بشير الوندي
الحوار المتمدن-العدد: 6781 - 2021 / 1 / 7 - 17:40
المحور:
الارهاب, الحرب والسلام
مباحث في الاستخبارات (247)
المدرسة اليابانية للاستخبارات
------------
مدخل
------------
استكمالاً لعدة مباحث تناولنا فيها المدارس الاستخبارية العالمية والاقليمية , نتناول في هذا المبحث المدرسة الاستخبارية اليابانية التي كانت لها اليد الطولى في توسع الامبراطورية اليابانية التي قصم ظهرها بالاستسلام في الحرب العالمية الثانية على يد الامريكان .
-------------------
مؤشرات القوة
-------------------
يعد الجيش الياباني من الجيوش الاستعمارية في التاريخ , وكانت له اليد الطولى على كل الدول المجاورة في مطلع القرن العشرين , وشاركت اليابان مع قوات التحالف في الحرب العالمية الأولى ضد الإمبراطورية الألمانية من عام 1914 إلى عام 1918، واستولت على الأراضي الصينية ، واحتلت كل المقاطعات والجزر التابعة للالمان في المحيط الهاديء ، وكانت اليابان ترى ان على المجتمع الدولي ان يراها كقوة عظمى في الجغرافيا السياسية بعد الحرب العالمية الاولى , ويكفي للتدليل على قوة تسليح الجيش الياباني ان اولى الغارات الجوية في العالم والتي تنطلق من على ظهر باخرة كانت من القوة الجوية اليابانية خلال الحرب العالمية الاولى عبر حاملة الطائرات البحرية واكاميا .
لقد كانت لليابان ادوار في السيطرة على الشرق لفترات طويلة و صمدت امام انواع الحروب والعدوان واخر ادوارها القوية كانت من منتصف القرن التاسع عشر الى نهاية الحرب العالمية الثانية حيث انتصرت فيها على روسيا القيصرية والصين واحتلت اراضي شاسعه تقدر بعدة اضعاف مساحتها , ويكفي ان نشير الى ان احدى تجهيزات الجندي الياباني كانت زجاجة من البانزين في قتال الجزر ليحرق نفسه بدلاً عن الاسر.
ومما لاشك فيه ان قوة اي جيش وتوسع اية امبراطورية هو مؤشر حقيقي على القوة الاستخبارية لتلك الجيوش مما يشير الى قوة الاستخبارات اليابانية , فكانت الجبهة اليابانية جبهة عسكرية عنيدة والتقدم مكلف وقتال بطولي وكانت الاستخبارات العسكرية اليابانية تتمتع بالعنف والشدة .
ومن دلالات قوة الاستخبارات اليابانية هو فشل الحلفاء في تأسيس مقاومة شعبية في المدن التي احتلتها اليابان خلال الحرب العالمية الثانية التي دخلت فيها اليابان مع ايطاليا والمانيا, بينما نجحت قوات الحلفاء بتنفيذ مقاومة شعبيه شديدة وقوية في خلف خطوط القوات الالمانية في فرنسا ويوغسلافيا وغيرها اثرت كثيرا على امن المناطق التي كان يحتلها الالمان , هذا مؤشر لقوة ونشاط الاستخبارات اليابانية .
اضف الى ذلك مؤشر ذو دلالة على قوة الاستخبارات اليابانية , انه برغم توغل تلك الاستخبارات خلال الحربين العالميتين , الا انه لم يسجل التاريخ جاسوسا يابانيا عمل لصالح دولة اخرى من بين الدبلوماسيين او الحكوميين او الضباط لصالح دول الحلفاء الا نادراً .
---------------------------------
بيرل هاربر المؤشر الابرز
---------------------------------
كان هتلر يسعى لاقناع اليابانيين في التركيز على اوروبا والاتحاد السوفيتي شمالاً لاسيما مع معرفته بالعداء المستحكم لليابانيين مع الشيوعية , وحاول وزير الخارجبة الالماني اقناع اليابان , الا ان وثيقة التحالف مع اليابانيين جاءت خلواً من اية التزامات في هذا الشأن , بل ان اليابان ابلغت المانيا في اوائل ديسمبر عام 1941 , اي قبل ضربة بيرل هاربر بايام معدودة , ببرقية شفرية بانها غير مهتمة بالحرب شمالاً وتصب اهتمامها الى الجنوب .
