|
الواقعية والشكلية والفن الحديث
ساطع هاشم
الحوار المتمدن-العدد: 6788 - 2021 / 1 / 14 - 18:10
المحور:
الادب والفن
مَثّلَ ظهور الواقعية في الفن في اربعينيات القرن التاسع عشر في فرنسا وانتشارها في اوروبا، نقطة تحول ثقافي وجمالي القى بظلاله على جميع الدول الاوربية وامريكا ومن خلالها انتقل الى دول المستعمرات بالعالم، فقد اشعلت النقاش والانقسام بين نوعين مختلفين من الرؤيا الفنية، يمكن تصنيفها لغرض الاختزال على أنها (واقعية) و (شكلية)، وتلك الفترة تؤرَخ عادة بكونها بداية لمجتمع ومفاهيم الحداثة العالمية التي نعيش بها الان، وهناك اختلافات عديدة في تحديد تلك البداية والمناهج داخل الحركات الفنية المختلفة لا مجال هنا للبحث فيها. وعلى الرغم من اننا شعوب الشرق غير مساهمين بهذا التاريخ ولا يقع في محيطنا الجغرافي وغريب عن ثقافتنا المحلية الا اننا كدول مستعمَرة اصبحنا من كبار المستوردين والمستهلكين لهذه الثقافة الاوربية شئنا ام ابينا، وعلى مدى المئة سنة الماضية تحديداً ارتبطت شعوبنا كلها بالثقافة العالمية الأوروبية، وصارت جزءا مهما من حياتنا العقلية والجمالية.
وبإلقاء نظرة سريعة على ثقافتنا المرئية اليوم من صحافة وطباعة وسينما وتلفزيون وانترنيت وفنون تشكيلية وفي مختلف المناحي الاخرى سنجد تلك الثقافة ومفاهيمها العديدة راسخة هناك، حتى لو لم نكن على وعي بها.
فما هي الواقعية والشكلية ومن اين جاءت؟
يعود الاصل في ظهور (الشكلية) بالفن الى النزعات الفنية الجديدة التي ظهرت بالفن الفرنسي في النصف الثاني من القرن التاسع عشر والذي يسمى ايضا بعصر الثورة الصناعية الثانية، وقد كانت فرنسا وقتها المركز العالمي للفن والفنانين وللفنون الجميلة قاطبة، وكانت تعج بالجماعات الفنية الجديدة من مختلف الجنسيات، وبالفلسفات والتنظيرات الفنية غير المألوفة، ومنها الواقعية، الانطباعية، الرمزية، ارت ديكو، وغيرها.
وفي سنة 1890 نشر رسام وكاتب فرنسي اسمه موريس دينيس (1870-1943) وكان عمره عشرين سنة بيانا فنيا يعتبر حاليا من اشهر بيانات فلسفة الحداثة وبمثابة نبوءة بالمبادئ الأساسية للكثير من اتجاهات الفن الحديث للقرن العشرين والاكثر اقتباسا بالنقد الفني الحديث برمته - وخاصة التجريدية التي جاءت فيما بعد، بعنوان: تعريف التقاليد الجديدة، واشتهرت على الخصوص عبارة من البيان تقول: تذكّر أن الصورة (اللوحة الفنية)، قبل أن تكون صورة لخيول معركة أو امرأة عارية أو قصة ما، هي أساسًا سطح مستوٍ مغطى بالألوان ومرتبة بترتيب معين. بمعنى ان المتعة الجمالية موجودة في اللوحة (خطوطها الوانها تكوينها) نفسها وليس في موضوعها.
وكان دينيس هذا في وقت نشره ذلك البيان من الرسامين الرمزيين وعضو بجماعة فنية تعتنق الرمزية اسمها نابيس وكان هو منظرها الاساسي، وكانت اعماله تركز بشكل كبير على الزخرفة والقيمة الديكورية والتزينينة بالأعمال الفنية، وكان برسم الموضوع في لوحاته بالطريقة الاكاديمية/الرمزية في زمن كان على الفن والفنان ان يقول شيئا ما في اللوحة (رواية, معركة, شخصيات)، ولم يكن يخطر على باله شيء اسمه الفن التجريدي, او ان يصبح فنانا تجريديا لأنه لم يكن قد ظهر هذا الاتجاه بعد، وكان كاثوليكيًا متدينًا وأراد إحياء الرسم الديني في اعماله الى ان مات.
