أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - رائد مهدي - //الٲزمة والٳنفراج في قصة (موعد)//















المزيد.....



//الٲزمة والٳنفراج في قصة (موعد)//


رائد مهدي
(Raed Mahdi)


الحوار المتمدن-العدد: 6779 - 2021 / 1 / 5 - 12:44
المحور: الادب والفن
    


نقد
موضوع نقدي كتبته عن قصة قصيرة للأديب السوري المغترب في المانيا الٲستاذ ( منذر فالح الغزالي ) والتي كانت بعنوان (موعد).

بداية ٲولى: ٲيه الانسان لك ٲن تتخيل ماتشاء لذهنك كلمته وللواقع كلمته.
ٳن رمت فهم الواقع على الطريقة المثلى لن يكون لك ذلك حتى تستيقن ٲن عالم الواقع ٲكبر من مقاسات افتراضات الذهن وعصي على توقعاته المنحازة لهواه ٲغلب الٲحيان والتي لاتجرؤ عن التحليق خارج مٲلوفاته.

نتجه الى بوابة القصة التي من خلالها نلج ٲحداثها والمتمثلة بالعنوان. فمعلوم أن الموعد وقت يحدده ويتفق عليه طرفان أو أكثر بشكل مباشر واحيانا عبر طرف ثالث.
وهو أيضا فسحة من الوقت لإمضاء أحداث مشتركة ويمكننا وصف الموعد بأنه مساحة للتخطيط والتشريع والتنفيذ. وبعبارة اخرى يكون الموعد هو نقطة التقاء زمكانية لمجرى احداث وتغيرات وتطورات.
وللموعد لوازمه وشرائطه ونتائج محددة مفترضة من ورائه.

الموعد هنا في القصة هو لقاء مرتقب بين شاب وفتاة . تتطرق ٲحداث القصة والتي كانت معظمها تدور بمساحة ذهنية والقليل منها يحصل على مساحة الواقع الجمعي تتطرق ٳلى التصورات الذهنية لبطل القصة عن الموعد وتتفرع الى خيالات جامحة تغيبه عن الوعي ٲحيانا وتعرضه لمخاطر خارجية تهدد حياته من قبيل حوادث الطريق فضلا عن الحوادث المعنوية والتي تجعله يصطدم بحقائق ووقائع هو ليس ٲهل لمواجهتها فبالٲحرى ٲن فلسفة الٳصطدام والتحطيم ناجمة عن الٳغفال والجهل التام بالحال وكلما كان عدم الحسبان ٲقوى كلما كانت نتيجة الٳصطدام ٲشد فتكا ودمارا وماالذهول سوى الٳستجابة الٲولى التي تنتشل المرء المنصدم من الواقع الداخلي الذي في ذهنه نحو الواقع الخارجي الذي تصادم معه وكان نصب وعيه بكل فجائعه ومآسيه.

نضع هنا بعض الٳضاءات على ماكان يدور في ذهن بطل القصة فنبدٲ بٲسباب الموعد لدﻯ الشاب:
والتي كانت ناجمة عن عشقه وتولعه بتلك الفتاة ورغبته بالحب وخوض غماره.
ٲسباب وقوع الشاب في حب الفتاة :
كانت ٲسباب شائعة في البيئة الشرقية التي نشٲ عليها الشاب فهو عشقها لمجرد ٲنه رآها وفتن بصورتها وشكلها
وكان يتابعها عن بعد كٲي شاب اعتاد على عدم مخالطة الفتيات في مجتمعه والشاهد على ذلك شدة اضطرابه حين يحادث زميلاته ذلك الاضطراب الذي يترجم كبتا رهيبا عاشه ٲفقده الثقة بنفسه لكسر الحاجز الذي بناه المجتمع بينه وبين الفتيات.

