|
الذكرى العاشرة لثورة 17 ديسمبر/ 14جانفي.ماذا تبقى من الثورة التّونسيّة ؟
الطايع الهراغي
الحوار المتمدن-العدد: 6760 - 2020 / 12 / 14 - 23:56
المحور:
الثورات والانتفاضات الجماهيرية
الذّكرى العاشرة لثورة 17ديسمبر// 14جانفي ماذا تبقّى من الثّورة التّونسيّة ؟؟
لو كان لي حاضر / لامتلكت مفاتيح أمسي ولو كان أمسي معي / لامتلكت غدي كلّه -- محمود درويش / لماذا تركت الحصان وحيدا؟ الكتابة عن الثورة شيء والكتابة للثّورة شيء آخر مخالف تماما . الكتابة عن الثّورة أمر بات أقرب إلى" الموضة " ، بعض المولعين بها تسكنهم رغبة تسجيل أسمائهم في بورصة المفاخرات المنقولة إثباتا لوجود وتوهّما لأهمّيّة بالتّعويل على مكر الزّمن وتقادمه ، علّ التّقادم والنّسيان يقبران الفوارق بين من كانوا لها سندا ومن كانوا عليها نقمة . الكتابة للثّورة، تماما ككلّ كتابة جادّة، تمليها على صاحبها الحقبة و الضّرورة والمسؤولية الأدبيّة والفكريّة والسّياسيّة. ماذا تبقّى من الثورة ؟ حصاد الهشيم وقبض الرّيح ، سيردّد المتشائمون والمشكّكون ، الذين كان لسان حالهم دوما يكرّر على غرار أسلافهم من الانتهازيّين" ماكان يجب حمل السّلاح " وترجمتها في القاموس التّونسيّ : ليتها لم تقع . السّؤال في هذه الحالة ليس سؤالا تقييميّا بل هو حكم مابعديّ مدخلا لإجابة مابعديّة ، منطلقها افتراضيّ : ماذا لو لم تقع ؟ سؤال غير تاريخيّ ، إذ التّاريخ يسرد ما تحفظه الذّاكرة لا ما تتخيّله وتتمنّاه أن يكون . وفي ذلك بالضّبط يفترق التّاريخ عن الأدب ويكتسب كلّ أهمّيّته. . الاتّكاء على الانفلاتات ، الملازمة ضرورة وتعريفا لكلّ التّحوّلات التّاريخيّة ، لرجم الثورة والتّنصّل منها وشيطنة قيامها أصلا فعل لا تاريخيّ . الفهم عندما يتحوّل إلى مدخل للتّبرير يشرّع كلّ التّراجعات ويصبح فهما ارتداديّا مقلوبا على رأسه . الثورة التّونسية حدث تاريخيّ، خطيئتها --إن كان لها خطيئة -- أنّها خاتلت الجميع، راوغت عرّافي الثّورات ، لم تنظر أمرا من أحد ، كدّست دفعة واحدة كوما من التّحديّات ودمغت الجميع بكبرى الإشكاليّات ، طرحت آمالا وأحلاما وآفاقا كثّفتها في شعارات تغني عن كلّ التّفاصيل : التّشغيل استحقاق يا عصابة السّرّاق / شغل ، حرّية ، كرامة وطنيّة . حوّلت الثورة الاحتمال ( الحلم / الانتظارات... ) إلى واقع . ماكان إمكانيّة (القطع والحسم مع أنظمة الاستبداد المغلقة) متروكة إلى توفّر الظروف الموضوعيّة ومدى جاهزيّة الأطراف السّياسيّة -- الأحزاب أساسا -- بات واقعا عينيّا . في أنظمة نمط الاستبداد الشّرقيّ المحكم الإغلاق ، التّغيير يكاد يكون أمرا ميؤوسا منه ما دامت الأحزاب الحاكمة هي عمليّا أحزاب الحاكم، والعسكرتاريا هي التي تتحكّم فعليا في سائر الدّواليب . الحاكم بأمره لا يخلع إلاّ بإحدى الثورتين : ثورة القبر أو ثورة القصر.. الإطاحة برأس الاستبداد في هكذا أنظمة