|
في أسباب غياب -الديمقراطية- عن فكر النهضة العربية
عمران الرشق
الحوار المتمدن-العدد: 1618 - 2006 / 7 / 21 - 10:06
المحور:
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
تكمن إشكالية تعامل مفكري عصر النهضة العرب مع مصطلح "الديمقراطية" في أن الماضي لم يبرح الحاضر في اطروحاتهم، بل رسم خطوط المستقبل، مما أعاق إمكانية استيعاب الجديد كما هو، دون كسوته بكساء محلي، لا يتناسب في أحيان شتى مع أبعاده الحقيقية، وهو ما نزال نلمحه في فكر العديد من الحركات الإسلامية المعاصرة. ولعل السؤال الذي يجب أن نباشر به، لماذا غابت الديمقراطية في الأصل عن الفكر العربي- الإسلامي حتى تلك اللحظة؟ يجمع الباحثون على أن التاريخ الإسلامي لم يعرف حتى القرن التاسع عشر فكرة الديمقراطية أو الدستور أو العقد الاجتماعي، لأن تطوره السياسي كان مختلفا عن منتجِها الفكر الغربي، اذ لم يخرج التاريخ السياسي العربي- الإسلامي من قاعدة الغلبة والقوة والعصبية حتى ذاك الوقت. ولم يعرف العرب الثورات العظمى التي تغير المجتمع من جذوره، لقد عرفوا الحروب والكوارث ولكن لم تكن نهاياتها بدايات لعصور جديدة، لذا فقد برحوا -كما أنشا حيدر إبراهيم علي- يعيدون إنتاج تاريخهم المثقوب وغير الصاعد لقرون طويلة. ونتيجة ما عانته من فوات تاريخي، تحت ظل الحكم العثماني المديد، لم تتفاعل -هذه المجتمعات- ولقرون مع الأفكار والفلسفات القادمة من خارج المنطقة جغرافيا أو من خارج الإسلام عقليا، لذلك وجدت نفسها في عزلة، وأخذت ملمحا انتقائيا واضحا، فهي تقبل هجرة السلع والأموال والتكنولوجيا والسلاح، بينما ترفض المعرفة والعلم والنظريات والآراء أو تتعامل معها بحذر واضح قد ينتهي أخيرا بالرفض. في هذه الأثناء عرفت أوروبا ميلاد الجديد من رحم القديم، بدءاً من التغييرات الدستورية منذ الماقنا كارتا (Magna Carta) عام 1215 ثم الإصلاح الديني في القرن السادس عشر والثورة الفرنسية 1789، وصاحب ذلك مجتمعيا الثورة الصناعية والكشوف الجغرافية وصعود البرجوازية بعد سقوط الإقطاع والتسابق الاستعماري بالإضافة للحروب بما فيها حربان عالميتان. فجل المشكلة كما يعاينها تشارلز باترووث (Charles Butterworth) لا تقوم "على مجموعة معينة من الأفكار في الفكر السياسي العربي بأي شكل من الإشكال بل بالا حرى غياب هذه الأفكار"، ثم يضيف:" أليس هناك أي بحث عن (الدولة) و(السلطة) بالذات في الكتابات العربية حتى وقت قريب جدا"، ويستنتج من مناقشته لأفكار الفارابي والماوردي وابن رشد ونظام الملك وغيرهم من كتاب العصر الوسيط أن جميع هؤلاء "متفقون على المبدأ القائل بأن الحكم يجب أن يكون في يد شخص واحد أو بضعة أشخاص"، أن المفكرين السياسيين العرب والأوروبيين قد استمدوا اتجاههم من أفلاطون وأرسطو، ولكن البحث الأوروبي سرعان ما توجه إلى بحث الخلافات الجوهرية بين مطالب الحكم العلماني ومطالب الحكم الإلهي. وكان لهذا الفريق أن يؤدي في أوروبا إلى مدخل واقعي حديث للسياسة رسم جهته كتاب مثل ميكافيلي وبيكون وهوبز، والى مبدأ السيادة الشعبية الذي وضع أسسه لوك وروسو، ولم يحدث في التقليد لعربي مثل هذا الانفصام عن فلسفة القرون الوسطى. ويربط باترووث هذا الأمر بنهاية الفلسفة السياسية العربية بوفاة ابن خلدون (في سنة 1406)، أما في القرون الخمسة التي تلت ذلك فقد كان الفقهاء وعلماء الدين هم وحدهم دعاة الفكر السياسي. وينتهي باترووث إلى نتيجة مفادها:" غياب الاعتقاد الثابت الذي بلا يساوره شك في الحاجة الأساسية للسيادة الشعبية هو الذي يفسر بالدرجة الأولى سبب اختلاف الحياة السياسية في العالم العربي اختلافا واضحا جدا الحياة السياسية في الغرب"، وهذا الغياب قد أدى بنظر الكاتب المذكور، إلى "قبول مسالم متصوف" بالحكومات غير الديمقراطية من لدن الأقطار العربية، الأمر الذي لا نزال نلمح مظاهره حتى اليوم. وعودا على بدء، لماذا غابت "الديمقراطية"، كمصطلح ومعنى، عن فكر النهضة العربية، حتى بعد الارتطام بالحضارة الغربية؟ تكمن الإشكالية كما يرى طيب تيزيني في " العلاقة ما بين الاصالة والمعاصرة"، فـ"السلفوية" بموقفها الأكثر رجحانا وتأثيرا في الفكر العربي الحديث تنطلق، أساسا، من أن الأسلاف لم يتركوا شيئا نوعيا للأخلاق، ومن ثم، فإذا ما واجه هؤلاء مسائل مشكلة في حياتهم، فما عليهم إلا أن ينكشفوا إلى الخلف، ليمتحوا منه ما يمكنهم من الإجابة عليها، ولما لكم يكن مناص من الإقرار بالحضور العميق الغامر للغرب في الحياة الاقتصادية والسياسية والعلمية التقنية فقد جرت الأمور لدى السلفويين انطلاقا من المقولة التالية وهي: أن العرب أساتذة أوروبا – والمقصود بأولئك هم بناة العصور الوسيطة العربية الإسلامية- وإذا كان الأمر كذلك فان من شأن "الأستذة" إن تفرض وجود "تلمذة" تمثل امتدادا لها – أي للولى- وهكذا، غدا الطريق معبدا للقول بأن ما كان في أيدينا نحن أصبح في أيدي الآخرين – الغربيين-. ومن ثم حين نعمل على التأثر به أو تبني بعض مظاهرة، فإننا لا نفعل أكثر من استرداد ما كان في حوزتنا. ولعلنا نتبين ذلك المنهج "السلفوي" ممثلا في العديد من المفكرين العرب النهضويين، الذين يقف رفاعة الطهطاوي (1801-1873) ومحمد عبده (1849-1905) في مقدمتهم: فلدى هذين المفكرين نكاد نواجه معظم المصطلحات والمفهومات الغربية، التي تعرفاها وقد تحولت إلى مصطلحات ومفهومات "إسلامية" فـ "الديمقراطية" تصبح "الشورى" و"التكافل الاجتماعي" يصبح "التضامن الاجتماعي"، و"التمدن" يغدو "عمران" ابن خلدون، كما أن "المنفعة" عند جون ستيورات مل تكتسب شخصية "المصلحة أو الصالح العام"، أما الرأي العام الديمقراطي" فيتحول إلى الإجماع في الرأي"، إضافة إلى أن " نواب البرلمانات" ينظر إليهم على أنهم أهل الرأي. بدوره لا يختلف المسار الليبرالي العربي عن مسار صنوة السلفي فقد انطلق هو الأخر من شعار "فصل السلطة الروحية عن السلطة المدنية" في دولة الغد، دولة النهضة لينتهي به الأمر إلى البحث في دولة الأمس بهدف إعادة ترتيب العلاقة بين العروبة والإسلام في التاريخ العربي منتقلا هكذا مثله مثل السلفي، من ممارسة السياسة في الحاضر إلى ممارستها في الماضي. "فقد كان الليبرالي، مسلما أو مسيحيا، يشعر شعورا لا يقاوم بأن الإسلام كحضارة، كثقافة ولغة وتقاليد وعادات ورؤى واستشرافات، جزء أساسي من هويته، لذلك لم يكن يتردد لحظة في التجنيد بعث اللغة العربية، لغة القرآن، وإحياء آدابها، وإعادة قراءة تاريخ الإسلام، وإبراز مآثر التمدن الإسلامي... والحق انه قد أنجز في هذا المجال كما وكيفا لم يستطع السلفي انجازة، بل انه خدم الإطار المرجعي السلفي بما لم يستطع هذا الأخير فعله، وهو يعترف له بذلك، ولو بصمت، رغم مآخذه عليه" كما يذهب محمد عابد الجابري. إن هذا يدفعنا لنتساءل، هل أن المجتمع العربي الإسلامي كان لا يفهم من كلمة الديمقراطية وما شابهها، ما تفهمه أوروبا الليبرالية؟ من الواضح أن التفكير في العلاقة بين الحاكم والمحكوم لم تتعمق منذ البداية لتحل إشكالية أساسية، هي السؤال حول مصدر السلطات؟ الله أم الشعب؟ بل استمرت في إغفال جوهر الديمقراطية وهي السيادة الشعبية، والاهتمام فقط في كيفية ممارسة السلطة في بعض لحظات التاريخ. وهكذا كانت أفكار عصر النهضة العربية تصدر عن تصورين الاول: موضعي للسلطة السياسية باعتبارها ظاهرة معزولة، تقريبا، تمارس على محور أفقي لا يضم سواها، فالسلطة السياسية كانت وجودا ظاهريا مستقلا بذاته له شروط فاعليته المستقلة الخاصة به وبهذا المعنى، ينشغل الفكر (بإصلاح) الحكم عن طريق توسيع الإطار المرجعي له بصور متعددة لكنها جميعا تصب في نقطة الاستشارة، والتشاور، والشورى