لنلقي نظرة على المفاهيم الأساسية وراء هذين القطبين في الممارسة والتفكير.
اولا لابد ان نكون حذرين في استخدام مصطلحي" الواقعية "و" الشكلية "فهما تساعدان على فهم المفاهيم العامة فقط لأنها مفاهيم غير مطلقة، حيث لا يوجد عمل فني واقعي بحت او شكلي بحت، لان العديد من الأعمال وفي مختلف فروع الفن تميل أكثر او اقل أحدهما نحو الآخر، وتستخدم مزيجًا من هذين الأسلوبين، وتتجنب العديد منها استخدام أقصى درجات الواقعية او اقصى درجات الشكلية وتحاول ايجاد حل وسط بينهما.
مفاهيم أساسية عن الواقعية أصل كلمة الواقعية هي كلمة "حقيقية" كما في قولنا عندما نشاهد لوحة او مشهد فني فنقول "يبدو هذا حقيقيًا جدًا" ما نقصده على الأرجح هو أنه تم رسمه بمهارة ودقة كادت أن تكون مطابقة لما تراه العين "حقيقية" حيث نستخدم كلمة "حقيقي" هنا للتحدث عن الأشياء التي تشبه الحياة، والأشياء التي تحدث بشكل طبيعي، والأشياء الموجودة بالفعل أو التي يمكن أن توجد في العالم الحقيقي، او كل ما يمكن لنا رؤيته ولمسه.
بمعنى ان الاعمال الواقعية تحاول أن تكون شبيهة بالحياة وطبيعية، وأن تجعل الأحداث والمواقف تبدو وكأنها تحدث امامنا في هذا العمل الفني او ذاك، او حدثت بالفعل او يمكن أن تحدث في الحياة الواقعية، بمعنى اعادة إنتاج الواقع فنيا.
الهدف الآخر للواقعية هو أنها تركز على الجمهور، بمعنى أنهم يشجعون الجمهور على ابتكار فهمهم وتفسيرهم الخاص لما يشاهدون بالعمل الفني، اي ان الواقعية تجعل جمهورها يفكر بها، ويهتم بما يحدث على سطح اللوحة بأنفسهم. لانهم مهتمون بتمثيل (أو إعادة تقديم) الواقع اليك ثم السماح لك بتحديد ما يعنيه لك، لأنهم مهتمون أيضاً بإلهامك لأثارة الاهتمام والتفكير بشكل أعمق في موادهم بمفردك، دون أن تملئ عليك بالضرورة افكارهم، اوما يجب عليك أن تفكر فيه أو كيف يجب أن تشعر حيال هذا الموضوع او ذاك.
من ناحية الأسلوب، يهدف الواقعي إلى أن يكون بسيطًا جدًا في عكس الطبيعة او الواقع او المكان، حيث يتم دراسة ورسم مواضيع معظم المشاهد في موقع فعلي جرت به الاحداث او ما يشبهه او قريب الى مناخه، بدلاً من الاستوديو، واذا تم الرسم في الاستوديو فعادة ما يتم تصميم المكان بعناية ليبدو كانه المكان الأصلي، حتى يكون الشكل المرسوم واقعيًا قدر الإمكان، (فمثلا اشتهرت في أواخر القرن التاسع عشر مدرسة بالرسم الأوربي تسمى الرسامين المستشرقين، الكثير منهم لم يزور الشرق ابداً لكنهم صنعوا ديكورات مسرحية تحاكي الأجواء بالشرق وقاموا برسم مشاهد شرقية جداً واقعية بواسطتها).
