|
الخراف الضالة - رواية- القائمة الطويلة لجائزة الشيخ زايد (2)
احمد جمعة
روائي
(A.juma)
الحوار المتمدن-العدد: 6813 - 2021 / 2 / 13 - 02:58
المحور:
الادب والفن
(فلاش باك )
كان صباح يوم جمعة مشبع بحرارة شهر سبتمبر الخفيفة، سطعت الشمس منذ الفجر وانبثق ضباب شفاف أشبه بالغيم، كان يوم إجازة مدرسية واتفقنا أنا وعدد من صبية الحي على الخروج إلى البحر وإلقاء السم للأسماك كعادتنا لتقتلها ثم نجمعها والقيام بشوائها على الساحل محاولين استدراج بعض الفتيات بأعمارنا. أذكر ذلك الصباح المشبع بندى البحر وقد تسربت رائحة حرق جثث القطط والكلاب التي تجمعها سيارات البلدية، كان أفق السماء ينذر بتحول الطقس إلى البرودة عند نهاية فصل الصيف ومجيء فصل الخريف بأوراقه الصفراء اليابسة حين تتسلل البرودة إلى الأجسام عندما ننزلق في الماء محدثة قشعريرة، كنا نود اختتام الصيف بآخر الطلعات إلى البحر للاحتفال بصيد الأسماك بتسميمها قبل هجوم موجة الشتاء التي تحرمنا من متعة صيد الأسماك، كانت صبيحة أحد أيام الجمع وهو واحد من الأيام التي تقوم البلدية بحرقها، فتظل روائح اللحم المحترق عالقة لأيام في الهواء وتتحول إلى نكهة ملوثة الطقس حتى تتساقط الأمطار فتبدأ الرائحة بالانقشاع، كان يوم جمعة حينما خرجنا جميعنا إلى سوق المحرق وهناك قمنا بشراء حبوب "الصرصخ" وهو نوع من السم على هيئة حبات سوداء بحجم الفاصوليا، كنا مجموعة من الأولاد الذين اعتدنا على التجول في الأسواق طوال أيام الإجازات ودأبنا على زيارة مخزن الباعة الكراشية بسوق المحرق مقابل محلات الحلوى البحرينية، كنا نذهب إلى هذه المحلات لشراء السم ونعود عند الضحى لنقوم بقليه ودقه وتحويله إلى مادة ناعمة ثم نقوم بخلطة مع أنواع من الغذاء مثل العجين والخبز المجفف أو مع ديدان البحر وغيرها من الأغذية التي تغري الأسماك ثم نخرج إلى البحر ونقوم بنثرها على المسافة التي تسمح لنا بالتجول فيها. تبدأ رحلة الصيد باجتماعنا على الساحل الناعس كما الطقس ذاته في هذا اليوم الموشح بالسكون إلا من صرخاتنا وأصواتنا المفعمة بالحيوية حينما نسترسل الكلام جميعنا في وقت واحد ولا أحد يسمع الآخر ولكننا نفهم بعضنا البعض مثل المصابين بالصم، نقوم بخلع ملابسنا الرقيقة التي تكشف عن أجسادنا النحيفة وكثيراً ما نشاهد عظام بعضنا البعض من راء القماش الشفاف وهو النوع المنتشر بين صبية الحي ونكتفي بارتداء سراويل السباحة القصيرة التي نرتديها عادة تحت الثياب طوال الوقت ولا نخلعها إلا عند النوم، تأخذنا موجة الحماس لالتقاط الأسماك الميتة لسحابة من التوتر ونحن نقطع الساحل شمالاً جنوباً منتظرين الدقائق تمضي فيما نظراتنا مسلطة بتركيز مضطرب على سطح البحر خشية فساد السم وهو ما يحدث أحياناً حينما نفشل في صنع الخلطة أو بوجود عطب بالمادة السامة فيأخذ القلق بعضنا لخوض البحر قبل سريان مفعول السم للتأكد من وجود سمكة صغيرة ميتة وهي علامة على بدء مفعول المادة السامة وتظل أبصارنا مشخصة على رفيقنا متوجسين من النتيجة ولو حدث أن وجدت خيبة أمل على وجهه فسرعان ما تبدأ الكآبة تتسرب لنفوسنا ويضرب الصمت بيننا