محمد علي عبد الجليل
الحوار المتمدن-العدد: 6808 - 2021 / 2 / 7 - 23:09
المحور:
دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات
ملخَّص
انطلاقاً من فكرة تقاليب الجذر الثلاثي [الفعل الـمُجَرَّد] (الحصول على ستة تراكيب مختلفة بتغيير ترتيبِ الحروف، مثل: "ضرب"، "ضبر"، "برض"، "بضر"، "رضب"، "ربض") التي ذكرها الخليل بن أحمد الفراهيدي (718 – 786 م) في كتاب العين، طوَّرَ ابنَ جِــنِّـي (920 – 1002 م)، في الـخصائص فكرة "الاشتقاق الأكبر" [أو "الاشتقاق الكبير"] الذي يقوم على افتراض وجود رابط دلالي بين هذه التقاليب، أي وجود معنى جامع لجميع تَقاليب الثُّلاثيّ الستَّة. ثم جاء محمد عنبر (1921 – 1998 م) في كتابه «جدلية الحرف العربي وفيزيائية الفكر والمادة» ليقول بإمكانية اشتقاق المعنى ونقيضه من تقاليب تصاريف الثلاثي. يحاوِل المقال التالي أن يُفَنِّد هذا الافتراض.
Résumé :
Titre : « L’hypothèse de l’antonymie dans les combinaisons du verbe trilitère »
Partant de l’idée des combinaisons de la racine trilitère [verbe simple, forme I] (i.e. obtenir six combinaisons différentes en changeant l’ordre des lettres, comme : « ḍ.r.b. » [ضرب], « ḍ.b.r. » [ضبر], « b.r.ḍ. » [برض], « b.ḍ.r. » [بضر], « r.ḍ.b » [رضب], « r.b.ḍ. » [ربض]), évoquée par al-Khalīl ibn Aḥmad Al-Farāhīdī (718 - 786 J. C.) dans Kitāb al-ʿAyn, Ibn Jinnī (920 - 1001 J. C.) a développé, dans Al-Khaṣāʾiṣ, l’idée de « la très grande dérivation » [ou « la grande dérivation »] qui est basée sur l’hypothèse qu’il existe un lien sémantique entre ces combinaisons, c’est-à--dir-e l’existence d’un sens commun pour l’ensemble des six combinaisons du verbe trilitère. Plus tard, Muḥammad ʿAnbar (1921 - 1998 J. C.) est venu -dir-e, dans son ouvrage La dialectique de la lettre arabe et la physique de la pensée et de la matière, qu’il est possible de dériver le sens et son contraire à partir des combinaisons de la racine trilitère. Le présent article essaie de réfuter cette hypothèse.
Abstract:
Title: "The hypothesis of antonymy in combinations of the triliter verb"
Starting from the idea of combinations of the triliter root [simple verb, form I] (i.e. get six different combinations by changing the order of the letters, like: "ḍ.r.b." [ضرب], "ḍ.b.r" [ضبر ], “b.r.ḍ.” [برض], “b.ḍ.r.” [بضر], “r.ḍ.b.” [رضب], “r.b.ḍ.” [ربض]), mentioned by al-Khalīl ibn Aḥmad Al-Farāhīdī (718 - 786 AD) in Kitāb al-ʿAyn, Ibn Jinnī (920 - 1001 AD) developed, in Al-Khaṣāʾiṣ, the idea of "the very great derivation" [or "the great derivation"] which is based on the assumption that there is a semantic link between these combinations, that is to say the existence of a common sense for all of the six combinations of the triliter verb. Later, Muḥammad ʿAnbar (1921 - 1998 AD) came to say, in his The Dialectic of the Arabic Letter and the Physics of Thought and Matter, that it is possible to derive meaning and its opposite from the combinations of the triliter root. This article attempts to refute this assumption.
في مقال للصَّـحفي السوري نِـزار نَـيُّـوف (المولود عام 1962 م) نشرَه في فيسبوك بتاريخ 23/2/2020 بعنوان: «العربية في عيدها: ديالكتيك اللغة العربية "الإعجازي" في فعلها الثلاثي الذي لا نظير له في اللغات الأخرى»، قامَ بالتَّذكيرِ بِفرضيةٍ تقول إنَّ كلَّ فِعلٍ ثُلاثيّ عربيّ يمكن اشتقاقُ نقيضِه من حروفه بتغيير ترتيب هذه الحروف (فرضية التضاد في تقاليب الفعل الثلاثي).
يبدو أنَّ مِن الصحيح امتلاكَ الجذرِ اللغوي العربي خصوصيةً تختلف عن الأفعال في اللغات الأوربية. فالجذور اللغوية العربية، على ما يبدو، جذورٌ "إبدالية" (permutatif) و"تركيبية" (affixatif)، بينما الجذور الأوربية تركيبية (affixatif) فقط. «إبدالية» بمعنى أنه يمكننا استخراجُ تراكيبَ [تقاليبَ] ثُـلاثيةٍ بتغيير ترتيبِ الحروف. و«تركيبية» بمعنى أنه يمكننا إضافةُ زوائدَ [أحرف الزيادة] على الجذور في أول الجذر أو وسطه أو آخره. ولكنْ هل يمكن فعلاً اشتقاقُ الفعل ونقيضِه بتغير ترتيب الحروف؟
لتوضيح هذه الفرضية، يقدِّم مناصروها بعضَ الأمثلة؛ فالفعل الثلاثي «ن.هـ.ر» الذي يُفيد الانطلاق والحركة من الداخل إلى الخارج يمكن أن نشتقَّ من أحرفه الفعل الـمُضادّ له وهو «ر.هـ.ن» الذي يفيد الحبس والحركة من الخارج إلى الداخل. بمعنى أنَّ الفِعلَين «نَهَرَ» و«رَهَنَ» مؤلَّفان من الأحرف نفسِها ولكنهما متعاكسان دلالياً وفيزيائياً. و«سوع» [للزمان] و«وسع» [للمكان] متضادّان. و«عشق» [اتّصال] مضادّ لِـ«قشع» [انفصال]. و«رَسَب» [استقرار] عكسُ «سَرَبَ» [تحوُّل]. و«سَرَى» ضِدُّ «رَسَا».
هناك ظاهرة لغوية قريبة هي الأضداد في الألفاظ (antonymes) وهي أن الكلمة الواحِدة تدلُّ على مَـعـنـيـيـنِ مُـتناقضَينِ (الشيء ونقيضه). فمثلاً، «السَّـدَفُ» [أو «الشَّـدَفُ»] مِن الأضداد، وتعني: الضَّوء والظُّلمة. و«الـجَون»: الأبيض والأَسْـوَدُ. و«أَسَــرَّ» تعني: كَـتَمَ وأَظْـهَـرَ. و«الـمَسجور»: الـمملوء والفارِغ. و«قَسَطَ»: عَدَلَ وظَلَمَ. و«الـمَفازة»: الـمَنجاةُ والـمَهلَكة. وقد صُـنِّـفَتْ في الأضداد تصانيفُ مِـثْـلُ: الأضداد للأَصمعيّ (740 – 831 م)؛ والأضداد لابن الانباريّ (855 – 940 م)؛ والأضداد في كلام العرب لأبي الطَّـيِّـب عبد الواحد بن علي اللغوي الحلبي (الـمُتَوَفَّى سَنَةَ 351 هـ).