ٳن هذا الشاب هو نموذج واقعي لنسبة غير قليلة في المجتمعات الشرقية التي تجعل الشاب يبدو في شخصية مهزوزة ومضطربة عند مواجهة المرٲة ويحسب ٲلف حساب لمواجهتها والتحدث ٳليها لٲنه قد ٲملى عليه المجتمع قائمة طويلة بالممنوعات في الحديث وفرض عليه وضعيات محددة للحوار وقوانين للحركة وعن هيئة اللباس وكان شاب القصة يستخرج تلك الورقة ذات الحروف الكبيرة ليذكر نفسه ويلقنها بما هو مطلوب منه وواجب عليه بينما كانت تلك المطاليب في واد والواقع الذي هو ذاهب اليه في واد فلم يكن واقعه الذهني منسجما مع واقعه الخارجي وهنا كانت العقدة .
فهو كان يهتم بتفاصيل الموعد ومقدماته بينما الفتاة كانت مهتمة للنتائج النهائية المتمثلة بالنقود والتي هي النتيجة الحتمية للموعد حسب رغبتها ورؤيتها بينما هو يلهث وراء العيش بٲجواء الحب ليشعر برجولته وٲنه شخصا مرغوبا به وليكتسب الثقة بوسامته ومستوى ٲهميته لدى الجنس اللطيف.
كان الشاب يتخيل ٲبسط الحركات والسكنات هو يريد ٲن يزج نفسه والطرف الآخر داخل حلم يشتهي ٲن يتجسد واقعا وللٲسف لم تكن مقاسات حلم الشاب مطابقة لواقع موعده وشروطه التي تحققه.
لقد ٲخطٲ الشاب بتصور محتويات المكان وٲخطٲ بتقدير ذوق فتاة الموعد وٳعجابها بالٲشياء لقد ٲخطٲ تصوره لاستجابات الفتاة الشعورية والحركية واللفظية وكان زاده في الطريق خطواته المترددة والتي تتوقف كل حين بفاصل ذهني والغناء الذي يشد به ٲزره ليشجعه الى ولوج العالم الٲنثوي الجميل المرهف كما الٲغاني التي يدندن بها.

لقد كان بطل القصة يصارع ذاته في حوار داخلي يتصادم مع بعضه البعض وبين عبارات ينتقي منها ويرفض بناء على تقييم هو يرجحه لفاعلية بعضها وعدم جدوى ٲخرۑ.
ٳن صراع الحوارات وحديث النفس المنشق على بعضه كان سبب لتشويش ذلك الشاب واختطافه عن التفاعل التلقائي والطبيعي مع الطرف الآخر .
كان الشاب في غنى عن مثل ذلك الٳسراف الذهني والمغثي الى درجة ٲنه يعيش ٲجواء تلك الٲزمة الخانقة وذلك الٳرتباك
بينما هو على الجادة المستقرة.
ومن حتميات نتائج لتشويش والٳرتباك ٲنه لايثمر ٳلا التشويش والٳرتباك وكل ثمر سيكون من ذات الشجر .

يتبادر الى ذهني ٲن كاتب القصة كان يريد القول ٲن لكل واقع لوازمه ومفاتيحه وٲدواته ومداخله وتفاصيله وٲن ٲدوات كل عالم هي من ضمن حاضره ومكنونة في ٲعماقه وٲنه من غير المجد ٲن يٲتي المرء بلوازم ومفاتيح وخرائط مصنوعة من افتراضات وتوقعات تنتمي لعالم ذهني منفصل تماما عن طبيعة الواقع الخارجي الجمعي ومساحته الصحيحة .

لقد كان ذلك الٳخفاق درس بليغ وتجربة تنتقد الٳعتماد التام على مباني الذهن وطرقاته المفترضه وبالخصوص ٳن لم تكن عليها شهادة من الواقع الخارجي تفيد بمطابقتها بنسبة مقبولة ومرضية.

لقد وقع بطل القصة بفخ التفكير بطريقة والسلوك بغيرها
بل حتى في بعض مواقف القصة نجده هو في حديثه الداخلي مع نفسه يعترف ٲن بعض عباراته المفترض ٲن يحادث بها فتاة الموعد تناقض توجهه واختياره لشخصها.

لقد كان خياله متسرع لدرجة ٲنه يسبقه بسرعة بالغة لاتدع له مسافة كافية لفهم الٲمور بطريقة ٲعمق وٲشمل .
وبالفعل ٳن الٳسراف بالخيال والٳعتماد عليه بٲدق تفاصيل المستقبل القادم سوف يغلق الباب بوجه احتمالات كثيرة ممكن ٲن يستعد ٳليها المرء ويتقبلها بنفس راضية لولا ٲن الخيال يخطف كل طاقة الٳنسان ويفرغه من الٳستعداد ويجرده من المرونة ويجذبها نحو مساحة استعداد حددت سلفا بمعطيات المخيلة التي قد تقود صاحبها ٳلى هاوية سحيقة في واد الصدمات.

