|
-أنسنة- الإنسان
عبد الحسين شعبان
الحوار المتمدن-العدد: 6757 - 2020 / 12 / 10 - 14:46
المحور:
الادب والفن
بغضّ النظر عن الجانب الفجائعي في جريمة قتل المدرّس الفرنسي صاموئيل باتي والتي هزّت الضمير الإنساني، فإنّ اليمين العنصري المتطرّف حاول استعادة خطابه المكرور، بل سعى لإضفاء شرعية جديدة عليه في ظل موجات غضب وردود فعل حادّة لدى "العامّة"، وذلك باستدرار العواطف وإشعال المشاعر الملتهبة أصلاً، حيث تحرّكت المياه الآسنة في أرخبيلات الكراهية، لدرجة أن بعبع التعصّب ووليده التطرّف استيقظ على نحو غير معهود، حتى بات المسلمون والعرب في خانة العنف والإرهاب، لأنّ دينهم يحضّ على ذلك، وعاد بعض المتعصّبين لإستلال مفردات الكراهية من خزانة الكتب القديمة. وبدلاً من محاولة عزل المتعصّبين والتأشير لأسباب الجريمة واحتواء الوضع الإنساني بتكوين سياج لصدّ موجة الغضب والتعصّب والتطرّف الديني والسياسي والعنصري، فإنّ الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون ذهب بالاتجاه المعاكس، وبنظرة استعلائيّة رفع من درجة الإسلاموفوبيا "الرهاب من الإسلام"، متعكّزاً على قيام مراهق شيشاني بنحر مدرّس أمام طلّابه لنشره صوراً كاريكاتوريّة للرسول محمّد، في حين وقفت رئيسة وزراء نيوزيلاند جاسيندا كيت لوريل أرديرن متضامنة ومتعاطفة مع المسلمين وضحاياهم، وبالأساس مع القيم الإنسانية التي اهتزت بفعل الحادث الإرهابي لإطلاق النار داخل مسجدي النور ومركز لينود الإسلامي في مدينة كرايستشيرش والذي راح ضحيته نحو 100 إنسان بين قتيل وجريح. وفي الأزمات والمنعطفات الحادة تكون مبادئ التسامح أمام امتحان جديد وقاسٍ، فلم يكن الإنسان النيوزيلاندي العادي المسالم هو من يمارس القتل بحق المسلمين ويستبيح حرماتهم وأماكن عبادتهم، وإنما هناك نفر متطرّف يؤمن بسيادة البِيضِ ويستخدم شعارات نازية جديدة، مثلما لم يكن الفرنسي العادي أو المهاجر ذو الديانة المسلمة هو من يرتكب الجرائم باسم الإسلام في فرنسا أو في المدن الأوروبية المختلفة، بل هناك نفر متعصّب وإرهابي يقوم بذلك باسم "الإسلام" وهو منه براء. وفي الحالين كان هناك إرهاب ومتطرّفون، مثلما هناك أيديولوجيا للكراهية والحقد والضغينة، لأنّها تشكّل الغذاء الروحي للتعصّب ووليده التطرّف، وهو أمر لا يتعلّق بدين أو دولة أو شعب أو أمّة أو قوميّة أو فئة اجتماعية، بل أنّ فايروسه يمكن أن يصيب الجميع، فيمسّ النفوس البشريّة لأسباب اجتماعيّة أو سياسيّة أو ثقافيّة أو دينيّة أو قوميّة أو لغويّة أو سلاليّة أو تربويّة أو نفسيّة أو غير ذلك، وخريطته مثل وباء كورونا "كوفيد-19" الذي اجتاح العالم بلا رحمة عابراً الحدود والقارّات دون استئذان ودون مصدّات أحياناً، إلّا إذا انتبهت إليه البشريّة وعملت متعاونة مع بعضها البعض لإيجاد لقاح "فاكسين" يشفيها من هذا الوباء، وهو ما ذهبت إليه قمّة "العشرين" في الرياض التي أنهت أعمالها مؤخراً 21 - 22 نوفمبر (تشرين الثاني) 2020. لكن هل يعفينا ذلك من فعل اللّاتسامح والعنف الذي عانت منه منطقتنا أيضاً، خصوصاً بارتفاع نبرة الويستيفوبيا "العداء للغرب" باعتباره كلّه "شرّ" مطلق، فقد تراجعت مساحة التسامح عربيًّا بعد أن كانت بلادنا لقرون من الزمان مفتوحة للتعدّد الديني حيث عاش اليهود والمسيحيون والمسلمون في حالة أقرب إلى الوئام والسلام، واختلطت في بلادنا حضارات وثقافات متنوّعة وتواترت عليها شعوب وأقوام تفاعلت إيجابياً مع بعضها البعض، لكن القوى الخارجية الاستعمارية غيّرت الخرائط والجغرافيا ومزّقت العالم العربي ووضعت حدوداً للكيانات الصغيرة والكبيرة استجابة لمصالحها الستراتيجية. لقد دخل العالم العربي دوّامة الصراع الديني والطائفي والإثني حتى غدا الخروج منها عسيراً إن لم يتم تصحيح المسار بردّ الاعتبار للمشروعيّة