أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات - ساطع هاشم - الملابس والعري















المزيد.....

الملابس والعري


ساطع هاشم

الحوار المتمدن-العدد: 6781 - 2021 / 1 / 7 - 20:43
المحور: دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات
    


الجسد الانساني على امتداد تاريخ الانسان مقسم الى عالمين اساسين العاري والمغطى، او العري والارتداء، اللابس والملبوس، كلا الجانبين يمكن النظر اليهما كنقيض للآخر حيث الاول يلغي الثاني او احيانا يكمل احدهما الاخر، لان لكل واحد مساحته ومكانته ورمزيته في التاريخ الاجتماعي للشعوب، فالجسد في حياتنا هو وحدة هذين الشكلين.
وقد اصبح هذين الشكلين قضايا سياسية وصراع ايديولوجي عالمي عنيف منذ نهاية الحرب العالمية الثانية ولحد الان، وصار التعري والارتداء ميدانا للمناقشات والتأويلات الدينية والرجعية المختلفة وللاضطهاد والتعسف وتقييد الحريات، خاصة في بلدان العالم الثالث ومنها بالصدارة مناطق الشرق الاوسط الاكثر رجعية وتزمت من اي منطقة اخرى بالعالم، وذلك بحكم العرف الديني والحدود التي وضعها رجال الدين والفقهاء للمجتمع عامة.
واما بالعالم الغربي وبعد الحروب الرهيبة العالمية بالقرن العشرين فان ارتداء الملابس والتعري اصبحا وسائل دعائية لتحرير الفرد وجسده وعقله واختياره وجعل مصيره في يديه يقرر ماذا يريد وكيف يكون، بالضد من السلطة الحاكمة السياسية او الدينية, فانتشرت ظاهرة الثورة الجنسية والنسوية وتحرير المرأة والرجل من قيود التقاليد المحافظة والجامدة وانتشرت صور الممثلات والممثلين وعروض الازياء واصبح الجسد العاري غالبا ما يعني المرأة، وهنا اشتعلت ازمة اخرى كان اطرافها عدة جبهات اولها السوق الرأسمالي الاستهلاكي والربح والخسارة ثم جبهة المتمردين والثوار المستقبليين وجبهة الأخلاقيين والانسانيين, بالطرف الاخر الاكثر خطورة المتدينين وهي مستمرة الى يومنا هذا بين مد وجزر.
وكلاهما العاري والملبوس ظواهر تاريخية دينية ودنيوية قديمة قدم الانسان نفسه، ولا يوجد دليل قطعي على الوقت الذي توقف فيه اسلافنا البشر/القردة عن العيش والتجوال وهم عراة وبدأوا يغطون اجسادهم بجلود الحيوانات، فمن المحتمل أن هؤلاء ارتدو تلك الجلود للتعويض عن فقدانهم الفراء الذي كان يغطي اجسامهم عند عملية التطور والانتقال من القرد الى الانسان.
فيقول العلماء ان الانسان الاول كان بحاجة الى تغطية جسمه بمقدار 70% على الاكثر ليستطيع مواجهة تقلبات المناخ البارد اما البشر المعاصرين فيحتاجون إلى تغطية أنفسهم حتى 90%، والواقع ان الحقائق بشأن الملابس أكثر تعقيدًا مما قد نتخيله فبدونها ربما لم نكن على قيد الحياة.
فالعري ظاهرة طبيعية ميزت الانسان عن بقية المخلوقات منذ بدء الخليقة ولكن برزت اهميتها بالتاريخ والحضارة كمشكلة أخلاقية ورمز اجتماعي كنتيجة لظهور واختراع النسيج والملابس، التي ولدت مع دخول الانسان الى عصر الحضارة منتصف العصر الحجري الحديث قبل حوالي سبعة الاف سنة, عندما اصبحت اكثر من مجرد وسيلة فردية او اجتماعية للاحتماء من البرودة والرطوبة وتقلبات المناخ أو أشعة الشمس او تبدل الفصول، ولكنها صارت أيضا وعاء او تجمع رمزي منظم بشكل (مفيد) للتواصل الاجتماعي كما يقوم بذلك الكلام او القراءة والكتابة، رغم ان ايصال رسالتها البصرية اكثر محدودية من الوسيلتين الآخرتين الصوتية والرمزية الصورية.
اول واقدم منوال للغزل تم اكتشافه لحد الان يعود تاريخه الى عصر السومريين الاوائل قبل ستة الاف سنة، وعلى حسب علمي فلا يوجد اثر للمنوال اقدم من هذا لحد الان، وهذه اقدم الدلائل على أهمية صناعة الشكل او المظهر الخارجي للإنسان في بداية العصر الزراعي كما تجسده حرفة صناعة النسيج واهمية مهنة الخياطة في التنظيم الهرمي للمجتمع.
ومنذ تلك العصور السحيقة اصبحت الملابس ظاهرة اتصال طورت رموزًا خاصة بها تعكس الافكار والمشاعر من حزن والم وفرح، والمكانة الاجتماعية والسياسية للرؤساء او الفلاحين او العبيد، وضرورة الانتشاء للحس الإنساني عندما تغير (الجلد) القديم بغطاء انصع، وغيرها الكثير، لان جميع المنسوجات والملابس اضافة الى ضرورتها النفعية والجمالية فهي عبارة عن نصوص وكلمات بصرية أو على الأقل مكونات نصية بصرية وضع معناها وقواعدها هذا المجتمع او ذاك ليس كوسيلة للاستمتاع بها فقط، بل لفهم الحياة المشتركة واغنائها والامتثال لسلطتها من خلال لغتها الصامتة.