لحين ينسحب بعضنا تدريجياً ثم نغادر الساحل. في هذا اليوم الغائم جزئياً مع هبوب تيار من هواء بارد، سرى بيننا شعور بالإخفاق نظراً لأن الأسماك لا تموت إلا في المياه الساخنة وجاءت هذه القناعة من تجاربنا السابقة حين يسخن البحر في شهور الصيف الحارة فما يكاد سخام السم ينتشر في المياه حتى تتسابق الأسماك تلفظ أنفاسها فتشع السعادة على وجوهنا بالحصول على أكبر كمية من الصيد الذي حيث نشهد مجزرة تطفو على أثرها موجات الأسماك الميتة بأحجام مختلفة متنوعة الأصناف، وكان "الميد" أكثرها وأسرعها بلفظ أنفاسه من الأسماك الأخرى، هذا الشعور الذي انتابنا اليوم لكنه فجأة تغير حين لمحت سمكة من نوع "الكركفان" تسبح واهنة حتى لا تكاد تتنفس ثم تترنح على سطح المياه فصرخت في بقية الشلة. - موت موت .. وتكرار هذه الكلمة يعني صيد وافر، فبدأ بعضنا بخلع ثيابه فيما بقيتنا ظل مستعداً بسرواله، واندفعنا نحو المياه من دون الشعور بلسعات البرد فقد ارتفعت حرارتنا لدى رؤية السمكة المترنحة التي سرعان ما هرولت نحوها حتى اختفت، وفي العادة تنزلق لأسفل المياه قبل أن تموت ثم تطفو بعد خروج روحها وهكذا بقية الأسماك قبل وبعد الموت، وفي غمرة اندفاعنا في البحر راحت نظراتنا الزائغة تبحث بوحشية الصيادين عن فريستنا من هذه الكائنات الصغيرة الرصاصية اللون في مختلف الاتجاهات، تعلو صرخاتنا هنا وهناك عبر أرجاء البحر من حولنا بحثاً عن مزيد من الأسماك الميتة، وعندما تبدأ سمكة تطفو نتسابق من يصل إليها أولاً، نندفع جميعاً، ومن يلتقطها تنفجر لديه مشاعر الفرح بالانتصار والزهو ولا تجد هذه الفرح عند الظهيرة حين نترك كميات تلك الكائنات على الساحل تسلقها أشعة الشمس وتعبث بها القطط والكلاب إلى أن تفوح رائحتها فتنفر منها تلك الحيوانات فتتحول مع الأيام إلى سخام كأنه رماد الخشب المحترق، أما السرطانات فنقوم بشوائها في كومة من ورق أكياس الأسمنت بعد أن نخرقها بحربة مسسنه في سلسلة مترابطة من دون تنظيف أو تتبيل حيث تتصاعد الأدخنة السوداء الناتجة عن احتراق الأكياس الإسمنتية الملوثة بالتراب والغار، لم تمنعنا هذه الصورة من تناولها بشرهة حيث نقوم بتمزيقها وامتصاص عظامها وتظهر سوائلها عالقة بشفاهنا فتبدو لنا حينها هذه الوجبة وليمة فاخرة رغم احتباس الدخان في صدورنا فتسمع سعالنا يغطي الساحل ليدرك من يمر هناك من رجال الحي بأننا نطهو السرطانات، ويصادف أن يتوقف بعض كبار السن ليوجهوا لنا نصائح مصحوبة بشتم أهالينا الذين تركونا بلا مسئولية على سواحل البحر معرضين صحتنا وحياتنا للخطر، كنت أنا وعدد من أطفال الحي نرد عليهم بالسخرية منهم وننعتهم بالتخريف وبعضنا يقذفهم بحركات صوتية عبارة عن أطلاق ريح وغيرها من الأصوات المقيتة التي تجعل بعضهم يتوقفون ويتأملون وجوهنا ويرجعون هذا التصرف لآبائنا الذين لم يجيدوا تربيتنا ثم يمضون في طريقهم متحلين بالصبر ونمضي بدورنا في صراخنا نتجادل حول أتفه الأمور التي كانت بالنسبة لنا قضايا مصيرية حتى أن آثارها تنعكس في أحلامنا بالليل حين نلقي بأجسادنا النحيفة تفوح منها روائح البحر والأسماك والأدخنة من غير استحمام