القانونية والشرعيّة السياسية، ولا سيّما رضا الناس وقناعاتهم، لذلك يصبح التسامح مسألة استراتيجية بعيدة المدى وليست مسألة تكتيكية ظرفيّة مؤقتة أو طارئة. إنها ضرورة واختيار في آن، وحين يصبح الاختيار ضرورة، فإن ثقافة الكراهية تختفي بالتدرّج لأنها ستكون منبوذة، مثلما يقوم في مجتمع متحضّر من يضرب امرأة في وسط الطريق. وعند ذلك يصبح التسامح قبولاً بالآخر كما هو، دون إكراه أو إرغام على فرض دينك أو قوميّتك أو لغتك أو طريقة حياتك عليه، أو إجباره على الرضوخ لمشيئك بحكم نفوذك أو مسؤوليّتك. وهذا يعني قبولك بخصوصيّته انطلاقاً من فلسفة "الحق في الاختلاف" و"الحق في التنوّع" و"الإقرار بالتعدّدية"، أي إنه يصير فعل قبول بداهةً وليس فعل تحمّل اضطراراً، والقبول منظومة ثقافية تقوم على القناعة، لأن التنوّع والتعايش مسألة تؤنسن الإنسان وتغنيه روحيًّا. لقد استوعبنا في ثقافتنا العديد من المتحدّرين من الثقافات الفارسيّة والهنديّة لأنّ كلَّ قبول بالآخر يحمل في جنباته ثقة بالنفس واحترام لها، فالآخر هو جزء لا يتجزّأ من النسيج العام المتكوّن من موازائيك متنوّع وفسيفساء متعدّدة. كان ذلك لحظة تنوير وعقلانيّة إسلاميّة ومرحلة ازدهار حضاري وانفتاح إنساني، وهو ما نحتاج إليه اليوم أكثر من غيرنا، والجميع بحاجة إلى التسامح الحقيقي وليس الشكلاني، بحيث ينبع من السلام الداخلي الروحي والإيمان الحقيقي الذي لا يهتزّ لمجرّد حدث عنفي أو فعل إرهابي، بل يستند إلى قناعة راسخة بقيمه.
نُشرت في جريدة "الخليج" الإماراتية يوم الأربعاء في 8/12/2020
#عبد_الحسين_شعبان (هاشتاغ)
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
اللحظة الصينية: أهي واقع أو يوتوبيا؟
-
بايدن واللحظة الدولية
-
في معنى أن تكون -ماركسياً- 1/2 ماركس الحلقة الذهبية الأولى ف
...
-
-جرائم- المعلوماتية والمادة - 19
-
بومبيو في محتشدات الاستيطان
-
-الوطنيّة- و-الحقوق-
-
فلسطين عنوان الحرّية
-
وداعاً .. السيّد الصادق المهدي
-
قمة الرياض 20 G والأمن الإنساني
-
في الحاجة إلى التسامح
-
في فلسفة المطالبة بإلغاء عقوبة الإعدام
-
-البايدنيّة- وكلمة السر
-
حفريات تاريخية من النجف الإمام الحسني البغدادي ... سسيولوجيا
...
-
بيروت والذاكرة الملعونة
-
الجماعات الإرهابية وجه آخر لتيار عنصري كاره للمسلمين
-
حول انتفاضتي لبنان والعراق
-
سلطة الحق سلطة الضوء
-
عُسر «الديمقراطية» عربياً
-
اللّاعنف.. المستحيل والممكن
-
العدل والعقل
المزيد.....
-
انهيار فنان مصري خلال جنازة سليمان عيد
-
زمن النهاية.. كيف يتنبأ العلم التجريبي بانهيار المجتمعات؟
-
كفن المسيح: هل حسم العلماء لغز -أقدس- قطعة قماش عرفها التاري
...
-
الإعلان عن سبب وفاة الفنان المصري سليمان عيد
-
الموت يغيب النجم المصري الشهير سليمان عيد
-
افتتاح الدورة السابعة والأربعين لمهرجان موسكو السينمائي الدو
...
-
السوق الأسبوعي في المغرب.. ملتقى الثقافة والذاكرة والإنسان
-
مبادرة جديدة لهيئة الأفلام السعودية
-
صورة طفل فلسطيني بترت ذراعاه تفوز بجائزة وورلد برس فوتو
-
موجة من الغضب والانتقادات بعد قرار فصل سلاف فواخرجي من نقابة
...
المزيد.....
-
فرحات افتخار الدين: سياسة الجسد: الديناميكيات الأنثوية في مج
...
/ محمد نجيب السعد
-
أوراق عائلة عراقية
/ عقيل الخضري
-
إعدام عبد الله عاشور
/ عقيل الخضري
-
عشاء حمص الأخير
/ د. خالد زغريت
-
أحلام تانيا
/ ترجمة إحسان الملائكة
-
تحت الركام
/ الشهبي أحمد
-
رواية: -النباتية-. لهان كانغ - الفصل الأول - ت: من اليابانية
...
/ أكد الجبوري
-
نحبّكِ يا نعيمة: (شهادات إنسانيّة وإبداعيّة بأقلام مَنْ عاصر
...
/ د. سناء الشعلان
-
أدركها النسيان
/ سناء شعلان
-
مختارات من الشعر العربي المعاصر كتاب كامل
/ كاظم حسن سعيد
المزيد.....
|