إنَّ التَّـضادَّ في كلمة واحدة ناشئٌ غالباً عن استخدام الكلمة الواحدة بـمَعنَيَينِ مُـتعاكِسَينِ في لهجتَينِ [لُغتَين] مُختلفَتَينِ. فــ«السَّـامِـد» في كلام أهل اليمن هو «اللاهي» وفي كلام طَـيِّءٍ «الـحزين» (الأضداد، الأنباري). و«وَراءَ» [سورة الكهف، 79] تعني: «أَمامَ» بالنَّبَطِيَّة. و«شَـرَوا» تَـعني: «باعوا» في لغة هُذَيل. (السيوطي، الإتقان). و«وَثَبَ» [قَفَزَ] تَعني: «قَعَدَ» في لغة حِـمْـــيَـرَ. ومن الطرائف عن اختلاف اللَّهَجاتِ ما أوردَه السيوطي في الـمُزهِـر (ج1، ص 256 – 257): قال أحدُ مُلوكِ حِـمْـيَرَ لرجلٍ: "ثِبْ" (أي: اِجلِسْ). فظنَّ الرجلُ أنه أمرٌ بالوثوب من الجبل فقال: "ستَجِدُني أيها الـمَلِكُ مِطْواعاً"، ثُـمَّ وَثَبَ فهلكَ. فقال الـمَلِكُ: "ما شأنُه؟" فخبَّروه بقصَّتِه وغلَطِه في الكلمة، فقال: "أمَا أنَّه ليست عندنا عَرَبيَّتْ [كعربيتكم]، مَن دَخَلَ ظَفارِ حَــمَّـــرَ (أي: فَـلْـيَـتَعَلَّمِْ الـحِـمْـيَريَّةَ).
وقد نَرى هذا التَّضادَّ في اللهجات الحديثة. فالفِعل «بَـلَّـشْ» يعني: «بَدَأَ» في لهجة بلاد الشام و«تَرَكَ» في السودان. وكلمة «مهضوم» تعني: «لطيف» في سوريَّةَ ولُبنانَ (رُبَّما هي تصحيف لكلمة «الـهَضيم»: اللطيف اللَّـيِّـن)، ولكنها تعني في العراق: «حزين ومتكدِّر الـمِزاج» (رُبَّما من «مَهضوم الـحَقّ»، أيْ مظلوم)؛ وقد ذُكِرَت كلمة «مهضوم» بمعنى «حَزين» في قول الثُّماليّ: «فأَصبَحتُ مَهضوماً حَزيناً لِـفَـقْدِهِ * وهلْ مِن نَكيرٍ بَعدَ حَولَـينِ تَلْتَمِسْ» (الأغاني، ج 10، ص 265). و«الـحَـلَوِيَّـات»: السُّـكَّرِيَّـاتُ (في الشام) والطعامُ الـمَصنوع من كِرشِ الذبيحة وأَمعائها (في مصر).
أمَّـا استخراج المعنى ونقيضِه من الجذر الثُّلاثيّ بإبدال حروفِه فهو افتراض قد يصلح على بعض الجذور عَرَضاً ومصادَفةً. إذْ أنَّ تفسير التركيب المستخرَج من جذر ثلاثي (بتغيير ترتيب حروفه) على أنه نقيض هذا الجذر هو تأويل أكثر منه تفسير دلالي معجمي. فعندما نقول إنَّ «سَبَح» نقيضُ «سَحَبَ»، و«نَهَرَ» نقيضُ «رَهَنَ»، و«سَرَحَ» نقيضُ «حَرَسَ»، و«مَلَكَ» عكسُ «لَكَمَ»، وحتَّى ولو بمعنى فيزيائي بحت، فإننا بذلك نَـلْـوي عُـنُـقَ معنى الـجَذرِ.
في القرن التاسع الميلادي تكلَّم الخليلُ بن أحمد الفراهيدي (718 – 786 م) في كتاب العين (ج1، ص 59)، عن تقاليب الثلاثي الستة إذْ يقول:
«اِعلَمْ أنَّ الكلمة الثُّنائيَّةَ تَتَصَرَّف على وَجْهَيْن نحو: "قَدْ"، "دَقْ"، "شَدْ"، "دَشْ"؛ والكلمةُ الثُّلاثِـيَّة تَتصرَّفُ على سِتَّة أَوجُه، وتُسمَّى "مَسدُوسة" [سداسية] وهي نحو: "ضرب"، "ضبر"، "برض"، "بضر"، "رضب"، "ربض"؛ والكلمة الرباعية تتصرَّف على أربعة وعشرين وجهاً، وذلك أنَّ حُروفَها وهي أربعةُ أَحرف تُضْرَب في وجوه الثلاثيِّ الصَّحيح وهي سَّتة أوجُهٍ فَتصيرَ أربعةً وعشرين وَجْهاً، يُكَتَب مُسْتَعْمَلُها، ويُلغى مُهْمَلُها، وذلك نحو: "عبقر" تقول منه: "عقرب"، "عبرق"، "عقبر"، عبقر"، "عرقب"، "عربق"، "قعرب"، "قعبر"، "قبرع"، "قرعب"، "قربع"، "رعقب"، "رعبق"، "رقعب"، "رقبع"، "ربقع"، "ربعق"، "بعقر"، "بعرق"، "بقعر"، "بقرع"، "برعق"، "برقع". والكلمة الخماسية تتصرّف على مئة وعشرين وجهاً، وذلك أنَّ حُروفَها، وهي خمسةُ أحرف تُضرَب في وجوه الرُّباعيّ، وهي أربعة وعشرون حرفاً فتصير مئةً وعشرين حرفاً يُستعمَلُ أَقَلُّه ويُلغَى أكثرُه.» فمثلاً استُخدِمَ تركيبُ "سفرجل" وحدَه مِن أصل مِئةٍ وعشرين تركيبًا لأحرُفِه.
