بشير الوندي
الحوار المتمدن-العدد: 6773 - 2020 / 12 / 28 - 11:15
المحور:
الارهاب, الحرب والسلام
مباحث في الاستخبارات ( 246)
الاهداف البشرية
-----------
مدخل
-----------
ذكرنا في مباحث سابقة (لاسيما مبحث حماية الشخصيات ) ان كل جهاز استخباري يهتم بالشخصيات التي يرى انها مستهدفة سواء بالتجنيد او بالتصفية , لاسباب عديدة منها الحفاظ على الشخصية ومنها اهمية الشخصية وندرتها – كالعلماء النوويين – ومنها الخشية من تسرب اسرار البلاد وغيرها , في مقابل ذلك لايمكن ان يغفل اي جهاز استخباري من ان يكون له سجل مؤرشف لشخصيات يستهدفها هو في كافة انحاء العالم مع التركيز على بلد العدو , ويتابع كل شواردها وتفاصيل حياتها وتحركاتها بحسب الممكن ولأسباب عديدة سنبينها في هذا المبحث .
---------------------
الاطار واللوحة !!
---------------------
بما ان الانسان هو الاساس وهو هدف الجهد الاستخباري الأهم من السلاح و الجريمة و الارض والقوة , لذا تهتم اجهزة الاستخبارات بالشخصيات بشكل واسع ودقيق .
هنالك اطار اولي تقوم به اجهزة الاستخبارات للدول الاخرى بحسب تصنيف مبدئي يحدد البلدان الاخرى الى بلد عدو او صديق او محايد او غير مهم , فإن كان هذا الاطار كإطار الصورة , فإن اللوحة التي يضمها الاطار يتمثل في تصنيف الاشخاص البارزين في كل بلد , ويتم ذلك بسجلات منتظمة ومحدّثة لكل فرد منهم بحسب اهميته والمعلومات المتاحة عنه .
وسواء كانت تلك الشخصيات في بلد عدو او صديق او محايد , فإنهم لايحملون بالضرورة تصنيف دولهم , ففي البلد الصديق قد تكون بعض شخوص تلك السجلات من الاعداء , وفي بلد العدو قد يكون تصنيف بعض من يضمهم السجل هم من الاصدقاء , وفي كل الاحوال فإن الاساس في موضوع السجلات يتمثل في اشخاص لهم تأثيرهم العام ومن المهم ايجاد افضل الطرق للتعامل معهم.
وكما قلنا في مباحث سابقة من ان الاستخبارات على ثلاثة انواع بحسب تأثيراتها وتوسع اهدافها , فقد تكون استخبارات دولية او استخبارات اقليمية او استخبارات محلية , فالاستخبارات الدولية تكون لديها سجلات اكثر اتساعاً بحكم توسعها وقدراتها وادواتها , والدول الاقليمية لها هي الاخرى سجلات للشخصيات البارزة في كل الدول الاقليمية المحيطة بها , اما الاستخبارات المحلية التي ينحصر تأثيرها في حدود الوطن فلها هي الاخرى سجلات للشخصيات الا انها سجلات محدودة وتشمل في الغالب من اهل البلاد.
ان الاستخبارات المحترفة تقوم تجاه بلد العدو بمسح شامل لكل الشخصيات المؤثرة فيه من كل المستويات (روساء حكومات , وزراء , قيادات وطنية , قيادات ورموز دينية , فكرية , اعلاميين , ادباء , رجال اعمال , تجار , ضباط , قادة , قادة حركات تحرر , شيوخ عشائر , زعماء عصابات , وغير ذلك ), والسجل يكون قابل للزيادة حين يبرز في مرحلة ما شخوص جدد على الساحة , كما يكون محدثاً باستمرار .
---------------------
سجلات صادقة!!!
---------------------
في العادة تكون هنالك عن شخصيات بلد العدو نوعان من الملفات تفصيلي وخلاصات , فالتفصيلي يكون عبارة عن ملفات منفصلة عن كل شخص ويتم ملؤها وتحديثها باستمرار ويضم الملف كل مايجمع عن الشخص بطرق الجمع المختلفة سواء كانت تسجيلات او افلام اوصور او وثائق او تقارير , وهنالك في الملف تقييمات لشخصيته من كل الجوانب .
اما النوع الثاني فيكون عبارة عن سجل ابجدي بكل شخصيات البلاد ترتب فيه الاسماء وامام كل اسم بضعة سطور مضغوطة جدا في اختصاراتها تشمل خلاصات استخبارية مستوحاة من ملفه التفصيلي .
