|
حنين الكمنجات وحنينها
حسن مدن
الحوار المتمدن-العدد: 6756 - 2020 / 12 / 9 - 12:25
المحور:
دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات
جاء في السطور الأولى للسيرة الذاتية لبرتراند راسل ما نصه: "ثلاث عواطف بسيطة لكنها بالغة القوة هي التي حكمت حياتي: الحنين إلى الحب، البحث عن المعرفة، وإشفاق لا حدود له على الإنسان في معاناته". في حديثنا هنا تعنينا العاطفة الأولى: الحنين إلى الحب، ولأن بين الحنين والذاكرة صلة قربى، دعونا نسأل: لماذا بين ركام الأحداث والوقائع الكثيرة التي نحياها في حياة ممتدة لا تحتفظ ذاكرتنا إلا بنزر يسير مها؟ لماذا تلح على أذهاننا ذكرى بضع حكايات وتتوارى آلاف الحكايات اليومية التي نحياها في الطبقات السفلى العميقة من الذاكرة؟ الأن لهذه الحكايات سحراً خاصاً، أم لأن حيز الذاكرة محدود وضيق لا يتسع إلا لأشياء محدودة، أشبه بطاقة سد لحبس المياه لا يحتمل أكثر من طاقته؟! إذا كان ذلك صحيحاً، فالسؤال عن السبب الذي يجعل أشياء بعينها دون غيرها حاضرة في الذاكرة نستدعيها وقتما نشاء، يظل سؤالاً بحاجة إلى إجابة! في نفس كل إنسان مساحة للحنين. الحنين لأماكن ولأزمنة ولأحبة. في زاوية ما من الذاكرة تستقر اللحظات السعيدة التي لا تستعاد أبداً. وقد تأتي الذكريات طوعاً من تلقاء نفسها فيغمرك نسيم أليف استنشقته يوماً، أو تجتاحك غصة لا سبيل للخلاص منها حين تدرك أن ذلك كان في الماضي، والماضي لا يعود. كتب غسان كنفاني في مراسلاته مع غادة السمان يقول: "سأعلك الندم عمري، ندمي وندمك. أنت وأنا اعتقدنا أن في العمر متسع لسعادة أخرى، ولكننا مخطئون. المرأة توجد مرة واحدة في عمر الرجل، وكذلك الرجل في عمر المرأة، وعدا ذلك ليس إلا محاولات للتعويض". والكاتب إذ يقاوم النسيان، لأن ليس بوسعه أن يطمر الزهرة الوحيدة في عمره هكذا ببساطة، فانه يكتب بأسى:"إن أملي في أن ألقاك هو مثل أملي في أن القي طفولتي". النسيان عصي في هذه الحالات، حتى لو تظاهر المرء برغبته في ذلك، حتى لو عقد العزم عليه، وقال سأقطع نهائيا مع الماضي، وسأغلق نافذة العصر خلفي، وأبدأ حياتي من جديد، ففي الحياة مسرات كثيرة، وأناس رائعين كثر. حتى لو قال ذلك، فان الحنين سيلاحقه، تماما كما لاحق بطل حيدر حيدر في "وليمة لأعشاب البحر"، الذي تظاهر بأن ذكريات الماضي لا تبعث في نفسه الحنين وإنما الفضول، وحين سألته فتاته عما إذا كان يحن للبصرة مسقط رأسه أجاب: "إن جميع المدن تتساوى في النهاية، في كل مكان بحار وشموس وحجارة وضوضاء وبشر وذكريا وأكاذيب." ولكن "الأمكنة هي البشر بالدرجة الأولى" كما يقول عبد الرحمن منيف في مكانٍ ما. المكان لا يشدك كمكان، قدر ما تشدك إليه الذكرى الجميلة التي عشتها فوقه. ولذا قد لا تشد بصرك لوحة لساحة من الساحات أو مدينة من المدن، قدر ما يشدك بورتريه لوجه، فتتسمر أمامه لأنه يذكرك بملامح أليفة عليك وبذكرى تلامس شغاف القلب، وتحرضك على إعادة ترميم ذاكرتك التي أصيبت بعض أطرافها بالتصدع أو التهشم . ويبدو أن الحنين يضج عندما يشتد الجدب في الحياة المحيطة ، عندما يجلدنا التكرار والعادة الرتيبة والإيقاع الواحد ، وتبدو لنا كل الأيام والليالي متشابهة فتأخذنا الذكرى إلى سماوات