إنَّ تَقاليبَ الفراهيدي (718 – 786 م) طوَّرَها لاحقاً ابنُ جِــنِّـي (920 أو 941 – 1002 م)، تِلميذُ أبي عليٍّ الفارسيّ (900 – 987 م)، في الـخصائص (ج 1، «باب الاشتقاق الأكبر») إلى فكرة افتراض وجود رابط دلالي بين هذه التقاليب، وهي ما سمَّاه "الاشتقاق الأكبر" [أو "الاشتقاق الكبير"] الّذي يقوم على افتراض وجود معنى جامع لجميع تراكيب [تَقاليب] الثُّلاثيّ الستَّة. فابن جِـنِِّـي يَـرى، مَثلاً، أنَّ التراكيبَ: «س.م.ل»، وَ«م.س.ل»، وَ«س.ل.م»، وَ"م.ل.س"، وَ«ل.س.م» وَ«ل.م.س» لها مَـعنىً جامِـعٌ مُـشتمِـل عليها وهو "الإصحابُ والـمُلايَـنة". ومِـنْ هذه التراكيبِ: 1-الثوبُ "السَّمَـلُ"، وهو الـخَـلَـق [البالي] [خَلُقَ الشَّيءُ: اِمْـلاَسَّ ولانَ]، وذلك لأنَّـه ليس عليه من الوَبَـرِ والزِّئْـبِـر [زَغَبِ المنسوجاتِ أو ما يَـظهَـر مِن دَرَزِ الثَّوب] ما على الجديد، فـالْـيَــدُ إذا مَـرَّت عليها لِـلَّـمْسِ لَـمْ يَستوقِـفْها عنه حِدَّةُ الـمَنسجِ، ولا خُـشْـنةُ الـمَـلْمَسِ؛ 2-و"السَّمَل": الماء القليل، كأنه شيء قد أَخلقَ وضَعُفَ عن قُوَّة الـمضطرب؛ 3-و"السَّلامة"، وذلك أنّ السليم ليس فيه عيبٌ تَـقِـفُ النَّـفْـسُ عليه، ولا يُعْتَرَضُ عليها به؛ 4-و"الـمَسَـلُ" و"الـمَسيلُ" كُـلُّـه واحد، وذلك أن الماء لا يجري إلّاَّ في مَـذْهَبٍ له؛ 5-و"الأَمْـلَـس" و"الـمَـلْساء"، وذلك أنه لا اعتراض على الناظر فيه؛ 6-و"اللَّـمْس"، وذلك أنه إنْ عارَضَ اليَـدَ شَيءٌ حائلٌ بينها وبين الـملموسِ لم يَـصِـحَّ هناك لَـمْسٌ... وأمَّـا التَّركيبُ "ل.س.م" فـمُـهْـمَـلٌ، ولكنَّهم استخدَموا "ن.س.م" [والنون أخت اللام] فقالوا: "نَـــسَـمَت الرِّيحُ"، إذا مَـرَّت مرًّا سهلًاً ضعيفًا. وابنُ جنِّي هو من ابتكر الاشتقاقَ الكبير الذي يقوم على التقاليب، كما يقول في الخصائص: «وإنما هذا التلقيب لنا».
هذه الفكرةُ الـمُتمثِّلة في "الاشتقاق الأكبر" قد بَدَت مُـتَـكَـلَّــفةً وانتقدَها السيوطيُّ (1445 م – 1505 م) في الـمُـزْهِـر في علومِ اللُّغةِ وأنواعِها (ج1، ص 208): «وهذا مما ابتدعه الإمام أبو الفتح وكان شيخه الفارسي يأنس به يسيراً، وليس معتمَداً في اللغة ولا يَصِحُّ أنْ يُستنبَطَ به اشتقاقٌ في لغة العرب». وقد فَـطِـنَ أبو علي الفارسي (الـمُتوَفَّى سَنَةَ 377 هـ) أستاذُ ابن جِـنِّـي إلى "الاشتقاق الأكبر" (فكرة افتراض وجود خيط دَلاليّ جامِـع لتراكيب الثُّلاثيّ الستَّة)، ولكنَّ النُّحاةَ أهملوه فيما بعدُ.
تبدو محاوَلةُ إيجاد رابط دلالي بين تقاليب تصاريف الثلاثي ("الاشتقاق الأكبر") محاوَلةً فيها غُـلُـوٌّ ومبالَغةٌ في التأويل. وقد أشار إلى ذلك صلاح الدين زعبلاوي (دراسات في النحو، ص 555)، وصبحي الصالح حيث قال:
«وبعدُ، فإنَّ غُلُوَّ القَوم في الاشتقاق الأكبر لا يُستكثَر عليهم، فإنَّ حدوده غيرَ واضحة الـمَعالِم، وإنه لَـمِنَ الأَبحاثِ البِكْرِ الَّتي وَجَدَتْ مِن فراغِ الوقت ونعومة البال وتَرَفِ الفِكر عِندَ بَعضِ العُلَماء ما أغنى العربيَّةَ بآراءٍ إنْ يَـكُ فيها وهمٌ كثير، ففيها أيضاً خيالٌ خَصيب!» (صبحي الصالح، دراسات في فقه اللغة، ص 242)
في العصر الحديث، تمَّ المغالاةُ أكثرَ والمبالَغةُ في فَرَضيَّةِ "الاشتقاق الأكبر" (وجودِ مَعنىً جامعٍ لتَقاليبِ الثُّلاثيِّ السِّـتَّةِ) مِن خِلال دَفْعِها إلى أقصاها على يد محمد عنبر (1921 - 1998) وجعفر دك الباب (1937 - 1999)، فافترضا احتواءَ هذه التقاليب السِّتَّة على الـمَعنى ونقيضِه مُستَنِدَينِ إلى فِكرةٍ فلسفية تقول إنَّ "ضِدَّ كُلِّ شَيءٍ قائمٌ فيه". إنَّ جهود محمد عنبر في كتابه «جَدَلِيَّة الـحَرفِ العَرَبيّ وفيزيائية الفكر والمادة» الذي عرضَ فيه فرضية احتواء الجذر على نقيضه (التضاد في تقاليب الفعل الثُّلاثي) تبدو محاولَـةً لتطبيق مَنهجِ التوفيقية (concordisme) الـتأويلي على اللغة العربية، هذا المنهجِ المستخدَم في تفسير الكُتُب المقدَّسة لإزالة التعارض بينها وبين العِلم أو لردم الهوَّة بينها وبين العِلم. فكتاب جدلية الحرف العربي يمكن أنْ يَندرِجَ ضِمْنَ التيّار التوفيقي (concordiste) الذي بدأ مع المسيحية في حوالي العام 1893. ويمكننا اعتبار جهود جمال الدين الأفغاني (1839 - 1897) الإصلاحية كإرهاصات توفيقية أدَّت إلى ولادة عقيدة الإعجاز العلمي في القرآن وحتى في الحديث، والتي يُـمثِّـلها لاهوتيون أمثال زغلول النجار، وعبد المجيد الزنداني، ورشاد خليفة، والبهائيين وغيرهم، والتي بلغَت ذروتَها في سنوات الثمانينات، والجدير بالذِّكرِ أنَّ سَنَة نَشْرِ كِتاب محمد عنبر هي 1987.