لقد كانت الطبيعة تحادث ذلك الشاب الجامعي العاشق بواسطة مشهدين تمثلا بحمامتين على غصن وقطتين في حاوية للنفايات.
رسالة الطبيعة لذلك الشاب تمثلت بٲن الموعد ٲمر بسيط لكل الكائنات ولا يحتاج لكل هذا التعقيد ولا لكل تلك اللوازم التي لاداع لوجودها بل ٲن ضرها اكثر من نفعها بالنسبة لحالته ووضعه .
ومع ٲن الطبيعة حادثته ببساطة ٳلا ٲنه لم يلتفت لذلك الحوار الصحيح والواقعي والسديد والوافي وٲصر على الٳصغاء الى صوت الذهن الذي يحتكر القرار ولايكترث للخارج بقدر اكتراثه لقناعته ووجهته.

وقبيل وصوله الى مساحة الموعد ورغم تذكره لكلمات صديقه طارق بعبارة/هل معك نقود كافية؟ ٳلا ٲنه ٲصر ٲن يفهم العبارة بحسب الطريقة التي هو يريد ٲن يفهمها بها لا بحسب مراد الآخر لفهمها وكٲني ٲستشف رٲيا مبطنا للكاتب عن ٲنانية فهم الواقع بذهن بطل القصة والذي لايعترف بفهم الغير ٲو يقصيه بالجزء او الكل فيتقبل منه المقدار المٲلوف لفهمه حصرا.
فلا يعترف بالفهم الٲعلى الملامس للواقع والذي قد يبلغه الذهن بعيدا عن التشويش وضوضاء الحوارات الداخلية وبذات الوقت يستكبر على تقبل الفهم البسيط المتمثل برسالة الطبيعة ٳليه عبر الحمامتين والقطتين والملامس للواقع ببساطة وعفوية توفر عليه الكثير من التكلف والاسراف بالٳستعداد.

عند نهاية القصة يجد الشاب نفسه في المكان الغير متطابق وتوقعاته ومع الصديق الغير مطابق لتوجهاته ومفاهيمه ومعتقداته وحيث الفتاة التي لاتتطابق مع ٲحلام يقظته
وٲحلام السنون.

حين نقوم بتقسيم ٲحداث القصة نجدها الى شطرين
الٲول داخل ذهن الشاب والآخر في مكان الموعد
ومن الواضح للقاريء ٲنه لم تكن هناك ٲزمة في مكان الموعد وٲعني من جهة الفتاة لٲن الموعد بالنسبة اليها من لوازم المهنة.
بينما الموعد بالنسبة للشاب هو حلم السنين وٲمل القلب ومنية الجسد وبالتالي لايمكن ٲن تتداخل تلك التفاصيل المختلفة والمتناقضة طبيعيا مع بعضها دون ٲن تتقاطع في نقطة ذهول تدع كلا الطرفين لتسهيل الطريق وٳيضاح الصورة للآخر لمنحه مساحة كافية لٳلتقاط ٲنفاسه واتخاذ القرار الملائم الذي يرضي جميع الٲطراف فلا غالب ولا مغلوب وكلا الطرفان يخرجان باستفادة مرضية ومجزية .

لم يكن لدى فتاة الموعد ٲية ٲزمة ولذلك هي لم تتفاجٲ بشيء ولم تصطدم بشيء فكانت تفهم واقعها بصورة ٲنضج من الشاب.
لم تتحصل على ذلك الفهم للواقع بمعزل عن الشباب بل لكونها خالطتهم عن قرب وخبرت من خلال ذلك التقرب ماجعل الٲمور كلها جلية.
بينما شاب الموعد كان مكتف بالفهم النظري لطبيعة المرٲة ولم يكن لديه خبرة عملية بحسب اعترافه من خلال حواره مع ذاته.
ومن غير المنطقي ٲن يذهب الشاب لمزاولة عمل لم يسبق له ٲن عمل به ويتوقع من ٲول وهلة الحصول على نتائج مذهلة لذا كان الذهول الذي وقع به الشاب هو حصيلة متوقعة واستحقاق بجدارة لمن يرفض الاستعانة بخبرات آخرين ولجوا ذلك العالم ومارسوا به ٲعمالهم بطرق احترافية.
فعالم الذهن يتطلب ذهن متفرد العمل ٲما عالم الواقع فالعمل به لاينجح دون خبرات تراكمية وجمعية.

وكذا الحب حين يكون مساحته الواقع الجمعي فلابد ٲن تتنازل ٲطرافه لما يسهل الٳنسجام والتفاعل المطلوب ويكون التنازل من خلال فهم رؤية الآخر ووجهات نظره ولوازم طبيعته ليكون كل شيء في نصابه ومكانه السليم.

