أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - ابراهيم محمود - - Mijabad رواية أوديسا الشاعر الكردي- المقام الشعري في رواية جان دوست















المزيد.....



- Mijabad رواية أوديسا الشاعر الكردي- المقام الشعري في رواية جان دوست


ابراهيم محمود

الحوار المتمدن-العدد: 1617 - 2006 / 7 / 20 - 11:26
المحور: الادب والفن
    


هل الكردي مأخوذ بالتاريخ، والتاريخ مأخوذ منه، حتى وهو يكتب الرواية؟ كيف تستميله الجغرافيا، جغرافيته الكردية، متغنياً بها، متمنياً لها دوام ( الصحة) الطبيعية، يعيش انزياحاً وسياحة وجدانيين فيها، باكياً على المأثور والمهدور فيها باسمه، ليجد نفسه تالياً، داخلاً فيها، مهدور القيمة، مدحور العزيمة تاريخياً؟
هل أوجدته جغرافيته شاعراً، وهكذا قدمته للتاريخ، ليكون قرباناً رمزياً لها، ورويداً رويداً، ينسى أنه المنذور لها، لتكون هي القربان الرمزي للتاريخ، دون اسمها، إلا في ذاكرة الكردي التي تستمر مأساةَ كينونتها حتى اللحظة؟
قبل فترة قصيرة جداً، قدمتُ قراءة نقدية أدبية مختصرة نسبياً، وبالكردية طبعاً، لرواية حليم يوسف( Tirsa bê diran: خوف بلا أسنان) منشورات آفيستا، ستانبول 2006، ونشرتها في موقع آفيستا الالكتروني الكردي، تحت عنوان ( الرواية والاحتضان التاريخي: القوة والفن في رواية: خوف بلا أسنان، لـ: حليم يوسف)، متتبعاً كيفية انسداد أفق التاريخ كردياً، من خلال حركية الرواية، والشخصيات التي أُوجِدت داخل التاريخ، حيث حضور الكردي بكامل جغرافيته الموَّحدة، وقد مثَّل التاريخ فيها بكامل الخوف المعروف به، لينزع عنها وحدتها، لا بل ويغيّبها داخل تاريخ من لا يريدها كردية أو باسم كردي ما.
حديثاً قرأت رواية جان دوست الموسومة، وتعني ( مدينة الضباب)،منشورات بلكي، دياربكر2004، حيث لم أستطع الحصول عليها إلا مؤخراً، وبعد رواية حليم، وكان ينبغي التوقف عند رواية جان أولاً، لقدَمها النسبي، بطريقة نقدية ما، ومحاولة القيام بقراءة نقدية، ولو من باب المقارنة، وإن بإشارة عابرة، لأن كلاً منهما رواية مكانية: رواية جان تخص التجربة الكردية في مهاباد قبل عقود زمنية ستة، ورواية حلم تخص حدثاً كردياً مأسوياً وملهماً في آن، وأعني بذلك ما جرى تحديداً في قامشلو قبل سنتين 2004، سنة صدور رواية الآخر، الأولى في مشرق كردي، والثانية في مغربه .
ورغم أن حليم يوسف لم يكتب الشعر، كما أعلم فهو قاص أولاً وروائي ثانياً، فإن البنية السردية لروايته الأولى قبل سنوات عدة( سوبارتو)، لم تخل من تجليات شعرية، مثلما أن ( خوف بلا أسنان)، وبدءاً من العنوان اللافت بناء وتشبيهاً بلاغياً، لاذت بالشعر كثيراً، وهي تقارب الشعر في تجسيد حالة الخوف كردياً في التاريخ، لا بل يمكن الزعم أن صاحب الرواية، رغم كل النثر الذي يُعرَف به، يحتضن داخله شاعراً ملحوظاً، وهو يرسم الفضاء الحسي والنفسي والعقلي أيضاً لرموزه البشرية، حتى نهاية الرواية التي تختتم بالخوف ، مثلما بدأت بها.
جان هو هكذا، لكنه مختلف في نقاط عديدة ولافتة، فهو غير بعيد عن الشعر وكتابته، وحتى في اهتماماته( كما في ترجمته لـ( ممو زين) أحمد خاني ، إلى العربية، ولأنه في روايته هذه، ينازع ذاته الأدبية الرواية، لبثّ لواعج نفسية باسم الحامل الإنسي الكردي الرئيس للحراك الروائي في Mijabad، وهوBadînê Amêdî: لسان حال الرواية التي تقع في 234 صفحة، من الحجم الوسط، ولتبرز الرواية، وكأنها رواية شاعر، شاعر كردي، عاش حدثاً كردياً مفصلياً، لازالت تداعياته إلى اليوم تمارس تأثيراً قي الكردي عموماً، والمعني به: السياسي والمثقف والأديب خصوصاً، ومنذ ستة عقود، أي فيما يخص تجربة مهاباد في كردستان الشرقية، ولهذا سميتها مدازاً( أوديسا الشاعر الكردي)، قرينة ما حدث في زمن غابر طروادي العلامة، ومن جهة هوميروس اليوناني ملحمياً.
ليس من أمل مباشر، تنتهي به الرواية، فهذه رواية إحباطات، على الصعد كافة، لا يبقى في الواجهة سوى المخذولين وربما المهزومين، كما هي العادة المرئية في التاريخ الكردي حتى اللحظة، وهذه النقطة تستحق التعليق، مثلما هي إشراقات، إنما في التصوير الشعري، وفي المهاد الذي يجلوه الشعر في الرواية، في مجمل مساحتها الروائية،إنما يبقى على القارىء الحصيف أن يقارب الرواية من حيث تنتهي، وتستمر من وراء كلماتها، من خلال الرموز، مما يمكن أن تعنيه في الظل، مثلما هو الكردي معنيٌّ في أن يقرأ الكردي، ليس فيما هو مرئي ومتحدث، وإنما فيما يحمله ويختزنه ويخفيه الكردي داخله، أو خلفه، كأنه المجاز وليس الحقيقة، المتخيَّل وليس الواقع المتداول، رغم صعوبة التفريق بينهما، الشعر بحضور النثر وتقاطعاتهما الدلالية: الكائن الأدبي القليل الاعتماد في رصيده الرمزي في التاريخ الكردي ثقافةً، وما يتطلبه ذلك من مهارة ومرونة في استقصاء ما وراء مقول قول هذا أو ذاك، وبادين الشاعر تحديداً، مثلما أثرت أسئلة بهذا الصدد في نهاية مقالي عن ( خوف بلا أسنان)، وما يمكن أن يلي الشعور بالإحباط ، بانسداد أفق التاريخ، ضداً على الجغرافية الكردية الممزَّقة.
سأتوقف مطولاً نسبياً، عند رواية جان، وسأسعى جاهداً إلى معاينة الامتداد الشعري في الرواية، حتى خارج رؤية الشاعر بادين، رغم صعوبة التتبع، كما سنرى، مشدداً على التفجع الشعري ولوعته، وحتى مدى انجراف جان بالذات في تياره الشعوري ، بمعنىً ما، وهو يتتبع مصير شاعره المتحرك في فضاء الورق، ومغزى التداخل هذا، أي يرسم مصيره هو بصورة ما.
ثمة أهمية مركَّبة في المتابعة: المكاشفة النقدية: أهمية الرواية من جهة المضمون والتاريخ المتجذر فيها،وكيف يتكرر أو يتحرك بأطيافه، وأهميتها من ناحية اللغة المعتمدة ودلالتها كردياً، حيث يجري تقديمها باللغة العربية ، بأكثر من معنى.

