|
الخطوةُ الأولى في الحداثة الشعرية العراقيّة
كمال سبتي
الحوار المتمدن-العدد: 1623 - 2006 / 7 / 26 - 08:57
المحور:
الادب والفن
يقول عدد من كتب التراث إنَّ آخرَ شعرٍ كتبه أو قاله أبو نؤاس ، وهو يحتضر، كان مطلعه : دبَّ فيَّ البلاءُ سُفْلاً وعُلْوا وأراني أموتُ عضواً فَعضْوا لكنّ بعض هذه الكتب ، وهو معتبر كأخبار أبي نؤاس لابن منظور، وغيره ، حين يؤكد الخبر كله ، يغير فيه مفردة البلاء إلى الفناء : دبَّ فيَّ الفناءُ.. وفي المعجم الوسيط – وقد اخترته لمعاصرته - ، نقرأ: البلاء.. المحنة تنزل بالمرء ليُختَبَرَ بها، والغمُّ والحزن. وعن الفناء نقرأ : فنيَ الشيءُ فناءً : باد وانتهى وجوده . ويقول القرآن : كلّ من عليها فانٍ ، وفنيَ فلانٌ – يقول المعجم أيضاً، وأنا أخالفه – هَرِمَ وأشْرَفَ على الموت. وأخالفه لأن المعنى الأخير يناقض المعنى الأول ،" باد وانتهى وجوده "، تماماً. لكنَّ رواة الخبر الشعري ، بأبياته ، لم يجدوا خلافاً كبيراً بينَ الكلمتين.. أو أنهم فضَّلوا الفناء على البلاء ، لأنها- الفناء - تدل على الموت. وأحسبُ أَنْ لم يكن خطر في بال أحدهم أنَّ مقالاً سوف يُكتَبُ ذات مرة ، حول رواية البيت بالبلاء أم بالفناء ، فالأمر ليس بذي خطير أهمية ، فهو واقع كثيراً ومكرر كثيراً أنْ في الشعر أو في غيره من فنون الكتابة الأخرى. لكنني أعرف أنهم مدقِّقون ، و فاحصون في المعاني، ولهم في هذا الباب مؤلفات كثيرة ، بل أنهم وسَّعوا في هذا الباب ، وجعلوه أَبواباً ، من الأنصاريّ في " مغني اللبيب ، " إلى الجرجانيِّ في " دلائل الإعجاز.." ، ومن بينهما ممن اِختَلفَ معهما في النظر إلى علم المعاني ، فسلك فيه سلوك أهل الفلسفة والمنطق ، أو من ترك كل هذا ، و اعتمد على ذائقته يستدل بها على المعاني . فما أنا بشاكٍّ في حصافتهم في هذا الشأن. لكنَّ اللغة في معاني مفرداتها تختلف من عصرٍ إلى عصر ..لكثيرٍ من الأسباب ،بل للأسباب كلها ، فقد لا أرى الآن في مفردة ، ماكان غيري يرى فيها قبل مائة عام مثلاً. إنه التطور الشخصي للمفردة.. ونموُّها المعنوي. لذا لا أرى الآن شَبَهاً بين البلاء والفناء. بل أنني الآن أرى أنَّ أبا نؤاس قال " أو كتبَ " بيته بالبلاء ، لكنَّ أحداً وقد يكون الشاعر أدونيس – صديقنا الكبير - ، غَيَّرَ " البلاء " إِلى الفناء..! أو أحد غيره يتمثَّلَه – لغوياً - كليّاً كالصديق الشاعر سليم بركات. تبدو البلاء مفردةً محسوسة ، بالتعبير الإغريقيّ للحسيّين. فهي أقربُ إلى أبي نؤاس في حاله ، على فراش الموت.. وأقربُ إليَّ في حالي الساعية إلى امتلاك حال أبي نؤاس كلها.. والمتنبي يقول : " بضدّها تتعارفُ الأشياءُ" فكيف هي مفردة الفناء ؟ تبدو هذه المفردة الآن وكأنها الفلسفة كلها ، مثالية ومادية ، وكأنها أطنان من الكتب المؤلفة في العصور كلها ، وأكثرها عصرنا : السجالات والهرطقات كلها.. من أنّ المادة لاتُفنى ولا تُستَحدَثُ ، إلى: كل من عليها فان. فهل هي "البلاء" : المحنة ، والمرض ؟ أقول : لا ، بدون عناء تفكير. ولقد ذكرتُ أدونيس ، فما شأنه في هذا أو شأن أحد متمثليه ؟ مسعى أدونيس الشعري مسعى ذهني ، والمسعى الذهني هو مسعى لغوي ، بل أنني أكاد أكون واثقاً من أنّ أدونيس أو أحد متمثليه ، إذا ظهرت " البلاء " في كتابتهما ، فإنهما يغيرانها سريعاً إلى" الفناء "..لأنَّ الأخيرة لها تاريخ سجالي في المنطق والفلسفة ، بينما البلاء مفردة بلا تاريخ سجالي أو لغوي ، كما نقول الآن في هذا المقال.