إنجاز يفتح الباب واسعا أمام أكثر من إمكانيّة ويسهّل إلى حدّ مهمّة المعارضات . شرف الثورة التّونسيّة -- دع عنك الأسئلة غير البريئة عن مآلها واحتمالات استمراريّتها -- أنّها حسمت أكثر من مسالة وأربكت قناعات وحتّمت مراجعات: أوّلها : أنّ الأنظمة الاستبداديّة ليست قدرا. . وثانيها : أنّ الثورات ليست استجابة لما عشّش في أذهان النّخب من معادلات أساسها نضج الظروف الموضوعيّة وجاهزيّة الأطراف السّياسيّة- الأحزاب أساسا . وثالثها : تجاوز عقدة صعّدت إلى مرتبة الحقيقة والقانون : لا ثوراث في البلدان المتخلّفة عموما وفي البلدان العربيّة خصوصا . . وربعها : الرّبط مع موروث ثوريّ تكرّس في أكثر من تجربة : إمكانيّة قيام ثورات في المحيط وليس بالضّرورة في المركز . كان ذلك حال روسيا ، رمز الاستبداد الشّرقيّ بنمط إنتاجها الآسيويّ في ثوراتها الثّلاثة : ثورة 1905 وثورتي فيفري (مارس بالتّقويم الرّوسيّ ) وأكتوبر( نوفمبر بالتّقويم الرّوسيّ) 1917 والصّين البلد الفلاحيّ بامتياز وجزء هامّ من بلدان أوروبا الشّرقيّة . . . . وخامسها : أنّها ردّت على حالة اليأس التي خيّمت على شعوب "الأطراف "، والقوى اليساريّة خصوصا ،من إمكانية حدوث أو إحداث تغيير خاصّة في ظلّ تضخّم سطوة الاعتقاد في سيادة القطب الواحد والتّنظير لبدعة نهاية التّاريخ وصراع الحضارات. وسادسها : كونها دلّلت على تبدّل طبيعة القوى المحرّكة للثّورات ( الأطراف المهمّشون / الشّباب / المقصون من الدّورة الاقتصاديّة ) وسابعها:أنّها أحيت في شعوب المنطقة ذلك الحماس الوطنيّ الذي ميّزها أيّام معاركها في مراحل التّحرّر الوطنيّ . سباق المسافات الطّويلة المشهد السّياسيّ مشهد عبثىّ سرياليّ مزيج من المأساة والملهاة ، يكشف طفوليّة سياسيّة مرعبة ومدمّرة ، يكفي فقط استحضار ثلاث عيّنات تختزل كارثيّة المشهد : خطاب مكرور من رئاسة الجمهوريّة يدور حول نفسه ، يدين الجميع فلا يدين أحدا، ويتوعّد أشباحا فلا يعبأ به أحد ، لا يفرّق بين بلاغة القول، إن وجدت ، وبلاغة الفعل ، مجلس نوّاب حوّل تحريف السّياسة إلى احتراف وجعل من قبّة البرلمان فضاء للتّدرّب على انتهاك كلّ الأعراف ، تحالفات سياسيّة هي من الغرائبيّة إلى درجة بات فهمها يتطلّب تغييب كلّ منطق ، يكفي تدليلا على ذلك استحضار مدوّنة المدح ( بلغ أحيانا حدّ الغزل ) الذي كاله طرف سياسيّ( ائتلاف الكرامة ) للأطراف السّياسيّة التي كان يراد لها أن تشكّل ما روّج له على أنّه ائتلاف ثوريّ ، تحالفات من فرط فظاعتها انفرط عقدها قبل أن يجفّ حبرها. وتحوّل المديح تعقّبا للمثالب وفي حيّز زمنيّ قياسيّ . تكرّر المشهد بهجانته أمر يدعو إلى الرّيبة . وبما أنّ العمل السّياسيّ لا يقوم على حسن النّوايا ( هذا إن وجدت ) جاز لنا أن لا نستبعد أن يكون تعفين الحياة السّياسيّة سياسة مدروسة بقصديّة وبوعي وبتشفّ من "هذا الذي ما كان يجب أن