بداية افتراضية أولى :
يمكنني القول، أن الروائي لم يشخص روايته في مخيلته اعتباطاً، عندما راهن على الشاعر، ليكون رمزه، حمولته الأدبية، الناطق باسمه، مورّداً فيه ما هو تاريخي: وثائقي، حدثي قابل للمراجعة والمساءلة حوله، وما هو أدبي: إبداعي، يكون الشاعر المفضل هنا، لأن الحدث يستجيب للشاعر واستلهاماته وحتى هوامياته، مثلما يقرّب التاريخ الكردي ذاته، من عتبة الرؤية التاريخية للمعاش الكردي بأل تعريف شاعر، أي أن يُقرَأ التاريخ، تاريخ أكثر المراحل كثافة وحساسية وخطورة، اعتماداً على فلاش باكات، ويوميات ورسائل وحتى شطحات شعرية، استجابة لواقع، قد يكون أكثر فاعلية في استكناه ما يكونه، وما يكون عليه الكردي، على صعيد القول الشعري، وعندما يكون الشعر أكثر من مجرد تيمة أدبية، إنما وظيفية كذلك. ليس بادين آمدي Badînê Amedê، في نصفه الكردي من جهة الأب، وهوالمعروف مكانياً أونسي آمدي ûnisê Amedê، الذي ذهب قتيل وطن، دون يهنأ برؤية ابنه، ونصفه الآخر الأرمني من جهة الأم هاميست انترانيك، ليموت الواحد إثر الآخر، الأم إثر الأب، والجد بعد أن يشب الحفيد عن الطوق بمدة، كما هي المأساة الإغريقية، من أحبَّهما جاليه Jalê وموجديه Mujdê، ويبقى الابن المجسد لكردية لا يخفيها، ولأرمنية في دمه لا يتنكر لها، حصيلة تعايش جغرافية، مقتفياً أثر الأب كتاريخ، ومهتدياً بذكرى الأم كومضة شعرية، كلقاء تاريخ بالشعر، وكيف تبدو الجغرافيا سائحة بين غموض التاريخ وفاجعة الشعر، وبرواية الشاعر بالذات، أي إنه يخسر كل شيء على الأرض: المكان والبشر الذين ارتبط بهم، لينسحب من التاريخ بصمت، منتظراً دورة فلكية كردية المطلع، جديدة ، أو ربما يحقّق نبوءة أو تكهنات طالعة الفأل في نفسه Pîra Tansêr، وهي تتبعه بالبقية ( هو بدوره في إثرهم، في ليلة اكتمال القمر، سيودع الدنيا. ص 10)، ليكون هذا القول وبادين مازال رضيعاً، كما هو أوديب مختلفاً هنا في المسلك وحده، بمثابة ضرب من ضروب التهكم التاريخية والعصف به، وكذلك مفارقات الأحداث تلك التي تترى كردياً.
على لسان شاعر ينبري تاريخ روائي، أو، إن شئت، رواية تاريخ، بسردية شعرية، لا يخفي الروائي لعبته، رغم وجود كم كبير من الصور والمشاهد التي قد تربك القارىء، وهو يتوقف عند الوثائق المتعلقة بمهاباد ومحيطها، والأسماء التي تخص كثيرين من دول الجوار وخلافهم: انكليزاً، روساً، فرنسيين، والأمكنة : كردية وغيرها، وذلك التعالق بين الشخصيات، لأن مضمون الرواية يتطلب ذلك، حيث يبقى بادين وحيداً مطعوناً في ذاكرته: من جهة الذين تأمَّل فيهم خيراً، وفي قلبه من جهة الذين أحبهم من الجنسين .
أستحضر هنا، أو يحضرني هنا كتاب إدوارد سعيد الأثير( الثقافة والإمبريالية)، وهو يقيم تعالقات ووشائج قربى مروّعة بين الرواية لسان حال البرجوازي الصاعد في التاريخ، والإمبريالي المسلط عليه، والإمبريالية وجذاذاتها للشعوب وكيفية تشذيبها على طريقتها، ولكن من منظور مختلف هنا أيضاً، حيث الرواية، تكون الرد على التاريخ المفروض امبريالياً، مثلما المسيطر إقليمياً، بتفعيل ذاكرة مكانية رحالة، تميط اللثام باستمرارعن الخفي على الكردي.
لا بأس أن يحمل الشاعر المبتدَع اسم المكان: بادين، بهدينان، ليكون المكان الاسمَ المحرّك للرواية: بؤرة توترها، صيرورة مرحلة تاريخية، وسيرورة حياة شعوب وأمم وأفراد ونوازع قيم متضاربة وثقافات، ومهادات تصورات مختلفة، أن تكون مهاباد، بهاباداً: المدينة الغالية، لتستحيل خلافها: مزاباداً، أوMijabad: مدينة الضباب، الاسم الشعري نظير رواية الشاعر، ولكنه اللقب المخلص لتاريخه الحدثي، حصيلة مصير كارثي، وهو أيضاً الاسم الذي تشكل في نهاية الحدث، حيث إن الروائي يلتقي بالشاعر: نموذجه بعد تخفيه، صعوده الجبل صاعداً بشخصه، وتاريخه المدَّخر داخله، جغرافيته الممزقة، سراب ما كان يقال لـه، بؤس الذين وعدوه بالكثير، فحنثوا بوعدهم، مهاباد النموذج، وقد صيرت مزاباداً في النهاية، ربما لتكون بداية أخرى، وهو على الجبل: الاسم، الرمز التليد، مستشرفاً محيطه، آوياً إلى نفسه وذاته وذاكرته، لتكون مهاباد أخرى مجدداً. يكون العنوان مدروساً بدقة، والذي من وظائفه، بحسب تعبير جينيت ( وظيفة الإغراء، التي لا يمكن التخلص منها، ذلك أن للعنوان جاذبية..)، نظر" شعيب حليفي":( استراتيجية العنوان) ، مجلة ( الكرمل) الفلسطينية، العدد46، 1992، ص99.
يبدأ السرد بضمير متكلم مفرد، تأكيداً على ارتباط الشاعر بأناه، وخصوصاً حين يكون مطعوناً، وهو في الأصل يعتبر نفسه مطعوناً بالعالم، بمن حوله، وما عليه إلا أن ينثال مشاهد مفارقاتية من هذا العالم( Ez,: أنا، ص 9)، ضمير الأنا بالكردية خلاف العربية، خلاف الفرنسية Je، أو الانكليزية I، ثمة توقيف ووقف، بدء بالصائت، وانتهاء مباشر بالصامت، ليكون ذلك مجالاً للتفكير وانتظار ما يمكن أن يقال لاحقاً، ومن هنا جاءت الفاصلة، تمهيداً لما يمكن أن يكون مؤثراً( في غرفة عارية ولدت لأمي. ص 9)، وكان يمكن الاستغناء عن الضمير، ولكن البدء به، إحالة القارىء إلى ما يكونه القائل: السارد، إلى ما وراء الحركة الأولى في الحرف المائل نديم الحرف الأبجدي الأول في الألفباء الكردية هنا E، إلى صدمة الحركة المحبوسة والمصدومة بتاليها، ما هو معزَّز عند الشاعر، وهو يحيل العالم إليه، يحوزه في متخيَّله الشعري، ما يعانيه ويعاينه، حيث إن الفارق بين الحالتين، هو أن في شطب الضمير، تكون البداية عادية، وقد لا تلفت النظر، بينما في الحالة المذكورة، تكون الجملة كاملة معزَّزة بالضمير، إذ لحظة التفوه به، يكون التفات نظر، وانتظار ما يكونه هذا الـ( أز: أنا)!
تنفتح الغرفة العارية على العالم( الرحم المماثل على الأرض)، تستحيل مكاناً واسعاً ومؤلماً في آن، لاحقاً، ولكي يؤكد الشعر دوره في تمثيل الواقعة المكانية، يرتبط الضباب بالجبل( ضباب، والضباب حلم الجبل)، وفيما بعد تكون مهاباد، ولكن أيَّاً منها؟
( مهاباد بدورها مثل فتاة عارية( التشديد على مفردة عارية من عندي لأهميتها)، وهي تعرض جسمها لشلال، وسط الضباب تكون، يقولون إن مهاباد هي مدينة الضباب، MIJABAD، ليست فقط ضباب الطبيعة. إن المصابيح المعلقة برؤوس أعمدة كل شارع، تمطر نوراً نصف مجندل على هذا الضباب. ص 19).
هنا، وقبل اتمام الفكرة الجزئية فيما ومما تقدم، بتلبس مهاباد أكثر من معنى، إنها لا تعود ظاهرة في هيئة مدينة، إنما مدينة تبخرت في حضرة التاريخ الذي لم يعد بدوره لها، مأخوذاً بها، كما هو الضباب الذي تتنفسه الطبيعة، وفي الوقت ذاته، يغطي الطبيعة، ويمنع من رؤية الطبيعة، هكذا يمنع ضباب التاريخ ما كان مرئياً قبل ذلك، إن ( باد Bad)، تعني مدينة، كما هيِِِ Amudabad( مدينة عامودا)، أو ( عامودا) كمدينة، وفي الحالة هذه، لا يعود التواصل ممكناً بين العين والعالم الخارجي، لا تعود الرؤية ممكنة، لأن الضباب الذي يكون الخليط الهلامي للطبيعة، فلا هو بمطر، ليتم التمكن من الرؤية، وكذلك الاستفادة من مائه: شراباً وسقاية للأرض وغيرها، ولا هو بمسهّل للتحرك، ولزمن قد يطول. وعلى صعيد التاريخ، تنزاح الجغرافيا جانباً، تتبلبل، مثلما تصعب رؤية التاريخ بالذات، كما هي مهاباد التي تستحيل مزاباد، المدينة الأرض: لتكون المدينة الهلامية: الهيولى التي أُفقدَت روحها التاريخية التي تعرّف بها بين مثيلاتها من المدن الأخرى، المدينة العائق للتحرك، ولأمد غير معروف، ويكون الاسم الجميل الجليل: الاسم المخيف من جهة الدلالة، حيث عري المكان: الغرفة، يصبح عري المدينة المغلفة بالضباب، لتكون النهاية مختومة بالضباب، إلى إشعار آخر، ولأن المدوَّن يتعلق بالمكان والراوي معاً، وكون المدوَّن يتبدى في إهاب الرؤية الشعرية للمكان ولبادين معاً، أجدني مندفعاً لإيراد المقطع الطويل نسبياً، وبالتشديد على المقطع، تأكيداً لخطورته، إذ يتداخل مع الذي تم التوقف عنده:
( القمر في ليلة اكتماله، وقد أضاء ما حوله، يمَّم شطر جبل خزاييه Xezayê، وصعد عالياً، وكلما كان يصعد أكثر، كانت مهاباد تصغر أكثر، ووسط الضباب كانت تصبح مثل حبَّـ:اته المسوسحة، بنظرة حرَّى كان ينظر في الأسفل، من مجريات الأحداث وحدها كان صوت انكسار قلبه يتناهى إلى أذنيه، وعندما بلغ قمة الجبل، لم تعد المدينة مرئية، هو بدوره لم يعد مرئياً من المدينة.
في بيته، بعد أسبوع من صعوده إلى قمة جبل خزاييه، انسلتت ورقة من على الطاولة التي كان يكتب عليها، طي هواء عليل خرجت إلى شوارع مهاباد، فقط كان هناك سطران مكتوبان فيها، أبصرهما تلميذه، وأدرك أنها كتابة معلمه. عندما نظر فيها، قرأ بصوت خفيض ومتقطع:
" الحياة...جرس...ذو صوت عال ٍ،... لكنه...لا يُسمَع،...وحده ... مَن حياته....تكون مختتمة... يسمعه... أنا كذلك... أصم....صرتُ... لم أعد...أس...مـ...ع...أي...صوت.)، وفي أسفل المكتوب، يأتي الاسم والتاريخ مفصَّلاًً( بادين آمد، مهاباد، 17ك21946).
ماذا يقرر الشعر هنا كما يمكن الضلوع في تتبع صداه الدلالي، وكيف يتبدى التاريخ ضمناً؟
في ( الكاتب وكوابيسه" قضايا الرواية المعاصرة"- الترجمة العربية، الأردن، عمان،1999، ص 54)، يتحدث الروائي الأرجنتيني، عن العلاقة بين الكاتب والطبيعة بألوانها وأصواتها، وكيف أن كلاً منا يمارس حضوره المختلف هكذا ( وتكون رؤيانا للعالم ذاتية بأسلوب جوهري لا مناص منه ( إذ ليس ثمة سبب لتجنب هذا الشيء)، وكل واحد منا يخلق الألوان والموسيقى البسيطة والمتفننة، المعقدة وغير المعقدة. وفق حساسيته ومخيلته وموهبته)، وهذا ينطبق على أي كان من الكتاب، إذ لا كاتب يعيش بمعزل عن الطبيعة وتجلياتها الفنية أو الانطباعات التي تترى فنياً، ومن خلال ما يأمله ويتأمله من الطبيعة، وكذلك يتمثله فيها. ولعل جان سعى إلى الدفع بشاعره إلى أقصى مدى مجد ٍ لـه، وهو يضع كل من الانسان: انسانه المجبول بدمه ونفَسَه الأدبيين، وحراكه التخييلي، والطبيعة في مواجهة بعضهما بعضاً، ليحسن التدبير الفني: في الاستعارة، وتركيب ما يشاء من الصور، لتكون المدينة بكل ارهاصات الطبيعية وتلويناتها لسان حال رؤية مزجية للمشترك الجمعي بينهما.
وسواء تحدثنا عن القمر في ليله المذكور: الليلة الرابعة عشرة، ليكون ثمة مجال للنظر، وتلمُّس الضباب، وكيفية انتشاره، والبعد النفسي للمتحرك من مكان لآخر، وماذا يعني فعل الانتقال، أو الارتحال التصاعدي، والغياب دون تحديد، ومحاولة التطهر من الرؤية المادية للجسم والعالم الخارجي، والانغمار بما هو روحي، والانقطاع الحاصل بين المرء هذا والعالم المادي، والمدينة الموسومة ضمناً، لأنها لم تعد تلك التي أمضى الكثير مما هو مقدَّر من أجلها، وكثافة الرمز فيها، وأخيراً بقاء الأثر الدال عليه، من جهة شاهد، هو تلميذه، ليكون الوسيط بينه وبين الآخر: الخارج، والقارىء ضمناً، والتقرير النهائي عنه، حيث تبلبلت الأمور، مفصحاً عن الذي حدث ما كان يجب أن يحصل، يكون مكتفياً بما قرره، ألا وهو اللوذ بماض، بالجبل، استعداداً لعودة ما غير معلومة، في هيئة كاوا لاحقاً، ربما القارىء، وربما التاريخ بمفاجآته، والطبيعة في هيئتها مداميك تتفاعل معاً، تكون لوحة مقروءة استدلالاً، لتبقى مهاباد في الذاكرة، ويبقى نفسه مجالاً للاستقصاء، ويبقى الشعر استثارة أكثر استدراراً للمشاعر والتساؤلات.

