|
إنجلز، مؤلف مشارك للمفهوم المادي للتاريخ
خوسيه ويلموويكي
الحوار المتمدن-العدد: 6764 - 2020 / 12 / 18 - 10:57
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
الماركسية ضد الحتمية
في مقدمة مؤلفه “مساهمة في الاقتصاد السياسي” كتب ماركس: “فريدريك إنجلز الذي حافظت معه على تبادل مستمر للأفكار عبر المراسلة منذ نشر مقاله الرائع حول نقد الفئات الاقتصادية (طبعت في الكتب الألمانية الفرنسية السنوية)، وصل عبر طريق آخر، (قارن مؤلفه موقع الطبقة العاملة في إنجلترا) إلى ذات النتيجة التي وصلت إليها، وعندما جاء هو أيضا للعيش في بروكسيل ربيع العام 1845 قررنا أن نقدم معا تصورنا كنقيض للتصور الأيديولوجي للفلسفة الألمانية، في الواقع لتسوية حساباتنا مع وعينا الفلسفي السابق. النيّة تبلورت على شكل نقد فلسفة ما بعد الهيجيلية. المخطوطة (الفلسفة الألمانية) وهي مجلدان ثمانيان ضخمان، كانت قد وصلت منذ وقت بعيد إلى الناشرين في ويستفاليا عندما تم إعلامنا بأنه نظرا للظروف المتغيرة لا يمكن طباعتها. تخلينا عن المخطوطة لنقد قضم الفئران بكل طواعية كوننا حققنا هدفنا الرئيسي_ توضيح الذات. الأعمال المبعثرة التي قدمنا فيها في ذلك الوقت جانبا أو أكثر من وجهات نظرنا للجمهور، سأذكر منها فقط بيان الحزب الشيوعي، الذي كتبته بالاشتراك مع إنجلز..”.
هذا التقارب النظري قاد الصديقين إلى تنظيم الأفكار التي سبق وأن كتباها، والتي قادتهما إلى الانفصال عن الهيجليين الشباب كالأخوين باور، وشتيرنر، وآخرين. هذه المجموعة كانت مكرسة لانتقاد النظام السياسي والقانوني الألماني، لكن نقدها بقي في الحقل الأيديولوجي، دون ربط نقد الواقع في المجتمع الألماني بأساسه المادي. لقد كانت محصورة في مجال الأفكار. لنقد هذا الاتجاه الذي لم يغادر حدود المثالية الهيجيلية، كتب انجلز وماركس معا “العائلة المقدسة” أو (نقد النقد النقدي) في العام 1845. في ذلك الوقت اقتربا من فيورباخ، الذي انتقد هيجيل من وجهة نظر مادية.
لكنهما سرعان ما توصلا إلى استنتاج بأن فيورباخ كان تجاوزا جزئيا وأحاديا لهيجيل لأنه لم يكن أكثر من مجرد مادية تأملية، بمعنى أن علاقة الإنسان بالطبيعة كان ينظر إليها بسلبية ولا يتم تقدير تأثير الإنسان على البيئة والمجتمع. التعبير عن هذه القطيعة مع فيورباخ سيتجلى في “الفلسفة الألمانية”، التي كتبها كلاهما في العام 1845، والتي يشير إليها النص المذكور أعلاه.
كان في هذا النص –الذي لم تتم طباعته نظرا لعدة صعوبات أشار إليها ماركس في المقدمة أعلاه (والذي تمت استعادة مخطوطته لاحقا ونشرها من قبل ريازانوف في معهد ماركس- إنجلز في عشرينيات القرن الماضي)_ أن قاما بتطوير التصور المادي الجديد للتاريخ. ماركس وإنجلز اشتقا الدفاع عن الجانب الإيجابي للإنسان، بأن فعل الإنسان في الطبيعة والمجتمع يمكن أن يحولهما، ويمكن أن يكون ثوريا، كما لخص ماركس في أطروحته حول فيورباخ، التي كتبت في ذات الفترة:
“العيب الرئيسي في كل مادية موجودة حتى الآن –بما فيها مادية فيورباخ- أن الأمر، والواقع، والحس، يتم تصورها في إطار الموضوع أو التأمل، ولكن ليس كنشاط إنساني حسي، وممارسة، ليس ذاتيا. لذا، على النقيض من المادية، الجانب النشط كان يتطور تجريديا عبر المثالية- والتي بالطبع لا تعرف النشاط الحسي الحقيقي على هذا النحو”.