وقد فكت الاستخبارات الروسية شفرة البرقية وتأكدت كذلك من خلال جواسيسها واشهرهم "زورغه" (الجاسوس البارع للسوفيت في اليابان والذي اعدمه اليابانيون لاحقاً) , الامر الذي طمئن ستالين بعدم نية اليابانيين من الهجوم على خاصرته الشرقية , وسهل الامر على ستالين لاحقا بنقل 1000 دبابة و1000 طائرة من جبهة الشرق الى الغرب للتركيز على الالمان بفضل فك الشفرة التي صححت معلوماته ( انظر : مباحث في الاستخبارات (185) الاستخبارات في الحرب العالمية الثانية)
كما ان الاستخبارت الامريكية كانت قد تمكنت من تفكيك الشفرة اليابانية منذ عام 1940 , وبرغم ذلك فإن الاستخبارات اليابانية كانت قادرة على تنفيذ التمويه البارع على معظم عمليات الجيش الامبراطوري واهمها عملية ضرب ميناء بيرل هاربر الامريكي والذي يعتبر المقر الرئيسي لأسطول الولايات المتحدة في المحيط الهادئ في هجوم مباغت في 7 ديسمبر 1941 من اليابان، حيث تحرك الاسطول الياباني من شمال اليابان الى الجنوب بستة اساطيل حاملة طائرات ليتم اثرها ضرب الميناء ضربة موجعة اسماها الرئيس الامريكي حينها ( يوم عار لن ينسى ) , وهو شاهد كبير على تفوق الاستخبارات اليابانية على الاستخبارات الامريكية وعلى الانضباط الكامل لليابانيين من قبيل الصمت اللاسلكي الكامل لقطعات الهجوم لأحد عشر يوماً قبل الهجوم.
وكانت ضربة بيرل هاربر كارثية على القوات الامريكية بخسائر هائلة (2403 قتيل , 1100 جريح , 18 سفينه , 190 طائرة ) في مقابل خسائر محدودة لليابان (55 قتيل , 29 طائرة)
ويبرر خبير التشفير الامريكي "ديفيد كان" ان النقص لم يكن في التحليل للشفرة اليابانية التي تم فكها منذ 1940 وانما في جمع المعلومات حيث استطاع اليابانيون اخفاء نواياهم وخديعة العدو , برغم ان روزفلت اطلع على برقية يابانية تم فك رموزها ارسلت من الخارحية اليابانية الى السفارة اليابانية في امريكا قبيل الهجوم تشير بضرورة اتلاف كل الارشيف وكل الارواق السرية , الا ان توقعات الامريكان ذهبت الى ان اليابانيين سيهاجمون الجيش البريطاني في سنغافورة.
--------------------------
الاستسلام والعقاب
--------------------------
كانت بشاعة الرد الامريكي على اليابان بقنبلتين نوويتين في هيروشيما وناكازاكي , وماتبع ذلك من اذلال لليابان باستسلام غير مشروط وعقوبات كبيرة طالت بالدرجة الاساس الصناعة التسليحية اليابانية والجيش الياباني الذي تم تقليصه واحيل عدد ضخم من جنوده لاعمال السخرة كنوع من الذلال , كما كان الامر ضربة قاصمة بحل الجهاز الاستخباري الياباني وحل الشرطة السرية "كيمبيتاي" وهي من اقدم المؤسسات الشرطوية السرية حيث تأسست 1881 .
لاحقاً , اجبرت اليابان على اختيار يقضي على مركزية جهازها الاستخباراتي واستبداله بأجهزة منفصلة لا ترتبط بنظام ثابت كباقي أجهزة الاستخبارات في العالم , فكانت النتيجة التفكك وفقدان اليابان لذراعها الاستخباراتي.
---------------------------
قيود المادة التاسعة!!!
---------------------------
نتيجة استسلام اليابان على يد الامريكان , تم ادخال تعديلات جوهرية على الدستور الياباني , حيث نصت على أن "الطموح الصادق للشعب الياباني للسلام العالمي يعتمد على العدل والقانون اللذين يرفضان الحرب أو استخدام القوة لحل الخلافات الدولية، ولتحقيق ذلك لن تمتلك طوكيو للأبد أي قوة حربية هجومية في البحر أو الجو أو على الأرض، أو أي نوع آخر من الإمكانيات العسكرية العدوانية، ولن تعترف بحق الدولة في العدوان الحربي الهجومي، وأن مهمة قوات الدفاع الذاتي (الجيش الياباني) هي الدفاع عن البلاد، ولا يجوز لها العمل أو الوجود خارجها".