قناطر شعرية :
أجهد الروائي نفسه كثيراً في كتابة روايته، حيث أشير هنا إلى طريقة كتابته للرواية، مازجاً بين السرد من خلاله كراو ٍ، شخصية مسموعة في ثنايا الرواية، وفي أمكنة متفرقة، وكما تقول النهاية( بدءاً من صفحة 230)، حين يتحدث عن بادين ومآل مصيره، وما يمثّله هذا الصوت السارد من قيمة دلالية بالنسبة للبنية التحتية، إن جاز الوصف لعموم الرواية، والسرد كثيراً في الغالب من خلال بادين، باسلوب الرسائل، والذي هو ذاته يكون وسيطاً سردياً بين شخصيات أخرى( مثلاً رسائل كل من جاليه وموجديه، ومدى دقتها، فهو وحده يتحمل مسؤولية التدقيق فيها، لأنه هو الذي ينقلها، والقارىء الذي تكون مهمته صعبة في تتبع الخط المتعرج والمتشعب لعمله الأدبي، إذ ليس هناك من حراك تاريخي تصاعدي، أي ما يسمى بـ( تاريخانية الفكرة المتخيَّلة والمتصورة : من- إلى)، فثمة توقفات، وثمة تقدمات، وثمة تقهقرات، من جهة اختلاط أو تداخل التواريخ، من خلال يوميات موسومة وخلافها، وحتى حقيقة هذه التسميات والتوثيقات الخاصة بالزمان والمكان:
أمكنة ترتبط بالسنة وحدها.
أمكنة ترتبط بالشهر بأشكال مختلفة، مع السنة.
أمكنة تُردَف بالشهر واليوم والسنة.
عدم ذكر أمكنة، إنما يتحدد الزمان.
( مثلاً آمدي1939، ص 30- نهاية خريف1939، ص 33- السليمانية نهاية 1943، ص 100- 20أيار1946، ص 125- مهاباد 25 آب، 1946، ص 185-...الخ).
هذا الجهد يتطلب جهداً قرائياً بالمقابل، لأن القراءة لا تتم انطلاقاً من نقطة إلى أخرى، بقدر ما تكون بؤرية متناثرة وغيرجهوية محددة أو ثابتة، من جهة التواريخ، رغم أن سنة 1946، هي السنة الأكثر حضوراً في الرواية، من خلال الأمكنة والشهور والأيام، لأنها السنة المهابادية الحاسمة، أو بدقة أكثر السنة الكردية المهابادية الآلمة والصادمة معاً، لكن هناك ( 1930-1939-1943...الخ)، لأن حركية الأحداث، وطبيعة الاعتماد على الذاكرة، والأوراق الموثَّقة أوالمدوَّنة، ومن خلال تعددية الأمكنة ( مهاباد- بايزيد- آمدي- السليمانية- شينو..الخ)، تبقي القارىء رحالة الجهات والمتتاليات الجهوية، بغية استشراف التاريخ من عل ٍ، إنما في واعيته الأدبية والتاريخية والنقدية معاً، وكيفية الفصل والوصل بين ما هو زمكاني حقيقة ومجازاً !
أي إن الجهد المطلوب يكون متعدد المستويات والمحسوبيات لصالح المقروء الروائي:
الجهد الخاص بتلمس خيوط التاريخ، والتحقق منها، لأنها تشي بما هو حدثي على أرض الواقع، ولا يكفي الأخذ بما يتردد روائياً، بالنسبة لمن يريد مكاشفة خطة عمل الروائي في مختبر التاريخ.
الجهد الخاص بالتمييز بين الأشخاص وما يمثلونه على أرض الواقع، وما يجسدونه أدبياً.
الجهد الخاص بالتأويل، وخصوصاً لأن الرواية تغامر بما هو شعري، مطوّعة إياه في خدمة البناء الروائي، دون أن تلتزم بما يسمى بـ( شروط الكتابة الشعرية المعهودة: ترتيب الأبيات، الوزن مثلاً)، إنما تكون الصورة وحركية الإيقاع، هما اللتان تسمان المناخ الروائي بالطيف الكثيف لشخصية محورية تقول الشعر، ولا تتوانى عن تقديم مشاهد حية أو مؤثرة عما يجري بطريقة شعرية، مثلما لا تستغني عن النثر.
يخلص الشاعر بادين كثيراً للشاعر بين جنبيه، ولا يبخل في إفساح المجال كثيراً أمام شاعره، أي هو بالذات، ليرسم ما يجري ، أو ما يعتمل داخله من انفعالات وسواها بأُهبة الشعر، والمورد القيمي لهذا الإجراء، ويظهر الراوي الأخر، القريب من شاعره، متوارياً وراء كلماته، أو ساردأ أحداثاً تعنيه أو تعني مجمل الرواية.
تتوزع الرواية على فصول أربعة، تسمى بالقناديل الأربعة، حيث يشير الروائي نفسه، منذ البداية إلى ذلك ( هذه الرواية تُقرَأ في ضوء قناديل أربعة. ص 6)، وربما كانت القناديل هذه على صلة بالفصول( وهي كذلك)، وبالساحة المشهورة والمثيرة لذكريات مضطربة، ساحة القناديل الأربعة في مهاباد( انظر بداية، ص 11)، وهي بدورها تذكرنا بفصول السنة الأربعة، وبالمراحل العمرية الأربع للانسان، وبالجهات الأربع...الخ، ولا تكون الفصول متساوية من جهة التوزيع، إذ يكون الأول الأكثر، والثالث الأقل بغدد صفحاته، ولا أظن أن ذلك له صلة بما هو محسوب في ذهن الروائي، وإنما بالحيّز الفني الذي تحرك فيه.
طلعة الشعر الأولى تبرز منذ البداية، في فعل الإهداء، وبطريقة لافتة ( إلى جانا) ومن ( من أبكى المستقبل في عينيك!!)، حيث تكون علامة التعجب وليس الاستفهام مثيرة للتعجب، لأن الإهداء يبدو استفهامياً، وصير تعجبياً، وهو تحوير في وظيفة اللغة المركبة، لعب على المقصود، كما لو أنه يتعجب ولا يستفهم، والإهداء لا ينفصل عن مجمل البنيان الروائي، لا يبتعد عن خطة عمل الكاتب، عن بادين وما هو مرهون به رمزياً.
في صفحة التنبيه إلى ضرورة القراءة في ضوء القناديل الأربعة، كما ذكرنا، ما الذي دار في خلده لينوّه إلى ذلك تنبيهاً؟ هل كان يفكر في ما ورائية القنديل؟ أليربك القارىء، أم ليهديه، ولكن إلى ماذا؟ أهو خط أريان الذي يبقي القارىء في حالة يقظة، وهو داخل في زواريب التاريخ، وحتى متاهات الأحداث، وتضاريس الجغرافيا الرهيبة، كما هي الجو الملحمي لأوديسا هوميروس، لطروادة المنكوبة ؟ هل ثمة إحياء ليوليسيس الإغريقي، وقد تكرَّد واستحال مأسوياً مقهوراً من قبل خصومه، وحتى المقربين منه؟ أهل الروائي على ( علم) بفاعلية القنديل وشعلته؟ كما يذهب غاستون باشلار ( في الماضي، في ماضٍ نسيته الأحلام ذاتها، كانت شعلة قنديل تجعل الحكماء يغتكرون، وكانت تمد الفيلسوف المتوحد بألف حلم وسانحة...)- انظر حول ذلك كتابه ( شعلة قنديل، الترجمة العربية، بيروت،1995، ص 25).
بقدر ما كان الروائي مندمجاً بروايته، بأحداثها ووقائعها وتواريخها الفعلية والمجازية والمولَّفة لصالح المعمول به، وشخصياته وكيفية تدبيرها وتسيير شؤونها، ومأخوذاً بفكرته، ببوصلة مخيَّلته، هكذا أجدني ملتزماً بما أتلمسه في العمل الذي أقف إزاءه، إزاء ما يتفوه به لصالح الرواية، أو ما يسرده وساطةً، وما جرى التنويه إليه، فأشير إلى ما للقنديل من طقوسية بارجية، من استطلاع للقوى الخبيئة، من نفاذ للاشعور، ومدى التداخل بين الحلم والواقع، التاريخ والتأريخ لـه، خصوصاً وأن الروائي يقدم لنا عملاً داخل التاريخ وأطيح به من قبله، كما لو أن حلماً تحقق، كما لو أن حلماً أُجهض، كما لو أن مكان تبدى ومن ثم كان انخسافه تاريخياً، ليكون التأمل وفعل التفكير في الحلم، في كابوس التاريخ الذي يحثنا على ضرورة النظر في ما جرى، ولو في الرواية، هذه التي تتقدم لتكون نقلة نوعية في الكتابة بالكردية، مهما كان الموقف منها، من جهة خطورة تفعيل التاريخ روائياً، وليس أي تاريخ، إنما ما كان ذات يوم مشهوداً لـه في ضوء القناديل الأربعة، مثلما شهدت هذه كيفية التمثيل به مكانياً كردياً.
لا يمكن أن نقرأ هنا، إلا في ضوء القنديل، والقنديل ذو خاصية ليلية، نعم، القنديل كائن يتنفس، إن أمكنَّاه ذلك ليلاً، إنه ينير ما حوله، وهو يظل معتماً من الداخل، ولا يحضر القنديل إلا لأن ثمة ما يمكن القيام به: نشعله لنضيء ما حولنا، لنستشعر أماناً ونحن نيام، نبقيه مشتعلاًاً لنحسن تفحص المكان، أو نتمعن في واقعة ما، نقرأ أو نمارس هوايات أخرى، ألم يصبح القنديل في الحالة هذه واجب وجود الكردي فيما هو مشغول به؟
ينفتح القنديل الأول على التذكير بالموت باعتباره جرساً، وكيفية التمكن منه، بينما القنديل الرابع، وكما رأينا سالفاً، تُختتَم الرواية بالحياة بصفتها جرساً كذلك، مع تغيير التوصيف، حيث البطل، إن جاز التعبير غير قادر على السماع، ربما لأنه منذ البداية قرر ما يمكن أن يكون عليه مصيره، قبل ذلك بسنتين، وهو يستهل القنديل الأول بالآتي ( الموت جرس غير مسموع، وحده من يدنو أجله ، يسمعه، ومنذ أن صرت ضيفاً على مهاباد، لم يغادر الوزيز أذني، أنا بدوري أمارس الكتابة ، حتى أكون للموت بالمرصاد. لأن الكتابة وحدها تقهر الموت. ص 7)، و(الاستهلال أول الكلام)، كما ذكر أرسطو ذلك قديماً في كتابه ( الخطابة)، ولعله بطريقته في تقديم نفسه، أراد الدخول إلى التاريخ، جعل التاريخ تاريخاً مقروءاً في كتاب، طالما أن فرصة التحرك فيه بملء الحرية، في جغرافيا كردية، غير ممكن، وكأن ما تركه وراءه، وهو يغادر المدينة التي أحبها وتمسَّك بها، ترك فيها وديعته، ترك بادين التاريخ، ما يعنيه الكردي تاريخياً ويفجعه كذلك.
إنها قراءة أولية في ضوء قنديل، مثلما هي مقاربة أولى لحدث زمكاني، مهابادي المعلَم، حيث يكون هو الناطق، دون نسيان ما يكونه الروائي، حيث يقدم روايته هكذا ، أستحضر هنا مقولة روجر هينكل ( إننا عادة نربط ما بين صوت الراوي والمؤلف نفسه، ذلك لأن هذا الصوت ليس أحد شخصيات الرواية. إنه يحكي لنا الأشياء التي لا تعرفها أية شخصية من شخصياتها..)، انظر كتابه ( قراءة الرواية" مدخل إلى تقنيات التفسير"، الترجمة العربية ، مصر 1995، ص 191).
هذا ما يمكن التأكد منه، من خلال صيرورة العمل، وسيرورة الأفعال في الرواية، وكيف أن الروائي يستعين بشخصيات لها خطورتها، بمقداراخطورة كتابة الرواية التاريخية، كون هذه ليست نتاج متخيَّل الكاتب وحده، كما في اللجوء إلى الراوي الذي يستحضره مباشرة، وذاك الذي يتحرك باسم بادين وغيرهما .
حضور الروائي، أو الراوي الذي يكون صوتاً فاعلاً للروائي في الرواية، يسند الراوي التاريخي والموسوم ببادين الشاعر والثنائي الانتماء: أرمني وكردي، موسوم ومعلوم أو موشوم بالجغرافيا، مثلما هو مخطوف بالتاريخ، مثلما هو متأرجِح بينهما، لا تحمله أرض لأنها تميد تحته، ولا يستوعبه تاريخ لأنه معرَّف به طارئاً عليه بدوره، فيكون اللوذ بالشعر، وعبر كتابات يوميات، واستعراض يومياته هذه، وإراءة رسائل آخرين دفعاً للكتابة بكتابة أخرى، أو رداً بالكتابة على الصعب الرد عليه بفعل جسدي لأنه يتجاوزه قوة ونفاذ سلطة.
اليوميات، إن صحت العبارة هنا، محاولة لكسر رتابة الزمن، لتفعيل الخطاب الروائي، ومداهمة الرتابة المكانية كذلك بحيوية العبارة التي تزخم بالاستعارات، لسان حال استحالة القدرة على التحرك داخل فصول متتابعة، والدخول في حواراـ أو الاستناد إلى سرد روائي من جهة شخصية حاضرة باستمرار، وإرادة قدرة داخل مسافات مقتطعة، وأزمنة مجتزأة، تبدو كولاجية أحياناً، تناسباً مع الحدث المهيب، لأن ذلك يسهل على الروائي إنجاز مهمته الكتابة في السرد والوصف الزمكاني المتداخل معه، حتى لو توقف أحياناً، ورجع بعد حين آخر، فلا يجد صعوبة في المتابعة، وإضافة يومية أو وثيقة أخرى، أو اسم مكان، وتفعيل بؤرة توتر جانبية مدعومة باليوم والشهر والسنة، لتكون الرواية أكبر مما هي عليه الآن أو دونها.
يكون الشطح الشعري ترجمان مكان منزوع الأمان، طالما أن الرواية قلقة، حتى وإن بدا المناخ الروائي في مشاهد منه ضاجاً بمشاعر إيجابية، لأن المهم هو ما وراء السرد المسطور.

