ليجدوا انفسهم وقد تفتحوا مثل زهر الربيع العابق بالشذى . حلموا طويلا وهم يسمعون قصائدنا في قاعة الشعر في الجامعة.هتفوا لقصائدنا لانهم احبوا ان يحيوا في تلك العاطفة الجياشة التي اندلقت من قلوبهم مثل نبيذ في كأس. هي ايضا ، ندى ، وجدت في تلك المهرجانات الشعرية نشيدها الملحمي الصاعد من معابد البلاد يغني لعشتار وتموز في عناقهما الابدي من اجل الولادة والخصب في بلاد مابين النهرين . فيما بعد انضم الى مهرجان الشعر هذا شعراء جاءوا من السجون ومن النسيان ,ومن الارث العراقي الذي اصاب البلاد في ذلك الطور ، ارث الانقلابات والعسكر والاحزاب والدم . صعد معنا ، نحن الطلبة ، شعراء مثل يوسف الصايغ وعبد الرزاق عبد الواحد ولميعة عباس عمارة وغيرهم. ، تنقلوا معنا من كلية الاداب الى كلية الصيدلة ، ومن كلية الاقتصاد والعلوم السياسية الى كلية الهندسة، حتى صار الشعر في تلك الاعوام زاد الجامعة. زاد الاطباء والمهندسين والصيادلة والاقتصاديين.زاد جيل من ابناء البلاد الذين بدل ان يصعدوا زقورات بلاد النهرين هبطوا الى جحيمها السفلى في الاقبية والسجون نهاية الستينات ، خاتمة الستينات الفاجعة كانت افتتاحية لسنوات السبعينات التي ستطلق في بداية مضيئة من التحدي والصعود تيارات جديدة ومختلفة من الثقافة والنمو الفكري سرعان ما ستثير شهية الهراوة التي ستتخندق امامها لتوقف زحفها البشري المختلط باحلام وآمال الاجيال الجديدة التي رأت في البلاد ميدانها الحي الضاج بالعنفوان للان تحقق ذاتها وتؤكد عزيمتها على اعادة مجد البلاد ووضع اكليل غار ثقافي على هامة عانت من الخراب والضمور. اكثر من الف مستمع يحتشدون في قاعة الحصري, في كلية التربية, التي ستصبح كلية الاداب, فتفسح الممرات الارضية والممرات في الطابق العلوي بلاطها لمقاعد الدرس التي تسحب من الصفوف الى الممرات لتنضم الى لهيب القاعة التي تنشد الشعر وتنشد للشعر . لم يكن ذلك الا لان روح هذا الجيل قد رفرفت في سماء حلم لم يطل به الوقت. سرعان ما اخذ، على حين غرة الى ساحات التدريب لينضم الى عسكر ومدرعات والغام ومدافع ورشاشات ورمانات يدوية ومصفحات ونجوم لامعة على اكتاف انصاف متعلمين جاء بهم النظام على عجل ليؤلف منهم جيشا عقائديا بديلا وليخوض بهم حروبا لاتنقطع الا بعد ان تقطع اوصال البلاد مثل لحم ذبيحة من ذبائح النذور. . اين اصبحوا?اين انزوت تلك النظرات التي كانت تتسرب خلسة الى عيني فتاة او الى وجهها ، على خجل من البوح.اتذكر اؤلئك الطلبة الريفيين الخجولين القادمين على جناحي حلم خجول وهم يسرون اليّ حبهم لهذه او تلك ، واتذكر رسائل بعضهم التي سعوا الى ان تصل الى محبوباتهم دون امل،فقد خانتهم شجاعتهم ، وخانهم الخوف من فقدان الامل ,فظلوا يعيشون على ذلك الامل الخفي الندي الطري الذي اخذوه معهم ، ربما الى الخنادق التي سقطوا فيها ،او السجون التي اعدموا في ساحاتها،او النسيان الطويل الذي طواهم في ضجة بلاد لم تسمح بنشيد حب او قصيدة غرام او اغنية ذكرى: اكفن صدر الليل بالحزن والرؤى واجرح صمت الارض في خطو نشوان ِ اصوغ لك الاشعار يانور خاتما واخفي لك الميلاد في طي اكفاني فبالامس ماتت في العيون قصائدي وغادر طير العشق في الفجر اغصاني في رنة رومانسية وفي بحة جيل يحاول ان يحيل رمل خيباته الماضية الى ميلاد جديد تصاعد نشيد رافديني في قصائنا في ذلك المناخ الاحتفالي الحاشد الطقوسي حيث سيخرج الشعر الى العالم محمولا على اكتاف التحدي التي واجه بها جيل جديد تحولات ذلك الزمن الساخن. ذات يوم ، في مهرجان عام 1969 ، دخل قاعة الشعر الطلابية تلك ، التي ذاع صيتها ، شعراء مؤتمر الادباء ذلك العام . دخل ادونيس, وصعد احمد عبد المعطي حجازي معنا ، على المسرح ليلقي قصيدته
قصيدته(هذا هو اسمي). (مرثية لاعب سيرك ). وطلب آخرون ان يلقي ادونيس