هذه الأطروحات نشرت من قبل إنجلز عام 1886 إلى جانب كتابه لودفيج فيورباخ ونهاية الفلسفة الألمانية الكلاسيكية. وكما قال ماركس في مقدمته، البيان الشيوعي كان يستند إلى هذا التصور.
بين النصوص حول الصيرورات الثورية التي كتبها كلاهما في ذلك الوقت، كان البرومير الثامن عشر للويس بونابارت الذي كتبه ماركس حول ثورة 1848- 1851 والثورة المضادة في فرنسا، وحرب الفلاحين في ألمانيا الذي كتبه إنجلز عام 1850، قد أبرزا تطبيق التصور المادي للتاريخ لدراسة كيف كانت نتائجه حاسمة في تشكيل ألمانيا، مقارنة ببلدان أخرى كإنجلترا وفرنسا. في هذا النص يقوم إنجلز بتحليل الاقتصاد والتكوين الطبقي لألمانيا الحالية، ومن ثم يحلل ظهور وبرامج قوى المعارضة المختلفة، وتحديدا يشرح بعمق الفروقات بين لوثر (عالم اللاهوت للإصلاح البروتستانتي) ومونزر (القائد الراديكالي لحرب الفلاحين)، وكيف أثرا على تمردات الفلاحين في أواخر القرن الخامس عشر وبدايات القرن السادس عشر عندما كان الإصلاح البروتستانتي في بداياته. كما يشرح أيضا سمات انتفاضات النبلاء وقادتهم مثل سيكنجين. وبعد ذلك يربط أحداث حرب الفلاحين وأسباب هزيمتها النهائية.
وفي النهاية يحلل تداعيات هذه الهزيمة في التاريخ الألماني. كافة أعمال إنجلز تركز على الحاجة إلى نضال طبقي شرس ضد اللوردات الإقطاعيين لإتاحة ظروف أكثر ملاءمة لثورة بروليتارية. ويحلل أيضا كيف كانت القوى البرجوازية الناشئة آنذاك عاجزة عن الاستيلاء عليها.
دروس التاريخ قادتهما إلى صياغة مماثلة في رسالة العام 1850 الشهيرة للجنة المركزية للرابطة الشيوعية، التي كتبها هو وماركس حول ثورة 1848- 1850 الألمانية.
النصوص حول حروب الفلاحين الألمانية، التي حلّل فيها إنجلز صيرورة النضال ضد النبلاء في القرنين الخامس عشر والسادس عشر، هي مثال على كيف أن التصور المادي للتاريخ يتيح إمكانية تحليل المجتمعات، بما فيها تلك اللارأسمالية، واستخلاص استنتاجات سياسية، معارضة لأيديولوجيي وممثلي الطبقات المهيمنة.
إنجلز استمر في تطبيق هذا التصور، الذي نظمه هو وماركس في الفلسفة الألمانية، عبر مسيرته المهنية، في المعارك الأيديولوجية التي كان عليه خوضها ضد المنظرين البارزين الذين عادوا إلى المثالية أو إلى المادية الميكانيكية وأنكروا التصور المادي للتاريخ تماما كالسياسيين الإصلاحيين.
الغريب أنه كان هناك نقاد لانجلز هاجموه تحديدا بسبب النصوص التي كتبها لمكافحة هذا النمط من الرؤية الميكانيكية، كأحد كلاسيكياته المعروف باسم ضد دوهرنغ. هذه الأيام د. دوهرنغ لم يعد يذكر، ولكنه في ذلك الوقت كان ناجحا وقد اكتسب تأثيرا واسعا داخل صفوف حزب العمال الألمان بل وحتى لدى قيادته. ما دعا إليه د. دوهرنغ في كتبه كان “نظاما” مغلقا بقوانين صارمة، وقد حاول مهاجمة النصوص الرئيسية لماركس وانجلز.
في كتابه، استثمر د. دوهرنغ سطوره ضد الديالكيتيك، ولكي يهاجم ماركس ويؤثر على قرائه، قام بمراوغات في أجزاء مختلفة من رأس المال، بين نصوص أخرى ليدحضها كـ “نظرية علمية عامة حيث الطبيعة، والتاريخ، والمجتمع، والدولة، والقانون.. الخ، تعامل بترابط داخلي مزعوم” (1). ومن أجل دحض فلسفة السيد دوهرنغ حول الطبيعة (2)، كان على انجلز تطوير جدالات في كافة المجالات التي كان على دوهرنغ تحملها، كالاقتصاد السياسي، والعلوم الطبيعية، والفلسفة.. الخ.
