داخل حسن جريو
أكاديمي
(Dakhil Hassan Jerew)
الحوار المتمدن-العدد: 6799 - 2021 / 1 / 26 - 10:14
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
المواطنة مصطلح مشتق من كلمة الوطن، والوطن مكان إقامة الإنسان ومقره وإليه إنتماؤه سواء وُلد فيه أم لم يولد. ويعرف الوطن الذي ولد فيه الإنسان بالوطن الأم . تُعرِّف دائرة المعارف البريطانية المواطنة بأنَّها: ”العلاقة بين فرد ودولة كما يحددها قانون تلك الدولة، وبما تتضمنه تلك العلاقة من واجبات وحقوق في تلك الدولة“. وتؤكد دائرة المعارف البريطانية مفهومها للمواطنة، ”بأنَّ المواطنة على وجه العموم تسبغ على المواطن حقوقاً سياسية، مثل حق الانتخاب وتولي المناصب العامة". أما المواطنة المزدوجة فيقصد بها, إنتماء الإنسان لأكثر من وطن واحد لأسباب مختلفة , فقد تدفع ظروف معينة بعض الناس إلى ترك أوطانهم الأصلية , طلبا للرزق وفرص عمل أفضل وحياة كريمة في بلدان آخرى , أو توفير ملاذات آمنة لآخرين هربا من تعسف وبطش سلطات جائرة في بلدانهم الأصلية . ولعل خير مثال على البحث عن ملاذات آمنة , هجرة المسلمين الأوائل إلى الحبشة التي أشار بها عليهم النبي محمد (ص) في السنة الخامسة للدعوة الإسلامية , بعد أنْ اشتدّ أذى مشركي قريش علىهم في مكة حماية لأنفسهم من بطش المشركين، لأنّ فيها ملكاً عادلاً، لا يقبل الظلم على أحد. أما ما يتعلق بالهجرة طلبا للرزق والعيش الكريم في بلدان أخرى , لعل قول سيد البلغاء الإمام علي بن ابي طالب (ع) هو قول الفصل في هذا الموضوع , إذ يقول : الفقر في الوطن غربة والغنى في الغربة وطن . والوطن بهذا المعنى ليس صنما يعبد , بل علاقة الإنسان بأرضه التي يفترض أن يعيش فيها عيشة كريمة بأمن وأمان .
وعندما ضاقت سبل العيش الكريم الآمن لملايين الناس من البلدان التي مزقتها الحروب والصراعات الدامية في بلدان كثيرة , أبرزها أفغانستان والعراق وسورية والسودان واليمن وإيران والصومال , وقبلها فيتنام وكمبوديا وأرمينيا وغيرها , إضطروا لترك بلدانهم إلى بلدان أخرى , حيث منحتهم تلك البلدان إقامات عمل مؤقتة أو دائمة , أو تأشيرات لجوء أنساني أو سياسي بحسب ظروف كل حالة , مع بعض الإمتيازات التي تضمن لهم ولعوائلهم متطلبات المعيشة بحدها الأدنى , وتأهيلهم للإندماج التدريجي بمجتمعاتها المحلية, ليكونوا جزءا من نسيجها الإجتماعي فيما بعد, ومنحهم جنسياتها بعد مضي فترة من الزمن بعد إستكمالهم جميع متطلبات المواطنة بحسب القوانين المعمول بها في كل بلد. ولا تشترط معظم الدول الديمقراطية عند منح هؤلاء الناس جنسيتها , التخلي عن جنسياتهم الأصلية , وبذلك يصبح هؤلاء الناس مواطنين مزدوجي الجنسية , وربما يحمل بعضهم أكثر من جنسيتين . ولا تسمح دول كثيرة في العالم وبخاصة دول العالم الثالث لمواطنيها بحمل جنسية بلد آخر, ويعد ذلك من المحرمات التي يحاسب عليها القانون.
