المهدي بوتمزين
كاتب مغربي
(Elmahdi Boutoumzine)
الحوار المتمدن-العدد: 6759 - 2020 / 12 / 12 - 02:40
المحور:
القضية الفلسطينية
في سياق مجريات الأحداث الراهنة , إقليميا و دوليا , و في خضم الصراعات السياسية و العسكرية , أعلن الرئيس الأميركي المنتهية ولايته دونالد ترامب , دخول المغرب على خط البلدان المعلنة للتطبيع العلني مع إسرائيل , كخطوة سياسية لخلق التوازن المطلوب استراتجيا و أمنيا . إن المقصود بالتطبيع , هو نقل التعاون من المستوى الحاص و الإستثنائي إلى مستوى عام مرئي و إعلامي ؛ وليس تأسيس جديد لقواعد و ركائز العلاقات المتبادلة بين الطرفين في شتى المجالات .و تأسيسا عليه نجد أنه من المناسب إشهار العلاقات , حتى يكون المواطن على علم بالسياسات العامة للدولة , في إطار ديمقراطي يتسم بالشفافية و النزاهة أو ما يمكن تسميته بالغلاسنوست كما في القاموس الشيوعي .
تربط اليهود تاريخيا و حاضرا بالمغرب أواصر متينة , ترجع إلى ماضيهم العريق في هذا البلد, الذي حطوا فيه منذ زمن الفينيقيين , فأحسنوا التجارة و شكلوا إرثا دينيا و ثقافيا أغنى رصيد المغرب , و مازال المغاربة إلى اليوم يحافظون على هذا الإرث اللامادي , تحت رعاية مؤسساتية من أعلى مستوى في البلد . و كان موقف الملك المغربي السابق محمد الخامس , الأثر العظيم في نفوس اليهود , حينما رفض تسليمهم إلى حكومة فيشي . و هذا من تجليات إمارة المؤمنين التي تجعل الأفراد و الجماعات في ذمة الدولة الراعية لمصالحهم و حياتهم . إنها رسالة الإسلام التي تدعو إلى الرحمة و التعايش و السلم بين الجميع , لأن الرسالة جاءت عالمية و لم تخص جماعة بعبارة شعب الله المختار .
إن المغرب كدولة إسلامية , قدم النموذج الأمثل في خطاب السلم العالمي و السلام الكوني , و استطاع تدبير مراحل حساسة من تاريخ الصراعات و الأزمات الإقليمية و الدولية , بما فيها قضية القدس العربي الإسلامي-المسيحي . و الفلسطنيون يدركون تماما أن الدولة المغربية لم تأل جهدا في سبيل استتباب الأمن داخل الأراضي الفلسطينية , و المشاركة الفعالة في الرفع من الاقتصاد الداخلي و توفير مستلزمات الغذاء و الطب و غيرهما . لكن الخطاب الديني العاطفي ليس الرافعة الحقيقية اليوم لإيجاد حل سلمي للقضية الفلسطينية , لأن قيم الوحدة العربية لا تصلح اَنيا كضمانة للحرية , لكن الحرية ضمانة جهورية للقيم و التحرر المقبل , بمعنى أنه يجب التجرد من التراكم الكمي للإيديولوجيات و الأفكار الفردية و العمودية , التي تجعل من المشاعر و الأراء المسبقة الأرضية الصلبة التي تبنى عليها المواقف و القرارات . فبعيد الإعلان عن صفقة المغرب مع إسرائيل , التي ملك فيها الطرفان مصالح متبادلة , بادرت الشعوب و معها الإعلام الغير الموجه أو الموجه من الطرف النقيض ؛ إلى إدانة هذه الخطوة التي أقدم عليها المغرب, و اعتبارها خطيئة سياسية , لأنها تقايض القدس العربي بمبادرة الحكم الذاتي في الصحراء . و هذه أحكام مسبقة متجردة و عارية من أية أسس و بنيات سياسية , و تتماهى مع الطرح الديني ؛الذي لم يرد في الكتاب و السنة تفصيلا لمسألة الإمامة ,فكيف بإيجاد تسوية للقضية الفلسطينية . إن الأخلاق السياسية للدولة أهم من القيم القبلية و حتى المجتمعية المألوفة و التي أضحت قواعد أخلاقية , لأن هذه الأخلاق الجماعية ضمانة لتماسك الجماعة , أما الأخلاق السياسية فحارس على الأمن القومي للدولة .