اللوحة الواقعية مرسومة عادة بطريقة الرسم ثلاثي الابعاد, وذلك يعني أن (اللقطات) غالبًا ما تكون لها حركة تحدث على مستويات رؤيتنا البصرية المختلفة في وقت واحد، فهناك شيء ما في مقدمة اللوحة، ثم تنتقل العين الى المنطقة الوسطى وبعدها الى خلفية (اللقطة) او امتداد الافق, وكلها تعكس احداث متفاعلة في نفس الوقت, تمامًا مثل ما يجري بالحياة الواقعية, لان هدف الرسام هنا هو اعطاء (الوهم) بوجود المشاهد وكأنه يقف امام نافذة يشاهد من خلالها بالفعل مشهد الحدث, لأن الواقعي يريد ان يضعك في المكان الذي تصوره اللوحة, فستشاهد الصورة بأكملها مرة واحدة وانت جزء منها او مشارك فيها, وان ما تراه ليس مجرد أجزاء صغيرة متناثرة من مشهد الحركة.
تبدو مثل هذه القصدية بالتنفيذ فوضوية أو فوضوية بعض الشيء، ولكن الغرض منها هو تشجيع مشاركة ذهنية وعاطفية نشطة من قبل المشاهد لأنها تتيح اليه استكشاف التعقيد الغني للموضوع بالتعرف على الكثير من التفاصيل الصغيرة لتحفيز قوة الملاحظة والتفكير والتأمل فيها جميعًا في نفس الوقت.
الواقعيون يريدون أن يكون لديك الوقت الكافي لاستكشاف المعنى الكامن في موضوع اللوحة نفسها، فمن الناحية النظرية، يمكن أن يكون الرسم بسيطا وتلاعبًا بشكل ما، ليجبر الجمهور على التوقف قليلا وتفسير المعنى بطريقة واحدة فقط، ولهذا يميل الواقعيون إلى تجنب استخدام الكثير من التعقيد التقني بالمنظور مثلا، ويختارون زاوية نظر واحدة على الاغلب، حيث البناء الداخلي للعمل عندهم بسيط وعملي، لانهم يريدون منك أن تفكر أكثر فيما تراه بدلاً من كيف تراه.
وفي سبيل ان نقرب الفكرة الى الذهن اكثر، فان الافلام الوثائقية في السينما او التلفزيون يمكن ان تكون مثالاً جيداً للمقارنة ولو انه مثال غير دقيق تماما لكنه مع هذا يعكس الواقعية في الفن كما شرحتها اليك والتي قد تكون على دراية بها. لان الأفلام الوثائقية عادة ما تكون واقعية بطبيعتها فهي توثق الأحداث التي حدثت بالفعل وتحاول تصوير هذه الأحداث بطريقة مباشرة إلى حد ما ومتواضعة، مما يعني أنها تترك الأحداث تتكشف تلقائيًا أمام الكاميرا دون محاولة التلاعب بها أو جعلها تبدو (فنية) بشكل خاص بأي شكل من الأشكال، وعندما تشاهد الفلم الوثائقي فمن المفترض أن تشعر وكأنك موجود هناك بالفعل في مكان الحدث كمراقب، وهذا ما يسعى اليه مخرجين افلام الاخبار والنشرات العالمية.
لن ترى عادةً عملا واقعيًا بحتًا فجميعها تحتوي على بعض العناصر الشكلية هنا وهناك، لان هناك الكثير من لوحات الخيال واقعية الأسلوب، حيث توجد أنواع مختلفة من الواقعية (شعرية، تعبيرية، وثائقية، إلخ)،
اختار الواقعيون تجاهل خلق عوالم جديدة غير مألوفة بعيدة عن تجربة الحياة اليومية وركزوا على تصوير الحياة كما هي بلا رتوش، مثلا عمال يغادرون المصانع، جماهير في تظاهرات، اسواق تجارية, ملاحين في البواخر وهكذا.
الآن، ماذا عن الشكلية؟ على عكس الواقعيين، يعتقد ويؤمن الشكليون في المقام الأول بقدرة شكل العمل الفني على خلق حقائق جديدة ليست بالضرورة معاشه ومألوفة في حياة الانسان اليومية، لكنها ضرورية ومثيرة للخيال والابداع والتجديد، وذلك من خلال التلاعب البارع بالطريقة التي يتم بها تكوين العمل الفني نفسه، بهدف انشاء صور ذهنية جمالية خاصة.