كما أنَّ فرضيَّةَ محمد عنبر تَندرِجُ ضِمنَ إطارِ إعجازيةِ العربيةِ المنبثقةِ عن رؤيةٍ دينيةٍ تقديسيةٍ للعربية. فاللغويّ الفرنسي مانويل سارتوري [Manuel Sartori] (الأُستاذ في جامعة آيكس-مرسيليا) يـميل إلى الاعتقاد بأنَّ مثل هذه الافتراضات، كافتراض التضاد في تقاليب الفعل الثُّلاثي العربيّ، قد تكون ناتجةً عن اعتبارِ "العربية" لُـغةً فريدةً ومُـميَّزةً عن غيرِها وبأنَّ مِثلَ هذا الاعتبار قد يكون أحدَ انعكاسات "الوحي"، أيْ اعتبار اللغة "تَوقيفاً"، أيْ أحد انعكاسات الآية "وعَـلَّـمَ آدمَ الأسماءَ كلَّـها" [البقرة، 31].
عندما يَعتبِر محمد عنبر أنَّ "ضَرم" عَكْسُ "مَرِضَ" و"بَغِرَ" ضِدُّ "رَغِبَ" فليس هذا إلاَّ تأويلاً مبالَغاً فيه [تأويلاً مُفرِطاً] (surinterprétation) بل قد يكون أحياناً تأويلاً خاطئاً (mésinterprétation). وكمثالٍ، لِنقرأْ بعضَ ما قاله:
«لو رَجَعْنا إلى لَفظِ (م ر ض) وجدناه يحتوي على ضدِّه الكامن فيه وهو (ض ر م)، فالمرضُ خمودٌ وضَعفٌ في الجسم، والضَّرمُ قوّةٌ واشتعالٌ، فالنار تَـمرَضُ حين تَـخبو وتَـخمد، وتقوى حين تضرم وتَـتَّقِدُ، واللفظان في حركتهما العامّة مُتضادَّان مَـبْـنًى ومعنًى. [...] ولو نظرنا إلى لفظ (ب غ ر) لوجَدناه يَـتَّـجِه في معناه إلى الاندفاع في امتداد شامل. فهم يقولونَ: «تَفَرَّقَتِ الإبِلُ وذهَبَ القومُ شَغَرَ بَغَرَ» أي مُـتَـفَرِّقين في كلِّ وجهٍ. كما يتَّجِهُ لفظُ (ر غ ب) إلى الحرص على الشيء والطمع فيه لوقتٍ بعينِه ويَزولُ، وكأنه زوجٌ وضِدٌّ لِـما هو قائم لا يزول؛ واللفظان متضادَّان مَبنًى ومَعنًى. [...] وبين (دفر) الّتي تعني (دفع) وبين (رفد) التي تعني (عضد) مرحلةٌ خَفيَّة يكاد يكون الدفع فيها كالرفد، والذي أخفى هذه المرحلةَ عن الملاحظة صورة (الدفع) في الذهن التي تنصرف إلى رد الشيء رداً واضحاً بيِّناً دون ملاحظة أن الدفع في بدايته حركة، فهي لا تنطلق من أدنى سرعة إلى أقصاها في لحظة البدء – ومثل ذلك العضد فإنه لا ينتقل إلى الثبات والتمكُّن إلاَّ متدرِّجاً.. والتدرُّجُ أسلوب الطبيعة في سيرِها.» (جدلية الحرف العربي، ص 149، ص 167، ص 213).
ولكنَّ النواة الدلالية للفعل «مَرِضَ» (أي الدلالة السيميائية الأساسية أو المسيطرة في حَقلِه الدلالي) هي، بحسب لِسان العَرَبِ: "صار غَيرَ سَليمٍ" و"انحَرَفَ عَنِ الطبيعةِ وعن الصَّوابِ"؛ فـ«الـمَرَضُ» نَقيضُ الصِّحّةِ واختِلالُ الطبيعةِ (ومِن الـمَرَضِ: الشَّكُّ والنِّفاقُ والعَداوةُ والبُغضُ وضَعفُ الإيمانِ واضطراب الطبيعة بعد اعتدالِها...). أمَّا النَّواة السيميائية للفعل «ضَرِمَ» فهي: "اشتَعَلَ الحطبُ". فهناك فَرْقٌ شاسِع بين الانحراف عن الطبيعة (مرض) وبين اشتعال النار (ضرم)، ولا يمكن اعتبار "الانحراف" و"الاشتعال" نقيضَينِ، إلاَّ في تعابيرَ مَـجازيَّةٍ نادرةٍ. فقَولُ محمد عَنبر بأن "النار تَـمرَضُ حين تَـخبو وتَـخمد" هو إذاً مَجاز وتأويل.
أمَّا «بَغِرَ» فيدلُّ على الشُّرب بِلا رِيّ، أي داء العَطَش بحيث تَشرب الإبلُ ولا تَرْوَى، ويدلُّ على الدفعة الشديدة من الـمَطَرِ؛ يُقال: «بَغِرَ بَغَرًا» إذا أكثرَ مِن شُرْبِ الـماء فَلَمْ يَرْوَ. أمّا كلمة «بَغَرَ» في عبارة «تَفَرَّقَتِ الإبِلُ وذهَبَ القومُ شَغَرَ بَغَرَ» فهي صوتية على الإتباع فقط وليس معناها التفرُّق في كل وجهٍ، لأن العرب كان تستخدم مكانها كلمة «مَغَرَ». بينما يعني «رَغِبَ»: "طَلَبَ أنْ يَأخُذَ"، "سألَ شيئاً"، "طَمِعَ في شيءٍ"؛ فالرغبةُ تشير إلى الضراعة والمسألة والطلب والطاعة والتذلُّل والطَّمَع. فكيف يرى عنبر أن اللفظَين (ب غ ر) و(ر غ ب) متضادَّان مَبنًى ومَعنًى، في حين أنَّ «بَغِرَ» يشير إلى إكثار الشرب دون الوصول إلى الرِّيّ و«رَغِبَ» يشير إلى التذلُّلِ في طلبِ حاجةٍ؟
أمّا «دَفَرَ»: فتعني في إحدى اللهجات اليمانية: "دَفَعَ في صَدرِه ومَنَعَه" وتعني في لَهَجات أُخرى: دَفِرَ (اللَّحْمُ أَو الطَّعامُ أو الشيءُ): تَوَلَّد الدودُ فيه وخَبُثَت رائحتُه. بينما «رفد» يعني: "أعطى". فإذا وجدنا تضادّاً بين "الدَّفْـر" (بمعنى الصَّدّ والـمَنع والدَّفع) وبين "الرِّفْد" (بمعنى العطاء والإعانة) فهو عَرَضيّ بين أحد معاني «دفر» وأحد معاني «رفد».