فتعلق الرائحة بالمكان لأيام عدة من دون أن نشمها فينا. كان البحر والأسماك المسممة هو عالمنا الممتلئ بالسحر حين تتسلل بعض الفتيات من أعمارنا للسباحة وهن يرتدين الفساتين القصيرة فما يكدن ينزلن الماء حتى ترتفع تلك الثياب إلى الأعلى وتنتفخ لتصل أطرافها لسطح البحر ويدفعنا الفضول في مستهل اللحظة تلك إلى الاقتراب منهن وعندما لا نجد صدى أو اعتراض نبدأ بالغوص أسفل الماء ونسبح حولهن لنتأمل تلك السيقان والأفخاذ الملونة، بيضاء وسمراء وسوداء، بعضها مكتنزة والبعض الآخر رقيقة وأخرى ملتوية ولكنها جميعها تجعلنا نحوم حولهن طوال الوقت من غير أن نلامسهن إلا إذا ابتعدت إحداهن عن السرب، وهذا لا يحدث إلا نادراً، فغالبيتهن يخشين الفضيحة فبعضنا لا يتردد في فضح الفتاة التي يلامسها أو يعبث بها من باب التفاخر والتباهي ولكن الأمر يتحول إلى حديث وشائعات يتناقلها سكان الحي وإذا ما وصل الأمر إلى الأهل فستسجن الفتاة بالدار وتُضرب ويحكم الحصار المنزلي الأشبه بالإقامة الإجبارية عليها وبعضهن يفلتن من العقاب بإلقاء اللائمة علينا نحن ومن يتورط فينا مع هؤلاء الفتيات يتوارى فترة عن الأنظار حتى تهدأ الأمور. عندما نزلنا جميعنا البحر وكانت السماء غائمة والماء بارد فوجئنا بأسراب الأسماك الطافية التي بصقت لعابها تتدافع ميتة، وبعضها يترنح بسكرة الموت، كنت مأخوذاً بمشهد الموت الجماعي لها، تسمرت عيناي للحظات على بريق الشمس بأشعتها الرصاصية المنبثقة من ثغرات الغيوم التي سطعت على أجساد الأسماك فبدت تلمع وتخطف النظر، فأسرع بالتقاطها وأتجنب الإمساك بالأسماك المترنحة التي ما زالت تبعث بأنفاسها الأخيرة فتلك الصورة لها تشعرني بالقشعريرة وتبث فيّ الخوف رغم جسارتي المعهودة بين أقراني، كان منظر موتها يبعدني عنها بسرية خشية أن يلاحظ أحد من حولي ترددي على التقاطها وهي ما زالت حية، كانت الفتيات بعضهن يراقبن المنظر وبعضهن تبادرن بالمشاركة في الصيد الذي تتسع دائرته حين يلمح بعض الفتية على الساحل حملتنا فيهرعون إلى النزول للبحر فيقع الشجار مع هؤلاء محاولين صدهم ومنعهم من الصيد لكونهم غير مساهمين معنا في الحملة التي بدأت بجمع المال وتحضير السم ثم نثره في الماء، أما أنا فقد كنت مشغوفاً بالبحث عن الفتيات اللواتي يقتربن منا ويتطلعن للمشاركة معنا وكانت هناك واحدة تدعى فاطمة علي بسني تقريباً سمراء فاتحة اللون، نحيفة القوام مع شعر طويل أسود وعينان واسعتان تستلطفني في كل مرة ألتقي بها في البحر أو عند خباز الحي حينما تأتي لشراء الخبز فيما أراقبها وأبعث لها بعض الإشارات، ومن نظراتي إليها تيقنت من تفاعلها مع تلك النظرات فرحت أتحين الفرصة عندما تنزل البحر للتواصل معها، كنت أغطس وأقترب منها وأسترق النظر تحت الماء إلى ساقيها وفخذيها حتى أنني عرفت لون سروالها الأسود، كان ردفاها مكتنزين وخصرها نحيفاً مع بطنها الذي برز في الماء مشدوداً، كانت بشرتها عند أطراف السروال أكثر اسمراراً من الأعلى وكان لون البحر يضفي عليها زهواً أشبه بلوح الزجاج الذي يعكس بريقه ضوءاً ساطعاً عندما سقطت عليه أشعة الشمس، ظللت ألّف حولها حتى