جذر كلمة "شكل" لها معاني عديدة مختلفة باللغة فعند استخدامها كاسم، يمكن أن تشير الى أسلوب أو تصميم عمل فني، او يمكن أن تشير أيضًا إلى شكل أو محيط شيء ما - كما في قولنا (أخذ النهر شكل افعى)، اما عندما يتم استخدامها كفعل يمكن أن يعني بناء أو تصور شيء ما في العقل - مثل (تكوين/تشكيل فكرة)، او يمكن أن تعني أيضًا إنشاء شيء ما وأن نكون جزءًا منه مثل (لقد شكلنا لجنة جديدة)، وهكذا وبنفس الأسلوب تهتم الأعمال ذات الطابع الشكلي بشكل أكبر بأسلوبها الفني وتصميمها وغالبًا ما تأتي مباشرة من خيال الفنان كما اسلفنا.
ولتوضيح الشكلية بشكل ملموس لنبدأ بالسؤال: هل سبق لك أن شاهدت لوحة ما لا تصور أي شيء (تسمى عادة تجريدية)؟ او لا يمكنك التعرف على اشكالها على الفور؟ أشكال وخطوط وألوان وأشياء لا يمكن التعرف عليها منثورة على القماش وغالبًا ما يكون من الصعب جدًا فهمها دون مساعدة خارجية من شخص ما. أو ان تكون رسما عاديًا لموضوع ما مثل شجرة او كرسي او جدار ولكن بطريقة مختلفة في حركته او التواءه او بتشويهات معينة للأشكال وبطريقة ما. وعندما نظرت إلى تلك اللوحة هل كنت تشعر فيما لو كانت الاشكال في اللوحة موجودة بالفعل في الواقع أم لا؟ او حتى يمكن مقارنتها بالواقع؟ هذه اللوحة لوحة شكلية أكثر من كونها لوحة واقعية لأنها جاءت من عالم الفنان الداخلي النفسي والعصبي وليس من عالمه الخارجي الحقيقي (على الرغم من أنها قد تكون مستوحاة من أشياء خارجية حقيقية). والسبب لأن لوحة كهذه مهتمة بالشكل أكثر من الواقع، وأن الفنان كان يرسم شيئًا لم يراه إلا في خياله وعقله.
مفاهيم أساسية حول الشكلية يقول الشكليون ان اهم جوانب العمل الفني هو شكله، طريقة تنفيذه، و(صورته) المرئية، وليس محتواه (السردي/الروائي) او مدى علاقته ومطابقته للعالم المرئي كما في الواقعية، لان الشكل نفسه قادر على أن ينقل الشعور والاحاسيس، لهذا فان التركيز ينبغي ان يكون على نوعية الالوان، ضربة الفرشاة، الاشكال، الخطوط والتكوين العام لعناصر اللوحة وهكذا (وكما وردت في بيان الفرنسي دينيس السابق الذكر). وقد ادت هذه المفاهيم وما شابهها وبسرعة إلى الفن التكعيبي والمستقبلي والبنائي والفن التجريدي او فن الشكل النقي والكثير غيرها في العشرية الاولى من القرن العشرين. وقد سيطرت الشكلية على تطور الفن الحديث في دول اوروبا الغربية خاصة منذ بداية القرن العشرين وحتى الستينيات عندما وصلت إلى ذروتها، وبدأت بعدها موجة ما تسمى الان بفن ما بعد الحداثة لتحل محلها.
شعار الشكليون الدائم: كلما كانت الفنون خيالية إبداعية وتجريبية، كان ذلك أفضل.
يستخدم الشكليون مناهج مختلفة تمامًا عن الواقعية لفنهم، بهدف خلق حقائق جديدة من بناة الخيال، باستخدام مجموعة تقنيات غير تقليدية لتصوير واقع من عالم آخر ولإنشاء تكوينات غريبة وخادعة وعوالم جديدة، وفي بعض الأحيان تعكس هذه (اللقطات-الخيالات) جمعا بين الإخلاص للمظاهر الواقعية (الحقيقية) والأكاذيب الكاملة حول العلاقات الإنسانية داخل المجتمع (لوحات الدعاية السياسية او الصور والافلام الغرامية او الاعلان التجاري) تنعكس في القول المشهور (هذه لا تحدث الا في الافلام) فهناك أنواع مختلفة من الشكليات (التعبيرية، الحسية، الخيالية وغير ذلك).