وحتى لو كان الاستنتاج صحيحاً في الأمثلة الّتي قدّموها فإنَّ فَرَضِيَّةَ التَّضادِّ في تقاليب الثُّلاثي (المعنى ونقيضه في صِيَغ تصاريف الثُّلاثي) لا يمكن أن نعمِّـمَها على كل أفعال العربية. فهناك جذور لا يمكن استخراجُ نَقيضٍ منها. فالثُّلاثي «خَدَعَ» يمكن استخراج التراكيب التالية منه: «دَخَعَ» و«خَعَدَ» و«دَعَخَ» و«عَخَدَ» و«عَدَخَ»، وكلها مُهمَلة غير مستخدمة، ولا يمكن الافتراض أن أحدها كان مستخدماً، وبالتالي لا يَـضُـمُّ الفعلُ «خَدَعَ» في تراكيبه على نقيضه. وكذلك تراكيب الفعل «خَضَعَ» مهملة كلها: «خعض» و«ضخع» و«ضعخ» و«عضخ» و«عخض». وكذلك الأفعال الثُّلاثية الصحيحة «خَجِلَ» و«فَرِحَ» و«حَزِنَ» و«جَعَلَ» و«دَمَعَ»، لا يمكن استخراج نقيضها من تغيير ترتيب حروفها.
كما أنَّ هذه الفَرضيةَ لا تَـصلُحُ في الأفعال الثلاثية المعتلَّة (مثل: «باء» و«شاءَ» و«كان» و«قال» و«عَادَ» [«عَوَدَ»]، إلخ.). فتراكيبُ الجذرِ «عَوَدَ» [«عَادَ»] هي: «وَدَع» و«وَعَدَ» و«دَعَوَ» و«عَدَوَ» و«دَوَعَ» وإذا قلنا إنَّ «عَوَد» نقيضُ «وَدَعَ» (أيْ أنَّ "العَود" نقيض "الوداع") فإنَّ في ذلك تأويلاً ولَــيّاً لِـمعنى الجذرَين؛ لأنَّ النواة الدلالية للفعل "عاد" هي التَّـكرار بينما النواة الدلالية للفعل "وَدَعَ" هي الـتَّـرْك. و"التَّـكرارُ" ليس نقيضَ "التَّـركِ".
ولا تَـصلُـحُ هذه الفرضيةُ أيضاً في الجذور الصمَّاء [الـمُضَعَّفة] (كَــ «بَدَدَ» و«مَرَرَ»). بل قد نجد في تقاليب الثُّنائي الـمُضَعَّف معنىً واحداً لا يمكن إيجادُ تَضادٍّ فيها. ففي التقليبَـنِ «جرَّ» و«رَجَّ» معنى التحرُّك والاهتزاز. وفي التركيبَـينِ «دَقَّ» و«قَدَّ» معنى فصل أجزاء الشيء بعضها عن بَعض. (صبحي الصالح، دراسات في فقه اللغة، ص 205)
نحن لا نعرف اللغةَ البَدئيةَ الأُمَّ للعربية لكي نُـقرِّرَ هل العربُ استخدمت الجذور الثلاثية بناءً على تبديل ترتيب الأحرف (القلب المكاني، نوع من الإعلال) أَمْ أنَّ كلَّ جَذرٍ كان امتداداً لأصل سابق. فالعربُ ربَّـما لم تُـفاضِلْ بطريقة واعية بين التراكيب [التقاليب] (combinatoires): «جعل - جلع – عِلج – لجع – لعج – عِجل» فتختار «جعل – عجل – علج» وتهمل الباقي. وربما تكون قد أهملَت «لجع» و«لعج» و«جلع» لأنه ليس لها أصول في اللغة البدئية ولَم تُستخدَمْ أساساً في اللغة الأم للعربية.
يمكننا أنْ نشيرَ أيضاً إلى أنه يُـفْـهَــمُ من هذه الفرضية التي تقول باحتواء تراكيب الثلاثي على المعنى ونقيضه أنَّ لِـكُـلِّ حَرفٍ معنىً. وهذا غير صحيح، لأنه يعني أنَّ المعنى والصوتَ مترابطان، بينما العلاقة بينهما اعتباطيّة [arbitraire]، كما يقول فرديناند دي سوسير [Ferdinand de Saussure] (1857 – 1913).
كما أنَّ القولَ بأن تراكيب الثُّـلاثي تحتوي على المعنى ونقيضه يعني أن العربية الفصحى هي لغة متجانسة. ولكنَّ العربيَّة [اللغة الرَّسمية الّتي وضعها النُّحاةُ] هي في الحقيقة توليفة [تركيبة أو خَلْطة] من عدة لغات [لهجات] عربية، بلْ هي صناعةٌ وليست سليقةً. وليست أيضاً لُغةَ قُرَيشٍ، كما يُشاع. وقد أوضح كثيرٌ من اللغويين الـمُـحْـدَثِيـنَ كيف أن العربية الفصحى هي صناعة اللُّغَويين انطلاقاً من توليف [جمع] عدة لهجات عربية ثُمَّ أضافوا إليها حركاتِ الإعرابِ، ومن هؤلاء اللُّغَويينَ: "كارل فولَّرس" [Karl Vollers] (1857 - 1909)، ورائد الدراسات اللغوية الباحث المصري "إبراهيم أنيس" (1906 – 1977 م)، و"جورجين أيُّوب"، و"جوناثان أوينز" [Jonathan Owens]، و"يان ريتسو" [Jan Retsö]، و"پــــيـيـر لارشيه" [Pierre Larcher]، و"جوليانو لانسيوني" [Giuliano Lancioni]، و"مانويل سارتوري" [Manuel Sartori]. بل إنَّ الـمُؤَصِّلَ الأَهَـمَّ للعربيَّة أبا عمرٍو بن العلاء البَصريّ (689 – 770/774 م) أشار إلى عملية التوليف والانتقاء هذه عندما سُئلَ: "أَخبِرني عَـمَّـا وَضَـعْـتَ مِـمَّـا سَـمَّيتَ «عربية»، أَيَدخُـلُ فيه كلامُ العربِ كلُّه؟ فقال: "لا". فقيلَ: "كيف تصنع فيما خالفَـتْـكَ فيه العربُ وهُمْ حُجَّة؟" قال: "أَحمِلُ على الأكثرِ وأسمّي ما خالَـفني «لُغاتٍ»".
إن الانتقال بين التراكيب الثلاثية قد يكون بسبب اختلاف اللغات [اللهجات]. فالجذرانِ «يَـئِـسَ» و«أَيِسَ» لهما معنىً واحدٌ، وكلُّ جذرٍ منهما استُخدِمَ في لهجة من لهجات العرب. وكذلك «ناء» و«نأى» بمعنى واحد في لهجتين مختلفتَين. وبالتالي فالجذران «يَـئـس» و«ناء» ليس لهما تضادٌّ من أحرفِهما.