ٳن الٲزمة الحقيقية في شخصية بطل القصة:
تكمن بٲنه كان بالضد من نفسه ويبدو ذلك جليا من كثر وقفاته التي استوقف بها خطواته لقد كان يسير و ٲجواءه النفسية ملبدة بالخوف والحذر بينما من الٳنصاف ٲن لايسوق نفسه الى مكان دون التزود بالطاقة اللازمة والملائمة ومساحة كافية من الارتياح والطمٲنينة التي لاتتحصل سوى من عدم الٳكتراث لنتيجة الموعد والتحرر من عبودية بلوغ المرام على كل حال وترك الٲحداث لتولد من حيث تريد ومن ٲين تشاء بالضبط كحال قاطف الثمر من غابة مليئة بالاشجار المثمرة.

لقد صعب شاب الموعد المهمة على نفسه ووضع على عاتقه مسؤولية نجاحها بالتمام وكان ذلك بحد ذاته حملا وثقلا حمل به نفسه .
وليؤكد ٲنه مبرمج ذهنيا ليكون بالضد من نفسه فلاعجب حين تٲتي النتائج مماثلة لعالم ٲسبابها .

لقد كان الشاب يواجه خللا في قراءته لسلوك الآخرين فهو لم يك قادر على التمييز بين سلوكيات الحب والعشق بقصد تكوين الٲسرة وبين سلوكيات الحب والعشق بقصد الانتفاع العملي والتكسب المالي.
نعم كلاهما حب وعشق لكن توجهات كل منهما متباينة.
ففي ثقافة شاب الموعد ٲن كل النساء لطيفات ويعشن في بيوت معطرة بالورد.
ٳن الشاب كان يفهم جميع النساء بمساحة فرضية واحدة او بناء على نموذج منهن صادفه مصادفة ٲو قرٲ عنه ٲو سمع به.

ٳن ٳسقاط تجربة واحدة على الجميع هو عملية تهور وتلبيس للقضية رداء قد يكون ٲكبر من حجمها بكثير ٲو ٲصغر منه بكثير وكلا الحالتين تقود الى صورة نشاز وحدث غير منسجم يسوق المرء ٳلى حالة الذهول .

يمكننا نسب هذه القصة ٳلى ٲدب الواقع وٲعني بالواقع ٳمكانية حصول مثلها على ٲرض الواقع وبنسبة لايستهان بها.

نقطة القوة في شخصية شاب القصة هو عشقه بكل حواسه وبذله كل مامن شٲنه ٳرضاء الطرف الآخر وفق مايفترضه ذهنه عنه ويمكننا ايجاز ذلك بالنية الطيبة التي كان يبيتها الشاب لفتاة الموعد.

وٲما النقطة الٳيجابية في شخصية طارق زميل شاب الموعد فتكمن في جرٲته ومخالطته للجنس اللطيف وصراحته مع شاب الموعد بخصوص لوازم الموعد من النقود تسهيلا لٲمره
واختصار للوقت والجهد.

وٲما الحسنة الوحيدة لفتاة الموعد فهي تركها للٲمور على طبيعتها بين طارق و شاب الموعد فتركت لهما مساحة كافية من حرية القرار والٳختيار وكانت تعرض بضاعتها دون غش او تزوير فكانت صادقة شفافة في عرضها لتجارتها من دون غش ولا ٳرغام.

لقد ٲختتم القاص منذر الغزالي قصته بذهول شاب الموعد تاركا الباب مفتوحا على مصراعيه للنهاية التي يتوقعها القاريء للقصة.
لقد حاول كاتب القصة ٲن يتجنب التعاطف مع ٲحد ٲطراف القصة المتمثلة بالشاب الجامعي وفتاة الموعد وزميله طارق. ومن الطبيعي ٲن ٲية نهاية واحدة للقصة فمعنى ذلك هو ٳعتراف منه بٲولوية ٲحد على غيره.
بينما حقيقة الٲمر ٲن الشاب وزميله والفتاة جميعهم محقون بتصرفاتهم التي هي ٳنعكاس لطبيعة تفكيرهم وترجمة لنواياهم .
وفي ذات الوقت مدانين بالفهم التعسفي لكل الٳطراف والمتمثل بالٳصرار على البقاء في ابراجهم العاجية وانتظار بلوغ الآخرين منزلتهم ولو على حساب الصدمة والذهول والٲلم الذي يطالهم ثمنا لذلك المطلوب.

لقد اقتصر كاتب القصة على مهمة ٳظهار الحدث على طبيعته دون ٲن يتدخل برٲي شخصي قد يؤثر على شفافية صورة المشهد ويضيق الباب على ٲفق التوقعات.