وهكذا، فإن ما يفعله إنجلز في نصه المثير للجدل هو الدفاع عن المفهوم المادي للتاريخ. ولتحقيق هذا الهدف، كان عليه أن يهاجم حتمية وميكانيكية دوهرينغ بطريقة مباشرة. ولكن، هناك المزيد والمزيد من المؤلفين، بما فيهم بعض الذين يدعون أنهم ماركسيون، الذين ينتقدون هذا النص وكذلك المخطوطات التي نشرت بعد وفاته كدياليكتيك الطبيعة لصالح ميكانيكية أو حتمية مفترضة.
في هذا الجدل، هناك أولئك الذين يتمسكون برأي أن الماركسية هي وجهة نظر حتميّة للتاريخ. وآخرون، بأعداد أكبر، يقولون إن إنجلز قد يكون مصدر هذه الرؤية الحتمية، كنقيض لماركس نفسه.
كما يكشف إنجلز في مقدمة الطبعة الثانية لكتاب ضد دوهرنغ، وقد كتبه بتواصل دائم مع ماركس، الذي قرأه بل وحتى كتب الجزء المتعلق بالتاريخ النقدي للنظريات الاقتصادية:
“يجب أن أشير بمروري إلى أنه بالقدر الذي كان في نسق الآفاق الموضحة في هذا الكتاب قد تأسس وتطور بمقياس أكبر بكثير من قبل ماركس، وإلى درجة غير مهمة من قبلي، فقد كان متفاهم عليه بيننا بأن هذا العرض الخاص بي يجب أن لا يصدر دون علمه. لقد قرأت له المخطوطة بكاملها قبل طباعتها، والفصل العاشر من الجزء الخاص بالاقتصاد (“من كريتشي جيشيخت”) كتب من قبل ماركس”.
لتبديد أي شك، نعيد إنتاج رسالة من قبل ماركس التي يوصي فيها مراسلا، موريتز كوفمان، بقراءة مؤلف إنجلز “ضد دوهرنغ”. إنها تبين أن ماركس لم يشارك فقط في تفصيل مؤلف ضد دوهرنغ، بل اعتبره أيضا شرحا عظيما للاشتراكية العلمية:
لندن- 3 تشرين الأول 1878
سيدي العزيز،
السيد بيتزلر أخبرني أنك كتبت مقالا حول كتابي رأس المال وحياتي، لإعادة طباعته إلى جانب مقالات أخرى لك. وأنك ترغب بأن أقوم أنا أو إنجلز بتصحيح أية أخطاء من جانبك.
(…)
سأرسل لك أيضا -إن لم تكن حصلت عليه بعد- مؤلفا جديدا لصديقي إنجلز عبر البريد (ثورة السيد يوجين دوهرنغ في العلوم)، وهو في غاية الأهمية للتقدير الحقيقي للاشتراكية الألمانية.
المخلص، كارل ماركس (3).
هل كان إنجلز سيصبح حتميا في نهاية حياته؟
بعض المؤلفين يدعون أن إنجلز كان سيتبنى تصورا حتميا في الفترة الأخيرة من حياته. أن إنجلز كان سيرتد إلى المادية الميكانيكية. الاتهام، حسب توقعنا، يحاول الاستناد إلى نصوص مثل “ضد دوهرنغ” و”دياليكتيك الطبيعة”.
في الواقع، إنجلز حلل في هذه النصوص كيف أن تطور العلوم الطبيعية والتكنولوجيا كان نتيجة لظهور البرجوازية، وحاجة الرأسمالية إلى التدخل في العمليات الإنتاجية في الصناعة (كالمحرك البخاري، والكهرباء.. الخ)، والزراعة لتسريع تداول البضائع وبالتالي النقل (القطارات، والملاحة الأسرع.. الخ). لذا، كان من الضرورة، منذ تلك الفترة فصاعدا، معرفة الطبيعة بشكل أفضل، ومن ثم تحفيز العلوم الطبيعية. في تلك الفترة كان هناك ميل للعلوم الطبيعية لإيجاد تفسير خطي للسبب والنتيجة، والنظر إلى الطبيعة بحد ذاتها على أنها تطور مستمر. بهذا المعنى عارضوا التفسيرات الدينية السابقة لرجال الدين المسيحيين والقيود النمطية للمرحلة الاقتطاعية.