لا تهتم الأعمال الفنية الشكلية على الإطلاق بمحاولة إعادة تقديم الواقع مثل فيلم واقعي، فهم يحاولون تقديم رؤية الفنان للعالم بالدرجة الاولى، سواء كان ذلك مرتبطًا بالعالم (الحقيقي) ام لا، وهذا هو الفارق الجوهري بين الشكلية والواقعية.
يهتم الشكليون بإخبار الجمهور بما يفكرون به هم انفسهم بمعزل عن الجمهور، بينما يهتم الواقعيون أكثر بإظهار العالم أو الكشف عنه ثم مطالبة الجمهور بالتفاعل معهم في حوار حول ما يفكرون به حول هذا العالم.
في كثير من الأحيان لا يفهم المشاهد العادي الأهمية الكاملة لما يحاول الفنان الشكلي قوله (أو قد يفهمه فقط دون وعي)، لهذا السبب فغالبًا ما تتطلب الأعمال الشكلية أن يكون المشاهد أكثر تعليماً أو ملما بالحد الادنى بالثقافة الفنية من أجل فهم كل الرمزية العميقة المتأصلة في تكوين اللوحة/الاعمال الشكلية. اما اذا كان العمل جديدا وطليعيًا وشكليًا حقًا، فقد يتعذر الوصول الى معناه لدرجة أنك لن تتمكن من فهمه ما لم يشرح اليك احدا ما أهميته لك مباشرةً، خاصة في اعمال الفنانين بما يسمى فن ما بعد الحداثة فغالبًا ما يكون للطريقة التي يتم بها انجاز العمل او بعض اجزائه معًا معنى رمزي لا يمكن فهمه عادةً إلا من قبل النخبة. جزء من الغرض من هذا النوع من الفن هو لفت الانتباه إلى عملية الأبداع نفسها التي يقوم بها الفنان، فعندما ترى مثل هذا الغموض الحاد المتعمد فان هذا يهدف الى اثارة انتباهك للتركيز على العمل نفسه، ولتذكير الجمهور باستمرار بحقيقة أنهم يشاهدون عملا فنيا ابداعيا تم إنشاؤه عمداً من قبل فنان (اصباغ، خطوط، اشكال) وليس واقعيا.
في معظم الأوقات، تنجز اللوحات او التماثيل او الاعمال الفنية الشكلية عموما داخل الاستوديو واحيانا في معامل او ورشات مصممة خصيصًا لإنجاز هذا المشروع الفني او ذاك، للتحكم في العناصر والمعدات الانشائية من أجل الحصول على الدقة التي يريدها مصمم العمل او الفنانون الشكلانيون وغالبا ما تكون اعمالهم مدروسة بشكل جيد من حيث ترتيب الأشياء والأشخاص داخل العمل الفني لنقل معنى محدد.
في سبيل تقريب الفكرة الى تصورك وبطريقة ملموسة، لإيضاح الفرق بين الابداع الواقعي والابداع الشكلي، لنأخذ مقاطع الفيديو الموسيقية التي نشاهدها باستمرار على شاشات التلفزيون، لأنها تصلح هنا ان تكون مثالا جيدا بدلا من الاعمال الفنية للفنانين التشكيلين بالرسم والنحت وغيرها، ذلك لأن هذه الفيديوهات لا تهتم كثيرًا بالواقعية (بل انها لا تحاول اصلا حتى أن تكون واقعية على الإطلاق) وتهتم أكثر (باستكشاف) الجديد والمثير وأن تكون تجريبية وفنية بأعلى قدر ممكن، لتحقيق الرؤية الفريدة للفنان.