وهنا يثار تساؤل مشروع فيما يتعلق بهؤلاء الناس مزدوجي الجنسية. هل أن هناك ثمة تعارض بين ولائهم لوطنهم الأم الذي ولدوا وترعروا وتعلموا فيه , ووطنهم الجديد الذي أواهم من جوع وأمنهم من خوف ؟. إبتداء نقول ليس هناك أي تعارض على الإطلاق , ولكن هناك بعض القيود التي وضعتها بعض الدول على هذه الشريحة من الناس, بحجبها عنها بعض الحقوق التي يتمتع بها مواطنيها الآخرين, منها ما يتعلق بتولي بعض المواقع القيادية والعسكرية والأمنية فيها. فقد نصت القوانين الأمريكية مثلا , أن من شروط الترشح لرئاسة الولايات المتحدة الأمريكية : أن يكون المرشح أمريكي المولد وأن يكون مقيما في الولايات المتحدة الأمريكية بصورة دائمة أربعة عشر عاما في الأقل. وكذا الحال في دول ديمقراطية عديدة منها أستراليا التي لا تسمح قوانينها لمزدوجي الجنسية بالترشح لعضوية مجلس النواب,ما لم تخليهم عن جنسياتهم الأخرى . ولا نتحدث هنا عن النظم الإستبدادية الشمولية التي تمنع أساسا إزدواجية الجنسية لمواطنيها , بإسقاطها جنسيتهم الأصلية المكتسبة أصلا بالولادة , عند علمها بحصولهم على جنسية بلد آخر.
لا نرى ضيرا بقيام الحكومات المختلفة بحصر الوظائف القيادية المدنية والعسكرية والأمنية بدولها , بمواطنيها الذين يحملون جنسيتها فقط دون سواهم لأي إعتبار كان , ونرى في ذلك أمرا مشروعا وتحسبا معقولا لضمان أمنها ,والحفاظ على سرية معلوماتها ومنع تسربها إلى دول أخرى من قبل بعض ضعاف النفوس ممن قد يسيل لعابهم ويوسوس شيطان المال في نفوسهم . وهنا لا ندعي هنا أن أحدا محصنا من الزلل ومعصوما من الخيانة ترهيبا أو ترغيبا ,سواء من حملة الجنسية المدوجة أو سواهم, ولكن يبقى الحذر والإحتياط واجب لحماية أمن الوطن والمواطن . كما أن أهل مكة أدرى بشعابها كما يقول المثل , فمن يعيش في بلده بصورة دائمة ومستمرة وليس له وطن آخر يفترض أن يكون أكثر دراية بشؤون وطنه, وعلى تماس مباشر بهموم الناس ومشاكلهم بكونه واحدا منهم يعيش بينهم ويحس بهم , وإن ما يصيبهم من ضرر يصيبه هو أيضا, إذ ليس له ملاذ آخر قد يلجأ إليه , كما هو حال مزدوجي الجنسية الذين تركوا بلدانهم تحت أي مبرر أو أي سبب كان . لكن هذا لا يمنع مشاركتهم في الحياة العامة في أوطانهم الجديدة والعمل في جميع المجالات بكل حرية , والسعي على ترقية مجتمعاتها ومد أواصر التعاون بينها وبين المجتمعات التي إحتضنتهم ورعتهم . وينبغي أن لا ينتقص ذلك من وطنية مزدوجي الجنسية وحبهم لأوطانهم الأصلية , ولا يتعارض ذلك مع إنتماءاتهم لأوطانهم الجديدة التي إستقبلتهم أبدا . فقد أبدع المغتربون العرب في بلدان المهجر أدبا وعلما وثقافة في بلدان إغترابهم , وأداموا صلات قوية ببلدانهم الأصلية منذ عقود خلت .