كما أنَّ ظاهرة الإبدال في العربية تُؤكِّد على أهمية المعيار الصوتي لا الدلالي وعلى الاعتباطية اللغوية التي أشار إليها فرديناند دو سوسير. وبالتالي فإن أحرف الجذور ليست ثابتةً حتَّى نستخرجَ منها تقاليبَ متقاربةَ المعنى أو تقاليبَ فيها تضادٌّ [المعنى ونقيضه]. فالفعل «جـــاس» (أي: تردَّد وطافَ وعاث ودار في مكان) يمكن لفظُه: «حـــاس» (وقد تحوَّل في إحدى العاميّات الشامية إلى: «حاص»). أيْ أنَّ الألفاظ الثلاثة «جـــاس» و«حـــاس» و«حاص» هي فِعلٌ واحد بألفاظ مختلفة يشير إلى معنى واحد؛ ولا يمكن استخراج نقيضها منها بتغيير تربيب أحرفها. و«انداح» [بَطنُهُ] يُلفَظ: «اندالَ» (بمعنى: عَظُمَ بَطنُه وتدلَّى). و«مَدَح» يُصبح «مَدَهَ». و«مَعَــــدَ» و«مَعَــــلَ» بمعنىً واحد [أسرعَ، اختلَسَ]. و«قابَ قوسَـيـن» قد تُلفَظ: «قادَ قوسَينِ». ومن أمثلة الإبدال أيضاً: «مِن كَثَـــب» و«مِن كَثَـــم» [عَن قُرْبٍ]؛ «يَدبُّ دبــــيــبــاً» و«يدحُّ دَحـــيــحــاً» [يحبو، يمشي بطيئاً]؛ «وَجَــفَ القلبُ» و«وَجَـــبَ القلبُ» [خفق واضطرب وخاف]؛ «هَـــبَّــتِ الرِّيحُ» و«هَـــفَّـــتِ الرِّيحُ». (دراسات في فقه اللغة، صبحي الصالح، ص 216 وما بعدها)
يمكن أنْ نَفهمَ من كِتاب الـمُزهِر للسيوطي (وهو كِتاب جمَعَه مِن عدة كُتُب نحوية) أن العرب كانت تنتقي التراكيبَ الأسلسَ نطقاً من بين تراكيب الثلاثي الستّة الممكنة. فمعيار الانتقاء صوتيٌّ، هو السلاسة، وليس دلالياً يمكن أنْ يؤَدِّيَ إلى فرضية "التضادّ بين الجذور". فلو أخذْنا الجذرَ «دال عين ميم» (د. ع. م.) فإنَّ تراكيبه الممكنة هي: [1]-(عَــدَم)، [2]-(دَمَــع)، [3]-(عَــمَــد)، [4]-(دَعَــم)، [5]-(مَــعَــد)، [6]-(مَــدَع). ولكنَّ التراكيب منه الأكثر فصاحة واستعمالاً هي (بحسب ترتيب الحروف من الأثقل إلى الأخفِّ: ظ – ذ – ث – ش – ق – خ – ع – ن – ل – ر – ب – م):
1) الأوّل فصاحةً: ما انْـحُـدِرَ فيه من الـمَخـرَج الأعلى إلى الأوسط إلى الأدنى (عـدم)؛
2) الثاني فصاحةً: ما انْتُقِلَ فيه من الأوسط إلى الأدنى إلى الأعلى (دمع)؛
3) الثالث فصاحةً: ما انْتُقِلَ فيه من الأعلى إلى الأدنى إلى الأوسط (عمد)؛
4) الرابع فصاحةً: الانتقال من الأوسط إلى الأعلى إلى الأدنى (دعم)؛
وأقلُّ التراكيبِ فصاحةً واستعمالاً: ما انتُقِلَ فيه من الأدنى إلى الأعلى إلى الأوسط (معد).
في حين أن التركيب الذي يُـنْــتَــقَــلُ فيه من الأدنى إلى الأوسط إلى الأعلى (مدع) مهمَل لأنه واحد من التراكيب الأقل فصاحة ولعدم الحاجة إليه. ولو نظرنا في دلالات التراكيب الخمسة المستعملة ("عَــدَم" [الافتقار]، "دَمَــع" [السيلان]، "عَــمَــد" [القصد أو اللزوم]، "دَعَــم" [العَون أو المساندة]، "مَــعَــد" [إصابة الـمَعِدة]) لما وجدنا تركيبَين متناقضين لا فيزيائياً ولا مجازياً. ولكنْ إذا سلَّمَ ذهنُنا بصحَّة فَرضيّة التضادّ الجذري (احتواء الثلاثي على نقيضه) فإنه، من باب الانحياز التأكيدي (biais de confirmation)، قد يرى أنَّ الثُّلاثيّ «عَــدَم» [الذي يشير إلى الافتقار]، والثُّلاثيّ «دَعَــم» [الذي يشير إلى العَون] متناقضَينِ.
قد يكمن "إعجاز" العربية، إنْ كان لديها "إعجاز"، بل بالأحرى "مِيْزة" العربية في اختيار كلمة ثلاثية كأصل لمفرداتها وليست رُباعية أو أكثر. هذا الاختيار للأصل الثُّلاثي جَرَى على أساس صوتي فيزيائي بحت وحركة انسيابية لَيِّنة. فلِـماذا اختارَت العربُ أصلاً ثُلاثيًا؟ الأصول: ثُلاثي ورُباعي وخُماسي. أكثرُها استعمالاً الثلاثي ["فَـــعَـــلَ"] لِــخِــفَّـتِه وقِلَّة تراكيبه [سِتَّة]، ففيه حَرفٌ للابتداء وحَرفٌ للحشو وحَرفٌ للوقف عليه. فلا يُـبْـدَأُ إلاَّ بِـمُتحرِّك [فاء الكَلمة] ولا يُوْقَف إلاَّ على ساكِن [لام الكلمة]، فوَجَبَ توسُّطُ عَينِ الكلمةِ حاجِزًا بين مُتنافرَينِ حتَّى لا يُـتَوَقَّـفَ فجأةً.
1- فَـــ [فُــ/فِـــ] حَرَكة انطلاق أَخضر
2- ـعَــ [ـعُـ/ـعِـ/ـعْـ] حركة تخفيف للوصول إلى الوُقوف بُرتُقاليّ
3- ـلْ وُقوف [سُكون] أَحمر
ولذلك فالثلاثي [وتراكيبه الستَّة] أَخَفُّ مِن الثنائي والرباعي والخماسي. [وتراكيب الثلاثي الستة هي: جعل - جلع – عِلج – لجع – لعج - عِجل.] أمّا تراكيب الرباعي فهي أربعة وعشرون اُستُـعمِلَ منها الأقلُّ النزر [عَقرَب – بُرقُع – عَبقَر – عَرقَبَ]. وتراكيب الخماسي أكثر وأثقل. ولذلك قلَّ الخماسيُّ أصلاً لإفراط طوله. فمثلاً استُخدِمَ تركيبُ "سفرجل" مِن أصل مِئةٍ وعشرين تركيبًا لأحرُفِه.