انقطعت أنفاسي فخرجت لأجد نفسي بقربها وأفاجأ بنظراتها مسلطة نحوي مع ابتسامة خبيثة تنبئني بأنها كشفت نيتي، ابتعدت لدقائق وانتظرت الفرصة تحين وهي تبتعد عن المكان قليلاً لأعاود الغطس حولها من جديدة وفي هذه المرة تجرأت بجسارة ومتعة، فتركت يدي تمسح عل فخذيها فأسرعت بوضع يدها على يدي محاولة إبعادها برقة ومن دون إصرار فتماديت بترك يدي تتسلل تحت السروال وتمنيت لو أرى لحظتها رد فعلها على وجهها فوق السطح، وحين انتفضت مبتعدة عني خرجت إلى السطح وقد كدت أختنق بعد مضي أكثر من دقيقة تحت الماء لأرى وجهاً أسمر البشرة غليظ القسمات يقف بجانبي ويهمس لي مبتسماً بخبث. - فعلتها يا اللئيم؟ ماذا وجدت تحت الماء؟ كيف كان لونه؟! التقط سمكة ميتة كانت تطفو حولنا وهي بحجم نصف كف اليد وراح يهزها في وجهي مع ابتسامة قذرة تعكس فضوله البغيض، وفيما هو يهم بالابتعاد ردد والسمكة بيده تلمع.. - هل هذا حجمه؟ أخذت أقذفه بالأسماك الميتة واحدة تلو الأخرى وكلما غطس وأخرج رأسه من الماء رحت اقذفه بالمزيد منها حتى لفتَ أنظار بقية الزمرة، ثم فجأة اقترب مني وبدا وجهه مخيفاً وكأنه شبحاً جنياً، كان بسني ولكن وجهه اختلف عن وجوه الأطفال، رأيت الوجه لأول مرة وآخر مرة، ولكنه ظل يلاحقني في أحلامي وكثيراً ما كان ينقذني من أخطار محدقة توشك أن تقع لي، ولهذا قصة أخرى سيأتي زمنها، أما هي فقد تسللت تدريجياً نحو سرب الفتيات من غير أن أدرك ما إذا عرفن شيئاً مما جرى تحت سطح الماء، فقد اختلطت الحوادث بسرعة وسط غمرة المتحمسين لجمع الأسماك وبين المشاجرات التي افتعلها بقية الصبية الذين هرعوا لجمع السمك من دون أن يشاركن معنا في حفلة السم التي أوشكت على الانتهاء، وقد غرق سطح البحر بالأسماك التي كانت في أغلبها صغيرة ولا تؤكل وإنما نكتفي بتسميمها وقتلها وتركها تطفو ثم تجرفها التيارات إلى الساحل فتتغذى عليها القطط والكلاب وتلفظها الطيور التي كانت تفضلها وهي حية في الماء حيث تنقض عليها وتلتقطها وتحلق بها حيث نشاهد السمك يرقص من الألم قبل أن يسقط في البحر نتفاً وشظايا. حالما أخلع ملابسي في بداية النهار وأغطس في الماء ينتابني شعور أشبه بالنعاس يتسلل لأطراف جسدي ويخدر بشرتي فلا أشعر بشيء سوى الفراغ الداخلي، أنقطع فيه عن العالم الخارجي فأظل أغطس مرات حتى تنتابني قشعريرة تجرفني نحو إحساس مفعم باللذة التي معها أشعر بالانتصاب وأنا في الماء وقد قادني ذلك مرات لأغفوا وأجد نفسي بقرب المياه العميقة حيث الخور الذي يفصل بين ساحل المحرق القريب من بيت عبد النور وساحل عراد المطل من الجانب الآخر ويتم الوصول إليه عن طريق العبارات الشراعية الصغيرة، وحدث أن فوجئت بنفسي بعيداً عن زمرة الأصدقاء الذي لا يبالون بمدى انجرافي مع تيارات البحر لاعتقادهم بقدرتي على السباحة والسيطرة على الموج ولكن الخوف كثيراً ما تملكني حينما أرفع رأسي فوق السطح فأرى البحر من حولي وكاد الساحل يختفي بدوره عن ناظري، كنت أتوحد مع الموج وأشعر بروح الخوف تندمج مع اللذة التي تستدرجني من الداخل فأسارع بالعودة منهكاً ويطبق علّي النعاس أثناء سيري نحو الدار وفي الليل حينما