مثال ذلك : شيخ عشيرة اسمه كذا .... له (ملف تفصيلي) خاص به لوحده , فيه كل انواع التقارير عنه وعن سلوكه ووثائق تدينه وتفاصيل حياته وعن قوة عشيرته ومنافسيه واهميته وصور له – وقد تكون صور فاضحة – وسجل لمكالماته ان امكن وغير ذلك , وفي نفس الوقت له تسلسل في (السجل العام) الخاص بشخصيات بلاده , وفيه عنه : فلان الفلاني .. مواليد 1955 , شيخ عشيرة ..يتنافس دوما مع اخيه على الزعامة..متعجرف , يتناول الخمر بشراهة , يعشق النساء , عصبي , متهم دوماً بأن له يد مع تنظيم داعش الارهابي , تمتد املاكه من كذا الى كذا , له تأثير بالغ على افراد عشيرته , يسهل استعداءه ضد عشيرة كذا , كذاب ومرتشي وميال للغدر!!!!.
ان خلاصات السجل العام مستوحاة بالكامل من الملف الشخصي للشخصية , فالملف الخاص بكل شخصية وتفصيلاته يكون ملف محفوظ في ارشيف خاص في مقر الجهاز الاستخباري ولايطلع عليه الا عدد قليل من المسؤولين لكونه يحتوي اسماء كاتبي التقارير من الجواسيس والعملاء .
اما السجل العام والذي يقسم احياناً بحسب مدن بلد العدو واقاليمه , فهي بنسخ محدودة التداول وسرية للغاية وتسلم لضابط الاستخبارات المسؤول عن البلد الفلاني كي يعرف كيف يتابع تلك الشخصيات ويفهم تحركاتها ويعي نقاط ضعفها وقوتها , والواقع ان معلومات السجلات وخلاصاتها هي معلومات دقيقة في الغالب ولامجال فيها للمحاباة , فلامصلحة للافتراء على شخص ما في سجل سري للاستخدام الاستخباري.
ومع تطور التكنلوجيا تطورت اساليب حفظ السجلات الكترونياً كما تطورت الاساليب التجسسية التي تمكن الجهاز الاستخباري من جمع المعلومات بطرق واساليب مختلفة ودامغة.
ولابأس ان نشير في هذه الباب الى الكتاب الذي اصدرناه بعنوان (شخصيات عراقية في ملفات الاستخبارات البريطانية )وهو عبارة عن تحقيق وتحرير وترجمة لسجل استخباري بريطاني صادر قبل مائة عام , وثقت فيه الاستخبارات البريطانية لأكثر من 700 شخصية عراقية فقط في شمال العراق , بخلاصات مدهشة بالرغم من ان عناصر الجمع الاستخباري الذين كانوا يجوبون بلادنا كانوا يعملون في ظروف صعبة لسنوات قبل ان يحتلوا العراق فكتبوا ملخصات دقيقة بالورقة والقلم والفانوس وعلى البغال وسط طرق وعرة غير معبدة , فمابالك الان عن كم حجم مراقبة الاهداف البشرية ؟!!!!! .
والواقع انه مامن جهاز استخباري الا ولديه سجل طويل وعريض على الشخصيات في البلد المستهدف , فيجب ان تكون الاستخبارات دقيقة, وغالباً ما ترفق مع نهاية التقرير عن وضع الشخصية الحالي , فضمن حلف الشمال الاطلسي الناتو , هنالك منظومة استخبارية تعمل بالتعاون فيما بينها وتوشر على اي خطر استخباري من الشخصيات عليها دون الافصاح عن الاسباب , وتوزع لكافة دول الحلف , وكذا الحال في اليوروبول في الاتحاد الاوروبي .
ان هذا التعاون بين استخبارات الدول لتكامل سجلات الشخصيات المستهدفة ليس جديداً , فضمن منظومة تحالف (العيون الخمسة) القائم منذ 1946 بين امريكا , بريطانيا , كندا , استراليا , نيوزلندا (انظر مؤلفنا الذئاب المنفردة بجزئيه -2020). تخضع الشخصيات الواقعة تحت القيد الاستخباري الى المراقبة الالكترونية الفنية المشتركة بشكل شديد , والبعض منها تقسم ضمن الاهداف فان كانت هدفا فهي تخضع الى مراقبة فنيه او مراقبة امنيه او مراقبة بشرية او اعلان جوائز او تجنيد مصادر او مراقبة العائلة والاصدقاء وتأشير نبرة الصوت , والتوثيق , وتخزين جميع الادلة الحيوية , وتوضع ايضا احصائية عن تطور ملف الشخصية , كم من المعلومات متوفرة ومن هو المصدر او المخبر المكلف.