فغالبًا ما تُظهر مقاطع الفيديو الشكلانية، الفرقة الموسيقية وهي تؤدي أداءً تجريديًا، أو ما يشبه الحلم، أو خارج عن المألوف والواقع، وغالبًا ما تتميز بلقطات كاميرا مركبة بعناية وجميلة وغريبة أو مبتكرة تجعل أعضاء الفرقة ساحرين او غريبين أثناء أدائهم، بمقاطع فيديو غالبا ما يصفها المولعين بالموسيقى الحديثة بانها لا تُنسى. بينما الفيديو الموسيقي الواقعي يعرض الفرقة وهي تؤدي العرض مباشرة أمام الجمهور - بدون المؤثرات الخاصة أو حيل التكنلوجيا أو زوايا الكاميرا الغريبة الكثيرة
الواقعية الاشتراكية والشكلانية تبنّى الفنانين البلاشفة الأوائل الذين ساهموا بفعالية في ثورة اكتوبر وتثبيت السلطة السوفياتية، الافكار والمبادئ الجمالية الشكلية الحديثة بعد نقدها وابعادها عن الافكار الذاتية والماورائية المعادية للعلم التي تحكمت بها وطوروها بشكل ابداعي غير مسبوق, وقدموها بشكل اجتماعي وسياسي نقدي ثوري جديد، وقد تجلى ذلك التطوير الاصيل في اعمال وتنظيرات الكثير من الفنانين, مثل الإنشائيين الروس الذين تزعمهم الفنان البلشفي العملاق –فلاديمير تاتلين- صاحب مشروع نصب وبرج ثورة اكتوبر الشهير الذي صممه لمناسبة انعقاد الكومترن والذي لم ينفذ لكنه صار علامة بارزة في تاريخ الفن العالمي الحديث، وليسيتزكي مصمم اكبر افريز جداري بالعالم سنة 1928 بالتكنلوجيا الحديثة لذلك الزمان - فوتو مونتاج – للجناح السوفيتي في معرض برلين الدولي , و ماليفتش مؤلف السوبرماتيزم/التفوقية وغيرهم المئات من المبدعين في كل فروع الادب والفن والسينما والمسرح والموسيقى.
لكن كل تلك الجهود الجبارة التي بذلت في سبيل خلق فن سوفياتي جديد لم يسبق للبشرية ابداعه قد انهارت، ووضعت النهاية الاخيرة لها ولكل الحركات الطليعية والمجددة بالفن والتي ازدهرت بعد ثورة اكتوبر 1917 عندما تم تبني فكرة الواقعية الاشتراكية التي اقرها المؤتمر العام للأدباء السوفييت سنة 1934 كأسلوب ومنهج وحيد في الآداب والفنون والتي أصبحت هي (الثقافة) الرسمية الوحيدة للسلطة السوفياتية وبقية الدول الاشتراكية لاحقا والعقيدة الوحيدة التي يجب ان يؤمن بها جميع الفنانين والأدباء والمثقفين بدون استثناء.
وهي التي تستمد اصولها وجوهر افكارها وأساليبها الفنية من التعاليم الأكاديمية والمدرسية للمدارس الطبيعية والكلاسيكية بالفن الأوربي ومن الواقعية الروسية للقرن التاسع عشر التي ثار عليها الفنان التقدمي الاوربي (بمن فيهم البلاشفة) واعتبرها رجعية وقديمة واراد استبدالها بما هو جديد وطليعي, بينما اصبحت الان المُثل العليا للجمال والتعبير الايدلوجي الرسمي للدولة السوفياتية بالفن , ومصطلح –الواقعية الاشتراكية – تم نحته ببطيء منذ اواسط العشرينات (من قبل اعداء التجديد بالفن) بعد ان تم حشر وجهات نظر القادة السياسيين للأحزاب الشيوعية واراء ماركس وانجلز ولينين القليلة بشأن الفن حشرا فيه.
وقد اصبحت هذه السياسة الثقافية وفلسفتها (وليست الواقعية كمفهوم وكفكرة بالضرورة) اكبر نقطة ضعف في البناء الاشتراكي للدولة السوفياتية والثغرة التي من خلالها تسلل الاعداء بكل سهولة، حيث اعتبرت اية معاداة لهذه الواقعية ولهذا التوجه السوفيتي بالفن سيكون نتاجه فنا لاإنسانيا لا يخدم التقدم، وانه فن برجوازي يعبر عن ازمة النظام الرأسمالي، ومنعت شعوبها من الاطلاع عليه.