قنطرة اولى
في مهاباد 10 شباط 1946:
( عيناي نصبتا مائة فخ لطيور النوم، لكن كلما اقترب طائر من فخ، تنفجر ذكرى، تطيّره. اليوم ذهبت أشتري بضع أوراق، اشتقت إلى الكتابة، وتحاشياً للكذب، اشتقت إلى حبي، ذلك الحب الذي لا يمكن للقلب مجافاته. ص 10)، ولاحقاً ( مضى منتصف الليل ترددت كوكأة ديكة ثلاثة من ميدان القناديل الأربعة، تُرى ماذا خطر في بالها في هذا الليل البارد؟ دالية العنب التي تشبه حلماً عارياً في وسط الفِناء ترتد يُسرةً ويمنة في إثر قبلات الهواء الطائش . ص 11).
يكون حديث عن مشروع حب، وزواج بين والد بادين وأمة هاميست تلك التي رباها كردي آخر، وحديث عما يتردد باسم الاسلام، حيث يتم قمع الكثيرين: الكرد ضمناً، وكما يقول أرمني لكردي عن العثمانيين هنا، حديث عن خديعة تاريخ، وفي الآن عينه تشبث بالحياة وبحث عنها، اعتماداً على الحب الذي يخفف من وزر ضغوط الحياة بأبعادها السياسية والاجتماعية والتاريخية، وبادين حين يكتب فإنما لسواه، ولنفسه، أو بالعكس ( الحب عندما يأتي، لا يسأل تُرى ضيف أي قلب يكون، مطراً ينهمر على أي أرض كانت ، جسر من دموع وآمال موصول ما بين قلبين، الحب نار تندلع في قش القلوب. ص 13).
يحاول لجم الحياة، ترقيتها، الاهتداء إلى المخرج الذي يعطي للحياة تلك، معنىً، وقيمة للتعايش عبر الحب. بادين بصفته شاعراً، يوحد ما بين الدموع والآمال، عبر الجسر المذكور، استعارة للمكان ومجازاً، لكنه يتوغل أبعد من حدود المتخيَّل القادر على ضبط الصورة وتجذيرها جملياً، حين يحيل القلب إلى مستودع للقش، وليقلل من القيمة المكانية للقلب، حيث اللغة الأدبية: الروائية المقروءة تبقي مفردة ( القش) خارج دائرتها، باعتبارها أقل جدارة من تكون متداولة في الحيّز المذكور، إذ كان يمكن الاكتفاء بالقلب وحده، كما هو مألوف، أو اللجوء إلى مفردة أخرى، أنا بغنى عن الوصائية في ضرب أمثلة حول ذلك، كون جان يدرك هذا الجانب، ومن خلال توافر المعجم الشعري عنده، أو الحقل الدلالي لمفهوم الحب وارتباطه بالقلب وسياقاته الإيمائية والإيحائية.
يتحدث بادين عن الحب، وهو صاعد به إلى مرتبة جلية للنظر، لهذا لا يليق بالمكان العالي إلا ما هو أهل لـه، وأظن الروائي مدرك لخاصية السياق ومتطلبات المناخ الجاري تصويره ، وما هو مستهدَف تالياً.

