|
أنا الإنسان، أنا الوطن: قصةُُ حياة 7
عبد المجيد إسماعيل الشهاوي
الحوار المتمدن-العدد: 6773 - 2020 / 12 / 28 - 17:51
المحور:
دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات
2- الوطن كيان اجتماعي-سياسي
تحدثنا كتب التاريخ والسيرة عن حياة الرسول محمد وعن هجرته من مكة إلى المدينة. وربما بسبب هذه الهجرة بالذات لا تزال المدينة المنورة تمثل مكانة ورمزية دينية خاصة لدى المسلمين، وثاني أقدس المزارات الإسلامية بعد مسقط رأس الرسول ومنطلق دعوته، مكة المكرمة، المدينة الأقدس لدى المسلمين وقبلة صلاتهم حتى اليوم. في الزمن الحاضر، يعلم كل منا أن كلاً من مكة المكرمة والمدينة المنورة هما مجرد مدينتين ضمن مدن المملكة المتعددة، بل وقريبتين كثيراً من بعضهما جغرافياً. كيف، إذن، يهاجر شخص داخل وطنه ليحتمي بأنصار له في المدينة من بطش أهله وقومة في مكة؟
هل يعني ذلك أن مكة كانت بمثابة وطن منفصل، أو دولة مستقلة عن المدينة، بحيث لا يستطيع قومه في مكة الوصول إليه وإيذائه في المدينة، تماماً مثلما يفعل اللاجئ السياسي أو الحقوقي هذه الأيام حين يلوذ بحماية دولة أخرى من بطش وتنكيل النظام السياسي في وطنه الأم؟ وهل يعنى أيضاً أن توفر الأرض الواحدة، واللغة والثقافة والعادات والتقاليد وحتى القومية الواحدة، والدين الواحد، علاوة على المعاملات الاجتماعية والتجارية والمصالح المشتركة، لم تكن كافية لتأسيس وطن واحد لأهالي مدينتي مكة والمدينة معاً، حتى رغم عودة نسبتهم إلى نفس "القوم" العربي؟ باختصار، لماذا لم ينشأ وطن عربي واحد يضم جميع القبائل العربية في شبه جزيرة العرب؟
الإجابة، أنه رغم الكثير من القواسم المشتركة التي جمعت ولا تزال بين المدينتين، كان ثمة عنصر حاسم لا زال مفقوداً- التنظيم الاجتماعي-السياسي، أو الهيكل التنظيمي القادر على أن يجبرهما ويدمجهما في وطن واحد ولم يتوفر فعلاً سوى بعد ظهور الإسلام. هكذا، تعتبر وحدة التنظيم السياسي-الاجتماعي شرطاً مسبقاً وضرورياً لنشأة الأوطان وبقائها، حتى إذا كان بحد ذاته غير كاف في غياب عوامل حاسمة أخرى.
لكن ماذا يمنع مكة، أو المدينة، كل بمفردها من أن تشكل وطناً مكتمل الأركان لقاطنيها؟ ألم تستوفي مدينة مكة شروط الوطن لقاطنيها حينذاك؟ ألم تكن تشغل مساحة جغرافية محددة، ويقطنها تجمع محدد من الناس يوحد بينهم تنظيم سياسي-اجتماعي واحد حتى لو تناوبت على سدته القبائل المتناحرة فيما بينها، فضلاً عن مشتركات اللغة والدين والعرق والمصلحة والمنفعة المشتركة...الخ؟ ألم يكونوا يتغاضون مؤقتاً عن صراعاتهم ونزاعاتهم وحروبهم الداخلية ليوحدوا الصفوف فيما بينهم دفاعاً عن وطنهم الصغير بأرواحهم؟
في الحقيقة، لا يشترط في الوطن لكي يؤهل ليكون وطناً أن يشغل مساحة شاسعة من الأرض، أو يقطنه تجمعاً ضخماً من السكان بالضرورة. طالما توفرت المساحة الجغرافية الواضحة والمحددة المعالم، والتجمع البشري الكافي للذود عن هذه الأرض وبلوغ درجة ما من الاكتفاء الذاتي، تستوفى عندئذ شروط نشأة الوطن، الذي قد تتسع مساحته فيما بعد أو تقل حسب الظروف، أو ينمو عدد سكانه أو يتناقصون حسب الظروف.
هكذا، في التاريخ القديم على الأقل، يمكن أن نعتبر مدينة مكة بمفردها قبل ظهور الإسلامي "وطن"، أو "مدينة-وطن"، وكذلك الحال بالنسبة للمدينة المنورة وبقية قرى ومدن شبه الجزيرة العربية في ذلك الزمان. هكذا كانت أيضاً "المدن-الوطن" مثل أثنيا وأسبرطة، وغيرهما من مدن اليونان القديمة. بل يمكن القول أن تلك "المدن-الوطن" كانت السمة الغالبة في جميع أنحاء العالم في ذلك الزمان، وربما قد ينحصر نطاق الوطن عن ذلك إلى نطاق لا يتعدى بضع أميال في شكل قرية-وطن، أو يتسع إلى نطاق يتجاوز آلاف الأميال في صورة إمبراطوريات كبرى كتلك التي أقامها ملوك فارس والاسكندر الأكبر المقدوني ويوليوس قيصر وأباطرة الرومان، ومثل الإمبراطورية العثمانية والفرنسية والإمبراطورية البريطانية العظمى حتى زمن ليس ببعيد.
