|
القصيدة والضاحية
صبحي حديدي
الحوار المتمدن-العدد: 1622 - 2006 / 7 / 25 - 12:04
المحور:
الادب والفن
قبل أيام طرح الصديق الشاعر اللبناني عباس بيضون سؤالاً لافتاً حقاً: هل من الممكن كتابة قصيدة عن الضاحية الجنوبية؟ وبعض تطويرات السؤال ذاته كانت تفيد التالي: هل من الممكن لأية قصيدة أن تغني دمار الضاحية؟ وكيف للشاعر أن يفتش هناك "عن عشبة في الشقوق، عن منديل وسجادة مهدبة، عن مسبحة وعصا مكسورة"، خصوصاً وأنّ "حساب الزلازل والانفجارات الكوكبية وهيجانات الطبيعة أمور لا مفردات لها"؟ و"هل يمكن لشاعر أن يقول شيئا عن مساحات مهدمة تحتاج إلى توبوغرافي، إلى فلكي، إلى مخطط مدن، إلى سينمائي، إلى كومبيوتر أكثر منها إلى شاعر"؟ لكنّ بيضون يصرف على الفور طرازاً من الشعر محدداً (يصفه هكذا: "سنقرأ بالطبع قوافي وأوزاناً لكن من ينتبه")، يعتبر ضمناً أنه لا يُحتسب في السؤال، إذْ كيف سيجد شعراء هذه القصيدة "قافية لأوذيسه الردم التي لا تنتهي، لتسونامي الردم وموجاتها المقلوبة على بعضها". ولعلّي أختلف معه تماماً في هذا التفصيل، وتحديداً بصدد الذين سينتبهون إلى قصيدة كهذه (إذْ أرى على العكس أنهم كثر، بل هم الأغلبية!) من جانب أوّل؛ وبصدد نطاق الإمكان في مستوى موضوعة رثاء الممالك والوقوف على الأطلال تحديداً، من جانب آخر، وهو نطاق قد يتسع وينفرج وينفتح على نحو لا يُقارن البتة بما قد يتوفّر لأيّ شعر آخر. في صياغة ثانية للفكرة ذاتها، أكاد أجزم شخصياً أنّ شاعراً متمرساً في كتابة قصيدة العمود (ولأضرب ثلاثة أمثلة على الفور: محمد مهدي الجواهري، مصطفى جمال الدين، سعيد عقل)، عالي الفصاحة، معلّماً في البلاغة، قابضاً على أسرار الكيمياء المباشرة بين الشعر والخطابة... لن يكتب قصيدة عمودية ممتازة عن الضاحية ـ خراباً وطللاً ورمزاً على حدّ سواء ـ فحسب، بل الأرجح أنّ تلك القصيدة سوف تستقرّ دون إبطاء في السجلّ الذهبي لأمهات القصائد العربية. ولكي لا تحتمل خلاصتي هذه أيّ التباس حول موقفي الشخصي من هكذا قصيدة، أقرّ على الفور أنني أغلب الظنّ سأدرجها في خانة الشعر العظيم، ولعلّي سأحفظ الكثير من أبياتها عن ظهر قلب أيضاً. ليست هذه، مع ذلك، هي الروحية الجوهرية في السؤال كما أقرأه شخصياً، بل هي إشكالية معقدة ـ واضحة، في آن، تختصرها هذه الفقرة من مقالة بيضون: "العيون التي فتحتها الصواريخ في المباني ستبقى لفترات طويلة ذات نظرة رهيبة لن يستطيع الشعراء مقابلتها. لن يعرفوا ماذا يفعلون بضلع إسمنتي مكسور. كيف يرون جناحاً باطونياً هاوياً. كيف يتأملون تلك المجلدات الحجرية النائمة على بعضها بعضاً. سيخافون أكثر من هذه الديناصورات المعمارية التي اختفت بدون صراخ". نتذكر هنا ذلك السجال الكبير، والخطير، الذي دشّنه الفيلسوف الألماني اليهودي تيودور أدورنو ذات يوم، حين أطلق عبارته الرهيبة "كتابة الشعر بعد أوشفتز أمر بربري"، حول ما إذا كان الشرّ المطلق يفرض قيوداً على الفنّ المسلّح بالوجدان، أو المتكيء على الضمير. كأنّ بيضون يعيد تخفيف حدّة ذلك السجال، دون أن يخرجه عن إطار الإمكانية الأخلاقية، ولكن بعد أن يزجّه في الإمكانية الجمالية والتعبيرية، وفي سؤال الشكل والمحتوى بمعنى آخر. كأنه يقول إنّ القصيدة ذات الأوزان والقوافي قد تتدبر أمرها في وصف الضاحية، كيفما اتفق، غير أنها لن تكون القصيدة التي تبحث وسط الركام "عن عشبة بين الشقوق، عن دمية، عن مسبحة، عن عباءة، عن مكحلة، عن أدوات زينة". وإذْ أسجّل اختلافي هنا أيضاً مع بيضون، وعلى نحو جوهري كما يتوجب أن أشدّد، أجد أنّ يقينه هذا جدير بمساءلة إضافية إذْ يصدر عن الشاعر صاحب "صور"، تلك القصيدة الملحمية الفذّة الفريدة التي تقودني شخصياً إلى هذا اليقين المضادّ: الذي كتب "صور" قادر تماماً على كتابة قصيدة عظيمة عن الضاحية الجنوبية، وهو ليس جديراً بتلك الكتابة فحسب، بل