ولكنَّ تَصَرُّفَهم بالرُّباعيِّ أكثرُ بقليلٍ من الخُماسي (لقُربِ الرباعي من الثلاثي) وأقلُّ من الثلاثي. وأحيانًا شبَّهوا الثُّلاثيَّ بالرُّباعيِّ فأَهمَلوا بعضَ تراكيبِ الثلاثي ليس بسبب الثقل، كإهمالِهم "لـــــجع" [مع أنهم استخدموا "نـــجع" و"رجع"، واللامُ أُختُ النون والراء]. فالـمُهمَل من الثلاثي لغير الثقل [لغير قُبح التأليف] سببُه أنهم شبَّهوه بالرُّباعي، أيْ أنَّ علاقته بالرباعي كعلاقة الرباعي بالخماسي. وعندما تصرَّفوا بالخماسي فلأنهم شبَّهوه بالرباعي، أيْ أنهم رأوا أنَّ علاقته بالرباعي كعلاقة الرباعي بالثلاثي. ومِن عادةِ العرب أنهم إذا أعطَوا حُكمًا لشيء أعطوا هذا الحُكم للمأخوذ منه.
كيف اختارت العَرَبُ الجذورَ الثُّلاثية؟ إذا أهملَ العَربُ ثُلاثيًا فلأنهم حَمَلوه على حُكم الرباعي. ولكنْ لماذا استعملَت العربُ بعضَ الأصول دون بعضٍ؟ لأنَّ واضِعَ اللغةِ قاربَ اللغةَ مِن منظور كُلاَّنيٍّ [approche holistique] («هَجَمَ بفِكرهِ على جميعِها»، بحسب تعبير السيوطي في الـمُزهِر). فرَفَضَ أولاً ما شَــنُـعَ تأليفُه (مثل: «هع» و«قخ» و«كق»). ثم عرفَ واضعُ اللغة أنَّ الكلمة الطويلة لا تمتلك مرونةَ التصرُّفِ التي يمتلكها الأصل الثلاثي. ثمَّ رأى واضعُ اللغةِ أنَّ مرونةَ الأصل الثلاثي غير تامة، فـــرَغمَ قابلية الأصل الثلاثي للتصرُّف فإنَّ هناك عائقًا يمنع التصرُّفَ التامَّ به وهو أنَّ الانتقال من أصلٍ إلى أصل يُشبِه الإعلالَ [تغيير صرفي في حرف العلَّة بالقلب أو الحذف أو الإسكان] (مثل: "اضْمَحَلَّ"/"امْضَحَلَّ" – و"صَبَرَ"/"بَصَرَ" – و"ضَرَبَ"/"رَبَضَ" – و"قِسِـيٌّ" [ج. "قَوس"] – و"أَيْـنُـق" [ج. "ناقة"] ) فامتنعوا عن استخدامِ جميعِ احتمالات تراكيب الثُّلاثي.
وبالتالي، إنَّ هذه الفرضية (فرضية التضاد في التقاليب الستّة للفعل الثلاثي، أيْ: اشتقاق نقيضِ الثُّلاثي من حروفه بتغيير ترتيبها) والمنبثقة عن فَرَضيَّةِ وجودِ مَعنىً جامعٍ لجميعِ تَقاليبِ الثُّلاثيِّ السِّـتَّةِ تبدو ضعيفةً لشدّة ضبابيتها وذاتيّتها وعدم ضَـبْـتِـها أو إحكامِها موضوعياً. فالعرب لَم تَستخدِمْ جميعَ تراكيب الثلاثي لأنهم شبّهوه بالرباعي «حََذَوهُ حَذْوَ الرُّباعيّ» (كما يقول السيوطي في الـمُزهِر)، ولأنه غير تام المرونة فهناك تراكيب ثلاثية ثقيلة (كَـ «عَخَض»). وبالتالي فإن معيار العرب لاختيار تراكيب الثلاثي هو معيار صوتي أكثر منه دلالي. وهذا المعيار الصوتي قد يجعل بعض التراكيب متناقضة ولكن ليس كلها.
شباط/فبراير 2020
مراجع:
1. ابن جِـنِّـي، أبو الفتح عثمان، الـخصائص، الجزء الأول، "باب ذكر علل العربية أكلامية هي أَمْ فقهية"، نسخة رقمية (موقع: https://www.kutubpdfbook.com).
2. ابن فارس، أبو الحسين أحمد، مقاييس اللغة، تحقيق عبد السلام هارون، اتحاد الكُتّاب العرب، ط1، 2002م، 19/1.
3. ابن منظور، أبو الفضل محمد بن مكرم (ت. 710 هـ)، لسان العرب، دار صادر بيروت، ط1، 1968.
4. الأصفهاني، أبو الفرج علي بن الحسين، الأغاني، دار إحياء التراث العربي، بيروت، ط1، 1994، ج 10، ص 265.
5. الأنباري، أبو بكر محمد بن القاسم بن بشَّار، (271-328 هـ)، إيضاح الوقف والابتداء في كتاب الله عَزَّ وجَلَّ، تحقيق محي الدين عبد الرحمن رمضان، مَجمَع اللغة العربية بدمشق، 1971.
6. أنيس، إبراهيم، مِن أسرار العربية، مكتبة الأنجلو المصرية، القاهرة، ط3، 1966.
7. دك الباب، جعفر، "الخصائص البنيوية للفعل والاسم في العربية"، مجلة التراث العربي، يوليو 1982.
8. دك الباب، جعفر، "الدراسات الصوتية في التراث اللغوي العربي"، مجلة المعرفة، أغسطس، 1981.
9. دك الباب، جعفر، "في نظام المعجم العربي"، مجلة التراث العربي، أكتوبر، 1999.
10. دك الباب، جعفر، أسرار اللسان العربي، الأهالي للطباعة والنشر والتوزيع، دمشق، 1990.
11. دك الباب، جعفر، طريقة صوتية في وصف قواعد صرف العربية ونحوها، الأهالي للنشر والتوزيع، دمشق، 1991.
12. دك الباب، جعفر، نحو نظرة جديدة إلى فقه اللغة، الأهالي للطباعة والنشر والتوزيع، دمشق، 1989.
13. الزُبَـيديّ، أبو بكر محمد بن الحسن، طبقات النحويين واللغويين، دار المعارف، 1984، تحقيق: محمد أبو الفضل إبراهيم.
14. الزَجَّاجي، أبو القاسم، الإيضاح في عِلل النحو، تحقيق: مازن المبارك، دار النفائس، بيروت، ط3، 1979.
15. زعبلاوي، صلاح الدين، دراسات في النحو، اتحاد الكُتّاب العرب، ص 555.
16. السيوطي، جلال الدين، الإتقان في علوم القُرآن، النوع 37 ["فيما وقع فيه بغير لغة الحجاز"] والنوع 38 ["فيما وقعَ فيه بغير لغة العرب"]، تحقيق: شعيب الأرنؤوط ومصطفى شيخ مصطفى، مؤسسة الرسالة ناشرون، بيروت، طبعة أولى، 2008.
17. السيوطي، جلال الدين، الـمُـزهِر في علوم اللغة وأنواعها، تحقيق: محمّد أحمد جاد المولى بك وعليّ محمّد البجاوي ومحمّد أبو الفضل إبراهيم، ج 1، المكتبة العصرية، بيروت، 1986.
18. الصالح، صبحي، دراسات في فقه اللغة، دار العِلم للملايين، بيروت، 2009.
