|
القصيدةُ أنوثةٌ غامضة
نمر سعدي
الحوار المتمدن-العدد: 6799 - 2021 / 1 / 26 - 15:43
المحور:
الادب والفن
لم أترك قصائدي تتعلَّق بفساتين الحبيبات الذاهبات إلى حقول البرتقال، لكني على أية حال أشعر بالرضى المشوب بالقلق الجميل عنها.. ولأن الزمن ليس زمن الشعر أعترف أنني نشرتُ دواويني بصعوبة بالغة ولكن بطموح كبير وبرغبة لذيذة خالية من الندم.. بشكل أو بآخر كانت عملية السعي وراء الناشرين ودور النشر على حساب أشياء مهمة كثيرة.. أورثتني قصائدي خدوشا في جسدي.. في أقاصي روحي.. خدوشا لا تشفى مهما غسلتها بماء الذكريات وغبار الطلع وسحر النثر الصوفي الطالع كالخبز الساخن من عند الفران.. الشعر خيمتي الأخيرة وبريَّة أحلامي الزرقاء.. جسد المرأة الذي آوي إليه ولو مجازا.. الشعر نجمتي وخيمتي ولكني أعشق نثر الشعراء الصافي.. نثر رسول حمزاتوف ونثر حسين مردان المركَّز كما أطلق هو عليه، وأميل لهواجس محمد الماغوط.. الماغوط يكتب كأنه يرقص في الهواء، يرمي العبارة كأني يرمي كرة سحريَّةً في الفضاء.. ينفث القصيدة أو النص النثري كما ينفث دخان سجائرهِ، قصائده سيرة شخصية له بشكل أو بآخر.. سيرة شخصية لوجعه ولظهره الذي احدودب من السماوات المنخفضة. أما أنا فقصائدي خجولة.. هي ليست سيرة شعريَّة لي، فيها احتراقات روحي ولكنها لا تدلُّ عليَّ.. قصائدي خريفية مع أنها أشبه بنساء يعشقن الصيف والتسكع في خيالاته، وتحت شمسه المنخفضة. كما أنني كائنٌ خريفي.. أحلم.. وأكتب.. وأركض على شواطئ بحار بعيدة، في الخريف أرجع لقصائد أبي تمام.. ولا أغفو إلا وديوان المتنبي بالقرب من سريري المائي الشبيه بسرير السياب.
أقفلُ وردةَ يومي مشدودا إلى بياض القصيدة.. يا له من شغف جميل غامض إلى الكتابة، منذ شهور لم أكتب سطرا شعريا واحدا.. وها أنا أقترب من نصف عام وأكثر.. كأنَّ الكلام تلاشى.. أستغيث بمعلقات الجاهليين وبشعر الهايكو.. بحدائق السرد المطيرة.. بالرواية المتوسطة الطول
أسلمُ نفسي لتأثير الرباعي الفذ في ذائقتي.. يا لها من متاهة جماليَّة.. أبو تمام.. المتنبي.. السياب.. ت س اليوت.. ما أجمل دوار الشعر.. ما أجمل هذه الدوَّامة النورانية.. أغرقُ في القصيدة والعالمُ يغرقُ في ضبابِ الكورونا الشرسة.. أستندُ على ذكرياتي وعلى كتاب الأغاني الضخم.. أغيبُ في الموازنات والمقارنات والمفاضلات.. مع أنها لا تعنيني أبدا، فأنا آخذُ من كلِّ شاعرٍ ما أريد حتى لو كان نصَّا واحدا أو قصيدة واحدة لا غير.. آخذُ ما يشعلُ فتيلَ شهوتي للكتابة.. الكورونا تجرُّ العالم إلى الهاوية، وأنا يجرني ديوانُ المتنبي إلى سماوات البلاغة والمجاز والفتنة والجمال.. لا شيء يثير اهتمامي في تفاصيل الزمن الكوروني البغيض إلا اختلاف أبي تمام عن المتنبي؟! أفكِّر قبل مجيء الحلم.. بماذا اختلف المتنبي عن أستاذه أبي تمام؟ أنسى كلَّ ما يحيط بي من مواجع حياة قلقة كأن الريح تحتها وأرجع لتساؤلات وإشكاليات أبي تمام وحكميات ومدائح المتنبي. يقول ابن الأثير عن أبي تمام: أما أبو تمام فإنه رب معانٍ وصيقلُ ألباب وأذهان، وقد شهد له بكل معنى مبتكر، ولم يمش فيه على أثر ..." وجاء أدونيس، بموقف الحداثة القائل: «إن أبا تمام انطلق من أولية اللغة الشعرية… أي خلق العالم باللغة… شعره يصدر عن «ضمير صنع. ليصل إلى أن الشعر «هو التطابق أو زواج الكلمة البكر بالعالم البكر» وهي مفاهيم مشتقة من مالارميه وبودلير وفاليري». بينَ أبي تمام والمتنبي سأوزع روحي.. لكن لم هذين الشاعرين بالذات؟! هل لأن أكاديميا قال لي" أبو تمام قطب كوكب الشعر العربي والمتنبي القطب الآخر. والشعراء العرب موزعون بينهما ولكل منهما مريدون وحواريون. المساحة بينهما تتقلَّص وفق رغبة المريد أو الحواري. أضيء ليلي بحكمة أبي تمام الممزوجةِ بغزل ناعم.. وآوي إلى قلق وكبرياء