بحسب الفقرة التاسعة من دستور اليابان فإن تسليح اليابان ممنوع نظرياً. إلا أن البرلمان صادق على قانون عام 1954 يسمح بإنشاء قوات الدفاع الذاتي لحماية اليابان ضد الهجمات الخارجية بثلاثة فروع هي (قوة الدفاع الذاتي الجوية اليابانية, قوة الدفاع الذاتي البرية اليابانية, قوة الدفاع الذاتي البحرية اليابانية) , وهي القوات المسلحة في اليابان البديلة للجيش الإمبراطوري , واصبحت عقيدة تلك القوات هي مجموعة مباديء للسياسة الدفاعية اليابانية اهمها الحفاظ على سياسة دفاعية خاصة , وتجنب أن تكون اليابان قوة عسكرية كبرى تهدد العالم , والامتناع عن تطوير أسلحة نووية ورفض وجود هذه الأسلحة في الأراضي اليابانية , والحفاظ على اتفاقات للأمن مع الولايات المتحدة , وبناء قدرات دفاعية بمستوى معتدل .
---------------------------------------
الحرب الباردة ..المتنفس الاول
---------------------------------------
الحرب الباردة التي استعر أوارها اثر الحرب العالمية الثانية بين الروس والامريكان اجبرت الامريكان لاحقاً على السماح لليابانيين بتأسيس تشكيلات شرطوية واستخبارية للوقوف امام المد الشيوعي السوفيتي , فتشكلت وكالة الشرطة الوطنية كوكالة حكومية تشرف عليها اللجنة الوطنية للسلامة العامة التابعة لمكتب مجلس الوزراء في مجلس وزراء اليابان، وهو وكالة التنسيق المركزية لنظام الشرطة اليابانية.
وخلافاً لهيئات مماثلة مثل مكتب التحقيقات الفيدرالي في الولايات المتحدة، فإنه ليس لوكالة الشرطة الوطنية أي ضباط شرطة يتبعون مباشرة لها , وبدلاً من ذلك، فأن دورها هو تحديد المعايير العامة والسياسات، على الرغم من أنه في حالات الطوارئ الوطنية أو الكوارث الواسعة النطاق فإن الوكالة مخولة بقيادة قوات الشرطة في المحافظات.
كما تم تشكيل مركز قيادة استخبارات الدفاع اليابانية , وهي وكالة حكومية يابانية لاستخبارات الإشارة ، وتابعة لوزارة الدفاع , وتعتبر حالياً إحدى أكبر وكالات الاستخبارات اليابانية، وقد تم تأسيسها وهيكلتها على غرار وكالة استخبارات الدفاع الأمريكية.
وفي ثمانينيات القرن العشرين، كان لوكالة الدفاع اليابانية السابقة عدّة أقسام استخباراتية ذات مهامّ مختلفة , منها وكالة الدفاع ، ووحدة الإدارة العامة للمعلومات المركزية ، وهيئة الأركان المشتركة ، وثلاثة فروع لقوات الدفاع اليابانية , وفي عام 1997 تم دمجها بكيان واحد هو وكالة استخبارات الدفاع اليابانية , وبادرت الوكالة باطلاق اقمار صناعية لرفع مستوى قدرات الوكالة في تجميع المعلومات الاستخبارية , وفي 2006 أعلنت دائرة الدفاع عن إنشاء أول مكتب اتصال لها في العاصمة واشنطن، بالاشتراك مع وكالة الأمن القومي الأمريكيNSA.
وتقوم دائرة استخبارات الدفاع بمراقبة الاتصالات مع الأقمار الصناعية ، كجزء من برنامج يحمل الاسم الرمزي MALLARD. حيث يعترض البرنامج أكثر من 12 مليون رسالة على الإنترنت يومياً , وتقع دائرة قيادة استخبارات الدفاع تحت سلطة الأركان المشتركة وتديرها هيئة استخبارات الدفاع.التابعة مباشرةً إلى وزير الدفاع الياباني .
--------------------------------
داعش ...المتنفس الثاني
--------------------------------
مع دخول عام 2015 اتجهت اليابان نحو إنشاء جهاز مخابرات مركزي لأول مرة منذ انتهاء الحرب العالمية الثانية ، عندما سقط مواطنين لها في يد " داعش" ولم تجد إلا المخابرات التركية والأردنية لمساعدتها ، فأدركت حقيقة عدم امتلاكها لجهاز استخبارات وبدأت تتحرك في هذا الاتجاه.
فعقب اعلام داعش قتل الرهينة الياباني كينجي غوتو في مطلع فبراير 2015 وهجمات باريس في نفس العام وصعود موجة الذئاب المنفردة في اوروبا أعلنت الحكومة اليابانية ، عن تأسيس وحدة جديدة في وزارة الخارجية لجمع المعلومات عن الجماعات المتشددة مثل داعش ويكون تواجدها في سفارات اليابان.
