|
انزلاقات يسارية
مصطفى مجدي الجمال
الحوار المتمدن-العدد: 6816 - 2021 / 2 / 17 - 15:37
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
منذ صغري فتنتني فكريًا وعمليًا وعاطفيًا عبارة أن اليسار هو عقل العصر وشرفه وضميره. وربما يلاحظ المتابع لمقالاتي أنني أربط في بعضها بين التناول الفكري والسياسي وبين التجارب الشخصية حتى تتضح وتتعين الأفكار. وهو ما سأفعله هنا أيضًا.
وأخذت أفسر العبارة السابقة لنفسي بأن عقل العصر هو الذي يعرف كيف تعمل القوانين العامة للتطور في السياقات المتغايرة والمتجددة، وماهي القوى الدافعة موضوعيًا صوب التقدم، والقوى الكابحة له، كما يتلمس إيجاد وسائل وتنظيمات نضاله من الممارسة العملية وسط الشعب، إلى جانب الإفادة من الخبرات التاريخية والتجارب المماثلة، وأن يعرف كيف يحول المباديء والنظريات إلى شعارات قابلة للتنفيذ وأخرى للتوعية بالمستقبل البعيد..
أما اليسار كشرف وضمير فأرة أنه يقصد بهما إعلاء قيم العمل والعلم والمساواة والتحرير، وكذا واجب التضحية من أجل الجموع الطبقية الثورية، بالوقت والجهد والمصلحة الشخصية وربما بالروح أيضًا. وأن تشيع الروح الرفاقية بين المنتمين اليسار، والروح الجبهوية اليقظة تجاه القوى الأقرب. وأن يكون التضامن الأممي (بين الأحزاب والقوى الثورية ودول التحرر الوطني ضد الإمبريالية ورأس المال والعنصرية) اختيارًا دائمًا لا يخضع لتقلبات الأهواء والنزق الذاتي الأناني.
ولكَم عرف تاريخ اليسار في العالم انقلابات مؤسفة، عمليًا أو بسفور، على ذلك المنظور، بادعاءات باطلة عن التجديد ومقاومة الجمود، ولكن مالت مواقف المنقلبين بالتدريج نحو تبني مقولات "براقة" للأيديولوجية البرجوازية الإمبريالية، ليصل الأمر أحيانًا إلى الاندماج في الخطابات والفعاليات والهياكل الإمبريالية المموَهة والسافرة على السواء.
ولعل النقلة الأخطر في هذا الميل الانحداري كانت موجة "البيروسترويكا" السوفيتية التي انتهت بسقوط القطب الأعظم في مواجهة القطب الأمريكي.. إلى جانب تبني الصين "اقتصاد السوق الاشتراكي".. فهذان البلدان كانا بمثابة الكعبة عند بعض من ربطوا الانتماء الاشتراكي بنموذج بعينه، واقتاتوا على نصوصه وتبرير أولوياته.
وبعدما كان البعض يروج لنموذجه (الستاليني أو الماوي) عادوا ليهاجموا نموذجهم السابق باستخدام جوهر خطاب القوى المنقلبة عليه، وإن بتنويعات مختلفة. وصارت سلبيات النظامين بمثابة المبرر لـ "دلق الوليد مع ماء الغسيل"، وهذا بالطبع من قسمات الانتهازية البرجوازية الصغيرة التي "تطلق الرصاص على ماضيها" أولاً بأول على أمل الصعود الشخصي وتحاشي السقوط إلى محرقة الطبقات الدنيا.
ولما كانت البيروسترويكا قد تحدثت عن توازن المصالح مع الإمبريالية الأمريكية، بدعوى حماية الوجود الإنساني والبيئة، فقد كان من المنطقي أن تنزاح الفواصل بين اليمين واليسار لصالح الأول، وبدأنا نسمع عن "القيم الإنسانية الشاملة"، والتركيز على البعد الحقوقي وإهمال البعد الطبقي، وامتداح اللاتنظيم "غير السياسي" الفضفاض، والادعاء بانتهاء الأيديولوجيات والأحزاب، وانشغال كل جماعة "راديكالية" بقضية جزئية دون غيرها وحتى السخرية من شمولية الرؤية.