قنطرة ثانية:
بين الانجذاب الشعري، والاشتهاء الوصفي، يسعى الروائي عبر بادينـ:ه، إلى إيجاد نوع من التوازن بين الرؤية السردية للتاريخ، والرؤيا الاستشرافية للمكان، كما تتطلب لغة الشعر، ويستوجبه الوصف روائياً.
جان لا يخفي بؤرة التوتر، وهو يتحدث عن جبل Agirî الكردي وكيفية تكاثر المعتقلين الكرد في زنزانته، حيث نقرأ في 12 شباط 1946، في مهاباد ( الغيوم تردد أغنية المطر، مثل ذكريات السنوات الضبابية التي كلما نأت عنا، تحلو أكثر. بحب تمطر ، بقوة تمطر، بذمٍّ تمطر، غيوم، وهي تسكب مشاعرها الطائشة في أوراق الحقول العطشى، تُرى ماذا يخطر في بال هذه الغيوم حتى تنام وتروي كاملة في آذان هذه المدينة الموشكة على النوم؟
دالية العنب التي تكاد تنام، ترتعش كالمحموم، شجرة عارية كليلتي هذه، شجرة قاسية كروحي هذه، شجرة يتيمة كقلبي هذا، شجرة حقد كحبي..ص 17)، ولاحقاً نقرأ ( سنة جهنمية كانت، زنزانة آكري لم تكن تشبع من نزلائها. ص 18)، ومن ( أصابعي تتصلب من الكتابة، عيناي أيضاً بئستا من عدم النوم، لذا يرتسم وجه Mujdê على الصفحات كطائر قطا يلتقط الزاد من قلبي، هذه الفتاة لامستني بيدها هذا الصباح، استحالت طائراً صغيراً وحلقت في أفق غير مرئي، انسابت حرارة اليدين إلى صميم دمي، تُراني أحبها؟ لا زلت أجهل. إلهي ما هذا؟ ثمة ما لا يصدَّق، قطعُ الحبال تمطِر. ص 18).
يستوقف الشاعر حبه، ولكن أي حب؟ أتلك التي ذكرها، أم تلك التي جعلته منجرفاً في تياره الشعوري لصيق تاريخه الذي لطالما استوقفه، وكان اختفاؤه بسببه؟ ألم يكن ذلك الحب، في عمومه سبباً داعماً لينزلق خارجاً، ليكون مصدوماً بالمحيطين به، وبتأثير الحب ذاته؟
يعادل المضي في الوصف انكسار الحلم، بقاء شعلة القنديل إمضاءة خيبة الأمل، ويستحيل الوصف المثار مقايضة رمزية لواقع مسحوب كقيمة ممن يعتبره خاصته، استعادة توازن في المتخيَّل، إكثار من المرادفات لإبعاد الواقع، وإبقاء واقع آخر، هو الذي أورده تباعاً، لا يكون وصف إلا لأن السرد يجري توقيفه، أو يحتاج شحنة بلاغية لتعميق الحدث، وخصوصاً الكردي، والشعر وصاف بطبيعته، كما هو معاش كردياً كذلك، كما في السلسلة اللافتة من الأوصاف الخاصة بدالية العنب وتجلياتها الوظيفية وما يكونه جسد الشاعر، وأزمة المعاش خارجاً.
الوصف ( مستودع معرفة موسوعية)، وهو ( لا يصور العالم المرئي بقدر ما يعرّف بالفضاء الداخلي، ودلالته سياقية بمقدار هي مرجعية)، بحسب تعبير برنار فاليط، في كتابه ( النص الروائي : تقنيات ومناهج)،الترجمة العربية، مصر، 1999، ص42.
وجان، يمضي بعيداً في سردية الشعر ومن خلال الوصف، مثلما يبرز انهمامه وشغفه بالصورة تلو الأخرى، للتوقف مكانياً، إلى درجة أنه أحياناً يخرج عن جادة طريق روايته، كما يلاحَظ هنا، في تتبع سيرورة الأوصاف المذكورة آنفاً وسواها، ربما وفق قناعة، وهي سيادة ثقافة الصور اللصيقة بالمكان كردياً، وسلطة التشبيه ضمناً!
ثمة ما يبقي الحدث المسرود في الرواية حتى نهايتها متوتراً، كون القارىء المدرك لمهاباد كتاريخ، يعرف الخطوط الكبرى لما يمكن ولا يمكن قوله، إلا إذا كانت الرواية تبتغي شيئاً آخر، عندما تحوّر التاريخ كلياً،أو تغيّر فيه بنسبة من النسب، وهذا غير وارد هنا، حيث إنها تستظل بتاريخها، وتسعى إلى ابتداع ظلها الخاص بها، من جهة استنطاق الأمكنة، والدفع بالشخصيات إلى أن تمارس حياتها ، كما لو إنها مخلوقات أهواء الكاتب الفنية،. المؤامرات، الروس ومفارقات المصلحة الصارخة، حيث التخلي عن مهاباد بعد تأييد لها ، والانكليز ورعب سياستهم في شعوب كاملة، كما همو الكرد، والتمثيل بالأحلام والآمال المشروعة...الخ، كل ذلك يشكل خطاطات الرواية، ولكنها تتحرك على أرضية أدبية، ويكون الشعر إرادة الكاتب في التحليق بمتخيَّله خارج نطاق جاذبية التاريخ القاهرة.
أما في حال التذكير بالروس وغيرهم، بمن خانوا القضية الكردي: كرداً وسواهم، فثمة وقائع تكاد تختفي وراء الحدود الأدبية التي تنتهجها مخلوقات الرواية، ومشاهدها الخاصة بومضاتها الشعرية، تبدو الحبال : المفردة التي تتكرر: كابوس الرواية بامتياز، علامتها الفارقة، كما الحال فيما ذكر، قدر الرواية الواقعي، ما كان مترتباً على مهاباد: المكان، ومهاباد الزمان، ومهاباد الذين عاشوها وتركوها خلفهم، وهي داخلهم، إذ استحالوا قرابين لها.
الحبال تكون مشدودة من عل ٍ، هكذا تبدو الإشارة، طامة التاريخ الفجائعي الكبرى، رغم إنها كانت تُرى في هيئتها العادية، ولكنها ظلت وتظل للمهابادي، ومن ارتبط بها جالبة موت.
يكون الشعر مجالاً للتأمل، رثاء الذات المثلومة، المكان الذي توغَّل فيها:
أنا وأنت ِ مهاباد
لا نومك يأتي
ولا إحصاء نجومك أيضاً ينقضي.
ومن ثم:
هووو أيتها الجمهورية اليتيمة
من نسج لأجلك هذه الروح ؟
من غزل لأجلك هذه الليالي الوحشية؟
من في عينيك زرع القرنفل والدارصيني؟
من في قدّك نحر الربيع
من عرضك لمطر من حبال؟
ذكرياتي، في شوارعك
مثل سنديانات آمدي تتعرض للسحق
شوارعك ترميني فاقد الوعي في كل ميدان
غريبٌ أنا في شوارعك هذه
كهذه الجمهورية بين الجمهوريات
ألا فلتحصدي نجوم ذكرياتي بمناجل الليالي
الوحشية
أحيلي جسدي فراغاً
ودعي حُفاتك
يعبرون عليه
جسدي هذا مضفور من أحلام ضبابية
ضبابك أنت مضفور من جسدي. ص 22.
أردت ترجمة هذه الأبيات، ليس لأنني متأثر بها، إنها بقية المقبوسات حتى الآن، حيث أحاول التجرد من مشاعري الذاتية، ورؤيتي الخاصة قدر استطاعتي، إزاء رواية تحاول من جهتها إدرار تاريخ فجائعي، استثارة المشاعر، واعتماد الشعر في أكثر أرصدته نفاذ تأثير، ومن باب التوظيف طبعاً، ودون تجاهل علاقة الكاتب بما يكتب ويختار : أمثلة ووقائع وتصورات ومفردات لها وقعها الأدبي أو الشعوري، مسعاي هو هذا التجييش لوعي تاريخي، وجمهرة الأفكار التي تخص حدثاً تاريخياً، لا يمكن اعتباره الآن في عداد ما كان، وخصوصاً في الأدب، إنما حدث هو رهان الأديب، والكردي تحديداً هنا، وتحديه لذاته، اختباره لقدراته الفنية والأدبية، فيما إذا كان يفلح في بناء رواية تدخل التاريخ، ويشار إليها ببنان الكاتب المقتدر.
قد أجدني مع جان في طفرته الشعرية هذه، في إيراد نماذج شعرية تخص شخصيته المقهورة من الداخل كثيراً، أو المعذبة: بادين، ولا مجال لتجاوز قانون التاريخ القاهر، ولكنني أجدني كابحاً جماحي، في هذا الطفح الشعري، في فعل المضي مع الشعر كثيراً، إلى درجة نسيان أو تناسي الرواية وشروط الالتزام بها فنياً، لأن ما أُورِد هنا، يشبه الكثير مما تناثر في ثنايا روايته.
ثمة ما يجدر التوقف عنده لاحقاً مباشرة، وبصورة مفارقاتية، على طريقة: شر البلية ما يضحك، حين نقرأ:
( الليلة عرفت لماذا قادة الروس في قفقاسيا، في الحرب الكبرى، يقايضون بنادقهم بالفودكا. بنادقهم كانت تقتلنا، والفودكا تقتل الهموم، الفودكا تحيِي الذكريات. الفودكا مجبولة من دموع الله. ها هما قدحا فودكا أحتسيهما، وكأن كل ضباب مهاباد يعقد في رأسي دبكة، ذكرياتي في السليمانية، كما المجانين تهيم على وجوهها في مسالك خيالي، أحصنة تنطلق وقد تحررت من أعنّة الفرسان. تومض كالقناديل المعلقة في زوايا الشوارع..ص 23).
يمكن التوقف طويلاً عن هاتين: البندقية الروسية إلى جانب الفودكا الروسية، ما تفعله البندقية من قتل فعلي للكردي، وما تسببه الفودكا من إثارة للذكريات، أي من تحويل الواقع النفسي إلى واقع آخر، أي تحويره، حيث التصوير لا يعود مجرد أُبَّهة المتخيَّل الشعري، إنما فراهة التفكير المتقدم بطاقم شعري محلّق بالذات، من جهة الرابطة بين البندقية : الأداة القاتلة وكيفية استخدامها، ومن الذي صنعها، وكيف يوجهها، والفودكا: المشروب الروحي الذي يميع الروح، يطلق العنان للذكريات، فتكون الفودكا نقيض البندقية، نسياناً لواقع من جهة، ودخولاً فيه على صعيد تبديد الذات وإغراقاً في نهر اللذة الجارف، لكنها في النهاية الوجه الآخر لها، في تضبيب الواقع.
هنا يكون ( الفكر يحسب، يرسل رمية نرد)، على حد تعبير ميشيل دوغي في كتابه ( العقل الشعري La raizon Poétique) ، منشورات غاليله، باريس، 2000، ص 200.
والرواية مكتوبة بلغة شعرية، ولكنها محسومة النهاية، من خلال إجراء حسابي مفكَّر فيه، رمية نرد فنية، تصفية وقائع وتحديداً لها، لما يمكن أن يترتب على اللغة هذه، لما يمكن أن يصل إليه بادين النموذج الكردي في مرحلة تاريخية، وفي رقعة جغرافيا، وما يتجاوزهما مجازاً في إطار خصوص السبب وعموم القول، كما هو الوضع الفقهي، إذ لا يعود بادين ذاك الذي كان، إنما هذا الذي يكون ويتحرك حولنا، فينا، عبرنا، رمية نردنا فيما نحن نقرأ ونتوخى الحذر، وكيف نواجه خصومنا، ندقق فيه، نمارس حساباً ونحن على صلة ما معه، ونختار مصيراً إثر ذلك.
حتى على صعيد هذا الاحتماء بالشعر، يمكن مد البساط التأويلي أكثر، باعتباره ضرباً من ضروب المعايشة المفرطة لذات تقرأ التاريخ هوامياً، وتتحرك أرضياً دون الربط بين الإحداثيات المكانية، وقراءة الطالع بميكانيزم العقل، كما يتصرف الآخرون، وليس كما يقول وعي آخر أقل قدرة في مواجهة المتغيرات، كما هو الشأن الكردي الآن وقبل الآن مثلاً، في سياق العقل المعتقل في دوامة الانجذاب الشعري، التحري العاطفي لحقيقته كذلك.
بين بادين بصفته ثائراً كردياً، واعتباره شاعراً، ومدى صلته بمهاباد، بكرديته، بالكرد عموماً، بذلك الدفق الاحتياطي من بلاغة الكلم عنده، بلاغة التحدي لتاريخه الصارم والأخطبوطي التكوين، ببلاغة الكتابة الشعرية الطابع، كونها، كما هو متصوَّر، الإمكان الأرحب لذات الكردي في صولاتها وجولاتها، يمكن العثور على الرابطة القويمة والجارحة، داخل وعيه، وحتى إزاء الذهاب الأقصى للروائي في معتمَده الأدبي أسلوباً، كيف أنه يتلمس في اللغة مواساة، انتصاراً على الواقع المتعدد التحديات ، كما لو أن التاريخ هو هو في بأسه وصور تعنيفه له، والمجاهرة بمكبوته تالياً ( الريح الشمالي يمد أصابعه إلى دالية العنب، يمزق ذلك الثوب الثلجي الكاسي لأغصانها العارية، برعونة يعريها، يزني بها، يتعالى صراخ ذلك الريح الزاني( أحياناً يستحيل الثوار ريحاً). ص30).
هذه الإيروتيكا الكردية الخاصة، في المتن الروائي، هي ترويكا كردية مشهود لها في الملمات، تزكية بالذات الكردية، وهي في أوج اندفاعها، في علاقتها مع الجوار، في نظرتها إلى الأمور، في انتحارها الذاتي بذاتها دون أن تدرك ما هي مقدمة عليه، لأنها تعيش طيشها التاريخي، نزق التقدير للمستجدات.
لا الريح، ولا دالية العنب( هذه التي تعددت وتنوعت أمثلتها، باعتبارها أليفة ومعروفة كردياً، وتختلف وظيفتها واستخداماتها الفعلية والمجازية، الفعلية وحتى الدلالية، وكذلك من جهة صفة العري التي أُسندت إليها أكثر من مرة)، ولا الثلج، ولا السرد الملبّس للمكان والزمان والكردي المتحرك في الحالات كافة...الخ، بعناصر طبيعية، إنما وظائف السرد التي يهتم الانسان وينهمُّ بها معاً، كما هو التداخل الأخير بين الريح الدال أو الدالة على الروح أو النفَس والقوة( ذهاب الريح : القوة)، والفعل المنوط بالريح، وهكذا الأمر بالنسبة لدالية العنب في تنوع هيئاتها: عالية ، دانية، مستلقية، معرشة...الخ، كما هو المشهد الحي للجسد الإنسي، ربما كل ذلك تحريك وتعميق لوظيفة السرد، وربما هو توتير للحركة ودلالاتها داخل المناخ الروائي في عمومه.
بصدد العري، أو التعرية، يمكن تناول المفردة من زاوية سيكولوجية، فأن تعرّي هو أن تكشف، لكن التعرية أيضاً هي فعل إقصائي للجسد، وذلك بتجريده من هيبته، يرادف مدى التمكن من الواقع، ولو على صعيد التنفيس الذاتي المحموم، العري حالة طبيعية، إنما هنا تكون التعرية ممارسة بشرية، وحتى في مشهد توصيف العري ، يكون استشراف للواقع بجعله ممتلَكاً للنظر، لأنه يغدو منزوع القوة، تلك التي تحيط بالجسد، بالشيء من خلال كسائه، كما هي الرغبة في توطين الاسم والفعل في إثره، فأن تسمي هو أن تحدد ملكية، وكل مفردة لها سيماؤها الكلامية، وقيمة دلالية ضمناً.
جان يتحرك في حوزة الشعر، والتعبير عما هو قصي في الذات.
في علاقته بكل من Mujdê وJalê، حيث لا يهنأ بأي منهما، كما هو الثوري التعيس، كما هو الشاعر العذري على الطريقة الكردية، أي كما هو الكردي الذي يتحرى الواقع دون حقيقته، نقرأ جانباً من هذه العلاقة في تفتحها الشعري، وإيقاع التكرار لمفردة أو أكثر، كما لو أن المكان يعيد إنتاج أطيافه وأشباحه ووقائعه، والزمان داخل فيه ، ودخيل عليه، كما لوأن التكرار تشديد على معلَم الجرح، وهو يشد من أزر المعني، وكذلك السرد الذي يتنوع وتيرة، ويتلون سريرةً ( أسرد حكاية جاليه متقطعة لموجديه، علي أن أرفع جانباً هذه الصخرة الثقيلة من على قلبي، سنوات سبع، وهذا القلب يكتوي، سنوات سبع، وهذا القلب يشتعل، سنوات سبع، وهذا الحب لا تغمض لـه عين، هذه الحكاية تتخمر، بمطر الكتابة سأطفىء النار هذه. ص 42).
ثمة تعرية للذات في وضعها المحموم، وثمة لجوء إلى الكتابة باعتبارها المطر، الماء النقيض القادر على تجاوز المحنة، لكأن الآخر ماء، وهو المطر ، الماء، والنار تحرق، تدمر، تكوي، والمطر بانهماره من عل، ودلالة العلو: السمو، بصفته ماء، دالة حياة وخصب أيضاً، وهي طفرة الشعر في تعزية شاعره، تعرية المحيط لامتلاكه، من خلال هذه المتوالية العددية المتداولة كردياً، وخارج الكردية، أعني السنوات السبع علامة الكثرة.
مشهدية العري والتعرية، تمتد خارجاً، تطال ما هو خطير في حياة المرء، والكردي نموذجاً، كما هو المنطوق على لسان أحدهم، وهو حسين ديرسمي، من خلال راو ٍ آخر ( السياسة كالمرأة، إن لم تعرِها، لن تفهمها!)، ليكون التعليق والتأثر المباشران( تلك الليلة أبصرت نفسي عارياً، كيف تعيش دون تنظيم؟؟ هكذا كان الذين في الاجتماع يسألونني . ص 42).
تأنيث السياسة مظهر من مظاهر الفحولة عند الكردي، وعند الذين يعيش بين ظهرانيهم، بنيّة التكيف مع الواقع، فتكون المرأة امتداداً للواقع، كما هو الواقع ممتد أنوثياً بدوره، ويكون الرجل هو القادر على الاثنين، كما هي الكتابة عند بادين !
لكن هل بادين يمثل ذلك الفحل الكردي، أم الكائن المخنث؟ أي الجامع بين الاثنين رمزياً، حيث لا يمكنه أن يحقق شيئاً، طالما أنه شاعر، وطالما أنه كذلك يتوارى وراء خيالاته الجامحة، يتجنح ويجنح بها معاً، وأن هذه الخيالات تتمكن منه وتقصيه عن الواقع الفعلي، فيصدق من يجب التوقف عنده والمساءلة حوله، وما أكثر هؤلاء، أي مجمل الذين كانوا ينصحونه، أو يحرصون عليه رجالاً ونساء، ولم يتقدم أكثر من الإصغاء، ليكون الرجل دون رجولة، والمرأة دون أنثويتها، أي في برزخ التيه، واليقين المثير للشبهات، كما هو الكردي المأخوذ بوعود هي فخاخ له.