و أمام ثنائية الطرح الفلسفي ذو النزعة الأخلاقية الكانطية و فلسفة نيتشه التي تجافي كل الإعتبارات الأخلاقية , فإن الطرح الإسلامي اليوم يقف على عتبتين :
أولا : الطرح الديني الأصيل أو السلفي الذي لا يراعي التجديد و ما بعد الحداثة و لا يعترف بمحورية فصل الدين عن الدولة , فإن موقف هذا الخط الراديكالي , يستقر موقفه على ديمومة استعداء إسرائيل و استمرار الدعم الكامل لفلسطين . و هذا طرح ناقص التكوين الفكري و قصير الرؤية , لأنه لا يقدم البديل المقبول عقليا و واقعيا , بعيدا عن التأويلات و التكهنات المستقبلية التي تبشر بنصرة القضية سماويا , حتى يأتي الدعم من الحجر و الشجر . و أمام اختلال توازن القوى فإن رفض خروج العلاقات المتبادلة بين الدول و إسرائيل , و رفض حل الدولتين على حدود 1967 م , إيذان بإستمرار مأساة الفلسطنيين , الذين لا يملك اليوم أي قطب ديني أو سياسي الحل الأنجع و الأجدى لهم , بما في ذلك حركة حماس و فتح و الجهاد الإسلامي . فالقوة العسكرية و الاقتصادية و السياسية راجحة بنسبة كبيرة للحلف النقيض , و إننا نجد أنه من الفقه الشرعي أن درء المفسدة أولى من جلب المصلحة , و أن اختيار حل الدولتين سيحمل السبل الكفيلة ببناء دولة فلسطينية مستقلة و قوية , و لهذا ما بعده .
ثانيا : الخط الشعبي بمختلف فئاته و أطيافه الاجتماعية و الفكرية و الحزبية و السياسية , التي تندد بصفقة المغرب مع إسرائيل , و هذا رأي مرده إلى الخلفية الثقافية و القيم المجتمعية ,و هو أمر مفهوم في علم النفس الجماعي و المجتمعي , لكن الدولة مطالبة بتطوير قطاعي الإعلام و الثقافة بتجاوز الطابوهات السياسية , فإسرائيل اليوم واقع مفروض و هي قاعدة عسكرية أميركية متقدمة , لها قوتها الإقليمية و الدولية , و سيكون من العبث تجاهلها أو رفض التعامل معها .
هكذا إذن يجب أن ننتقل من الخطاب الديني المتواتر إلى العمل السياسي النفعي , الذي نخلق فيه لغة جديدة نيوسبيك , كالتي وردت في رواية جورج أورويل 1984 , كأداة للحوار الهادئ و الدبلوماسي الذي تفرضه الظرفية الحالية , التي تنفر فيها الشعوب من الخطاب الوطني الشوفيني و الديني المتطرف و السياسي اليميني , و تنحو في اتجاه خلق منظومة قيم مشتركة إنسانية و عالمية , تؤمن بالتعدد و التوافق و الأفقي و التعايش و الحرية و السلم الكوني . ولا يمكن لأي قومية عرقية أو جماعة دينية أن تفرض أطروحتها على شعوب العالم الموحدة اليوم , لأن الدين أبان عن ضعفه و قصوره البنيوي و المنهجي في إيجاد حلول سلمية للقضايا السياسية و الحياتية .