فهناك العديد من الدلالات او الاعراف الاجتماعية التي يوجد لها ما يقابلها في الكلام بوضوح، ولكنها ضامرة بعض الشيء وهنا يتم تضمينها في لغة الملابس لإبرازها، رغم ان النصوص الكتابية التي تحوي على مصطلحات او دلالات النسيج والاقمشة والخياطة وانواع الازياء مثلا واسعة لكنها تكتسب معنى مركز وسريع الانتشار عندما تقرن بالشكل الخارجي للفرد، فمثلما يمكن أن يشير الثوب إلى المهنة، والجنس، والحالة الاجتماعية، والرتبة، والوظيفة، والمناسبة، فإنه يمكن أيضًا أن يشير إلى الدولة او المنطقة او القرية او العشيرة وغيرها، كما في ازياء البدو عندنا مثلا او الفلاحين.
هذه الوحدة قادرة كذلك على إظهار تاريخ طويل من الصراعات بين القيم، مثل تاريخ الخجل في السلوك الاجتماعي وهو موضوع أخلاقي قديم، فالعري في الثقافات بالعالم يرمز الى ما هو شخصي فردي في حياة المرء، الى الليل او ممارسة الجنس، او الصحة والطبابة او بعض اشكال الرياضة والترفيه مثل الحمامات او السباحة على الشواطئ، وملابس السهرة، والملابس الشفافة الليلية كرمز للمناسبات والاوقات الخاصة بالقريبين والكثير من هذه النشاطات المرتبطة بالمساء.
ثم يأتي نوعاً اخر من الاختلاف مثل نفعية الاقمشة وسعرها او الوانها او تصاميمها، او المهنة التي تمثلها، وكل هذا يحدث بصمت وصوت خافت، فهذه هي لغة الملابس والتعري وهي بغير حاجة الى شرح بالكلمات لأنها صور امامنا للمعايير الاخلاقية وهي تتفكك بسرعة في عالم لا يعرف التوقف، وهذا جزء هام من الظهور الاجتماعي العام للرموز الاخلاقية الصامتة.
ثم يعاد تشكيلها كل يوم بتكرار للقديم بتفاصيل اكثر دقة، وبشكل متخصص وتحديد اخر اكثر ملموسية، عندما تصبح كرموز للتعبير عن اشياء مألوفة نمارسها كل يوم، مثل الانوثة والذكورة كما في التنورة والبنطلون، او لتمييز العمر من خلال ارتداء ملابس بتصاميم معينة للأزياء كالقبعات او اختيار انواع اقمشة اقل زخرفة واهدأ الوان وكلها تعتمد على المفاهيم المحلية للمجتمعات التي نقيم بها. وسنجد نفس هذه الفروق في الجسد العاري ايضا كما هي في الملابس والاجساد المرتدية، فيمكن للعاري ان يكون ناعم او متجعد، طويل او قصير، بدين او هزيل، ذكوري او انثوي، شاب او عجوز، ذو بشرة داكنة او فاتحة وهلمجرا.
يُنسب الى المفكر الارستقراطي هربرت سبنسر القول بان:(الوعي في الارتداء المتقن الانيق للملابس يمنح المرء الحرية والأمان الذي يفشل الدين في تحقيقه)، ويعلق احد الكتاب على هذا الكلام الساخر لسبنسر بانه يقصد ضرورة الاستمتاع بالحياة الدنيوية هنا على الأرض قبل رحيلنا عنها، لأننا لا نعرف ما الذي سيحدث لنا بالحياة الاخرى.
لقد ساد العصور الاوروبية الوسطى اعتقاد ربط العري العام بالهرطقة، وذلك وفقاً لمفهوم مسيحي بالإنجيل يصف الانسان بانه (جسد الخطيئة)، وقد تبدل ذلك المفهوم في عصر النهضة الذي خلفه، حيث ابعد الجسد عن الهرطقة وتم الجمع بينه وبين الاغراء الجنسي في مفهوم واحد واصبح التعري امام العموم او اظهار مناطق معينة من الجسم علامة على المتعة بالحياة والانغماس بالرغبة والاغراء الجنسي، وهذا واضح فيما عكسته الفنون البصرية لاي مطلع على الفن الإيطالي وخاصة في القرن الخامس والسادس عشر.
وبدخول الاوروبيون الى العصر الصناعي بالقرن التاسع عشر وانتشار التفسير العلمي والطبي للجسد وفي نفس الوقت سيادة ما يسمى اخلاق الطبقة العليا المحافظة, فقد اصبح العري والتعري امام العامة او اظهار مناطق عارية معينة علامة من علامات اختلال العقل، واختصرت شرعية التعري بالحياة الخاصة للأفراد داخل محيط العائلة او الفرد او الاقارب او امام الأطباء وما شابهها ومنعت من الظهور العلني باعتبارها ممارسة مخلة بالأخلاق، ولهذا فأن فلاسفة ومؤلفون عديدين في ذلك القرن رأوا في الملابس الكثير من الرموز التي تفصل الإنسان عن الوحوش منهم هيغل.
اما الموضة فهي ظاهرة اجتماعية قديمة اخرى, توسعت عالميا في القرنين الاخيرة وسيطرت أيديولوجيتها الغربية تحديدا على مختلف سكان العالم, وهي كمصطلح مهمة واساسية جدا في نظام الملابس، لكنها غير محددة بالملابس وحدها، لكنها مركزية في صناعة وفن الاقمشة والازياء، وانتقلت مصطلحات هذه الصناعة مجازيا الى باقي فروع المعرفة فهي موجودة في كل مناحي حياتنا اليوم، فلكل اختصاص علمي او ادبي او سياسي او ثقافي مواسمه الخاصة (موضته) التي تظهر وتزول بلا اثر طويل المدى، فهي من جهة اختراع وابتكار ومن جهة اخرى نزوة عابرة، وهذا ما اقصده هنا بالموضة.
التطور هو التبدل والتحول المستمر سواء بالمادة او بالمجتمع، بالعري او بالملابس، والدين هو التقاليد التي لا تتبدل ولا تتحول، والتطور يعني الاستغناء عن القوى العلوية والالهية التي لم يراها احد في تفسير الكون وبدايته ونهايته، وان هذه الالهة او المخلوقات الخارقة غير المرئية التي تقول بها الأديان لا تقرر مصيرنا بل ان هذا المصير في أيدينا سواء كنا عراة او بالملابس.