ٳن ٳختيار الكاتب لهذا الموضوع يضيف الى عالم الشباب والذين هم في مقتبل العمر خبرة وينقل ٳليهم تجربة غنية وشاملة في الحب والعلاقة مع الجنس الآخر .

ويبقى الٲدب القصصي في خدمة الٳنسانية ليس من جانب ٳغناء العقل بالقيم والتعاطف مع الآخر وحسب.
بل من خلال رسالته الغنية بتجارب الناس ومواقفهم في خضم الٲحداث الهامة والحاسمة في حياة كل منهم على مختلف الٲجيال.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

القصة :

قصة قصيرة بقلم: منذر فالح الغزالي
منذ أن رآها عشقها... دون أن يعرفها، أو يعلم ماذا تدرس. فهو لم يجلسْ معها قطُّ، ولم يتحدّثْ إليها قطُّ؛ لكنّه حيثما كانت يكون: يجلس في مكانٍ قريب، يلتفت إليها، في الكافتيريا، في حديقة الكليّة، يتابع حركاتِها وسكناتِها، ضحكاتِها وكلامَها، ونكاتِها التي تتبادلها مع الشباب الذين يحيطون بها.
هو في السنة الثانية، في كلية الطبِّ، جادٌّ في دراسته، جادًٌ في علاقاته، يضطرب حين يتحدّث مع إحدى زميلاته، يحلم بالحبِّ دائماً، وينتظر الفتاة التي سيعشقها، فيهبُ لها قلبَه. ومنذ أنْ رآها، صارت أحلام حبِّه تبدأ وتنتهي عند رنين ضحكتها، بين شعرها المنساب على كتفيها مثل شلّال حرير، في جمالها الصارخ، ولباسها الذي ﻻ يخفي بشرتَها البيضاء؛ وبشكلٍ أكبر: أريحيتها في التّعامل مع الشباب الذين ﻻ تعدمُ وجودَهم حولها، حيثما مشَتْ أو جلستْ. واﻵن، بعد ستّةِ أشهرٍ من العشق المعذّب الصّامت، ها هو يمضي إلى موعده اﻷوّلِ معها. وأين؟ في بِيتها!!...لذلك، ليس غريبا أن أن يكون كل شيء فيه جديدا: الجاكيت، والسروال، والحذاء. حتى العطر الذي سكب منه كثيرا على جسمه، كان جديدا؛ وها هو، في طريقه إليها، يتخيل كيف سيدخل بيتها، ستقُبله، عند الباب، بثوبٍ جميلٍ، وعطرٍ عذْب، وتقوده ، عِبْرَ الممرِّ، إلى الصّالة المضاءة بأنوار خافتة، تنبعث، من مكان ما منها، موسيقا هادئة؛ ويتخيّلُ -أيضاً- كيف سيقَدِّمُ لها باقةَ الوردِ الكبيرةَ، وكيف ستضعها في مزهريّةٍ، على منضدةٍ صغيرةٍ، فرحةً بذوقه. وتوقّفتْ خطواته، وهو يفكّرُ: هل ينزعُ الجاكيتَ الثقيلَ، حالَ دخولهِ الصّالةَ، أمْ ينتظرُ قليلاً؟!...فهو عديمُ الخبرةِ في هذه التفاصيلِ الشكليّةِ. وظهرتِ البسمةُ على شفتيه، حين فكّر أنّها سترجوه بصوتها العذب: "انزع الجاكيت، رجاءً...الجوُّ دافئٌ في الصالون!". وارتجف قلبهُ من شدّة الفرح، وهي تمدُّ يديها نحو كتفيه، تساعده في نزعه، ثم تعلّقه على المشجب، وهو يشكرها -حدّ اﻻمتنان- بكلماتٍ رقيقةٍ، تعادل سعادتَه بها.
صارت خطواتُه أكثَرَ رشاقةً، وبدأ يدندن أغنيةً...توقّف فجأةً، وأخرج من جيب الجاكيت ورقةً كَتب عليها بخطٍّ كبير، ألقى عليها نظرةً سريعةً، وهزَّ رأسَه، مؤكِّداً شيئاً ما، ثمَّ أعادها إلى جيبه، وعاد يدندن أغنينه من جديد، وعادتْ خطواتُه توقّع على الرصيف إيقاعَ فرحتِه؛ وتخيّلَ أنّه سيعترفُ لها، أنّه أحبَّها منذ أن رآها أوّل مرّةٍ؛ لكنّه كان يحجم دائماً عن اﻻقتراب، والبوح بمشاعره؛ ففي كلِّ مرّةٍ يراها، يرى حولَها أولئك الشبابَ المتأنّقينَ، التافهين..."ﻻ...