قنطرة ثالثة
في القنديل الثاني، في ضوئه، يمكن العثور على مثال صاخب بثنائيته، بحالة الضياع التي تتلبس بادين التاريخ، بادين الشاهد والشهيد، وهو يمارس تدوين يومياته، يدون التاريخ المأسوي، تاريخ المفارقات( ( تنمَّلت أصابعي من الكتابة، نفدت أوراقي البيضاء، غداً سأذهب إلى المكتبة، لا لن أذهب، سأرسل أحد تلامذتي. الأوراق البيضاء حقل بكر(بور)، أنثر مشاعري مثل بذار القمح عليها، وأرويها بدموعي، الذكريات تنمو، الجراح تينع، عندما أنظر إلى عمقها، أبصر فارساً جريحاً وهو بلا رمح ودون ترس، أبصر نفسي. ص 100).
بادين تتقاسمه الثنائية السالفة الذكر، موزَّع بين الرجولة والأنوثة، ومن خلال كتابته التي هي لسان حاله هنا !
ثمة تآخذ ( فعل تثاقفي ) بين الشاعر وأوراقه، أو بينه وبين ما يكتبه، وتكون الكتابة هي الوسيط للتعبير عما يريد إيصاله إلى القارىء خارجاً، لكن ذلك على السطح الخارجي للأشياء، إذ إن التأويل الداخلي للأمور يقلب ما تحب السطح، ما يكونه الشاعر: بادين في صميمه. يريد أن يكون العالم البديل، المقابل الرمزي والمختصر للعالم الذي لم يستطع أو لا يمكنه التواصل معه، فأن تكون الأوراق حقلاً بوراً وأن ينثر عليها كلماته، وأن يسقيها بدموعه، تداخل فظيع ، وربما لافت، بين حقيقته الظاهرة كشاعر، كذكرٍ، وبين انطوائه على نفسه شخصية منكسرة من الداخل، إنه مسلوب الذكورة الفعلية، أحدد أكثر: إنه الرجل حين يقابل الأوراق باعتبارها حقلاً بوراً : بكراً)، وكان الصحيح لو أنه استخدم مفردة ( mûş) أو ( neker) أو ( xakek beyar) ...الخ، لأنه لا يمكن للحقل أن يكون بوراً أو أرضاً قاحلة، إنما الحقل zevî، هو أرض مأهولة بالنبت ، أرض مزروعة ، وهو يستخدم الحقل تجسيداً لواقعة متخيَّلة، إنما ليست سهلة في تمريرها هكذا، وكأنها المرأة التي تنتظره، المرأة: الفتاة البكر، خدره هنا، وهي بثوب العروس ( الأبيض) ربما، من خلال الربط ما بين بياض الورق، وبياض الثوب، كما هو متصوَّر، ويكون فعل البذار ممارسة رجولية، نطافه، فحولة بارزة، في حين تكون الدموع استجابة تعويضية لما يستطيع القيام به، موازية للعجز، أو وهي تستحضر مناخ الميثولوجيات الكبرى، حين تبكي آلهة الأرض، الحب، الخصب، الجمال( عشتار، أناهيتا، أفروديت، ديميتر، إيزيس...الخ) عشاقها المدفونين في التراب بدموعهن، ليظهروا مع النبت ، الزرع، الربيع( تموز، أدونيس، أوزوريس...الخ)، كما في الوصف المقلوب على أمره، حين يكون الفارس: الرجل منقوص الفحولة، بلا رمح، بلا ترس، فيكون هو العاري هذه المرة، خلاف ما كان يتردد في المرات السابقة، لتبلغ مأساته أوجها، في تجلي قهره الداخلي، ولا أدري إلى أي درجة كان الروائي مدركاً لتصورات، أو حراك تأويلي، يمكن أن يكاشف ما هو مثار ومستثار في مزاباد: ه !
في الكلمة التي عنَّف الجد المصور والأرمني ابن أخته بادين، هذا الذي نتناوله من زوايا عدة، ما يشبه المفارقة، ولا بد أن تكون المفارقة قائمة، لأن الرواية مفارقاتية شاخصة تاريخها المأسوي بالطريقة هذه، وذلك حين يجعل من تعليقه على شاربيه مدخلاً ليثير ما هو مختلَف عليه كثيراً هنا ( الله الذي منحك هذين الشاربين مثل ذنب الفأر. بأي حيلة أعرضهما. كل من يأتي ليحصل على صورة، لا يبدو عليه راضياً من كل ما فيه، هذا يقول " لقد نحفتَ ذقني"، وآخر يقول " أنفي ليس كبيراً بهذا الشكل". تريدون وجهاً جميلاً وصبوحاً، اذهبوا وحاسبوا الله، أنا مصور، ولست مجبراًً في أن أصحح أخطاء الله. غداً إذا تعرضت الجمهورية لنائبة ما، سيقال: إن الروس كانوا السبب، دائماً وأبداً، يبحث الشعب المستبدُّ به عن شماعة خارج حماه، ليعلق عليه أخطاءه. ص 108).
قد يكون في ذلك ما يستثار حتى اللحظة، ما يمكن الاختلاف حوله، إلا أنه يشكل وجهة من وجهات النظر المتعلقة حول سقوط أو تداعي أو تهافت أو فشل تجربة ما، لئلا يحصر أحدهم مسؤولية محددة رابطاً بجهة محددة بالمقابل، كما هو الحال، إزاء ما يُتداول حول مدى مسؤولية الكرد الذاتية مثلاً في عدم نجاح تجربة مهاباد !
بادين، لا يمكنه إلا أن يتلبسه دوران متداخلان، كونه يعيش الحالة في ازدواجيتها، يمارس وجدانية التواصل مع ماهو سلبي وما هو إيجابي كردياً، تتملكه حماسة الرجل، مثلما تنتابه حمَّى المرأة فيما ترغب وتكره( أنا حزين وسعيد أيضاً. ص 146)، هكذا يقول، يكتب إزاء حدث مواجهة قتالية، لكي يواصل السرد الروائي مسيرته، ويبقى الشعر آهلاً بصخب النقائض القائمة، وفي مكان آخر يقول أو يكتب، لنقرأ تالياً ( الدماء تغلي في عروقنا نحن البيشمركه ( الثوار، الفدائيين)، نحن بانتظار ساعة الهجوم الكبير، وعيوننا إلى الجنوب تتجه، لكن القرارات السياسية شبيهة الجليد وكتل الثلج التي تهبط من عل ٍ تجمدنا. ص 147)، ونقرأ وصفاً لأصدقاء الكرد بعد ذلك، في الحيّز ذاته، إنما بلغة الشعر هذه المرة:
أصدقاؤك جليد
صيفٌ
والحر يشتد
هم يستحيلون ماء ويسيلون
يتبخرون
تُرى ماذا يمكنك أن تفعل أيها المفجوع
عندما يكون رفاقك جليداً و
قلبك يكون حفيد الفودكا.؟ ص 149
عدا عن الإسهاب في تصوير الآخر: الصديق تارة، والصاحب تارة أخرى، وتفسير الكلمة الواحدة، كما في المقطع المذكور، ثمة ذهاب بالحدث الروائي إلى أقصى حد من التورية ومحاولة تقريب المعنى الذي يعاني ممن يُعتقد أنه بحاجة إليه، ليكون على بيّنة مما يجري، ليعرّف بالذاكرة الجريحة، ذاكرة المقهور التي من تعاريفها وتوصيفاتها أنها تفصّل المفصَّل، بسبب وطأة المكبوت، بسبب بقاء الرغبة قاهرة لصاحبها، غير محقَّقة.
بادين، ومن خلال الراوي الرئيس، من خلال جان، يتمترس وراء الكلمات، كما همو الكرد الذين يتمترسون وراء أوجاعهم، لتكون شفيعتهم ساعة حساب ما، أو ليعلنوا عن أنهم يدفعون ثمن قواتير من كانوا يجب أن يكونوا مسؤولين عن دفعها، من يترصدونهم في كل منعطف تاريخ، يمارسون تكرار تسمية الأشياء، تأكيدها، العود الأبدي إليها، لأن تاريخهم مختلف، كما هي الحالة مع مهاباد نموذجاً أقصى في اختبار الآخرين : الأصدقاء والأصحاب والحلفاء وأهل الجيرة والديرة والعشيرة في لا توادهم ولا تراحمهم إزاءهم أو إزاء بعضهم بعضاً، ليكون المكان شاهداً عليهم وشهيداً بهم ومن خلالهم، يكون الوصف فلسفة الكائن المتفجع بمكانه، وهو يُسحُب منه، أو يُحوَّل أداة للنيل منه ( كان يتناهي صوت أمواج عاتية من حديثه، يخيَّل إليك أنه ريح طائش يعصف بالبحر، والأمواج تتلاطم. تساءلت:
" لهذا السبب أنت تجمع الماء؟"
" حياتي تقوم بالماء، وموتي كذلك يكون بالماء، الكرد هم هكذا أيضاً، بدون الماء لا يمكن، يا بادين ! أحلامي ماء، حياتي ماء والموت هو هكذا بدوره. أتعلم يا بادين، لماذا انهزم الألمان؟"
ودون أن ينتظر جوابي قال:
" لأن هتلر كان يعطش كثيراً" . ص 172).
لا حدود للروائي في أن يمد بمتخيّله، في أن يعتمد أي مفردة، وعلى وجوه عدة، من جهة الاستعمال والنظر في المأمول منها، كما هو الروائي إزاء ما يكتب، ويرى أنه يمد روايته بأسباب القوة الفنية، بالدعائم التي تبقيها رواية عالم مسحوق، مثلما هي تاريخ وقائع يمكن التعرض لها بصياغة مختلفة.
إنما في الفارق الكبير القائم بين الفكرة المتحركة في واعيته، والصورة المشبوبة عاطفة في متخيَّله، يكون مشهد التفاوض، لحظة حاسمة من لحظات الانبناء الروائي الفعلي، كما في الحديث عن الماء وكيفية استحضاره ليكون رمزاً، عتبة رؤيا لما كان ولما يمكن أن يكون، كما هو الماء الكردي للكردي وعليه.
إنه حديث عن فتنة المكان، وما تتضمنه الفتنة من حضور النقيضين: حسن الحظ وسوئه، السعادة والتعاسة( لو أن مدينة في العالم تفتخر بروعة وكثرة حدائقها ومنتزهاتها، ستكون مهاباد بلا شك، إنها في كافتها شجر وورد وعشب وانتعاش، يخيَّل إليك أنها قطعة من الجنة، قد نسيها الله على الأرض، لكن هذه الحدائق والمنتزهات لم تهدّىء قلبي البتة، لا أدري ما علتي هذه الأيام . ص 185).
هل حقاً لا يعرف ما هي علته، ما مصابه، ما مشكلته؟ أم تراه يصور ما ينتابه من مشاعر وأحاسيس، ويستثير القارىء، من باب تزجية الوقت؟ لا يبدو أن الوضع كما يُتصوَّر، وإلا لكانت الرواية دون اسمها، إنما الحيرة فيما هو فيه، وهي حالة القلق بين ما يريده وما ليس طوع يده، ما يشتهيه ويصعب عليه تحقيقه، في بحران الصراع في أقصى تجليات المواجهة بين بادين العادي وبادين النموذج، أليس لهذا السبب يهرب من حب يعصف به، ويلوذ بحب ينقلب عليه، كما هو المكان، وكما همو أحبته، إذ ليس الحاضرون في الرواية سوى أدوار التاريخ داخله، كونه المحمول بالرهانات، مثلما هو الموجَّه داخل مصير أكبر منه، بادين الاسم، وبادين المكان والكائن في المكان والزمان ( الحب! هذه الصورة كتبتها ثانيةً، وثانية أثرت جراحي، بالأظافر التي لا تعرف ما هي الرحمة. ها هو ذاك ملا الجامع عباس آغا يؤذن للمغرب بصوته المنفّر عالياً، والمهاباديون في بيوتهم يتحلقون حول سفرة الطعام، وأنا بدوري منطو ٍ على جروحي من الداخل. ص 187).
لا يكون جرح ، إلا ويكون بالمقابل تذكير بفاجعة، بانتكاسة ما، لا يكون هم أو غم ، إلا ويكون قلق على ما يمكن أن يحدث، أو هو في طور الحدوث ضداً على ما يريده بادين، أو من هم مناظره هماً وقلقاً وصراع ذات !