أغطس بالنوم تتدحرج الأحلام مكثفة من حولي فتنتابني الصور متلاحقة، خليط من الفتيات والأسماك والقوارب التي تسرح بي وسط افتتاني بغموض البحر الذي يحتويني من خلال الأحلام، فترافقني تلك الصور خلال النهار وفي المدرسة وأثناء اللعب وحتى في عزلتي التي تبدأ مع نهاية الليل بعد أن تهاجمني الأفكار وتلعب برأسي صور الفتيات اللواتي أشاهدهن طوال اليوم في الحي ثم تلتصق بي صورهن آخر الليل حينها أبدأ في تصفح بعض المجلات والروايات وغالبيتها لنجيب محفوظ ويوسف السباعي إحسان عبد القدوس وبعض الروايات الأجنبية المترجمة التي أقوم بشرائها من مكتبة الشعب بالمحرق، كانت تلك مرحلة لاحقة بدأت معها الولوج لعالم القراءة. - سَعُود.. ماذا فعلت في الفتاة؟ كل اللواتي معها خرجن من الماء إلا هي، قد يبدو أنها وجدت ما تبحث عنه عندك، هل نمت لك لحية بالأسفل؟ - إن لم تغلق مزبلة فمك النتن فقد.... - فقد ماذا؟ أعرف أنك جبان ولا تستطيع حتى سلق سمكة حولك، هل تظن أنني لم أراقبك وأنت تهرب من الأسماك المترنحة؟ باغتهُ بلكمة من قبضة يدي قبل أن ينهي كلامه، فسقط في الماء وتجاهلت رد فعله وأنا أغادر المكان لأسبح بعيداً باتجاه نقطة أعمق وقد رحت أتطلع نحو فتاتي التي بدت مصدومة من الموقف بعدما تجمهر بقية الزمرة حوله بين مندهش ومستنكر وربما في هذه اللحظة يحتدم الجدل بينهم كعادتهم كلما وقع حدث إذ يسردون القصص التي تعكس تشوش العلاقة فيما بينهم، كنا دائمي الجدل أيام حصد الأسماك المسممة ونادراً ما نخرج من الماء دون معركة أو شجار بين بعضنا البعض أو مع الصبية الآخرين المتطفلين علينا، لكني في هذا اليوم بالذات لم أعر البقية انتباهاً فقد كاد يغمى عليّ وأنا أسفل الماء في غمرة انبهاري بتضاريس الجسد النحيف المكتنز الأطراف والذي رحت أختزن تفاصيله في ذاكرتي لأستعيد تصوير المشهد في خيالي قبل النوم لأنهي ما بدأته في الواقع بحلم أستدرجه كعادتي حينما أعصر الخيال وأدمجه بالوهم ليتحول إلى حلم كامل التفاصيل كما تصورته، ولخشيتي من فقدان هذه القدرة السحرية على الحلم بما أريد أن أحلم به قبل النوم، لم أطلع أي من أفراد أسرتي أو أصحابي على هذه الميزة الحسية، لا أصدق نفسي بامتلاك هذه المعجزة التي أستمدها من صلاتي السرية التي لا أتلوا فيها أي من شعائر الصلاة المعتادة التي لم أحفظ ولم يلقنني أحداً بقواعد أدائها فقد كنت أغلق الباب خلفي أثناء نوم الجميع وأتلو الصلاة التي أدعو فيها الله أن يلبي أحلامي التي كانت بحجم أفكاري ورغباتي وأنا بسن الثالثة عشرة. في هذا اليوم الذي حشرت فيه يدي أسفل فاطمة تحت الماء لم يطرف لي جفن أثناء الليل إذ ظللت في الفراش أتطلع لسقف الغرفة بينما غطت والدتي بنوم عميق حتى أنني لم أسمع ليلتها شخيرها الذي طالما دفعني للجنون قبل النوم فأهرب إلى فناء الدار لأنام مع شقيقي الأكبر الذي دأب خلال فصل الصيف على النوم بالفناء على سرير خشبي فيما كنت أنا أفترش الأرض بسجادة قديمة أغطيها بملاءة وأترك رذاذ الرطوبة ينهمر علي من دون إحساس بالتعب أو الخمول، كنت هذه الليلة مشوشاً بين النوم بالداخل وتحمل صوت شخير الوالدة وبين