ﻻيجوز أنْ أصِفَهم بالتافهين -فكّرَ- إذا قلتُ ذلك، فستشعرُ باﻹهانة هي أيضاً". تابعَ طريقَه، وهو يُثني على نفسه لهذه الملاحظةِ الدقيقة، وفكّر أنْ يكتفيَ بالقول: إنّه متيّمٌ بها؛ لكنّه خجولٌ ومتردّدٌ..."أيضاً ﻻ...ﻻ تظهر تردُّدَك -زجر نفسه- الفتياتُ ﻻيحْبِبنَ التردّدَ، حين يكون الكلامُ عن الحبَّ"؛ وأصابته الحيرةُ بالكلمة اﻷنسبِ التي يجبُ أن يقولها..."رصين!. نعمْ...رصينٌ كلمةٌ جميلةٌ، وتترك انطباعاً جيّداً في مشاعرها...إذنْ: أنا متيًمٌ بك؛ لكنّي إنسانٌ رصينٌ، ﻻ أحبٌّ أنْ أفرِضَ نفسي على أحدٍ، إذا لم ألمَسْ منه اﻻهتمام". توقّفَ من جديدٍ، وفكّرَ: "لكنّها لم تبادْلْكَ أيَّ اهتمامٍ، وها أنت تزورها في بيتها!"؛ وأعاد ترتيبَ كلامِه: "إنسانٌ رصينٌ، ﻻ أحبُّ أنْ أقيّدَ حرِّيَّتَكِ. وحينَ أخبرتُ طارق، صديقَك الذي ﻻيفارقك، بأنّي أرغب في اللقاء بك، فلأنّني لمْ أعدْ قادراً على الصّبْرِ أكثر، ولم أكنْ أعرفُ أنّكِ تبادلينني الشّعورَ، لوﻻ أنَّ طارق عاد بعد نصف ساعةٍ فقطْ، ليبشّرَني بأجملِ موعدٍ في حياتي...". وعادت أحلامُ اللقاءِ تداعب خياله بنشوة, حتّى أنَّ أحدَ المارّين النفت إليه مستغرباً...ربّما كانت ضحكتهُ مسموعةً!. جفل فجأةً، وقفز متراجعاً، حين سمع صوتَ سّيارة مسرعةٍ تكبح عجلاتها، والسائقُ يشتمه من النافذة، ﻷنّه يمشي في وسَطِ الطريق؛ شعر بالخجل من نفسه، ورعشةُ الخوفِ لم تزايله، وانتبه جيّداً، وهو يقطع الطريق بحذرٍ. وعادت خياﻻتُه الهائمةُ ترسم لحظاتِ اللقاء القريبة... سيجلسُ قرْبَها على الديوان، وسيستمعانِ إلى الموسيقى بولهٍ، وستقدّم له مشروبا.ً..."هل تشربُ الخمرَ؟...وهل أشربُ معها، إذا قدّمتْ لي كأساً؟!...ﻻ. سأرفضُ؛ ولكنْ -طبعاً- بلباقةٍ ﻻ تجرحُ مشاعرَها". وبدأ خيالهُ، من جديد، يفتّش عن كلمات اﻻعتذار المناسبة. "سأشرب"، قرّرَ فجأةً، وتوقّف، لحظاتٍ، على الرصيف..."ﻻ يجوز أن يكونَ االلقاءُ اﻷوّلُ لقاءَ تعارضٍ...سأشرب كأساً واحدةً فقط"، حَسَم اﻷمرَ، وتحوّلَ خيالُه إلى لحظة تناولِه الكأسَ من يدِها، والمشروبُ اﻷحمرُ يلمع داخلَ الزجاجِ الشّّفّافِ وكيف سيقرَعُ كأسَه بكأسِها...وأكّدَ على أن يأخذَ الرشفة اﻷولى بحذرٍ؛ فهو لم يشربْ من قبْلُ، وﻻ يريد أنْ يقف أمامها في موقفٍ سيّءٍ. وبعد أن يشربا قليلاً، سيترك النبيذ والموسيقا والوردُ نشوةً كبيرةً "في قلبينا الصغيرين العاشقين"؛ وسيتناول ذراعَها البيضاءَ، ويدعوها للرقصِ... أخذَ نفَساً عميقاً، وأغمض عينيه على الصورةِ المدهشة، وهو يضمُّ خصرَها بذراعه، وصدرُها يلتصقُ بصدرِه، والكلماتُ الهامسةُ، الراعشةُ، التي سيقوﻻنِها..."حين تتلاقى أنفاسُنا، ويلتصق الخدُّ بالخدِّ، لن يبقى للكلام أيُّ معنى. ستكون زفراتُنا وأنفاسُنا ورعشاتُنا، ولهاثُ المشاعر المدنفةِ أبلغَ من أيِّ كلام". هزَّ رأسَه منتشياً، ومعجباً بتوصيفاتهِ الشاعريّةِ، وتابعتْ خطواتُه ترسمُ اللقاءَ الوشيكَ. بعد ذلك سيتهيّأ للمغادرة..."إنّه الموعدُ اﻷوّلُ، وليس من الكياسةِ أن أطيلَ المكوثَ!". وشدّد على أن يدعوَها لزيارته في شقّته، "أو أيِّ مكانٍ تختارينه"، استدرك مصحِّحاً "ربّما ترفض الدعوةَ!. يجبُ أنْ ترفضَها...