في الأصل، الوطن منشأ اجتماعي-سياسي، يلزم لتوفره مجموعة من الناس تعيش معاً عيشة مشتركة على نفس القطعة أو المساحة من الأرض، ويخضعون لنظام اجتماعي-سياسي واحد. الوطن ليس هبة من الطبيعة متاحة هناك لكل لمن أراد التقاطها، أو تحمل عناء اكتسابها وتهيئتها لمصلحته ومنفعته الخاصة مثلما يفعل الإنسان مع مصادر الغذاء والماء والمعدن وقوى الطبيعية. بل هو جهد بشري خالص، ينشئه التجمع البشري لأغراضه الخاصة.
كذلك، ليس للوطن مساحة محددة من الأرض، أو عدد معين من السكان. بل هناك أوطان بالغة الضآلة مثلما هناك منها البالغة الضخامة. أيضاً، ليس للوطن صورة واحدة في كل الأزمان، ولا في كل الأماكن، بل تتغير صور الوطن من زمان لآخر ومن مكان لآخر. لكن رغم التباين الشاسع في صورها وأحجامها وخصائصها وشروط نشأتها والغاية من إنشائها، تبقى هناك عوامل حاسمة لابد من توفرها لقيام الأوطان، على رأسها الأرض والجماعة البشرية صاحبة الحق الحصري لبراءة اختراع الوطن.
#عبد_المجيد_إسماعيل_الشهاوي (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
أنا الإنسان، أنا الوطن: قصةُُ حياة 6
-
وحي السماء
-
قول الصدق
-
أنا الإنسان، أنا الوطن: قصةُُ حياة 5
-
أنا الإنسان، أنا الوطن: قصةُُ حياة 4
-
سلام على إسرائيل
-
أنا الإنسان، أنا الوطن: قصةُُ حياة 3
-
أنا الإنسان، أنا الوطن: قصةُُ حياة 2
-
أنا الإنسان، أنا الوطن: قصةُُ حياة 1
-
أنا الإنسان، أنا الوطن: قصةُ حياة
-
أنا الإنسان، أنا الوطن: خَلْقُ حياة
-
كل شيء هادئ على البر الغربي للأحمر
-
مقاربة جديدة إلى النكبة الفلسطينية في ذكراها السبعون
-
الانتحار العربي في سماء نيويورك
-
صراع السيسي وأردوغان على المنطقة
-
القائد عبد الفتاح السيسي
-
أسلمة السياسة، وتسييس الإسلام
-
من يحمل وزر الدماء في رابعة؟
-
الكائنات العلائقية
-
الكائن العلائقي
المزيد.....
-
بأكثر من 53 مليون دولار.. مرسيدس تعرض سيارة سباق نادرة للبيع
...
-
-مخطط لتهجير المواطنين-.. السلطة الفلسطينية تتهم إسرائيل بتو
...
-
دور الصحافة بمكافحة -التضليل الإعلامي- في سوريا.. مسؤول في م
...
-
مرتديا -ملابس الإحرام-.. أحمد الشرع يصل إلى جدة لأداء العمرة
...
-
الجيش الإسرائيلي يعلن تدمير مستودعات أسلحة لـ-حزب الله- في ج
...
-
هل يشهد لبنان أزمة مياه هذا العام؟
-
نتنياهو في واشنطن لعقد -اجتماع بالغ الأهمية- يبحث المرحلة ال
...
-
انفجار يستهدف مجمعا سكنيا فاخرا في موسكو ويوقع قتيلا وأربعة
...
-
هجوم من ماسك وترامب على الوكالة الأمريكية للتنمية الدولية: -
...
-
أكثر من 200 هزة أرضية تضرب -إنستغرام-.. اليونان تغلق المدارس
...
المزيد.....
-
الانسان في فجر الحضارة
/ مالك ابوعليا
-
مسألة أصل ثقافات العصر الحجري في شمال القسم الأوروبي من الات
...
/ مالك ابوعليا
-
مسرح الطفل وفنتازيا التكوين المعرفي بين الخيال الاسترجاعي وا
...
/ أبو الحسن سلام
-
تاريخ البشرية القديم
/ مالك ابوعليا
-
تراث بحزاني النسخة الاخيرة
/ ممتاز حسين خلو
-
فى الأسطورة العرقية اليهودية
/ سعيد العليمى
-
غورباتشوف والانهيار السوفيتي
/ دلير زنكنة
-
الكيمياء الصوفيّة وصناعة الدُّعاة
/ نايف سلوم
-
الشعر البدوي في مصر قراءة تأويلية
/ زينب محمد عبد الرحيم
-
عبد الله العروي.. المفكر العربي المعاصر
/ أحمد رباص
المزيد.....
|