التنوير كان الايديولوجيا النموذجية للبرجوازية الصاعدة، التي وضعت نفسها كممثلة “للنور”: تماما كما يتحدثون في السياسة باسم المساواة بين الناس، أو حقوق الإنسان، كمعارضة للأنظمة الإقطاعية وامتيازاتها النمطية، وهرميتها، وأفكارها، ومناهضتها للعلم. وبمجرد توطيد سلطة البرجوازية يتغير هذا الموقف. نسخة هذه المرحلة ستكون حقا محافظة؛ النظام الاجتماعي سيبقى عليه وعلم الاجتماع سيشرح كيف أن هذا النظام طبيعيا، تماما كالجيولوجيا، أو الفيزياء، أو الكيمياء. ستظهر بيئة إيمان أيديولوجية من التقدم الناشيء عن التطور الاقتصادي والمحافظة الاجتماعية.
الفلسفة الناتجة عن هذا التطبيق للعلوم الطبيعية على المجتمع مرتبطة بشكل وثيق بشخصية أوغست كونت، مؤسس الوضعية: تصور يوسع هذا الفهم بشكل خطي على المجتمعات، بادعاءات علمية، بل حتى بخلق قواعد سلوك لدراسة المجتمع علميا: علم الاجتماع، أو كما دعاه فيزياء كونت الاجتماعية.
كونت اعتبر أن المجتمع لديه قوانين سببية من نفس طبيعة قوانين الفيزياء، وأنه يوجد فيه تطور دائم، صيرورة تقدم كتلك التي في الطبيعة(4). هو ومنظرون آخرون قاموا ببناء وجهة نظر حتمية من هذا، بأن الأحداث التاريخية تحددت مسبقا عبر قوانين الفيزياء الاجتماعية تلك.
نقاد إنجلز يتهمونه بالتأثر بمثل هذا التصور، بيد أن نصوص إنجلز تهاجم تحديدا هذا النوع من الحتمية والتصور الميكانيكي لتطبيق قوانين فيزيائية أو بيولوجية على المجتمع. حتى أنه بين أن الرؤية الحتمية لا تنطبق في الطبيعة أيضا كما يظن الماديون العاديون.
إنجلز كتب في “ضد دوهرنغ”:
“النظام الهيغلي، بحد ذاته، كان إجهاضا هائلا – ولكنه أيضا كان الأخير من نوعه. كان يعاني، في الواقع، من تناقض داخلي مستعصي. من جهة، فإن طرحه الجوهري يتمثل في تصور أن التاريخ البشري هو عملية تطور، والتي بطبيعتها لا يمكن أن تصل إلى أجلها النهائي الفكري في اكتشاف أيٍ مما يدعى بالحقيقة المطلقة. ولكن من جهة أخرى، طرح ادعاء أنه جوهر هذه الحقيقة المطلقة. نظام المعرفة الطبيعية والتاريخية، الذي ينطوي على كل شيء، ونهائي في كل زمن، هو تناقض مع القوانين الأساسية للمنطق الهيجلي… ولكن اشتراكية الأيام السابقة كانت متضاربة مع هذا التصور المادي بقدر ما كان تصور الطبيعة لدى الماديين الفرنسيين متضاربا مع الدياليكتيك وعلم الطبيعة الحديث” (5).
في رسالته إلى ميهرنغ عام 1893، لم يراوغ انجلز، بعد أن امتدح كتابه أسطورة ليسنغ والملحق الذي كتبه ميهرنغ حول المادية التاريخية، في مهاجمة التفسيرات التي حاولت أن تجعلهم يبدون كماديين ميكانيكيين مبتذلين وأن تواجه هذه المادية المفترضة لماركس وإنجلز لتبرير مثاليتها هي.
