|
ذكرى من الحرب لا تريد ان تموت … ! ( قصة قصيرة )
جلال الاسدي
(Jalal Al_asady)
الحوار المتمدن-العدد: 6781 - 2021 / 1 / 7 - 11:54
المحور:
الادب والفن
اكتفينا من سماع البيانات العسكرية المشتعلة ، والتهديدات الجوفاء ، وضجيج الاغاني الحماسية ، ما إن همدت المدافع عن الدوي ، والطائرات عن الازيز ، والقذائف عن العويل … ظل كل واحد منا يُخرج من اعماقه المجروحة صدمة الحرب المريرة ، وعنفها ، وقسوتها ، واستهتارها ، والتي ازهقت فينا روح الامل في حياة هادئة مستقرة ، والتهمت منا اعز شبابنا … ولم تترك لنا الا الموت ، والخراب ، وأنات الجرحى ، وعذابات المعوقين … انتظرنا صابرين الزنابق الهادئة ، والمسالمة ان تنموا ، وتغطي كل حطام ، وعذابات تلك الحرب الملعونة … لعقنا جراحنا ، ومسحنا دموع ثكلانا ، واراملنا ، ولم ننسى دموعنا ، واخرجنا من داخل المشرحة الجثث المجمدة حيث ترقد بلا اسماء … اعدنا لهم اسمائهم ، وارقدناهم في مستقرهم الابدي بسلام … وزرنا قبور ضحايانا المساكين الذين رحلوا في عمر الزهور ، وتمنينا السلام لهم الذي فقدوه في الدنيا ان يعم ارواحهم في دار الخلود … رحلوا وخسروا تلك الارواح الغالية لا لذنب اقترفوه ، وانما من جنون ، وغرور لبس من اعطته الصدفة ، والمقادير القرار … ندهنا على احلامنا المخنوقة ان تستيقظ ، وتعود لتتجلى لنا في نومنا المستكين ، وتترك الاحبة يلعبون ، ويتقافزون في ساحاتها يستعيدون الفرح ، والمرح الذي كان .. بانتظار الامل أن يولد من جديد … ! غادرت الحرب ، ولم يبقى منها الا آثارها … كان الناس يمشون في الطرقات كأنهم موتى نهضوا تواً من قبورهم ، وعادوا مجبرين الى شقاء الدنيا ثانية ، وعذابها في كون مختل … نظرة حزن ، وضياع تمرح في عيونهم المتعبة … اي احساس بالحزن ، والمرارة هذا ؟ من بعيد .. أرى زكي او شبح زكي قادما يكلم نفسه .. غارقاً في وشوشة ، وهمس الجنون .. مناجياً عالمه الذي كان .. قبل الضياع ، والتوهان .. تعابثه الخيالات ، والاحزان الغامضة .. ولا ادري من اين هو قادم ، فهو قد فقد السيطرة على نفسه ، وضيعها ولا يُعرف له اتجاه … يترك كامل الحرية لسيقانه التي تزداد نحولا ، وضعفاً يوما بعد يوم ، ونفسيته تتعب ، وتقترب أكثر فأكثر من الجنون المطبق … كان شابا رائعا ، مرحاً مسالما لم يؤذي حتى نملة … مقبل على الحياة كما كانت الحياة كريمة معه ، وأقبلت عليه … كان كل شئ يشع بالخير ، والهدوء حتى قامت تلك الحرب العبثية التي اطلقوا عليها اسما عنصريا من غياهب التاريخ الغابر … دخل الحرب دون ان يمسك يوما سكيناً في حياته ، ولم يتخاصم او يتشاجر مع احد ، ولم يذبح دجاجة ، فكيف بخندق ، ومتاريس ، وآلات الدمار باشكالها ، وانواعها … يتطاحن بها مجانين هذا الزمان ، وكل زمان … لم يدري ماذا يفعل ، وهو الذي لم يستطع السيطرة على رعشات سيقانه التي لم تعد تستطيع حمل جسده الضئيل ، الذي انتفض هولاً من الفضائع التي يراها امامه … لم يطلق رصاصة واحدة … لم يدري على من يطلقها ، ولماذا … اي جنون هذا ، واي سخرية ، واي سخف … كانت من اشرس المعارك … اشتركت فيها الطائرات ، والمدافع ، والصواريخ تلقي بحممها ، وجحيمها دون مراعاة او اهتمام للبشر المحصورين بين نيرانها من الطرفين … لا تشتم الا رائحة البارود ، وحرق الاجساد ، والكراهية التي لا معنى لها ، ولا ترى الا تقطيع الاوصال ، ولا تسمع الا صراخ ، وأناة الجرحى ، والمصابين … جثث كفّنها العدم كانت مبعثرة كأنها لاشئ ، واخرى مطمورة تحت التراب … مأدبة وحشية عبثية ، ومجانية للفناء … جحيماً على الارض سابق لاوانه … أي خَبل هذا ، وأي لعنة ؟ لا احد يتوقع ما الذي دفع بهذا الفتى الطيب الى حاله هذه … بشكل مفاجئ ، وليس على موعد .. شاهد بالقرب منه رأساً مقطوعاً مخضب بالدماء من اشلاء جندي شاب … صرخ زكي مفزوعاً … خلعت قلبه من مستقره حتى تردى في هاوية سحيقة … تلك الصدمة المفاجأة اللامتوقعة … هزت كيانه ، وقلبت حياته الى جحيم … عاجل نفسه فافرغ بكل ما في جوفه من بقايا طعام … حاول ان يتنفس فلم يجد هواءً ، شعر بانه يزفر آخر انفاسه … ظل يصرخ كأنه قد عاد طفلا ، وربما تمنى في تلك اللحظة ان يعود الى رحم أمه … فهو المكان الامن الوحيد في هذا العالم المجنون التافه … وهكذا لم تستكين له نفس ، ولم يغمض له جفن منذ تلك اللحظة المشؤومة … كان يهرب من النوم هروب الشاة من الذئب … فان تغلب عليه الكرى تستقبله الكوابيس فيهب مفزوعا يتصبب عرقاً ، واحياناً يصرخ متذكرا ذلك الرأس المقطوع ، وكأنه ينام في حجره في تلك اللحظة … ثمة موت يدركك ، وانت حي ، فكان زكي هو الحي الميت ! هزل جسده حتى لم يبقى منه الا خيال … هام في الازقة ، والطرقات دونما هدف … ينام في اي مكان عندما يداهمه التعب ، ولا يعود الى البيت الا عندما يتذكر انه كان له بيتاً يوماً ما … او يأتي احد اخوته فيقوده الى البيت … يدخلونه الى الحمام ، وينظفون جسده او ما تبقى منه … يراقبونه ، ويمنعونه من الخروج خوفاً عليه … يقترب سريعاً من وهن النهاية المحتومة ! تُرى يا زكي … هل يمكن لك ان تتشبث بطاقة الحياة الضئيلة المتبقية لك ، وتؤجل مداهمة الموت الواقف دوماً على الابواب .. يذكرنا بالموعد .. ؟ … فالموت ، يا صديقي .. يأتي احياناً بلا تلميح او انذار … أرجوك تمسك بذلك الخيط الواهن ، ولا تتركه يفلت … كم نحن بأمس الحاجة اليك ، والى كل شاب على وشك ان يضيع امام اعيننا في زحمة هذا الترقب المخيف … ما اشد قسوة هذا الصمت الذي يسود كل شئ … ! روح زكي البريئة التهمها ذلك الصمت العنيد في طريقه الى الابد … انطفأت فيها شعلة الحياة التي لم يبقى لها اي معنى بعد ان فقدت اثمن ما فيها ، العقل … لقد بكاه الجميع ، واعتبروه آخر ضحايا الحرب ليضاف الى مئات الالوف الذين التهمهم العدم ، وذهبوا بالمجان ، وبدون اي ثمن ، ولم نحصد من ذلك الجنون … الا الهباء ، واللوعة ، والالم … !!
#جلال_الاسدي (هاشتاغ)
Jalal_Al_asady#
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
الكاتب-ة لايسمح
بالتعليق على هذا
الموضوع
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
وللقدر كلمةٌ أُخرى … ! ( قصة قصيرة )
-
ألم ألألم … ! ( قصة قصيرة )
-
علماني … ولكن ! ( قصة قصيرة )
-
إستعادة الحب من مخالب الكبرياء … ! ( قصة قصيرة )
-
دعوني لأحزاني … ! ( قصة قصيرة )
-
إمرأة بمئة رجل … ! ( قصة قصيرة )
-
زوجة نائمة في العسل … ! ( قصة قصيرة )
-
ما وراء الشمس … ! ( قصة قصيرة )
-
من قتل فائزة … ؟ ( قصة قصيرة )
-
الظاهرة الترامبية العابرة … !
-
انتفاضة تشرين … مخاض أملٍ جديد ! ( قصة قصيرة )
-
غرباء في هذا العالم … ! ( قصة قصيرة )
-
حُلمٌ … مخجِّل ! ( قصة قصيرة )
-
من هنا مرّت فاطمة … ! ( قصة قصيرة )
-
القمار ، وعواقبه … ! ( قصة قصيرة )
-
التطبيع خيار سلام … ام مشروع فتنة ؟!
-
جنون ، وضياع … ! ( قصة قصيرة )
-
الشعوب العربية … آخر من يعلم ، وآخر من يهتم !
-
المصالحة الفلسطينية … الحلم !
-
هل اصبحت الحرب مع ايران قدرا … لا مفر منه ؟
المزيد.....
-
-البحث عن منفذ لخروج السيد رامبو- في دور السينما مطلع 2025
-
مهرجان مراكش يكرم المخرج الكندي ديفيد كروننبرغ
-
أفلام تتناول المثلية الجنسية تطغى على النقاش في مهرجان مراكش
...
-
الروائي إبراهيم فرغلي: الذكاء الاصطناعي وسيلة محدودي الموهبة
...
-
المخرج الصربي أمير كوستوريتسا: أشعر أنني روسي
-
بوتين يعلق على فيلم -شعب المسيح في عصرنا-
-
من المسرح إلى -أم كلثوم-.. رحلة منى زكي بين المغامرة والتجدي
...
-
مهرجان العراق الدولي للأطفال.. رسالة أمل واستثمار في المستقب
...
-
بوراك أوزجيفيت في موسكو لتصوير مسلسل روسي
-
تبادل معارض للفن في فترة حكم السلالات الإمبراطورية بين روسيا
...
المزيد.....
-
تجربة الميج 21 الأولي لفاطمة ياسين
/ محمد دوير
-
مذكرات -آل پاتشينو- عن -العرّاب-
/ جلال نعيم
-
التجريب والتأسيس في مسرح السيد حافظ
/ عبد الكريم برشيد
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
-
التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا
...
/ نواف يونس وآخرون
-
دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و
...
/ نادية سعدوني
-
المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين
/ د. راندا حلمى السعيد
-
سراب مختلف ألوانه
/ خالد علي سليفاني
-
جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد
...
/ أمال قندوز - فاطنة بوكركب
المزيد.....
|