لهذا فقد ظهرت العديد من المبادرات والتنظيرات والمقترحات الغاضبة احيانا من قبل المثقفين الشيوعيين بالعالم من مختلف البلدان ومن ضمنها الدول الاشتراكية نفسها تندد بهذه (الثقافة)، ارادت احداث تغييرات جذرية وإصلاحات وتحديثات بالفهم النظري والعملي السوفياتي للثقافة والفن والايدلوجيا واعادة تقييم صلاحية ما يسمى بالواقعية الاشتراكية لكنها لم تنجح.
وشوهت سمعة الفنانين المجددين والطليعيين واضطهدوا بقسوة ومنعوا من تقديم اعمالهم او نشرها وايصالها للجمهور مما دمر سمعة الاشتراكية ومفكريها وفنها ومحتواها وانعكس كل ذلك سلبا ليس فقط على فناني الدول الاشتراكية بل على كل مثقفي العالم وفنانيه التقدمين وعطل طاقات ابداعية هائلة، واستمر هذا الحال حتى انهيار الدولة السوفياتية. وتعتبر محطات الانفاق (المترو) في موسكو ولينينغراد (سانت بطرسبورغ حاليا) بتصميماتها المعمارية واعمالها الفنية بالنحت والرسم الجداري التعبير والتجسيد البصري الاكثر وضوح لفكر وفن الواقعية الاشتراكية كما اراد لها ذلك المؤتمر ومنظريه ان تكون عليه بالمعمار والفنون البصرية عامة.
#ساطع_هاشم (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
انحطاط الثقافة البصرية العربية
-
الملابس والعري
-
عام الفأر
-
اغتراب
-
مشياً بالمطر
-
اللون الابيض
-
احتفالا بالوداع
-
دعونا نصاب بالجنون
-
الثورة وكلماتها
-
الفخ الديني
-
استعداداً لتشرينية جديدة
-
المناضلة ماري محمد
-
العلمي والعاطفي
-
الاختيار والاضطرار
-
ثوار تشرين في عيدهم الاول
-
الفانوس غير السحري
-
القلق وسادة الفنان
-
فن للتسلية فن للترقية
-
دين وفن
-
ساحل البحر
المزيد.....
-
-الناقد الأكثر عدوانية للإسلام في التاريخ-.. من هو السعودي ا
...
-
الفنان جمال سليمان يوجه دعوة للسوريين ويعلق على أنباء نيته ا
...
-
الأمم المتحدة: نطالب الدول بعدم التعاطي مع الروايات الإسرائي
...
-
-تسجيلات- بولص آدم.. تاريخ جيل عراقي بين مدينتين
-
كيف تحافظ العائلات المغتربة على اللغة العربية لأبنائها في بل
...
-
السكك الحديدية الأوكرانية تزيل اللغة الروسية من تذاكر القطار
...
-
مهرجان -بين ثقافتين- .. انعكاس لجلسة محمد بن سلمان والسوداني
...
-
تردد قناة عمو يزيد الجديد 2025 بعد اخر تحديث من ادارة القناة
...
-
“Siyah Kalp“ مسلسل قلب اسود الحلقة 14 مترجمة بجودة عالية قصة
...
-
اللسان والإنسان.. دعوة لتيسير تعلم العربية عبر الذكاء الاصطن
...
المزيد.....
-
تجربة الميج 21 الأولي لفاطمة ياسين
/ محمد دوير
-
مذكرات -آل پاتشينو- عن -العرّاب-
/ جلال نعيم
-
التجريب والتأسيس في مسرح السيد حافظ
/ عبد الكريم برشيد
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
-
التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا
...
/ نواف يونس وآخرون
-
دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و
...
/ نادية سعدوني
-
المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين
/ د. راندا حلمى السعيد
-
سراب مختلف ألوانه
/ خالد علي سليفاني
-
جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد
...
/ أمال قندوز - فاطنة بوكركب
المزيد.....
|