“لندن، 14 تموز 1893
سأبدأ في النهاية_ ملحق المادية التاريخية، الذي وصفت فيه القضايا الرئيسية بشكل رائع ومقنع لأي شخص غير متحيز. إذا كنت سأجد أي شيء لأعترض عليه فهو أنك نسبت إليّ كثيرا من الفضل الذي لا أستحقه. حتى لو أخذت بعين الاعتبار كل ما قد أكون وصلت إليه بنفسي –في الوقت المناسب- ولكن ماركس بانقلابه (التقاطته) الأكثر تسارعا ورؤيته الأوسع كان قد اكتشفه بشكل أسرع. عندما يكون للمرء حظا جيدا للعمل مدة أربعين سنة مع رجل مثل ماركس، فإنه عادة لا يحصل على التقدير الذي يعتقد أحدهم أنه يستحقه خلال حياته. بعدها، إذا مات الرجل الأعظم، يصبح الأمر أقل سهولة، وهذا ما تبدو عليه حالتي تماما في الوقت الراهن؛ التاريخ سيضع كل هذا بشكل صحيح في النهاية، وبحلول ذلك الوقت سيكون المرء قد انزوى بأمان ولم يعد يعرف شيء عن أي شيء.
خلاف ذلك، هناك نقطة واحدة فقط ناقصة، وهي أنه رغم كل شيء فشلنا ماركس وأنا في التأكيد بما فيه الكفاية في كتاباتنا بأننا جميعا مذنبون بشكل متساوي بشأنها. ما ينبغي قوله أننا جميعا وضعنا، وكان لزاما علينا أن نضع الرتكيز الرئيسي، في المقام الأول، على اشتقاق المفاهيم السياسية والقانونية والأيديولوجية الأخرى، وعلى الأفعال المنبثقة في أتون هذه المفاهيم، من حقائق اقتصادية أساسية. ولكن بفعل هذا أهملنا الجانب الشكلي_ الطرق والوسائل التي تظهر عبرها هذه المفاهيم وغيرها_ لصالح المضمون.
“الأيديولوجي الذي يتعامل مع التاريخ (المقصود بالتاريخ هنا ببساطة أن يشمل جميع المجالات- السياسية، والقانونية، والفلسفية، واللاهوتية- التي تعود إلى المجتمع وليس إلى الطبيعة فحسب)، وبذلك يتعامل الأيديولوجي مع التاريخ، يمتلك في كل مجال لمادة علمية شكلت نفسها بشكل مستقل عن فكر الأجيال السابقة، ومرت في سلسلة تطورات مستقلة في أذهان هذه الأجيال المتعاقبة.. حقائق خارجية صحيحة تعود لمجالاتها، أو ربما تكون مجالات أخرى قد مارست تأثيرا مشترك التحديد على هذا التطور، لكن الافتراض المسبق الضمني هو أن هذه الحقائق بحد ذاتها هي أيضا مجرد ثمار لصيرورة تفكير، وبذلك فإننا نبقى ضمن نطاق الفكر الخالص الذي هضم بنجاح أصعب الحقائق.
وفوق كل هذا ظهور التاريخ المستقل لدساتير الدول، ونظم القوانين، والتصورات الأيديولوجية في كل نطاق منفصل، ما يبهر معظم الناس…
إلى جانب هذا أيضا الرأي السخيف للأيديولوجيين القائلين بأنه لأننا ننكر التطور التاريخي المستقل لمختلف المجالات الأيديولوجية التي تلعب دورا في التاريخ، فإننا ننكر أيضا أن يكون لها أي تأثير على التاريخ. أساس هذا هو التصور اللادياليكتيكي الشائع حول السبب والنتيجة على أنهما قطبين متعارضين بشكل صارم، والتجاهل التام للتفاعل؛ هؤلاء السادة يتناسون، بشكل متعمد عادة، أنه بمجرد إدخال عنصر تاريخي إلى العالم عبر عناصر أخرى، وجوهريا عبر حقائق اقتصادية، فإنه أيضا يتفاعل بدوره، وقد يتفاعل مع بيئته أو حتى مع مسبباته الخاصة”(6).