19. عبد التوَّاب، رمضان، فصول في فقه العربية، مكتبة الخانجي، القاهرة، طبعة سادسة، 1999.
20. عمر أفكا، شيخ، "مفهوم التقاليب بين المعجميين والاشتقاقيين"، مجلة الدراسات اللغوية، العدد 10، ديسمبر 2013.
21. عنبر، محمد، جدلية الحرف العربي وفيزيائية الفكر والمادة، دار الفكر، دمشق، 1987.
22. الفراهيدي، الخليل بن أحمد، كتاب العين، تحقيق مهدي المخزومي وإبراهيم السامرائي، دار ومكتبة الهلال، 1984، ج1، ص 59.
References:
1. Ibn Jinnī, Abu Al-Fatḥ ʿUthmān, Al-Khaṣāʾiṣ, Part One, "The chapter on mentioning the ills of Arabic, verbal´-or-jurisprudential," digital version (website: https://www.kutubpdfbook.com).
2. Ibn Fāris, Abu Al-Ḥussayn Ahmad, Maqāyīs al-Lugha [Language Metrics], reviewed by Abd al-Salam Haroun, -union- of Arab Writers, 1st edition, 2002 AD, 1/19.
3. Ibn Manẓūr, Abu al-Faḍl Muhammad ibn Makram (d. 710 AH), Lisān Al-ʿArab, Dār Ṣa-dir- Beirut, 1st edition, 1968.
4. Al-Aṣfahānī, Abu Al-Faraj ʿAlī bin Al-Ḥussayn, Al-Aghānī [Songs], Dār Iḥyāʾ at-Turāth al-ʿArabī, Beirut, 1st edition, 1994, vol. 10, p. 265.
5. Al-Anbārī, Abu Bakr Muḥammad ibn al-Qāsim ibn Bashar, (271-328 AH), Iḍāḥ al-waqf wa al-ibtidāʾ fī kitāb Allāh ʿAzza wa Jall [clarification of the endowment and commencement in the book of God Almighty], reviewed by Muḥyeddīn ʿAbd al-Raḥmān Ramaḍān, Arabic Language Academy in Damascus, 1971.
6. Anīs, Ibrahīm, Min Asrār al-ʿarabiyya [The Secrets of Arabic Language], The Egyptian Anglo Library, Cairo, 3rd edition, 1966.
7. Dakk al-Bāb, Jaʿfar, Al-Khaṣāʾiṣ al-bunyawyya li-al-fiʿl wa al-ism fī al-ʿarabiyya [“The Structural Characteristics of Verb and Name in Arabic”], Majallat at-Turāth al-ʿarabī [Arab Heritage Magazine], July 1982.
8. Dakk al-Bāb, Jaʿfar, “Ad--dir-āsāt aṣṣawtyya fī at-turāth al-lughawī al-ʿarabī” [“Phonological Studies in the Arabic Linguistic Heritage”], Al-Maʿrefah Magazine, August 1981.
9. Dakk al-Bāb, Jaʿfar, “Fī niẓām al-muʿjam al-ʿarabī” [“In the Arabic Lexicography System”], Majallat at-Turāth al-ʿarabī [Arab Heritage Magazine], October 1999.
10. Dakk al-Bāb, Jaʿfar, Asrār al-Lisān al-ʿarabī [The Secrets of the Arabic Language], Al-Ahālī for -print-ing, Publishing and Distribution, Damascus, 1990.
11. Dakk al-Bāb, Jaʿfar, Ṭarīqa ṣawtyya fī waṣf qawāʿid ṣarf al-ʿarabiyya wa naḥwihā [An Audio Method in describing the Rules of Arabic Grammar and Morphology], Al-Ahālī for -print-ing, Publishing and Distribution, Damascus, 1991.
12. Dakk al-Bāb, Jaʿfar, Naḥwa naẓra jadīda ilā fiqh al-lugha [Towards a New Look at the Philology], Al-Ahālī for -print-ing, Publishing and Distribution, Damascus, 1989.
13. Al-Zubaydī, Abu Bakr Muḥammad ibn Al-Ḥasan, Ṭabaqāt an-naḥwiyyīn wa al-lughawiyyīn [Categories of Grammarians and Linguists], Dār Al-Maʿārif, 1984, reviewed by: Muḥammad Abu Al-Faḍl Ibrahīm.
14. Al-Zajājī, Abu al-Qāsim, Al-Iḍāḥ fī ʿilal an-naḥw [Clarification about Grammar Reasons], reviewed by: Māzin Al-Mubārak, Dār Al-Nafāʾis, Beirut, 3rd edition, 1979.
15. Zaʿbalāwī, Ṣalāḥ al-Dīn, -dir-āsāt fī an-naḥw [Studies in Grammar], -union- of Arab Writers, p. 555.
16. Al-Suyūṭī, Jalāl Al-Dīn, Al-Itqān fī ʿUlūm al-Qurʾān [Proficiency in Quranic Sciences], Type 37 [“Words in the Koran in other dialects than the dialect of the Ḥijāz”] and Type 38 [“Words in the Koran in other languages than the languages of the Arabs”], reviewed by: Shuʿayb Al-Arnaʾūṭ and Muṣṭafā Sheikh Muṣṭafā, Al-Risāla Foundation Publishers, Beirut, First edition, 2008.
17. Al-Suyūṭī, Jalāl Al-Dīn, Al-Muzhir in Language Sciences and its Types, reviewed by: Muḥammad Aḥmad Jād al-Mawlā Bey, ʿAlī Muḥammad al-Bajāwī and Muḥammad Abu al-Faḍl Ibrahīm, Part 1, The Modern Library, Beirut, 1986.
18. Al-Ṣāliḥ, Ṣobḥī, -dir-āsāt fī Fiqh al-lugha [Studies in Philology], Dār Al-ʿIlm li-Lmalāyīn, Beirut, 2009.
19.ʿAbd al-Tawwāb, Ramaḍān, Fusūl fī fiqh al-ʿarabiyya [Chapters in Arabic Philology], Al-Khānjī Library, Cairo, sixth edition, 1999.
20.ʿUmar Afkā, Sheikh, “Mafhūm at-taqālīb bayna al-muʿjamyyīn wa al-ishtiqāqyyīn [“The Concept of triliter verb combinaisons between Lexicographers and Etymologists”], Journal of Linguistic Studies, No. 10, December 2013.
21. ʿAnbar, Muḥammad, Jadalyyat al-ḥarf al-ʿarabī wa fīzyāʾyyat al-fikr wa al-mādda [The Dialectic of the Arabic Letter and the Physics of Thought and Matter], Dār Al-Fikr, Damascus, 1987.
22. Al-Farāhīdī, Al-Khalīl ibn Aḥmad, Kitāb Al-ʿAyn, reviewed by Mahdī Al-Makhzūmī and Ibrahīm Al-Sāmarrāʾī, Al-Hilāl edition and Library, 1984, Part 1, p. 59.
#محمد_علي_عبد_الجليل (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