والمجالس الاستشارية، ومفاهيم الاستشارة والمشاركة، أما الوجود الجوهري للسلطة فانه لا يمس إلا نادرا، ويظل خارج مدى التساؤل. أما التصور الثاني، فهو الهوس شبه المطلق بممارسة الحكم السياسي، وقلة الالتفات إلى البنى الاقتصادية والاجتماعية والثقافية في إبعادها التاريخية والتزامنية، ليكتنهها ويعاين مشكلة السلطة في سياقها. ويقول ألبرت حوراني في هذا الصدد إن "تأثير الفكر اليوناني ظهر على فكرة عقيدة في الإمامة تحاول الإجابة على أسئلة مثل: من هو الحاكم الشرعي للجماعة الإسلامية، وماذا عليه أن يعمل؟ تصطدم هذه الأسئلة التي لو وصلت نهايتها قد تطالب بالحرية والمشاركة، بضرورة وجود الحاكم حتى ولو كان ظالما لتجنب الفتنة والشقاق والفوضى، فالحاكم يفرض الطاعة على رعيته بسبب هذه الضرورة وليس لديهم حق المعارضة والاحتجاج، ومن هنا يقول ابن تيمية "أدوا إليهم حقهم واسألوا الله حقكم". لذا، لم تجد العلاقة التعاقدية الدنيوية المرتكزة على الحقوق والواجبات. بل استمر الديني الثابت يشكل السياسي المتحول ويقرره، ويضفي عليه شرعية ترفعه فوق أي مساءلة أو محاسبة. يضاف إلى ذلك، أن الفكر العربي الإصلاحي في تلك المرحلة كان "فكرا نخبويا" يعاين مشكلة السلطة، والاستبداد، والتخلف، في إطار علاقة ثنائية، بين الحكم وأهل الحل والعقد، أو علماء الأمة، فإذا اختلت هذه العلاقة كان الحاكم مستبدا بالسلطة، وإذا حفظ لهذه النخبة دورها في صنع القرار كان الحكم شورى. وبهذه الصيغة فإن ما يظل غائبا عن الفاعلين غيابا مطلقا هو الشعب، الذي يفترض انه مصدر السلطة وصاحبها، وان ممارسة الحكم تحدث له وبه. وبالمحصلة، كانت الاستجابة الخاطئة وما شابها من سطحية واستعلائية وانتقاء، العامل الأساسي في غياب "الديمقراطية" كمصطلح وممارسة عن نتاج مفكري عصر النهضة العرب، الذين لم يستوعبوا الوافد بعقلية منفتحة تحاول استثماره خدمة لواقعها الراهن، بل استمرت بالانطلاق إلى بناء المستقبل بأدوات الماضي، لتفرغ بذلك الحاضر من مضمونه.
#عمران_الرشق (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
قبل أن نباغت بـ -القمني- فلسطيني!
-
هوية الاقليات بين الدولة والمجتمع المدني: سوريا نموذجا
-
الاصلاح المطلوب
المزيد.....
-
المقاومة الاسلامية في لبنان تستهدف تجمعا للاحتلال في مستوطنة
...
-
“فرحة أطفالنا مضمونة” ثبت الآن أحدث تردد لقناة الأطفال طيور
...
-
المقاومة الإسلامية تواصل ضرب تجمعات العدو ومستوطناته
-
القائد العام لحرس الثورة الاسلامية: قطعا سننتقم من -إسرائيل-
...
-
مقتل 42 شخصا في أحد أعنف الاعتداءات الطائفية في باكستان
-
ماما جابت بيبي..استقبل الآن تردد قناة طيور الجنة بيبي وتابعو
...
-
المقاومة الإسلامية في العراق تعلن مهاجتمها جنوب الأراضي المح
...
-
أغاني للأطفال 24 ساعة .. عبر تردد قناة طيور الجنة الجديد 202
...
-
طلع الزين من الحمام… استقبل الآن تردد طيور الجنة اغاني أطفال
...
-
آموس هوكشتاين.. قبعة أميركية تُخفي قلنسوة يهودية
المزيد.....
-
مأساة العرب: من حزب البعث العربي إلى حزب الله الإسلامي
/ حميد زناز
-
العنف والحرية في الإسلام
/ محمد الهلالي وحنان قصبي
-
هذه حياة لا تليق بالبشر .. تحرروا
/ محمد حسين يونس
-
المرحومة نهى محمود سالم: لماذا خلعت الحجاب؟ لأنه لا يوجد جبر
...
/ سامي الذيب
-
مقالة الفكر السياسي الإسلامي من عصر النهضة إلى ثورات الربيع
...
/ فارس إيغو
-
الكراس كتاب ما بعد القرآن
/ محمد علي صاحبُ الكراس
-
المسيحية بين الرومان والعرب
/ عيسى بن ضيف الله حداد
-
( ماهية الدولة الاسلامية ) الكتاب كاملا
/ أحمد صبحى منصور
-
كتاب الحداثة و القرآن للباحث سعيد ناشيد
/ جدو دبريل
-
الأبحاث الحديثة تحرج السردية والموروث الإسلاميين كراس 5
/ جدو جبريل
المزيد.....
|