وفي دياليكتيك الطبيعة كتب إنجلز في “ملاحظات ومتفرقات”:
(الصدفة والضرورة)
“… مقابل وجهة النظر هذه، هناك الحتمية التي انتقلت من المادية الفرنسية إلى علم الطبيعة، والتي تحاول التخلص من الصدفة عبر إنكارها كليا. وفقا لهذا التصور فإن الضرورة البسيطة المباشرة فقط هي ما يسود في الطبيعة. بمعنى أن حبة بازيلاء معينة تحتوي على خمسة حبيبات وليس أربع أو ست، وأن ذنب كلب معين يبلغ طوله خمس بوصات وليس أطول أو أقصر، وأن زهرة برسيم معينة هذا العام تم تخصيبها بواسطة نحلة وأخرى لا، وبالفعل من قبل نحلة معينة على وجه التحديد وفي وقت معين، وأن بذرة هندباء معينة تعرضت للريح قد نبتت وأخرى لم تنبت، وأنني في الليلة الماضية تعرضت للعض من قبل برغوث في تمام الساعة الرابعة صباحا، وليس في الساعة الثالثة أو الخامسة، وعلى الكتف الأيمن وليس على الفخذ الأيسر_ هذه كلها حقائق نتجت عن تسلسل محكم للسبب والمسبب، عبر ضرورة راسخة لمثل هذه الطبيعة حقا، بمعنى أن كرة الغاز التي انبثق عنها النظام الشمسي كانت بالفعل مشكلة بحيث ينبغي أن تحدث هذه الأحداث هكذا وليس على نحو آخر. بهذا النوع من الضرورة فإننا أيضا لا نبتعد عن التصور اللاهوتي للطبيعة…
(الدياليكتيك).. قوانين الطبيعة السرمدية، تتحول أيضا أكثر فأكثر إلى قوانين تاريخية. أن يكون الماء سائلا من 0-100 درجة مئوية هو قانون طبيعة أبدي، ولكن كي يكون هذا القانون صالحا يجب أن يكون هناك (1) ماء، (2) درجة الحرارة المعطاة، (3) ضغط اعتيادي. على القمر لا يوجد ماء، وفي الشمس توجد فقط عناصره، والقانون غير موجود بالنسبة لهذين الجسمين السماويين”(7).
في هذا النص نفسه، في مقدمته، يوضح إنجلز العلاقة الجدلية بين الإنسان والمجتمع، والطبيعة، والتاريخ:
“بالإنسان ندخل التاريخ.. من جهة أخرى كلما بات البشر منسلخين أكثر عن الحيوانات، بالمعنى الأضيق للكلمة، وصنعوا تاريخهم الخاص بشكل أكثر وعيا، كلما أصبحت سطوة التأثيرات غير المتوقعة وقوى هذا التاريخ الخارجة عن السيطرة أقلّ، وكلما تجاوبت النتائج التاريخية بشكل أكثر دقة مع الهدف المحدد مسبقا. ومع ذلك، إذا طبقنا هذا المعيار على تاريخ الإنسان، بل حتى على أكثر الشعوب تطورا في يومنا هذا، فإننا نجد أنه لايزال هناك تفاوت هائل بين الأهداف المقترحة والنتائج التي تم التوصل إليها، حيث تسود التأثيرات غير المتوقعة، وأن القوى الخارجة عن السيطرة أكثر قوة إلى حد بعيد من تلك التي وضعت حيز التنفيذ وفقًا للخطة. وهذا لا يمكن أن يتم بشكل مغاير طالما أن النشاط التاريخي الأكثر جوهرية للبشر، ذلك الذي ارتقى بهم من الهمجية إلى الإنسانية، والذي يشكل الأساس المادي لكافة أنشطتهم الأخرى، أي إنتاج متطلبات حياتهم، بمعنى الإنتاج الإجتماعي اليومي، يخضع قبل كل شيء لتفاعل التأثيرات غير المقصودة من القوى الخارجة عن السيطرة ولا يحقق غايته المنشودة إلا عبر الاستثناء، وفي كثير من الأحيان العكس تماما. في البلدان الصناعية الأكثر تقدما، أخضعنا قوى الطبيعة وضغطنا عليها لخدمة البشرية، وبذلك قمنا بمضاعفة الإنتاج بشكل لامحدود، بحيث أصبح الطفل الآن ينتج أكثر مما كان يفعله مئات البالغين. وما هي النتيجة؟ زيادة في الكدح، وزيادة في بؤس الجماهير، وكل عشر سنوات انهيار ساحق” (8).
الخلط بين عقلية إنجلز وعقلية الاشتراكية الديمقراطية والستالينية اللاحقتين
معظم منتقدوا إنجلز ينسون حقيقة واحدة: طيلة حياة ماركس وإنجلز كان هناك معركة ضد كل من الضغوط التي عانى منها الحزب الإشتراكي الديمقراطي الألماني، وردود أفعال قيادته، والتي كرس فيها كلاهما ميولا للتراجع في البرنامج والنظرية.