واصطف شعراء عرب آخرون هناك. وكأن قيامة الشعر قد بدأت في ذلك المكان الذي سينفى منه الشعر بعد اعوام ويقتصر على خطب طلبة تبح اصواتهم وهم يدعون الى الحرب وابادة الآخرين. قبل ان نودع تلك المهرجانات ، ونودع منها تلك الاحلام التي رافقتنا ، بانت علائم سحب في الافق القريب: حملت قطارات الحنين مسافتي فحبوت ادفن في الطريق رثائي وانا الذي حمل الفرات بثغره وسكبته مطرا على البيداء اخفيت في صمت الشوارع غربتي ودفنت في جرح المغيب سمائي هل حقا دفن ذلك الجيل سماءه في جرح المغيب الذي شمل سماءنا الاولى ? كيف حدث ذلك ، وفي لحظة من النهار حل انكسار الضوء عائدا الى النصف الثاني من الكرة الارضية الذي توقف في بلاد الرافدين ليبقى الليل الذي تخرق صمته المراثي والمناحات وشجى اصوات الندابات في هياكل ذلك التاريخ النابت كالاعشاب المتسلقة على الاطلال؟ كل قصيدة في ذلك المكان .. كانت ندى هناك. تعرف انها معنونة اليها ، فماذا تبقى مني ، من ذلك الزمان القديم؟ اكاد اضع كهولتي في فنجان قهوتي اليومية لاراها تترجرج في ذلك السواد الطاحن الذي يبدو وكإنه يغطي اعماقا سحيقة من عالم سفلي تحت الارضين السبع التي تكون منها عالمنا القديم . كل يوم اتساءل ماذا تبقى مني ? وافزع وانا اصيح بصمت وقور : ياإلهي ، من اين لي كل هذا العدد الهائل من الاعداء؟
من الذي صنعهم ورباهم واطعمهم وقوى فيهم غريزة تلك العداوة التي ترفع برقعها منذ اول لحظة ? لقد بقيت زمانا طويلا آخذ نفسي الى حجرات تحليلي لارى فسلجتها وسايكولوجيتها وبيولوجيتها وجيناتها واحدث بافلوف وفرويد ومندل واذهب الى تاريخ نظرية اخلاط البدن واجرب المزاج الصفراوي والمزاج البلغمي والمزاج الدموي والمزاج السوداوي عليها وكل يوم تظهر نتائج ليست مدهشة ولا عجيبة. لقد بقي هذا الكائن الذي تلبسني يتنقل من مختبر الى آخر في ظروف متغيرة دون ان يطرأ عليه اي تغيير : الاعداء هم الاعداء يزدادون بعد كل اختبار ويقرعون طبولهم ويهزون ربيارقهم ويصيحون صيحة الحرب مشهرين سيوفهم اليمانية ورماحهم الردينية .اما انا ، فانظر من ميداني وحيدا ، اعزل ، عاريا ، فادافع بحنجرتي التي كلت على كثرة صيحات الغضب والدفاع عن النفس التي اطلقتها . لقد بدا كل شئ وكأنه يحدث مكررا بطبول وبيارق وصيحات وسيوف ورماح آخرين: وحده الجسد البشري يقاوم والروح تبتعدُ وحدَه الجسد ُ البشري يتقدم صوب النهار وحدَه القلبُ ينبض وحده الرأسُ يستقبل الضجة الموحشه وحده الفم يقرأ وحدها العينُ تبصرُ خيطا من الضوء في الافق الشاحبِ وحدها اليدُ تحمل همّاً وحده العنق يذهب للمقصله وحدها الاغنية وحده كل شئيذوبُ وينحلّف ابخرةً وندى وحده يتعلم اوجاعه وحده يتلقى المصير الجميل... ( وحده 1976) الاشخاص تبدلوا والميادين تبدلت . لكن ماسبب كثرة الاعداء شئ ثابت ، كل يوم انظر من اجله في المرآة لارى هذا الكائن البشري صامتا محدقا في المرآة منتظرا ان تخرج من اعماقها السحرية السحيقة تلك الساحرة التي ستقول : لماذا؟ . ومرت ايام طويلة واعوام ، وعصور ، ولم تظهر تلك الساحرة التي كنت انتظرها من اعماق تلك المرآة التي كانت مثبتة في محمل الثياب الخشبي الازرق المزين بلون فضي لزخارف بدائية وباشكال طيور وطواويس وازهار, ووجه امرأة بشعر اسود مرجل وعيون سوداء نجلاء ورقبة ظبية تمد رأسها الى الماء . ظلت تلك الساحرة في اعماق ذلك المحمل الذي تكسر ذات يوم دون ان تخرج منه, فنزلت الى الارض وما ازال انتظر ان تأتي اليّ لترد على اسئلة كهولتي بعد ان صمتت عن اسئلة عصر طفولتي الذي لم ينته حتى اليوم. كل يوم انتظر ساحرتي ، لتخرج من ذلك الصندوق الذي تصورت فيه العالم السري للتاريخ والكون والمخلوقات والآلهة والسحرة والجن والسعالي والطناطل ومحاربي الزمن السحيق الذين كانوا يذهبون الى مضيق الجبل ليقتلوا التنين بسيوفهم جالبين معهم رؤوسه السبعة االمقطوعة ، ملقينها امام ذلك الحشد البشري الذي خرج من المساكن المعتمة ليروا ذلك الفارس الذي ماقتل التنين الا من اجل ساحرته . ساحرته التي تقف مع ذلك الحشد بعينيها الفرحتين وشفتيها المتهدلتين بذلك الشبق الذي لايفصح عنه ظلام الليل. لقد هبطت من مسرتي ، من تلك الابراج التي اضيئت بضعة ليال وانا اقف فوقها مثل اله سومري ينظر الى مياه النهر تتلألأ تحت انوار احدى مدن البلاد المقدسة. كنا قد تفتحنا للتو . القادمون من ازقة المدن وشوارعها وهم يتطلعون الى الغد الناصع في بلاد يعيش فيها اهلهم واترابهم, لكن الغد سيطول كما طال بنا الليل.
#نبيل_ياسين (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