سياسيا يعد المغرب حليفا قويا للولايات المتحدة الأميركية و عضو رئيس خارج حلف الناتو , و هي تحالفات قوية , مكنت الرباط من تملك مكانة مهمة على الصعيد العالمي , و جنَّبت البلد الفوضى الخلاقة و التاَمر الخارجي , كما حافظ المغرب على توازن الأرجل بعد إبرام اتفاقيات شراكة مع روسيا و الصين , و إننا نثير الإنتباه إلى أن موسكو لها مصالح كبيرة مشتركة مع المغرب , و هذا موضوع سنفصل فيه لاحقا . كما ترجع العلاقات بين الرباط و تل أبيب إلى سابق السنوات , حيث سبق للمخابرات الإسرائلية أن أخطرت الملك الراحل الحسن الثاني بمؤامرات كانت تستهدف شخصه و عرشه , و ساهم الموساد الإسرائلي في تأهيل و تدريب المخابرات المغربية ,و كان بينهما عمل مشترك و لا يزال قائما . ينضاف لذلك التعاون الاقتصادي و العسكري , و هو نفس المعبر الذي تسير عليه كل الدول العربية و الإسلامية , بما فيها تركيا و السعودية و باكستان , و يمكن أن يكون البلدين الأخيرين , الدولتان اللتان ستعلنان تطبيعهما مع إسرائيل بعد المغرب .
ليس من المنطقي إذن التنديد بالتطبيع العلني بين الدول العربية و إسرائيل , فالتعاون الثنائي و المشترك موجود منذ عقود مضت , بل إن إعلان التطبيع سيكون اَلية لتمكين المواطنين من تتبع السياسيات الوطنية , و تحليل المعطيات و تفكيك البنيات , للوصول إلى طرح فكري جديد كفيل بخلق تسوية للملف الفلسطيني بعيدا عن الطرح الديني الذي يتبنى مفهوم الجهاد أو الطرح السياسي الضيق الذي ينزوي و برفض التعامل مع الأمر الواقع . و المغرب لا يمكن أن يراهن على الوحدة العربية و الإسلامية التي لا توجد أصلا , و هي ضرب من العدم , أو كمن يتشبت بقشة في المحيط , و يقف ضد القرار الأميركي-الإسرائلي القاضي بالتطبيع , لأنه انتحار حقيقي نهايته الحتمية اغتيال مبادرة الحكم الذاتي و منح التندوفيين دولة , و ما سيستتبع ذلك من فوضى داخلية و تهديد حقيقي للأمن القومي للمملكة المغربية .
أما المرسوم الرئاسي الذي أصدره الرئيس الجمهوري المنتهية ولايته دونالد ترامب , فليس ذو قوة قانونية قوية , و يمكن للرئيس الديمقراطي بايدن , إصدار مرسوم جديد , لأن موقف ترامب من المغرب لم يكن في صالح الرباط منذ بداية ولايته , لكنه حاول تحقيق إنجاز في سياسيته الخارجية في الوقت القليل المتيقي له لصالح إسرائيل و ليس الرباط , و ذلك أمام رفض صريح من أعضاء حزبه و من يشكلون نواة القرار داخل البيت الأميركي . فموقف ترامب لن يكون الموقف النهائي , و مازلت قضية الصحراء ستمر بمنعطفات خطيرة جدا , مازلنا نحذر منها , و ندعو الرباط إلى الإسراع في صياغة رؤية استراتجية مفصلة لمستقبل الصحراويين في ظل الحكم الذاتي , حتى ننتقل من المجرد إلى الملموس و من النظري إلى العملي .
و تقعيدا عليه , فإن إعلان ترامب الإعتراف بالسيادة المغربية على الصحراء , ليس موقفا سياديا لواشنطن , و ليس انتصارا سياسيا كبيرا و تاريخيا للمغرب , كما إدعى العديد من المهتمين , لأن الترامبية تغوص في التناقض و التهور , و ليست محلا للحكم المطلق .
#المهدي_بوتمزين (هاشتاغ)
Elmahdi_Boutoumzine#
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