“ضد دوهرينغ” كتب فقط لأن أفكار دوهرينغ كان لها تأثير على قيادة الحزب نفسها، بعد وفاته، واقترانا بعملية موضوعية لإضفاء الأرستقراطية على قطاعات من الطبقة العاملة الألمانية (وفي البلدان الإمبريالية الأخرى)، والبيروقراطية على القيادات النقابية المرتبطة بالحزب، ما انتهى بها إلى التخلي عن البرنامج الشيوعي، وإلى الخيانة في الحرب العالمية الأولى عام 1914، وإلى استبدال النظرية الماركسية بالنظرية التطورية، أي الفكرة القائلة بأن المجتمع الرأسمالي سيتطور طبيعيا إلى الرأسمالية دون الحاجة إلى انفجارات ثورية.
كاوتسكي، منظر الإشتراكية الديمقراطية الأكثر أهمية، كان هو المبتكر الفصل لهذه النظرية التبريرية التطورية الجديدة التي منحت الأساس للإصلاحية. بيرنشتاين كان قد سبقه عام 1899، وقد تمت محاربته من قبل روزا ليكسمبورغ (وكاوتسكي في ذلك الوقت) وهزم داخل الحزب. ولكن سنة 1914 اتحد هو وكاوتسكي بهذه الرؤية، والتي كانت مناقضة لماركس وإنجلز. مناقضة في البرنامج والنظرية. لقد كانت بديلا عن التصور المادي للتاريخ عبر مادية تطورية مبتذلة، والتي تم تبنيها لاحقا من قبل ستالين والبيروقراطية الروسية عندما استولوا على السلطة في الاتحاد السوفييتي.
أحد النصوص التي أيدت هذا التصور الميكانيكي هو رسالة بوخارين في المادية التاريخية، والتي لها عنوان فرعي لمقال في علم الاجتماع المقارن.
ولكن طالما قام لينين بمهاجمة كاوتسكي، وكذلك فعل تروتسكي في معركته ضد البيروقراطية، حيث كانت هذه المفاهيم مناقضة لماركس وإنجلز. في المئوية الثانية لذكرى إنجلز لا بد من إنقاذ مساهمته في الماركسية، وأهمية تفصيله إلى جانب ماركس للتصور المادي للتاريخ، من أجل التسليح البرامجي للاشتباك الثوري في تلك اللحظة التاريخية، التي شهدت ضغوط الإصلاحية وما بعد الحداثة، والتي يستخدم فيها كل لحظة خطاب يدعي بأنه لا يوجد ما هو محدد، ولا شيء يمكن إثباته.
على حد تعبير تروتسكي في الذكرى الـ 90 للبيان الشيوعي، حين كتب عام 1937:
“المفهوم المادي للتاريخ الذي اكتشفه ماركس، قبل فترة وجيزة من تطبيقه بمهارة فائقة في المانفيستو، صمد تماما أمام اختبار الأحداث وضربات النقد المعادي، ويشكل اليوم إحدى أثمن أدوات الفكر الإنساني. كافة التفاسير الأخرى للصيرورة التاريخية فقدت كل معنى علمي. يمكننا أن نؤكد على وجه اليقين أنه يستحيل في زمننا ليس فقط أن تكون مناضلا ثوريا، بل حتى مراقبا مثقفا في السياسة، دون استيعاب التفسير المادي للتاريخ (9).
_________________________
1-إنجلز لماركس (28 أيار 1876)، ماركس وإنجلز_ الأعمال الكاملة، المجلد 45، ص 122.
2-هذا “النظام الطبيعي للمعرفة الذي هو بحد ذاته ذو قيمة للعقل”، قام “دون أدنى انحراف عن عمق الفكر، بإرساء الأشكال الأساسية للوجود”. من “وجهة نظره النقدية حقا”، حيث يوفر “عناصر الفلسفة الحقيقية، والتي بالتالي تتجه إلى واقع الطبيعة والحياة.. فلسفة لا يمكن أن تتيح صلاحية أي أفق بمجرد ظهوره، ولكن في حركتها التثويرية القوية تفتح كل أراضي وسماوات الطبيعة الخارجية والداخلية”.. “إنها نمط جديد من التفكير”، ونتائجها “من الألف إلى الياء استنتاجات ووجهات نظر أصيلة.. أفكار خلق نظام.. حقائق راسخة”. فيها يتجلى أمامنا “عمل يجب أن يجد قوته في مبادرة مركزة”_ مهما كان معنى ذلك؛ “تحقيق يمضي إلى الجذور.. علم متجذر بعمق.. تصور علمي صارم للأشياء والإنسان.. عمل فكري شامل بعيد النظر.. تطور إبداعي للمقدمات والاستنتاجات يمكن التحكم فيه بالفكر.. جوهري بشكل مطلق”. ضد دوهرينغ، المقدمة.. https://marxists.architexturez.net/archive/marx/works/1877/anti-duhring/ch00.htm
3-من ماركس إلى مورتز كوفمان، ماركس وإنجلز الأعمال الكاملة، المجلد 45، ص 333.