قنطرة رابعة
ثمة نرادف وتناظر بين حب بادين ومستجدات المكان، وهي العلاقة التي راهن عليها الروائي، علاقة الكاتب فيما يكتب، ولمن يكتب، وكيف يكتب، علاقته برموزه، ممن يشكلون أو يعتبَرون أهلاً للنظر فيهم، وما يجسدون من أدوار تاريخ، ما يشعرون به قارئهم، عن أنهم جديرون بإبراز الأدوار تلك، والقيمة المتحركة داخلها، مثلما هي علاقة الراوي بأحداثه وهو يتحرك من وراء ستار شفاف، داخل التاريخ الحي وخارجه فنياً، حيث الحب كان القيمة الكبرى لكل ما يمكن التوقف عنده، الحب الذي يضع النقاط على حروف كثيرة، ويشدد عليها:
حب أونس لهاميست وكيفية التضحية به، من أجل حب أكبر، هو حب تراب الوطن.
حب الجد الأرمني لحفيده الكردي من جهة الأب: بادين هنا، وكيف كان متعلقاً به، ليكون مواساته، ليكون موته مختوماً بحب لم يجد المتنفس الكافي له، لأن درب الآمال الكبرى قد سَّد منذ زمن سابق( محنة الأرمن المأسوية).
حب هاميست لزوجها الذي تركها سريعاً، لأن الضرورة اقتضت ذلك، لتختفي هي، دون أن يكون لها حضور كاف في الرواية، كونها أدت دورها في السياق المحدَّد لها، ليموت حب من نوع آخر: عبثي، غامض هنا.
حب بادين لمن ذكرناهم سابقاً، وما أكثرهم، وامتزاجه بالمكان، والمكان أمكنة ( الجهات الكردية الأربع جغرافياً)، ليكون الجب أقوى مما كان يحتمل، ولأنه لم يحدده داخله كما كان الآخرون، فيكون شهيده وشاهده، كما هو الشعر الذي يثوّر المشاعر، في هيئة النار، ليكون المثوّر أول النار ومن يحترق به كذلك.
هكذا ، كما يبدو لي، تبرز نهاية الرواية، في ضوء القنديل الرابع، وبادين يتحدث هن حبه المركَّب ( إنه حب جمهوريتي تلك، فاجعتي الآن هو ذاك الحب، تُرى كيف لي أن أقنع قلبي هذا أنه قد خُدع ثانية؟ كيف للقلب أن يتطهر من لوثة الحب؟ يلزم ألف مطر وفيضان، لإنعاش قلبي المتيبس. ص 220)، ويختلط هذا الحب المنتكس بحب Mujdê المخدوع والمنتكس بدوره ( كان حب موجديه خمراً من ناحية، وخنجراً من ناحية أخرى، لقد أثملني كثيراً، وها هو الآن يلف جسدي بالكفن أيضاً. ما هذه الانكسارات يا قلب؟ ماهذه الفخاخ التي تقع فيها كما العميان. ماهذه النار التي تشتعل فيك !..ص 220).
يظهر هنا أن الراوي قد قدم ما فيه الكفاية لروائيه، ليأتي دور الروائي، بمثابة الصوت الخلفي أو الخفي، الصوت الذي آن له أن يعلن ساعة ظهوره، ويمارس دوره الأكثر صراحة، متابعاً السرد الروائي من خلاله، ودون أن يكون الروائي تحديداً، إنما هو صوت من أصواته العديدة، الكثيرة في الكتابة الفنية، وفي إطار جماليات المتخيَّل، وهو يحيل بادين إلى الغائب، ليكون هو المتحدث عنه، بضمير المفرد، تاركاً المجال واسعاً أمام القارىء ليدرس العلاقات المتشابكة بين الحدث الروائي والحدث التاريخي، بين الشعر المتفجر داخلاً والنثر الذي يتحرك في متن التاريخ، وعلى هامش المكان المختوم بلوعة الشعر في سيمائه الكردية، حيث النهاية مأسوية، كما كانت نهاية مهاباد، أي مزاباد: مدينة الضباب، وعبرالحبل الذي تجلى أنشوطة معلقة، كما رأينا سابقاً، وما يكونه التحدي للكردي تالياً ( مهاباد، إذأ بالنسبة إليه، استحالت أنشوطة حبل، كانت تضيق أكثر فأكثر كل يوم، لم يعد من أثر لأي كان من أصدقائه القدامي، أنَّى كان يتوجه، كان يلوح له غريباً، وكأنه الذاهب للمرة الأولى إلى الأمكنة تلك. والزمن بدوره كان يجري، كما هو طرف ثوب عروس يعبث به ريح مسائي مجنون . ص 232).
ربما بوسع أي كان ، أن يتصور، يتخيل ما يفعله الريح ذاك بثوب العروس تلك، ما حصيلة عبث الريح بالثوب، وما خاتمة اللعبة الخشنة تلك، وما حالة العروس التعيسة واقعاً.
إنه خراب المكان، وفاجعة الشعر في تشخيصه برموزه، كما أمكنا تتبع خيوطه، في أوديسا الشاعر الكردي التي لا زالت قائمة، إنما كما هي العروس السالفة الذكر، مهاباد هنا، أعني مزاباد توصيفاً، أما متى تستحيل مزاباد مهاباداً مجدداًن فذلك مرهون بنثر التاريخ والمعنيين به هذه المرة، ومن يحسن تأويل المكان والزمان معاً.