وعندما جاءت العولمة النيوليبرالية مصحوبة بهيمنة القطب الأوحد في التسعينيات، أخذ المتحولون يدعوننا إلى الاهتمام باستغلال الجوانب "الإيجابية" للعولمة، وكان من أهم تجلياتها ظاهرة الاندماج التنظيمي والمالي والأيديولوجي مع المنظمات غير الحكومية الشمالية (مع إغماض العيون عن ارتباطات هذه المنظمات مع القوى السياسية وحتى الاستخبارية الغربية)، فتغيرت أجندات العمل والخطاب والجمهور المخاطَب ووسائل الدعاية والتمويل.. والأخطر كان تحول المناضل السياسي والنقابي إلى ناشط حقوقي.
ومن أسوأ ثمار ذلك التطور أن بدأت قطاعات من اليسار المتحول/ المتقاعد تتقبل فكرة غريبة اسمها "الاستعمار الداخلي" لتسمية نظم شمولية/ دكتاتورية "وطنية"، مناوئة لهذه السياسة الغربية أو تلك، وهو الطابع غير الديمقراطي الذي ساد للأسف الغالبية الساحقة لكل نظم "ما بعد الاستعمار" في جنوب العالم.
وكان الهدف المستتر من ترويج الغرب لفكرة "الاستعمار الداخلي" هو الإسهام في تلطيف موضوعي للحقائق التاريخية المثبة عن "الاستعمار الخارجي القديم". وهكذا تحت شعارات أيديولوجية "التدخل الإنساني الدولي" جرى التبرير للضغوط الاقتصادية وحتى القصف الإجرامي ومجازر الإبادة الجماعية والاحتلال السافر للدول المناوئة لهيمنة الولايات المتحدة و"الاستعمار الجماعي" الجديد في صورة أحلاف "الراغبين".
أما التجربة الشخصية في هذا الشأن، والتي أضرب بها مثالاً هنا، فقد كانت ندوة فكرية عام 2000 عن العولمة. وكنت أحد المتحدثين في الندوة. تحدثت في العموم عن الجوانب المختلفة في العولمة المروَج لها، وشددت على الطابع الإمبريالي لعولمة تقودها رأسمالية الدولة الاحتكارية في الولايات المتحدة (مع دور أقل شأنا للاتحاد الأوربي واليابان)، وعددت من أهم أدواتها: أوامرية المؤسسات المالية الدولية والشركات متعدية القوميات والأحلاف العسكرية والسلاح النووي والسيطرة على المنظمات السياسية الدولية والإقليمية والإعلام ذا الإمكانات المهولة والتنميط الثقافي..الخ.
ثم تحدثت عن بُعد لم تكن خطورته ملحوظة جيدًا قبل أحداث 11 سبتمبر 2001 ألا وهو التزايد الرهيب في نفوذ اليمين المسيحي في الولايات المتحدة (خاصة في "الحزام الإنجيلي" بالولايات الجنوبية) والذي بلغ ذروة قوته في صعود "المحافظين الجدد" إلى قمة مؤسسات الحكم والإعلام والثقافة الأمريكية، وكانت الدعوة الصهيونية المسيحية هي الأخطر على الإطلاق في هذا الصعود.
تربط الصهيونية المسيحية بين صدام الحضارات الذي لا فكاك منه والمجيء الثاني للمسيح ونهاية العالم (أبوكاليبس)، وبين حرب مهلكة حتمية تنتصر فيها أولاً الدولة اليهودية على كل الكفار و"الأغيار". وليس من الغريب أن تزدهر أفكار شديدة العنصرية والعدوانية في مجتمع يتفاخر بالديمقراطية والعلم.
عندما بدأت أتحدث في هذا الجانب المسكوت عنه نسبيًا وسط اليسار، واستعنت بمقتطفات من كتابات كبار مفكري الصهيونية المسيحية.. لاحظت وسط القاعة رفيقًا كنت أحترمه جدا يهز رأسه في امتعاض شديد، بعدما كان مبتسمًا ومشجعًا طوال حديثي.
بعد الندوة جاءني الرفيق وعاتبني لأنني تحدثت عن هذا الموضوع الشائك الذي يثيره التيار الإسلامي في ذات الوقت، ومن ثم يجب التركيز على الجوانب السياسية والاقتصادية فقط للعولمة. وأضاف أن مساهمتي تصب في طاحونة العداء للمسيحية ككل، ومن ثم الإسهام في الفتنة الطائفية.