إنها مفردة حسيّة ، مفردة حياة معذَّبَة ومستشفيات يتعالى عليها الشعر عندما يكون ذهنياً. والشعر الذهني له بحثه في الجمال.. ونحن نحبه أحياناً حبّاً جمّاً ، ونُعْجَبُ به أيّما إِعجابٍ . اِسْمعْ ما يقوله المتنبي عندما كان يصف خيول سيف الدولة التي كانت تتعثر برؤوس القتلى من الأعداء : وَتَعَثَّرْنَ بالرّؤوسِ كما مَرَّ بتاءاتِ نُطْقِهِ التّمتامُ هذا البيت قد يكون إِعجازاً حقاً في الشعر، لكنه إعجاز ذهني ، لغوي محض ، في التشبيه بـ "كما مرَّ بتاءات ِ نُطْقِهِ التمتام " . واذا نجح الشعر الذهني الخالص مرة ، وهو هنا بيت شعري واحد ، فلا يدوم نجاحه طوال الوقت ، لأنَّ الأمر سيشبه دخولنا درساً في اللغة لاينتهي ، من الصبح إلى الصبح التالي . وهذا ممّا لا يطاق. لكنَّما الحسُّ قد يسفّ لوحده ، بل أنَّ أكثرَهُ هو إِسفاف ، فيكون على الشاعر أن يقوم بدور ذاك الرقيب ، عند فرويد ،على الوعي. وكان ت.أس. إليوت وجد ضالّته في هاملت ، فكتب عن المعادل الموضوعي بين الفكر والعاطفة.. ولأمرٍ مّا كاذبٍ، شاع في الحداثة العربية الشغل اللغوي البارد، فظن السلفيون أنها كلها شغل لغوي ، أو فرحوا بهذا فوصفوها كلها به. مهارة الشاعر " الرقيب الفرويدي" هي التي ستمنع شعرَهُ من أن يكون مُسِفّاً في العاطفة ، حَدَّ خسارة الفن في رُقيِّهِ وعُلوّهِ على ماهو عاديّ ، تافه ومألوف. وصدقُهُ الشعري ، كونُهُ كائِناً تراجيديّاً ، أعزلَ في هذه الحياة ، هو الذي سيمنعه من جعل الشعر ترفاً لغوياً بارداً. وقد بدأت الحداثة الشعرية العراقية من هنا . إذا كان ثمَّة خطوة أولى لها.. أو إذا سأَلتموني عن خطوة أولى لها فخذوها مني : التفكير في هذا كان خطوتَها الأولى ..
#كمال_سبتي (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
الصّوتُ الشّعريّ
-
الخوف على الشعر
-
التاسع من نيسان واللاءات الأربع
-
آخِرُ المدنِ المقدَّسة..براثا: لم اغتسل في السوق القديمة
-
كمال سبتي: هربنا من دكتاتور قاس لكن الحرب والاحتلال أفسدا أم
...
-
دموعٌ من أجلِ أطوار وبنفسجِها الغاوي
-
عارُنا في أبي غريب
-
الخوفُ على الشّعر
-
قبيلةُ النّمّامين
-
وسوى الرّومِ خلفَ ظهرِكَ رومٌ/ نشيدُ انتصار
-
أيّامي..وقصيدة عن الجمال
-
المقاومة وتروتسكي وقطار برت لانكستر
-
قصيدتان
-
عن أحمد الباقري وتعاليمه
-
جمعُ تراثِ مقارعةِ الدكتاتورية
-
الشعراء يستعيدون نبيا من التاريخ
-
الشّعرُ والتّوثيقُ الشّخصيّ
-
تروتسكي باريس 1979
-
كنّا طَوالَ مُعارَضَتِنا الدّكتاتوريَّةَ وما زِلْنا: بلا حَر
...
-
محسن الخفاجيّ : عمرٌ متوقفٌ في بوكا و اسمٌ يكبُرُ كلَّ يوم
المزيد.....
-
خريطة التمثيل السياسي تترقب نتائج التعداد السكاني.. هل ترتفع
...
-
كيف ثارت مصر على الإستعمار في فيلم وائل شوقي؟
-
Rotana cinema بجودة عالية وبدون تشويش نزل الآن التحديث الأخي
...
-
واتساب تضيف ميزة تحويل الصوت إلى نص واللغة العربية مدعومة با
...
-
“بجودة hd” استقبل حالا تردد قناة ميكي كيدز الجديد 2024 على ا
...
-
المعايدات تنهال على -جارة القمر- في عيدها الـ90
-
رشيد مشهراوي: السينما وطن لا يستطيع أحد احتلاله بالنسبة للفل
...
-
-هاري-الأمير المفقود-.. وثائقي جديد يثير الجدل قبل عرضه في أ
...
-
-جزيرة العرائس- باستضافة موسكو لأول مرة
-
-هواة الطوابع- الروسي يعرض في مهرجان القاهرة السينمائي
المزيد.....
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
-
التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا
...
/ نواف يونس وآخرون
-
دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و
...
/ نادية سعدوني
-
المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين
/ د. راندا حلمى السعيد
-
سراب مختلف ألوانه
/ خالد علي سليفاني
-
جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد
...
/ أمال قندوز - فاطنة بوكركب
-
السيد حافظ أيقونة دراما الطفل
/ د. أحمد محمود أحمد سعيد
-
اللغة الشعرية فى مسرح الطفل عند السيد حافظ
/ صبرينة نصري نجود نصري
-
ببليوغرافيا الكاتب السيد الحافظ وأهم أعماله في المسرح والرو
...
/ السيد حافظ
المزيد.....
|