النوم بالخارج مما يحرمني من الحلم ومداعبة عضوي الصغير الذي كنت دائم التحسس له للتأكد من أنه يكبر كل يوم، كان يشغلني حجمه منذ بدأت أعي اللذة التي تفجرت منذ ملامستي له طوال الوقت حتى بلغت الذروة وأنا أداعبه مستخدماً الزيت، من يومها عرفت الاستمناء الذي استمر معي حتى الزواج والإنجاب وإلى اللحظة التي صنعت فيها الملايين واستحوذت على كل أنواع النساء من صديقات وعشيقات وعاهرات، كانت تلك العادة ترافقني متوحدة مع الخيال الجامح الذي تثيره فيّ النساء من مختلف الجنسيات وعلى رغم السنين التي انقضت على حادثة البحر مع فاطمة إلا أن تلك الومضة وقد مرت كشهاب جانح حفرت بذاكرتي تفاصيلها بالكامل ولم أكد أنساها كلما مر بي شريط الأحداث عن تلك المرحلة من حياتي، التي كنت مأخوذاً بنزق الطفولة والمراهقة وأحداثها المتهورة حيث كانت الحدود مفتوحة على العوالم المجنونة والصخب الذي لم يجعلنا نفرق بين الجسارة والخطر، كنت أتصرف بوحي من غرائزي التي كادت مرات عديدة أن تقودني لحتفي ولكنها سَرعت من نضج الرجولة، لم أكن يومها شديد الارتياب وأكتفي عقلي الباطن بتحريك شغفي بأجساد الفتيات اللواتي يصادف أن يغطسن في البحر وترتفع ملابسهن إلى الأعلى فتبدوا تلك الأجساد الصغيرة النحيفة طرية كزغب مياه البحر الصافي تترقرق موجاته على السطح فتبعث فينا شغفاً مشوباً باللذة من غير أن ندرك حينها أنه الوله بالدنيا البسيطة التي تشبه هذا البحر العفوي الذي لا يمر يوم من دون أن نخوض لجته أو تبهرنا موجاته عند المد فتعلق نسماته الباردة بأجسادنا ويتفاعل هذا الوميض مع تعب النهار ليظهر خلال النوم بالليل على هيئة أحلام جوهرها البحر والأسماك الميتة وفتيات الحي، كانت أحلامي حيناً شفافة رقيقة كنسيم البحر بصباح يوم جمعة يحتوينا حضنه بطعم الملح، وحيناً آخر كوابيس تجرفنا مع الأعشاب والطحالب الخضراء القاتمة، وكثيراً ما كان البحر يبتلعني لأجد جسدي ينزلق للقاع فتغمرني طبقات الطين الأسود ولا ينتزعني من هذا الكابوس سوى الفزع الذي يوقظني من نومي مبللاً بالعرق في الصيف أو تمدد شعرات جسدي من البرد بالشتاء فأبحث حولي للتأكد من أنني خارج البحر. ما زالت أسماك ذاك النهار البارد مع هبوب رياح الخريف تفوح رائحتها وتتغلغل بأنفاسي لولا طيف جسد فاطمة علي يهيم بي وينفذ بأعماقي كأنه قضيب ساخن ينزلق على قلبي ويسرع بدقاته متلاحقة فأكاد أختنق كما لو كنت بأسفل الماء حتى اللحظة. بعد أيام من ذاك الصباح التقيت بها صدفة بغرفة عين الماء العذبة على الساحل المطل على البحر والتي كنا نغتسل فيها بعد خروجنا من البحر، كانت عين الماء بقسمين واحد للرجال والآخر للنساء ويحدث أن نتسلل إلى جهة النساء أو نسقط على الأرض بأجسادنا ثم نتلصص من فتحة صغيرة بالأسفل تطل على القسم الآخر ولكثرة الشجارات التي حدثت بسبب هذا السلوك من جانبنا راحت الفتيات والنساء يحشرن قطعة ملابس أثناء الاغتسال بتلك الثغرة فنقوم بدورنا بنزعها لتنطلق الشتائم من الطرف الآخر، في ذاك المساء وقبل آذان المساء التقيت بها عند واجهة عين الماء وكانت برفقة شقيقتها الكبرى فأخذت باللف والدوران حول المكان طوال الوقت، فيما كانت تتسلل من وقت لآخر ونتبادل النظرات والابتسامات الخجولة من جانبها، فأخذت ببعث إشارات من يدي بقصد أن تأتي للمكان لوحدها، وفيما هي منغمسة في تتبع حركات يدي إذ بصوت شقيقتها يصدح من الجانب الآخر. - فطوم.. وجع في رأسك. - ماذا فعلت؟ - تعالي أغسلي أسفل جحرك، منذ يومين على انتهاء الدورة الشهرية ولم تنظفي، تعالي يا الوسخة. قبل أن أنهي ضحكتي هربت من أمامي لأسمع صوتها الخجل يرد على شقيقتها. - الله يلعنك يا الفضيحة، أنا أنظف منكِ ومن كل الذين أنجبوكِ لو تعلمين. - جحرك. كانت تلك الكلمة كافية لإثارة غرائزي وبذات الوقت بعثت فيّ موجة من الضحك المكتوم وأنا أتخيل وجه فاطمة علي التي سحرتني وقد تضرج وجهها بحمرة الخجل لعلمها بأنني أستمع إلى صوت شقيقتها، وعند هذا الحد حاولت التسلل بعيداً عن المكان لكي لا أسبب لها المزيد من الإحراج، وما كدت ابتعد عن المكان حتى فوجئت بأحدهم من الجيران وقد تدحرج بفضوله المسكون بهاجس التجسس على سكان الحي برمته يستوقفني ويبادرني بالسؤال. - سنذهب للسينما، تعال معنا ومعك خمس روبيات للعشاء والسجائر. - لا أملك المبلغ. تعمدت التعلل بالإفلاس لأظل أحوم بالحي منتظراً فرصة التحدث مع فاطمة علي التي شعرت بأن هذا النهار منذ بدايته في البحر وهذا المساء بسكونه، منحني كل ما أريد بعد طول انتظار وسيكون يوم سعدي لو رأيتها مرة أخرى وهذا ما زاد من شغفي بها وتضاعف فرحي خبر نية زمرة الأصدقاء الانسحاب من الحي إلى السينما مما سيترك المحيط هادئاً عن مشاغباتهم التي ستهيئ مناخ ملاحقتها لأستكمل وله النهار بها إثر مشاكسات البحر. عندما كتب لي لقائها مرة أخرى قبل مغيب الشمس بمحاذاة خباز الحي الواقع على طريق مرتفع ضيق، فوجئت بها وقد غيرت تسريحتها عن فترة الصباح والظهيرة، كانت تسير وحدها بخطوات بطيئة ناعسة، هكذا بدت لي حينما التفتت خلفها بعينين واسعتين سوداوين، لتفاجأ بي أتبعها فأسرعت الخطى بفستانها الحريري الأصفر وقد ضاق على جسدها النحيف وأظهر تضاريس أردافها الممشوقة، ارتدت نعالاً سوداء خفيفة ساعدت من رشاقة سيرها على الأرض الترابية رغم ما بدا عليها من توتر اجتاحها لحظة مروري حولها متجاوزاً إياها لألتفت نحوها مبتسماً محاولاً اكتشاف رد فعلها بعدما فعلتهُ بها ظهيرة اليوم في الماء. - ألا تخاف؟ لم أدرك ما عنته، فخففت من خطواتي متحيناً خلو الطريق من المارة لأسألها بصوت مرتجف يكتنفه قلق عرّى شغفي بها وكشف عن تعلقي بها. - أموووت بكِ فطوم.. - استح. - سمرتكِ تقتلني.. انطلقت منها ضحكة رشيقة كمشيتها وفاح منها عطر نفاذ عرفت من لحظتها أنه ذات العطر الذي تضعه والدتي فأدركت أنه يخص والدتها، لم أكن أطيق هذه الرائحة التي أعتدت أن أتنفسها كل ظهيرة جمعة بعد الصلاة حين ترشها أمي عليها قبل جولتها على منازل شقيقاتها، عرفت أول كذبة لي معها حين جاملتها بقولي. - رائحتك جميلة فطّوم.. - أعجبتني عندما لكمت صديقك في البحر.. - لم يكن صديقي.. فجأة ظهر عمها أمامي كهرم من الخوف يمشي وقد كادت تنفطر الأرض وتبتلعني، فيما كادت هي تسقط وتتعثر قبل أن يبادرها بالكلام. - فطّوم..