قلت له: أولاً أنا أتعامل في نقاش فكري مع الحقائق وليس الحساسيات والمشاعر. ولا يمكنك أن تنفي كلمة واحدة مما أوردته في هذا الصدد حتى لو اختلفنا بشأن أوزان أهميتها. ثانيًا: إن الأقباط جزء مندمج في النسيج الوطني العام، وتوجد وسطهم ذات الاختلافات الموجودة وسط المصريين المسلمين.
جدير بالذكر أن هذا الرفيق صار من أنشط الحقوقيين المتمتعين بالتمويل الغربي، ومن ثم فإن التركيز على طبيعة السياسة والثقافة والفكر الإمبريالي ليس من أولويات أجندته، بينما تنحصر أنشطته في نقد مجتمعه ودولته فقط.. أي أنه حتى لا يساوي في النقد بين "الاستعمارين الداخلي والخارجي" فيقدح الأول فقط، وإن اضطر لتناول الثاني فإنه يذكرنا فقط بضرور استغلال الجوانب الإيجابية فيه.
#مصطفى_مجدي_الجمال (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
المشبوه أيمن نور والمعارضة المزوَّرة
-
التهمة إدمان المنشورات
-
حوارات ثورية
-
وتظاهرنا في ميت أبو الكوم
-
ويبقى أنيس مورقًا فينا
-
كيف أحرجنا رجال السادات
-
أركيوبتركس
-
الأم جونز
-
كنت ضيفًا على المخابرات السودانية
-
عشر سنوات على خطاب أوباما الثقافي
-
كرهت أستاذي.. والسبب ناصر
-
رفيقي الملاكم اليساري
-
حوار خصب مع سمير أمين
-
حقارة أن تتهكم على شعبك ولا ترى عيبك
-
الكيماوي الأمريكي الحلال
-
آخر أوراق سمير أمين
-
أعراض ليبرالية
-
اليسار والتغيير الاجتماعي
-
حاورت خالد محيى الدين
-
من ليالي المشقة والفزع
المزيد.....
-
حاول تثبيتها فسقطت منه في البحر.. شاهد ما التقطته كاميرا تحت
...
-
علماء يكتشفون سببًا محتملًا لإعادة بناء نصب -ستونهنج- قبل آل
...
-
أحبّها بعمق.. قد يصدمك ما فعله رجل ليبقى بقرب حبيبته
-
فيديو يظهر محاولة اقتحام سجن مكسيكي بعد أعمال شغب دامية.. شا
...
-
-العنف الطائفي بعد الإطاحة بنظام الأسد أقل حدة مما كان متوقع
...
-
آلاف السوريين يحتشدون في ساحة الأمويين في الجمعة الثانية بعد
...
-
إل ألتو البوليفية: -المنازل الانتحارية- مهددة بالانهيار والس
...
-
فنلندا تجدد رفضها فتح الحدود مع روسيا
-
ليبيا.. ضبط شبكة نشطت في تصنيع وبيع الخمور المغشوشة في بنغاز
...
-
مصر تدين اعتداء الدهس في ألمانيا وتؤكد رفضها كل أشكال الإرها
...
المزيد.....
-
لبنان: أزمة غذاء في ظل الحرب والاستغلال الرأسمالي
/ غسان مكارم
-
إرادة الشعوب ستسقط مشروع الشرق الأوسط الجديد الصهيو- أمريكي-
...
/ محمد حسن خليل
-
المجلد العشرون - دراسات ومقالات- منشورة بين عامي 2023 و 2024
/ غازي الصوراني
-
المجلد الثامن عشر - دراسات ومقالات - منشورة عام 2021
/ غازي الصوراني
-
المجلد السابع عشر - دراسات ومقالات- منشورة عام 2020
/ غازي الصوراني
-
المجلد السادس عشر " دراسات ومقالات" منشورة بين عامي 2015 و
...
/ غازي الصوراني
-
دراسات ومقالات في الفكر والسياسة والاقتصاد والمجتمع - المجلد
...
/ غازي الصوراني
-
تداخل الاجناس الأدبية في رواية قهوة سادة للكاتب السيد حافظ
/ غنية ولهي- - - سمية حملاوي
-
دراسة تحليلية نقدية لأزمة منظمة التحرير الفلسطينية
/ سعيد الوجاني
-
، كتاب مذكرات السيد حافظ بين عبقرية الإبداع وتهميش الواقع ال
...
/ ياسر جابر الجمَّال
المزيد.....
|