أجاز الدستور العراقي لعام 2005 تعدد الجنسية للمواطنين, لكنه نصّ في المادة( 18 ) منه, على وجوب التخلي عن الجنسية الثانية لكل من يتولى منصبًا سيادياً أو أمنياً أو رفيعاً، بما في ذلك رؤساء مجلس النواب ونوابهم وأعضاء البرلمان، ورئيس الجمهورية ونوابه ومستشاروه، ورؤساء مجلس الوزراء ونوابهم والوزراء ومن هم بدرجة وزير، ومحافظ البنك المركزي، والقضاة والضباط بالمؤسسة الأمنية. لم تطبق هذه المادة على صعيد الواقع أبدا , على الرغم من ضعفها , ذلك أن التخلي عن الجنسية لا يعني إسقاطها أبدا , إنما يعني تعطيلها مؤقتا طيلة إشغال الوظيفة , وإستعادتها ثانية بتقديم طلب بذلك بعد إنتفاء الأسباب , بينما إسقاط الجنسية الذي عادة ما تقوم به السلطات خلافا لرغبة حاملها قد لا يمكن إستعادتها أبدا . ما زال معظم شاغلي هذه الوظائف إن لم يكن جميعهم من حملة الجنسيات المزدوجة حتى يومنا هذا , بدعوى عدم إصدار قانون لتنظيم ذلك كما نص الدستور الذين هم أنفسهم من شرعه , وهم أنفسهم من يشرع القوانين التي لم يشرعوها إلاّ بما يخدم مصالهم.ولعل العذر هنا كما يقال أقبح من الفعل .
وثمة مسألة أخرى لابد من التطرق إليها إستكمالا للموضوع , هو سعي الدول الصناعية الكبرى في العالم التي باتت تعاني مجتمعاتها من تفاقم مخاطر تزايد معدلات تشيخ سكانها الذين زادت متطلبات رعايتهم ماليا كثيرا, بينما لا تقدم هذه الشريحة من السكان أية قيمة مضافة لإقتصاداتها . لذا إزدادت حاجة هذه الدول إلى جلب المزيد من القوى العاملة الأجنبية, المدربة جيدا وذات المؤهلات العلمية والتقنية العالية والتي بإمكانها الولوج بسوق العمل دون عناء ودون أية تكلفة تذكر, لإدامة زخم تقدمها الإقتصادي وتنميتها المستدامة وضمان رفاهية ورقي شعوبها . وقد وجدت هذه الدول فرصتها السانحة بتشجيع هجرة هذه القوى من دول العالم الثالث التي هي الأخرى تبحث عن فرص عمل تتناسب وقدراتها, وتحقق لها بعض تطلعاتها بفرص عمل أفضل لم تجدها في بلدانها . يمنح هؤلاء الوافدون سمات عمل في المرحلة الأولى من قدومهم , تتحول فيما بعد إلى إقامة دائمة لهم ولعوائلهم , ومن ثمة منحهم الجنسية ليتمتعوا بحقوق المواطنة الكاملة .
وفي ضوء ما تقدم , يتضح أن المواطنة المزدوجة قدرا محتوما فرضته ظروف الحياة لبعض الناس, وليس فيها ما يسيئ لأي بلد كان لا من قريب ولا من بعيد , وقد توفر فرصا أفضل للتواصل الحضاري والثقافي والإنساني بين الشعوب ذات الأصول والأعراق المختلفة وأكثرا تقبلا للآخر.وهكذا ينبغي فهم المواطنة المزدوجة , لا حقدا ولا كراهية ولا تعصبا ولا خوفا بين الناس , بل عيش آمن ومستقر وحياة حرة كريمة لهم جميعا , ورعاية خاصة للمرضى والمعوزين , وتوفير فرص تعليم ورعاية صحية للجميع , وفرص عمل لجميع طالبه . وبذلك يكون الوطن وطنا حقا للجميع نحمله في حنايا الضلوع وحدقات العيون.حما الله الوطن ومواطنيه من كل مكروه.
#داخل_حسن_جريو (هاشتاغ)
Dakhil_Hassan_Jerew#
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