#احمد_جمعة (هاشتاغ)
A.juma#
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
الخراف الضالة - رواية- القائمة الطويلة لجائزة الشيخ زايد (1)
-
رصاصة وشمعة وسمك سلمون!!
-
الانهيار الأعظم...القادم!
-
تحت حذاء ماما أمريكا ...!!
-
شتاء المحرق 1940
-
الطعام قبل الإيمان...
-
فاشية أم فاشينيستا...?!
-
مفاجأة: عودة تجارة الرقيق بحرب البنفسج (الخليج)
-
شجرة عارية عانقت المعري.... من رواية -القرنفل التبريزي-
-
# أخطر من وزارة للإعلام!
-
كورونا تدعم الثقافة من غير قصد!!!
-
أرثيك إسحاق النبل والأصالة...
-
حينما تقود الحملان الأسود!!
-
شيءٌ ما يدور في المنطقة؟!!
-
-عناقيد الثلج- مدينة المحرق القديمة
-
متى تدفع الصين الثمن؟! هل أفلتت من العقاب؟
-
مجرد خبر!!
-
لغة الضاد بالفرنسية!!!
-
علمانية بلا علمانية!!!
-
أبو العلاء المعري وخليلهُ المتعري في رواية القرنفل التبريزي.
...
المزيد.....
-
تونس: أيام قرطاج المسرحية تفتتح دورتها الـ25 تحت شعار -المسر
...
-
سوريا.. رحيل المطرب عصمت رشيد عن عمر ناهز 76 عاما
-
-المتبقي- من أهم وأبرز الأفلام السينمائية التي تناولت القضية
...
-
أموريم -الشاعر- وقدرته على التواصل مع لاعبي مانشستر يونايتد
...
-
الكتب عنوان معركة جديدة بين شركات الذكاء الاصطناعي والناشرين
...
-
-لي يدان لأكتب-.. باكورة مشروع -غزة تكتب- بأقلام غزية
-
انطلاق النسخة السابعة من معرض الكتاب الفني
-
مهرجان الأفلام الوثائقية لـRT -زمن أبطالنا- ينطلق في صربيا ب
...
-
فوز الشاعر اللبناني شربل داغر بجائزة أبو القاسم الشابي في تو
...
-
الموصل تحتضن مهرجان بابلون للأفلام الوثائقية للمرة الثانية
المزيد.....
-
التجريب والتأسيس في مسرح السيد حافظ
/ عبد الكريم برشيد
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
-
التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا
...
/ نواف يونس وآخرون
-
دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و
...
/ نادية سعدوني
-
المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين
/ د. راندا حلمى السعيد
-
سراب مختلف ألوانه
/ خالد علي سليفاني
-
جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد
...
/ أمال قندوز - فاطنة بوكركب
-
السيد حافظ أيقونة دراما الطفل
/ د. أحمد محمود أحمد سعيد
-
اللغة الشعرية فى مسرح الطفل عند السيد حافظ
/ صبرينة نصري نجود نصري
المزيد.....
|