هي واجب ملقى على عاتقه... ملقى، على نحو منتظَر إبداعياً ومشرّف أخلاقياً، ولا فكاك منه! وهذا يقين ليس مضاداً إلا بمعنى أنه يؤمن بما توفّره مناخات المقاومة من محرّضات ارتقاء للفنّ إجمالاً، وللشعر بصفة خاصة، فضلاً بالطبع عن سلسلة العوامل التي تجعل السلوك المقاوم طبيعة ثانية تحريرية، بصرف النظر عن معطيات الصراع وتلوينات العقائد وخرائط الاصطفاف. وكما يعلن أنصار "حزب الله" اليوم أنهم يقاتلون باسم لبنان كله، بل باسم الأمة جمعاء كما أوضح الأمين العام الشيخ حسن نصر الله (وهذا مزاج "علماني" على نحو ما، في المحصلة الجدلية)، ثمة مثقفون في الصفّ الشيعي ذاته يأخذون على بعض قيادات الحزب سعيها إلى مساندة فتاوى المشايخ التي تصادر حرّية التعبير وتكمّ الافواه، أو تحيل الضاحية والجنوب والجغرافية الشيعية بأسرها إلى مجرّد حسينيات تدين بمبدأ "ولاية الفقيه" ومرجعية آية الله على خامنئي (وهذا نقيض أيّ حدّ أدنى من الديمقراطية ومبدأ فصل الدين عن الدولة). وإذا لم تكن روحية المقاومة الجدلية هذه، التي تمسّ معيش البشر اليوميّ وأفكارهم وميولهم وعقائدهم، قادرة على تخليق قصيدة فذّة عن مشهدية مقاومة فذّة، هي الضاحية الجنوبية، فكيف سوى هذا يولد أيّ شعر عظيم؟ وكيف لا نطلب تلك القصيدة من شاعر "صور" بالذات... قبل سواه؟
#صبحي_حديدي (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
حروب إسرائيل في واشنطن وطهران: مزيد من هستيريا الاستيهام
-
فيصل حرية التعبير
-
السياسة خلف -الوعد الصادق-: مخاطر تبسيط الحقّ الواضح
-
علم بنات الإسلام
-
هل تبحث إسرائيل عن حسن نصر الله... فلسطيني؟
-
ما بعد أرض الميعاد
-
واشنطن والبربرية المعاصرة: مباركة في فلسطين، وتواطؤ في سورية
-
أيقونة الوجدان الجمعي
-
أحدث أطوار الاستبداد السوري: قطع الأرزاق بعد كمّ الأفواه
-
بديل الكراهية
-
صومال ستان، أو كيف تعيد واشنطن إنتاج الطالبان
-
كاواباتا ضدّ ماركيز
-
المعرفة السورية والنطاسيّ الغربي: ضحالة على ضحالة
-
في ذكرى إميل حبيبي
-
الحملة ضدّ المثقفين السوريين: حين يصبح البوق سوط الجهاز
-
سينما دمشق
-
الاستبداد السوري بوصفه ستراتيجية بقاء وسيرورة حفظ نوع
-
اللآلىء والخنازير
-
دومينو التفاح الفاسد في عوالم ما بعد الحرب الباردة
-
حاوية العقارب والقردة
المزيد.....
-
طالبان تحظر هذه الأعمال الأدبية..وتلاحق صور الكائنات الحية
-
ظاهرة الدروس الخصوصية.. ترسيخ للفوارق الاجتماعية والثقافية ف
...
-
24ساعه افلام.. تردد روتانا سينما الجديد 2024 على النايل سات
...
-
معجب يفاجئ نجما مصريا بطلب غريب في الشارع (فيديو)
-
بيع لوحة -إمبراطورية الضوء- السريالية بمبلغ قياسي!
-
بشعار -العالم في كتاب-.. انطلاق معرض الكويت الدولي للكتاب في
...
-
-الشتاء الأبدي- الروسي يعرض في القاهرة (فيديو)
-
حفل إطلاق كتاب -رَحِم العالم.. أمومة عابرة للحدود- للناقدة ش
...
-
انطلاق فعاليات معرض الكويت الدولي للكتاب 2024
-
-سرقة قلادة أم كلثوم الذهبية في مصر-.. حفيدة كوكب الشرق تكشف
...
المزيد.....
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
-
التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا
...
/ نواف يونس وآخرون
-
دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و
...
/ نادية سعدوني
-
المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين
/ د. راندا حلمى السعيد
-
سراب مختلف ألوانه
/ خالد علي سليفاني
-
جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد
...
/ أمال قندوز - فاطنة بوكركب
-
السيد حافظ أيقونة دراما الطفل
/ د. أحمد محمود أحمد سعيد
-
اللغة الشعرية فى مسرح الطفل عند السيد حافظ
/ صبرينة نصري نجود نصري
-
ببليوغرافيا الكاتب السيد الحافظ وأهم أعماله في المسرح والرو
...
/ السيد حافظ
المزيد.....
|