قصائد المتنبي. هناك خيط رفيع يجمع بين أبي تمام وأدونيس.. السياب.. والت ووتمان، وت س إليوت. علاقةٌ لغويَّة خفيَّة، شعريَّة بامتياز. أتذكَّر عبارة قالها لي أحد المستشرقين ذات نهار خريفي " لو أنك تقرأ أبا تمام.. إنه الأستاذ الحقيقي للمتنبي وعرَّاب الحداثة في الشعر العربي وبرأي الكثير من نقاد الشعر الحديث يشكِّل ذورة شعرية لا نظير لها في الأدب العربي كلهِ. أتذكَّر ما قاله مرة الشاعر العراقي الكبير سعدي يوسف في أحد حواراته" أحتاج فقط لديواني أبي تمام ووتمان وجبل بعيد أنعزلُ فيهِ، وليمنعوا عني باقي التراث الشعري الإنساني، هل هي الكيمياء الشعريَّة وحدها من لعبت دورا في إنجذاب طائفة من الشعراء لأبي تمَّام وانجذاب طائفة أخرى للمتنبي؟ أنتشي برأي المعري المأخوذ بشعر المتنبي" أبو تمام والمتنبي حكيمان، أما الشاعر فالبحتري". كنتُ بفطرتي الشعرية أقرأ ميل أحمد شوقي للمتنبي بينما ألمس شغف السياب والبردوني بأبي تمام وهو شغف واضح في الكثير من قصائد البردوني خصوصا قصيدة "أبو تمام وعروبة اليوم".
ولكن أليس لمريدي أبي تمام من شعرائنا المعاصرين تهويمات لغوية غرائبية؟! مع أنهم شعراء جماليون كبار.. ولديهم المقدرة على كتابة الشعر الصافي الخالي من الشوائب.. ذلك الشعر الذي كتبه أبو تمام وأبو نواس والمتنبي وغيره من أسلافنا المبدعين.. لماذا يجنحُ الشاعر الحديثُ إذن؟ أعتقد أن ينابيع الشاعر بعد فترة ما ومرحلة معينة من العمر والكتابة كأنها تعاني من الجفاف.
على قصيدتي من قصائد الأسلافِ غبار نظيف وطلعٌ خريفيٌّ كأثر الفراشة.
#نمر_سعدي (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
شبابيكُ عشيقاتٍ منسيَّات
-
لاعب النرد والكلمات
-
أعيش كنهر وحيد
-
تأملات جماليَّة في قصيدة الشاعر فرحات فرحات
-
يرصدُ تحوُّلات العاشق بأسلوب مشبع بالدلالات
-
ديوان (استعارات جسديَّة) الصادر في عام 2018 عن دار العماد لل
...
-
ايقاعات رعوية
-
مطرُ الغريب(قصائد عن ليلِ المعنى)
-
حنينٌ يستيقظ في الظهيرة
-
لو تأخَّرتِ قليلاً عن غوايتي
-
وردٌ على رمادِ القصيدةِ (مرايا نثرية 9)
-
استعارات جسديَّة
-
عن الشعر والأنوثة وأوَّل المطر/ مرايا نثرية(8)
-
أربع قصائد
-
قوسُ قزحٍ على جبلِ الكرمل (مرايا نثرية7)
-
أحمد حسين.. شاعر حيفا المعذَّب بجمالها
-
مرايا نثرية 6
-
مرايا نثرية 5
-
(رماد الغواية) ديوان جديد للفلسطيني نمر سعدي
-
مجازات (قصائد جديدة)
المزيد.....
-
الفرقة الشعبية الكويتية.. تاريخ حافل يوثّق بكتاب جديد
-
فنانة من سويسرا تواجه تحديات التكنولوجيا في عالم الواقع الاف
...
-
تفرنوت.. قصة خبز أمازيغي مغربي يعد على حجارة الوادي
-
دائرة الثقافة والإعلام المركزي لحزب الوحدة الشعبية تنظم ندوة
...
-
Yal? Capk?n?.. مسلسل الطائر الرفراف الحلقة 88 مترجمة قصة عشق
...
-
الشاعر الأوزبكي شمشاد عبد اللهيف.. كيف قاوم الاستعمار الثقاف
...
-
نقط تحت الصفر
-
غزة.. الموسيقى لمواجهة الحرب والنزوح
-
يَدٌ.. بخُطوطٍ ضَالة
-
انطباعاتٌ بروليتارية عن أغانٍ أرستقراطية
المزيد.....
-
تجربة الميج 21 الأولي لفاطمة ياسين
/ محمد دوير
-
مذكرات -آل پاتشينو- عن -العرّاب-
/ جلال نعيم
-
التجريب والتأسيس في مسرح السيد حافظ
/ عبد الكريم برشيد
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
-
التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا
...
/ نواف يونس وآخرون
-
دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و
...
/ نادية سعدوني
-
المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين
/ د. راندا حلمى السعيد
-
سراب مختلف ألوانه
/ خالد علي سليفاني
-
جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد
...
/ أمال قندوز - فاطنة بوكركب
المزيد.....
|