#ساطع_هاشم (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- عام الفأر
- اغتراب
- مشياً بالمطر
- اللون الابيض
- احتفالا بالوداع
- دعونا نصاب بالجنون
- الثورة وكلماتها
- الفخ الديني
- استعداداً لتشرينية جديدة
- المناضلة ماري محمد
- العلمي والعاطفي
- الاختيار والاضطرار
- ثوار تشرين في عيدهم الاول
- الفانوس غير السحري
- القلق وسادة الفنان
- فن للتسلية فن للترقية
- دين وفن
- ساحل البحر
- فن النافذة وفن المرآة
- بيروت


المزيد.....




- الثلوج الأولى تبهج حيوانات حديقة بروكفيلد في شيكاغو
- بعد ثمانية قرون من السكون.. بركان ريكيانيس يعيد إشعال أيسلند ...
- لبنان.. تحذير إسرائيلي عاجل لسكان الحدث وشويفات العمروسية
- قتلى وجرحى في استهداف مسيّرة إسرائيلية مجموعة صيادين في جنوب ...
- 3 أسماء جديدة تنضم لفريق دونالد ترامب
- إيطاليا.. اتهام صحفي بالتجسس لصالح روسيا بعد كشفه حقيقة وأسب ...
- مراسلتنا: غارات جديدة على الضاحية الجنوبية
- كوب 29: تمديد المفاوضات بعد خلافات بشأن المساعدات المالية لل ...
- تركيا: نتابع عمليات نقل جماعي للأكراد إلى كركوك
- السوريون في تركيا قلقون من نية أردوغان التقارب مع الأسد


المزيد.....

- الانسان في فجر الحضارة / مالك ابوعليا
- مسألة أصل ثقافات العصر الحجري في شمال القسم الأوروبي من الات ... / مالك ابوعليا
- مسرح الطفل وفنتازيا التكوين المعرفي بين الخيال الاسترجاعي وا ... / أبو الحسن سلام
- تاريخ البشرية القديم / مالك ابوعليا
- تراث بحزاني النسخة الاخيرة / ممتاز حسين خلو
- فى الأسطورة العرقية اليهودية / سعيد العليمى
- غورباتشوف والانهيار السوفيتي / دلير زنكنة
- الكيمياء الصوفيّة وصناعة الدُّعاة / نايف سلوم
- الشعر البدوي في مصر قراءة تأويلية / زينب محمد عبد الرحيم
- عبد الله العروي.. المفكر العربي المعاصر / أحمد رباص


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات - ساطع هاشم - الملابس والعري