----------------------------------
مقدمات التجنيد ..المعرفة
----------------------------------
ان تحليل الشخصية لكل من الشخصيات المستهدفة في بلد ما هو عمل فني وعلمي تهتم به الاجهزة الاستخبارية في مجالات عدة منها :
1- التجنيد : فمعرفة كوامن شخصية ما ونقاط ضعفه او اسراره او شغفه وشهواته تكون كفيلة في معظم الحالات للسيطرة عليه وتجنيده .
2- التأثير عن بعد : ان معرفة كوامن شخصية ما ونقاط ضعفها ونقاط قوتها كفيلة بتوفير فرص كبيرة للسيطرة على افعالها عن بعد من خلال سلبها نقاط قوتها واستفزاز نقاط ضعفها ومن ثم توجيهها نفسياً كما حصل مع صدام , فمعرفة الاجهزة الاستخبارية الامريكية بطبيعة صدام جعلتهم يتمكنون من التوصل الى انه يتأثر جداً بالاستفزاز والتحدي , فكان يكفيهم ان ارادوا منه ان ينزلق بمنزلق ما ان يهددوه بالعواقب ان اقدم على فعل العمل الفلاني فيسارع الى فعله.
3- قياس الفعل ورد الفعل : ان تحليل الشخصية في بلد العدو يتيح لجهة القرار توقع الفعل الذي سيقوم به في مرحلة ما , او توقع رد فعله على قرار ما .
4- تحقيق متطلبات الحرب النفسية : ان الحرب النفسية الموجهة الى شخصية ما , تتيح امكانية تأجيج صراع بين اثنين من الشخصيات او اكثر من خلال اللعب على تناقضاتهم , او لتحطيم سمعة شخصية ما من شخصيات العدو .
5- متطلبات المباحثات : في اية مباحثات هامة سواء مع دولة العدو او مع زعيم قبيلة في موقع نفوذه , يتطلب توفير كافة البيانات عن تحليل شخصيته .
ومن هنا يتم التركيز في المتطلبات الخاصة بالشخصية المراد عمل ملف عنها ان تتوافر معلومات نقطوية محددة عنه تشمل حتى ارقام هواتفه او نوع المشروب الذي يفضله ومعلومات شخصية , العائلة , اسلوب الحياة , الاتصالات , اللقاءات , الاصدقاء , الحركة , اسلوب التفكير, الانصار , الداعمين , واحيانا يتم التدقيق في الطعام والامراض والادوية وطريقة النوم و الهوايات والرغبات , كيف يتخذ القرار , نقاط الضعف , نقاط القوة , كيف يتأثر , بماذا يتأثر (انظر المبحث 207 المعلومات النقطوية ) .
وفي الغالب تصنف الشخصيات في السجلات وفي ملفاتها التفصيلية الى عدة اصناف :
1- خطيرة جدا
2- خطيرة
3- مصدر تهديد محتمل
4- امكانية تعاونه
5- متعاون
والبعض ينظمها على اساس الوان للملفات , فمن يكون ملفه احمر هو شخص شديد الخطورة , ومن ملفه اصفر يكون خطير , وهكذا , فتستخبر عنهم الاستخبارات ضمن غرف عمليات مشتركة مع الاستخبارات الحليفة اقليمياً ومحلياً .
---------------------------
التعاون او الموت !!!!
---------------------------
ان الاستخبارات كيان بلا مشاعر , ولا اعتبارات لديها في اختلافات التعامل , ليس فيها عدو او مجرم كأجهزة الامن , ومن ثم فإنها حين تجمع المعلومات حول شخصيات البلد المستهدف لاتنشد سوى الدقة اولاً ونقاط الضعف والقوة ثانياً , فحال اكتمال المعلومات عن الشخصيات – بشكل نسبي كبير – يجري تصنيفهم كما اسلفنا , ثم توضع الخطط للتعامل معهم , فهم الاستخبارات المعادية الاول هو الاخضاع بشتى الطرق وفق اربعة مسارات اثنان منهما ايجابيان هما بالتجنيد او بالتحييد والا فتذهب الى مسارين سلبيين اولهما التسقيط واخيراً القتل , فآخر الدواء الكيّ !!!!.