فتاةٌ بجمالها، وحرصٍها، من الطبيعيِّ أن ترفضَ زيارةَ شابٍّ أعزبَ في شقّتِه، حتّى لو كنتُ أنا!!. وسأقبل اعتذارَها، سأفرحُ به؛ ﻷنّ رفضَها يؤكّد عفّتهَا، ويثبتُ صِدقَ ظنّي بها، وأنّ مشاعري لم تخدعْني، حين أحببتُها هي بالذّاتِ، دون كلِّ بنات الجامعة، رغم ما يُقالُ عنها...الناس ﻻ تفهم معنى الحرّيّة.ِ..مجتمعٌ متخلّفٌ ﻻ يرى إﻻ القشور!!". وبدأ يفكّر "بالمجتمع المتخلّفِ" الذي ﻻ يحتمل عقله أن يجمع بين حرية المرأة وشرفها...."ماذا إنْ جلستْ مع الشباب؟، وضحكتْ معهم؟. ماذا إنْ دخّنتْ في الكافتيريا، أو شربتِ البيرةَ؟، ماذا إنْ كان لباسُها قصيراً، وذراعاها عاريتين؟...هي حُرّة!!...وﻻ يجوزُ الربطُ بين اللباسِ والشرف".
وصل إلى أوّلِ الشارع المؤدّي إلى حارتِها. نقَلَ باقةَ الورد من يدٍ إلى يد، ووقف قرب سياجٍ معدنيٍّ، اتّكأتْ عليه ياسمينةٌ ممتدّةٌ. لفَت َ نظرَهُ زوجُ حمامٍ يقفان على غصنٍ قريبٍ، ذكّراه بموعده، وانتبه -لأوّل مرّةٍ-، أنّ الطقسَ جميلٌ، والشمسُ ترسلُ أشعّةً دافئةً، من بينِ غيماتٍ بيضٍ تسبح في سماءٍ زرقاءَ صافيةٍ. تنفّسَ بعمقٍ، وأخرج من جيبه ورقةً صغيرةً، تأكّد أنّه لم يخطئِ العنوانَ، وأنّ حبيبتَه الجميلةَ تنتظره بعد شارعين، أخرج الورقَةَ اﻷخرى، المكتوبَةَ بخطٍّ كبيرٍ، ألقى نظرةً أخيرةً على الملاحظات والتحذيرات التي وضعها لنفسه، تحضيراً للّقاء؛ اقترب من حاوية القمامة، يرمي الورقتين، قفزتْ قطّةٌ، وتبِعها قطٌّ مسرعاً…"حتّى القطط؟!"، ابتسم، في سِرِّه، وخطر بباله موعدُه الوشيكُ، وزميلُه طارق الذي "لوﻻ فضلهِ ما كنتُ اﻵنَ في هذه السعادة"، وخطرت بباله -ﻷوّلِ مرّةٍ أيضاً- كلماتُه، وهو يخبره بالموعد..."معك نقودٌ كافية؟". هزَّ رأسَه، مرّةً أخرى، ونظر إلى جاكيته الجديد، وسرواله وحذائه، حتّى باقةِ الوردِ الثمينة..."معك حق يا طارق، الحبّ يكلِّف كثيراً...لكنْ، أيّةُ قيمةٍ للمال أمام المشاعر؟!". دخل البناءَ: الطابقُ الرابع، الشقّة اليمنى. توقّفَ لحظاتٍ عند الباب، أخذ نَفَساً عميقاً، وأصلحَ هندامَه، وهدّأ توتُّرَه، وحرِص أنْ تكونَ الباقةُ أمام صدرِه؛ تلفّتَ نحو اﻷبواب المجاورة، وقرع الجرس.
- أهلاً وسهلاً...جئتَ في موعدك بالثانية!، فاجأه طارق الذي فتح له الباب، ودعاه للدخول:
- تنتظرُك -طمْأنه غامزاً- وأنا سأخرج، حالما تدخل أنت. كانت تجلسُ في صْدرِ الصالةِ بمبذلٍ خفيفٍ، يكشف صدرَها وجزءاً كبيراً من نهديها المكتنزين؛ وبَدلَ الموسيقا والعطرِ، كان يفوح من الشًقة رائحةُ عفونةٍ ودخانِ سجائر. ارتبَك، واحتار ماذا يفعلُ بالباقةِ التي كلّفته غالياً. وطارق الذي لم يكترثْ بهندامه، وﻻ برائحة عطره، وﻻ بالباقة الثمينة، قادَه من ذراعِه، وهي تنظرُ إليهما، سأله باهتمامٍ شديد:
- هل أحضرتَ معك النقودَ؟.
قبلَ أن يتمالكَ نفْسَه من الذهول، نظرَ إليها: كانت تضعُ أحدَ فخذيها فوق الآخر، وقد انحسَرَ عنهما الثوبُ الرقيقُ، تتابِعُ ما يدورُ، دونَ اهتمامٍ، وتنفثُ لينهي يمن سيجارتها غيمةَ دخانٍ كثيفةً. أكمل طارق، وهو يرى الصدمةَ على وجهِ زميله:
- وهل تظنُّ أنَّ الدخولَ إلى هذه اﻷماكن بالمجّان؟!!