يقع ". تسطيح المشهد السّياسيّ، وأشنع منه تسطيح السّياسة والفاعلين السّياسيّين، هدفه المماثلة بين السّياسة -- التي هي فنّ إدارة الشّأن العامّ بالاحتكام إلى سلوك مدنيّ يقوم على إدراك نواميس أهمّها احترام " قوانين اللّعبة "-- وبين الفعل السّياسيّ الذي انحدر إلى ما دون الدّرجة الصّفر. لا معقوليّة المشهد السّياسيّ يراد لها أن تتحوّل إلى لا معقوليّة السّياسة فتنحرف السّياسة عن ماهيّتها، إحكام إدارة الشّأن العامّ والحاجات المجتمعيّة وتنزاح إلى مهمّة أخرى لتصبح سبيلا لثني " العامّة " عن أيّ اهتمام لتستأثر " الخاصّة " بكلّ الاهتمام . أليس غريبا وعجائبيّا أن تكون السّاحة السّياسيّة، عشر سنوات بعد الثّورة ، أكثر تصحّرا ممّا كانت عليه في عهد بن علي حتّى صحّ فيها قول شاعر عباسيّ: ( ذهبت آفات حرنا في أسمائها // وأتت آفات ما لهنّ أسامي ) ؟ لماذا ؟ لأنّ اليمين بشقّيه الدّينيّ والمدنيّ المتناسل تناسل كلّ حكومات التّرويكات مسكون بغريزتين: غريزة حبّ البقاء في الحكم وغريزة حبّ الاستئثار بالحكم . ما سبيله إلى ذلك ؟ إلى حدّ الآن لم تتفتّح عبقريّته إلاّ عن حلّ بائس: قبر الحياة السّياسيّة وتهجينها لتنفير النّاس منها ومن اللعبة الدّيمقراطيّة. ماذا تبقّى من الثّورة ؟ الاهتمام بالثورة التّونسيّة ليس اهتماما أحاثيّا بالماضي، بل اهتمام بالمستقبل .ولا سبيل إلى ذلك إلاّ بالوقوف عند الأخطاء التي وقعت فيها الثورة والتي ينبغي تمثّلها عسى أن نتلافاها في قادم المحطّات . أوّل هذه الدّروس أنّ الثّورة -- والقوى الثّوريّة المرتبطة بها -- إذا ما سلّمت أمرها لمن ليس منها سهّلت إجهاض الثورة و حكمت على نفسها بالفشل . وثانيها ، أنّ الثورة ما إن تندلع حتى تجد نفسها أمام احتمالين ، أمّا تردّد فهلاك وإمّا تحوّط فتصميم فنجاة . وثالثها ، قدر كلّ الثورات أن تجابه معسكرين ، معسكر المجتمع القديم المتهاوي من خارجها ، ومعسكر" قنّاصي" الثورات من داخلها . ورابعها ، لكلّ ثورة أزلامها ، وكثيرة هي الثورات التي أجهضت من معسكر "أصدقائها" : الثورة الرّوسيّة ( 7 191 ) // الثورة الإيرانيّة ( 1979 ) // الثورة الألمانيّة ( 1918—1919 ). ألم يقل" نوسكه" أحد زعماء الاشتراكيّة الدّيمٌراطيّة الألمانيّة عن قمع الثورة ، هذه المهمّة لا بدّ لها من كلب دمويّ وأنا لها ؟ . فكان فتكه بثوّار رابطة سبارتكوس استعراضيا حتّى استحقّ عن جدارة لقب الكلب الدّمويّ، وأكثر منه بربريّة اغتيال الثوريّة الأمميّة " روزا لوكسمبورغ " ورفيق دربها "كارل ليبنيخت " ( 15جانفي 1919 ) بثأريّة بدائية ( لم يعثر على جثّة روزا إلاّ يوم 13 جوان ). وخامسها ، أنّ الثورة كشفت طبيعة النّخبة ، نخبة مترهّلة ، متيتّمة ، غير مدركة لهويّتها -- كجسم وليس كذوات متذرّرة -- ، جزء منها حصر دوره في تعقّب تموّجات التّرويكات الحاكمة ونذر نفسه لخدمتها بما يلزم من تخريجات : التّهليل لحكومة الرّئيس/ التّنظيرلحكومة الائتلاف الثّوريّ التي لا شيء يجمع بين مكوّناتها غير العقليّة البدائيّة التي تتوهّم وتقبل تعايش المتناقضات -- وليس فقط النقيضين--، وجزء آخر تورّط ( إن لم يكن وقع انتدابه ) في تهجين الثورة وكلّ الحراك الذي تلاها، وتكفّل بالوكالة عن اليمين الحاكم بتقزيم كلّ نفس ديمقراطيّ/ تقدميّ / ثوريّ . وسادسها ، ويبقى من الثورة ما من أجله قامت ، عنادها / إصرارها / مقاصدها شعاراتها المجسّدة في مطالبها / قيمها: العدالة الاجتماعيّة / الحرّيّة / الكرامة البشريّة مجسّدة في المحسوس من شغل ورفاه اجتماعي وتأمين على المستقبل . ويبقى على الثّورييّن الاتّعاظ من حصاد عشر سنوات، بنقد ذاتيّ مسؤول لكارثية العمل الفئوي سمة " الثوريّين " الهواة وبتطليق الأوهام عن إمكانيّة تصديع جبهة اليمين والاتّجاه صوب المستقبل بما يوحي به الحاضر من هزّات اجتماعيّة، التّكهّن بقادحها عسير والاستعداد إليها ضروريّ، إذ الثورة هي " هجوم الجنون في التّاريخ " كما وصفها ريمون آرون ، حتّى أنّ فيكتور هيقو لم يجد بدّا من التّساؤل : " لماذا تندلع دائما فجأة كرعد من سماء صافية الأديم ؟ ".
#الطايع_الهراغي (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
افي ذكرى وفاته الخامسة والثمانين /الطاهر الحداد ذلك الثوري ا
...
-
النّخبة التّونسيّة ولعنة الثّورة
المزيد.....
-
حسن العبودي// دفاعا عن الجدال... دفاعا عن الجدل (ملحق الجزء
...
-
الحراك الشعبي بفجيج ينير طريق المقاومة من أجل حق السكان في ا
...
-
جورج عبد الله.. الماروني الذي لم يندم على 40 عاما في سجون فر
...
-
بيان للمكتب السياسي لحزب التقدم والاشتراكية
-
«الديمقراطية» ترحب بقرار الجنائية الدولية، وتدعو المجتمع الد
...
-
الوزير يفتتح «المونوريل» بدماء «عمال المطرية»
-
متضامنون مع هدى عبد المنعم.. لا للتدوير
-
نيابة المنصورة تحبس «طفل» و5 من أهالي المطرية
-
اليوم الـ 50 من إضراب ليلى سويف.. و«القومي للمرأة» مغلق بأوا
...
-
الحبس للوزير مش لأهالي الضحايا
المزيد.....
-
ثورة تشرين
/ مظاهر ريسان
-
كراسات شيوعية (إيطاليا،سبتمبر 1920: وإحتلال المصانع) دائرة ل
...
/ عبدالرؤوف بطيخ
-
ورقة سياسية حول تطورات الوضع السياسي
/ الحزب الشيوعي السوداني
-
كتاب تجربة ثورة ديسمبر ودروسها
/ تاج السر عثمان
-
غاندي عرّاب الثورة السلمية وملهمها: (اللاعنف) ضد العنف منهجا
...
/ علي أسعد وطفة
-
يناير المصري.. والأفق ما بعد الحداثي
/ محمد دوير
-
احتجاجات تشرين 2019 في العراق من منظور المشاركين فيها
/ فارس كمال نظمي و مازن حاتم
-
أكتوبر 1917: مفارقة انتصار -البلشفية القديمة-
/ دلير زنكنة
-
ماهية الوضع الثورى وسماته السياسية - مقالات نظرية -لينين ، ت
...
/ سعيد العليمى
-
عفرين تقاوم عفرين تنتصر - ملفّ طريق الثورة
/ حزب الكادحين
المزيد.....
|