وسعى مشرعون من الحزب الحاكم الى التفكير في انشاء جهاز مخابرات خارجية على غرار جهاز المخابرات البريطاني (إم.آي 6) بعد 70 عاما من قيام الحلفاء المنتصرين في الحرب العالمية الثانية بحل المخابرات العسكرية اليابانية المرهوبة الجانب.
وسلطت الاضواء على حاجة مجتمع المخابرات المفكك في اليابان الى اصلاح بعد ان قتل تنظيم الدولة الاسلامية اثنين من الرهائن اليابانيين في سوريا عام 2015 وهو ما كشف اعتماد طوكيو على الدول الصديقة للحصول على المعلومات.
كما يعمل اليابانيون على اصدار قوانين تلغي الحظر المفروض على حق الدفاع الجماعي عن النفس , اي تقديم المساعدة العسكرية لدولة حليفة تتعرض لهجوم.
في مايو/أيار من عام 2017، كشف رئيس الوزراء الياباني شينزو آبي عن عزمه إلغاء أو تعديل "المادة التاسعة" من الدستور التي تقيد تسليح البلاد أو امتلاك قدرات هجومية، وذلك بحلول عام 2020.
ويعد إلغاء المادة بمثابة إعلان انتهاء مرحلة الهيمنة الأمريكية المطلقة على شؤون البلاد الدفاعية، التي بدأت بهزيمة طوكيو في الحرب العالمية الثانية عام 1945، وإن كان هذا لا يعني بالتأكيد انتهاء التحالف الاستراتيجي بين الجانبين، إذ إن الخطوة لن تتم إلا بتنسيق بينهما، وبعد عقد صفقات تسليح ودفاع مشترك.
وقد التزمت اليابان ببنود المادة التاسعة لعقود، لكن التطورات السياسية والاستراتيجية الإقليمية أدت إلى تنامي شعور القادة اليابانيين بضرورة استكمال دولتهم لعناصر قوتها الشاملة , وعلى هذا الأساس، أُعيد تفسير المادة التاسعة من الدستور، فوافق البرلمان على مشاركة الجيش الياباني في قوات الأمم المتحدة لحفظ السلام، وجاءت المشاركة الأولى بكمبوديا في تسعينيات القرن الماضي، كما أُرسلت قوات يابانية للعراق بعد الحرب الأمريكية عام 2003.
وقد تشجعت اليابان في تعزيز قدراتها العسكرية بعد إعلان الرئيس الأمريكي دونالد ترامب مرارا أنه يعارض استمرار إنفاق بلاده على حماية دول أخرى "غنية" مثل اليابان دون مقابل.
وقد جاء التصنيف الأخير الذي أصدره موقع "جلوبال فير باور" المعني بقياس القدرات العسكرية لـ138 دول حول العالم، ليضع الجيش الياباني في المركز الخامس للمرة الأولى ، بعد كل من الولايات المتحدة وروسيا والصين والهند.
وتبلغ موازنة وزارة الدفاع اليابانية 1% من الناتج القومي الاجمالي , لكن تلك النسبة تمثل رقماً كبيراً يصل الى 49 مليار دولار , ولاشك من ان كل تلك المؤشرات تشير الى ان اليابان بصدد عودتها من بوابة داعش الى مسرح المخابرات العالمية المحترفة لتواكب قدراتها العسكرية والتكنولوجية .
------------
خلاصة
------------
لعل من الحالات الشاذة ان لا يسقط نظام رغم استسلامه وخسارته الحرب كما هو حال اليابان , بل ان اليابان استطاعت البقاء وغزو العالم تكنولوجياً بعد ذلك , وقد وضعت اليابان بصمتها الاستخبارية باستخدام التكنولوجيا , حيث تعتمد التجسس الالكتروني بشكل كبير وتمتلك اقمار صناعية .
اما المراقبة الداخلية , فقد تكون البلد الثاني عالميا بعد الصين في اعتماد التكنلوجيا لمراقبة السكان مما انتج نسبة متدنية للغاية من الجريمة , فكل شي مراقب بكاميرات ذكية وروبوتات وحواسيب عملاقة .
لقد استثمر اليابانيون منعهم من صناعة الاسلحة وتكوين الجيوش الجرارة ليستثمروا طاقتهم في الصناعة والتكنلوجيا رغم ان اليابان بلد بلا اية موارد طبيعية , فتغلبت اليابان على نفسها وغيرت طريقة تفكيرها وذهبت الى مساحات اخرى تتناسب مع التقدم والتطور من خلال تصحيح مناهج التفكير والالتزام بالتقاليد والعادات والارث الثقافي وتماسك المجتمع , لذا حقّ لهم ان يوصفوا انهم من كوكب اخر, والله الموفق.
#بشير_الوندي (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