4-دون الإعجاب بالحقائق السياسية أو لعنها، رؤيتها أمر جوهري، كما هو الحال بالنسبة لأي علم آخر، على أنها مجرد مواضيع للمراقبة، لذا تأخذ الفيزياء الإجتماعية بعين الاعتبار كل ظاهرة من وجهة نظر أولية مزدوجة لتناغمها مع الظواهر المتواجدة معها والتي تثار كحالة سابقة أو لاحقة للتطور البشري. نقلاً عن مايكل لوي في مغامرات كارل ماركس ضد بارون مونشهاوزن ، كورتيز ، ساو باولو ، 2003 ، الطبعة الثامنة. ص 24.
5-فريدريك إنجلز، ضد دوهرنغ، ماركس وإنجلز الأعمال الكاملة، المجلد 25، ص 25.
6_من إنجلز إلى فرانس ميهرينغ (14 تموز 1893)، ماركس وإنجلز الأعمال الكاملة، المجلد 50، ص 163.
7_إنجلز، دياليكتيك الطبيعة، ماركس وإنجلز الأعمال الكاملة، المجلد 25، ص 499.
8_المرجع السابق ص 330.
9_تروتسكي، تسعون عاما على المانفيستو الشيوعي.. https://www.marxists.org/archive/trotsky/1937/10/90manifesto.htm
#خوسيه_ويلموويكي (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
أكره مرؤوسته على أعمال جنسية مقابل امتيازات.. استقالة مسؤول
...
-
ضمن -كمائن الصمود والتحدي-.. -القسام- تعرض مشاهد لعدد من عمل
...
-
قوات الدعم السريع تعلن استعادة السيطرة على قاعدة -الزُرُق- ا
...
-
الاتحاد الأوروبي يضع لمسات أخيرة على اتفاقيات هجرة مع دول عر
...
-
-بعبوة العمل الفدائي وبأخرى شديدة الانفجار وقذيفة-..-القسام-
...
-
تبادل رسائل حادّة اللهجة بين غانتس ومكتب نتنياهو
-
اسم يتردد مجددا.. ما هو دور فاروق الشرع في سوريا الجديدة؟
-
الرئيس الروسي يجري محادثات مع رئيس وزراء سلوفاكيا في الكرملي
...
-
-واقع مرير-.. صحفي إيرلندي يوصّف التعبئة القسرية بأوكرانيا
-
انقطاع الكهرباء عن مستشفى كمال عدوان عقب قصف إسرائيلي للمولد
...
المزيد.....
-
لبنان: أزمة غذاء في ظل الحرب والاستغلال الرأسمالي
/ غسان مكارم
-
إرادة الشعوب ستسقط مشروع الشرق الأوسط الجديد الصهيو- أمريكي-
...
/ محمد حسن خليل
-
المجلد العشرون - دراسات ومقالات- منشورة بين عامي 2023 و 2024
/ غازي الصوراني
-
المجلد الثامن عشر - دراسات ومقالات - منشورة عام 2021
/ غازي الصوراني
-
المجلد السابع عشر - دراسات ومقالات- منشورة عام 2020
/ غازي الصوراني
-
المجلد السادس عشر " دراسات ومقالات" منشورة بين عامي 2015 و
...
/ غازي الصوراني
-
دراسات ومقالات في الفكر والسياسة والاقتصاد والمجتمع - المجلد
...
/ غازي الصوراني
-
تداخل الاجناس الأدبية في رواية قهوة سادة للكاتب السيد حافظ
/ غنية ولهي- - - سمية حملاوي
-
دراسة تحليلية نقدية لأزمة منظمة التحرير الفلسطينية
/ سعيد الوجاني
-
، كتاب مذكرات السيد حافظ بين عبقرية الإبداع وتهميش الواقع ال
...
/ ياسر جابر الجمَّال
المزيد.....
|