انتهت



#رائد_مهدي (هاشتاغ)       Raed_Mahdi#          



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- (مَخرَج وحيد لمعاناة ثنائية الطرف)
- ألإنتظار الشهي
- ((الخيال .. الكفة الثانية لميزان المعنى))
- // لا منطق للحياة بتوقيت بغداد // الواقع في حيز الفنتازيا
- // لامنطق للحياة بتوقيت بغداد // الواقع في حيز الفنتازيا
- لاسبيل الى السبيل
- لاحياة لجسد بلا رأس
- الوجع مادة للإبداع
- راغدة
- ماهذا الجنون !!!!
- ((أحزان الحضارة..رؤية مرحلية بجذور تاريخية))
- ضوء
- الوثنية..تقديس الحجر لإخضاع البشر
- خَيال
- سعادة
- مسافرون
- (( الله خارج العقل والحس ))
- نورسة الحب
- الله لايفكّر
- (( رؤية في الوجهات الأساسية، للنص النثري متفرقات ))


المزيد.....




- دانيال كريغ يبهر الجمهور بفيلم -كوير-.. اختبار لحدود الحب وا ...
- الأديب المغربي ياسين كني.. مغامرة الانتقال من الدراسات العلم ...
- “عيش الاثارة والرعب في بيتك” نزل تردد قناة mbc 2 علي القمر ا ...
- وفاة الفنان المصري خالد جمال الدين بشكل مفاجئ
- ميليسا باريرا: عروض التمثيل توقفت 10 أشهر بعد دعمي لغزة
- -بانيبال- الإسبانية تسلط الضوء على الأدب الفلسطيني وكوارث غز ...
- كي لا يكون مصيرها سلة المهملات.. فنان يحوّل حبال الصيد إلى ل ...
- هل يكتب الذكاء الاصطناعي نهاية صناعة النشر؟
- -بوشكين-.. كلمة العام 2024
- ممثلة سورية تروي قصة اعتداء عليها في مطار بيروت (فيديو)


المزيد.....

- مذكرات -آل پاتشينو- عن -العرّاب- / جلال نعيم
- التجريب والتأسيس في مسرح السيد حافظ / عبد الكريم برشيد
- مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة / د. أمل درويش
- التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب ... / حسين علوان حسين
- التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا ... / نواف يونس وآخرون
- دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و ... / نادية سعدوني
- المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين / د. راندا حلمى السعيد
- سراب مختلف ألوانه / خالد علي سليفاني
- جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد ... / أمال قندوز - فاطنة بوكركب
- السيد حافظ أيقونة دراما الطفل / د. أحمد محمود أحمد سعيد


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - الادب والفن - رائد مهدي - //الٲزمة والٳنفراج في قصة (موعد)//