#ابراهيم_محمود (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- نقد العقل القدري الكردي
- مكائد الأمكنة: حسين حبش وشعرية المكان
- أعلام الكرد الخفاقة
- موسم الهجرة الطويل إلى جنوب كردستان
- الكردي مؤرّخاً
- الدوغماتيكي رغم أنفه
- -النقلة باعتبارها تمرداً في الأدب: سليم بركات في روايته الجد ...
- أهي نهاية المرأة ؟
- منغّصات الترجمة
- الكردي الرشيد: رشيد كرد
- مغزل الكردي
- هل يصلح الرمز الديني موضوعاً للسخرية؟
- الدولة العشائرية الموقَّرة
- دولة قوية دون شعبها
- السورية تيتانيك 3- مرسى تيتانيك مرسومة
- السورية تيتانيك2- الإبحار الكارثي
- السورية تيتانيك 1- لحظة الإبحار
- عمر الشريف بارزانياً
- فجيعة نفسي بنفسي- من وراء البللور السميك
- رسالة مفتوحة إلى صبحي حديدي: العربي الأثير في مزيج من كرديته ...


المزيد.....




- الفلسطينية لينا خلف تفاحة تفوز بجائزة الكتاب الوطني للشعر
- يفوز بيرسيفال إيفرت بجائزة الكتاب الوطني للرواية
- معروف الدواليبي.. الشيخ الأحمر الذي لا يحب العسكر ولا يحبه ا ...
- نائب أوكراني يكشف مسرحية زيلينسكي الفاشلة أمام البرلمان بعد ...
- مايكروسوفت تطلق تطبيقا جديدا للترجمة الفورية
- مصر.. اقتحام مكتب المخرج الشهير خالد يوسف ومطالبته بفيلم عن ...
- محامي -الطلياني- يؤكد القبض عليه في مصر بسبب أفلام إباحية
- فنان مصري ينفعل على منظمي مهرجان -القاهرة السينمائي- لمنعه م ...
- ختام فعاليات مهرجان القاهرة السينمائي بتكريم الأفلام الفلسطي ...
- القاهرة السينمائي يختتم دورته الـ45.. إليكم الأفلام المتوجة ...


المزيد.....

- التجريب والتأسيس في مسرح السيد حافظ / عبد الكريم برشيد
- مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة / د. أمل درويش
- التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب ... / حسين علوان حسين
- التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا ... / نواف يونس وآخرون
- دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و ... / نادية سعدوني
- المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين / د. راندا حلمى السعيد
- سراب مختلف ألوانه / خالد علي سليفاني
- جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد ... / أمال قندوز - فاطنة بوكركب
- السيد حافظ أيقونة دراما الطفل / د. أحمد محمود أحمد سعيد
- اللغة الشعرية فى مسرح الطفل عند السيد حافظ / صبرينة نصري نجود نصري


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - الادب والفن - ابراهيم محمود - - Mijabad رواية أوديسا الشاعر الكردي- المقام الشعري في رواية جان دوست