1- التجنيد : ان تركيز الاستخبارات على الشخصيات التي تجمع عنها المعلومات هو بتجنيدها بمختلف انواع التجنيد سواء برضى الشخص المعني او بالاجبار عن طريق الابتزاز او بالاغراء , فالهدف الاول هو استمالته وتجنيدة, فأية شخصية مطلوبة او ذات خطر شديد , يعد تجنيدها انتصاراً كبيراً .
2- التحييد : اذا لم تتمكن الاجهزة الاستخبارية من تجنيد المستهدف فانها تسعى الى تحييده من خلال التوثيق الضار به او البحث عن سقطات او اسرار او تسجيلات فضائحية له او تبتزه او تخيفه او تشل حركته من خلال عائلته او تتركه يسرق او يبيض اموالاً وتوثق جرائمه ومن ثم تهدده بأن يلزم حدوده مادام يرفض التعاون ( كما يفعلون مع القادة والسياسيين في البلدان المتخلفة ) , ومادام صامتاً ومنزوياً ولايعرقل خطط العدو فسرّه في بير كما يقولون .
3- التسقيط : ان رفض الشخص المستهدف التعاون او الصمت والتحييد , فحينها يتم تسقيطه اعلامياً سواء بالاشاعات والاكاذيب والفبركات , او من خلال وثائق حقيقية يتم التشهير به من خلالها وفضحه وسقوطه من اعين المجتمع .
4- التصفية الجسدية : اذا رأت الاجهزة الاستخبارية ان الشخص المستهدف اصبح حجر عثرة لامجال لازاحتها , لاسيما حين لاتكون عليه مستمسكات او زلات خطيرة ولامجال لابتزازه , وانه لايكتفي برفض التعاون وانما يقوم بافعال تعرقل مشروعها , فحينها يصدر القرار بتصفيته بأية وسيلة متاحة , وهو مانراه يحصل في كل يوم في الكثير من البلدان ومنها العراق.
------------------
العمل المضاد
------------------
مثلما تسعى الاستخبارات الاجنبية لرصد الشخصيات في البلد المستهدف بغية تجنيدهااو ابتزازها او اغتيالها , فان كل جهاز استخباري محترف يقوم بالمقابل بحماية الشخصيات التي يرى فيها مطمعاً للعدو, فإستهداف الشخصيات قد يتسبب بحروب كما حصل في الحرب العالمية الاولى , او يتسبب في سقوط نظام , او حرب داخلية وانهيارات امنية .
لذا لايكتفى بحماية الشخصيات امنياً وانما ان تقوم الاستخبارات بمراقبة الشخصية وعنصر الحماية معاً, فعنصر الحماية هو عين الاستخبارات على الشخصية , فهو يحميه ويطلع على علاقاته ولقاءآته وحركته وذهابه ومجالسه الخاصة وعائلته واقرباءه واصدقاءه .
وفي ذات الوقت , لابد من مراقبة عنصر الحماية بدقة , فهو شخص مسلح يقف قرب الشخصية المطلوب حمايتها , ويعرف تحركات الشخصية بالزمان والمكان , فهو الاقرب لتهديد الشخصية واغتيالها , لذا فإن تجنيد عنصر الحماية لصالح العدو له تداعيات لاحدود لها من الخطورة , ولحل هذه الاشكالية , لابد من تواجد استخباري مكثف في داخل عمل وحدة حماية الشخصيات .
------------
خلاصة
------------
لايوجد جهاز استخباري الا ويراقب ويدرس شخصيات البلد المستهدف ويسعى لاستمالتهم او تحييدهم او تصفية من لايتعاون معه منهم , ومن هنا فإن من المهم في الدول التي تحترم شعوبها ان لايكون لدى مسؤوليها شائبة تنتقص من نزاهتهم او اخلاقهم , ذلك ان الضرر حينها يتمثل في ضعفهم حين يتعرضون للابتزاز , فلابد من توافر النزاهة لدى الشخصيات المتصدية , وكذلك الشفافية في المعلومات الخاصة بحياة المسؤولين وماضيهم ومايفعلون وحتى علاقاتهم العائلية , فأن تكشفها الصحافة الوطنية خير الف مرة من ان يتم ابتزازه سراً على يد الاستخبارات الاجنبية فيسقط في شباكها كعميل رسمي وهو في اوج سلطته , والله الموفق.
#بشير_الوندي (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