زرق والى أحبة فرقت بيننا وبينهم المسافات والسنوات . عن الصّلة الغامضة بين السّماء الغائمة والحزن يقول هيرمان هيسه: "لسوف يكون من المستحيل أنْ أحدّد ما إذا كانت السّماء الغائمة المزعجة بسكونها هي التي انعكست في روحي، أم أنّني كنت أقرأ صورة حياتي الدّاخلية منعكسة على صفحة السّماء. تأتي أحيان تلتبس فيها الأمور تماماً". أمر ما في السَّماء الممتدة، المفتوحة يذكِّرني بالفيلم البديع: (الغجر يصعدون إلى السّماء)، ما من شعب ألف الرّحيل وصادق الفضاء الحرّ المفتوح مثل الغجر. وحين أذكر الغجر أستحضر ذكرى مساء إشبيلي جميل، في قاعة الفلامنجو، ليس غريباً أنَّ رقص الفلامنجو بالذّات ارتبط بالغجر، ذلك التَّوق الذي لا يوصف للحريّة، الذي يكاد يشبه الرّغبة في الطّيران، ودقّ الأرض بعنف انتقاماً منها لأنّها تشدّ إليها الرّاغب في الطّيران . ولأنّ الرّقص كان في إشبيلية الأندلس ليس بوسع أيّ منّا أنْ ينجو من ذلك الحنين الغامض إلى زمن منح فيه العرب شيئاً من موسيقاهم وإيقاعاتهم للغجر الذين جاوروهم، يوم كانت الحضارة أخذاً وعطاء، قبل أزمنة التّوحيد القسريّ للعالم والبشر. في مكانٍ ما قرأت وصفاً لإشبيلية بأنّها بستان الأندلس ومدينة الفلامنجو، ولإشباع الفضول قرأت أكثر عن المدينة وعن غجر الأندلس الذين كان عليهم أنْ يواجهوا بعد أن استتبَّ الأمر للقشتاليين خيارات عدّة كلُّ واحد منها أشدّ مرارةً من الآخر: إمّا الاستقرار الإجباريّ والكفّ عن التّنقل والرّحيل، أو مغادرة البلاد قسراً خلال ستين يوماً، ومنْ تُكْتشف مخالفته يُسْترق إلى الأبد. كان ذلك ضدَّ الفطرة السَّويَّة التي جُبِل عليها الغجريّ المسكون بطموحه الأبديّ في الصّعود إلى السّماء، المنذور للرّحيل، كلّما أعطته الطّبيعة إشارة الانطلاق إلى فضاء حريّة جديد، تماماً كما كانت البطلة العذبة لفيلم” (شيكولا) تفعل . في ذلك المساء المضيء - في إشبيليا- كان الرَّاقصون والرَّاقصات على تلك الرَّقعة السَّوداء، التي هي بمثابة خشبة الرَّقص يطيرون، لا مجاز هنا، ما منْ شموخ للحريّة كذاك الذي يجسده الفلامنجو، القاعة وسقفها يضيقان على هذا الشّموخ، كان يلزمهم فضاء حرّاً كذاك الذي كان عليه الرّاقصون في (الغجر يصعدون إلى السّماء). هل أحكي عن الشجن؟ لمْ أسمعْ غناء ينطوي على هذه الشّحنة العالية من الشّجن الحنون كما في أغاني الغجر، يهيّئون الرّاقص لرقصته، أيّ ملحمة من المعاناة الإنسانيّة تكمن في الصّوت المبحوح لذلك المغني، الذي لا يهم أنْ تفهم معنى كلماته، يكفيك أنْ تعيش طقس غنائه، وهو يستعيد حكايا عن الرّحيل وعن حكايا حبّ ضائعة، عن كمنجات محمود درويش الباكية مع الغجر الذّاهبين إلى الأندلس، عن الزّمن الآفل الذي وصفه ميلان كونديرا في (البطء)، زمن الذين يتسكّعون من طاحونة إلى أخرى وينامون تحت أجمل نجمة، الذين اختفوا باختفاء الدّروب الرّيفية والحقول والغابات. في فناء الفندق، في ذلك المساء المضيء، كانت العازفات اللواتي بدين كما لو كن خارجات للتو من إحدى قصائد بوشكين البيضاء، يعزفن بحنين وحنان على الكمنجات.لا يبارح الذاكرة ذلك الحنان الذي كان يتدفق من أوتار الكمنجات، فيوشك أن يكون بكاء أو أنيناً. كانت الإضاءة خافتة في المقهى، وحول الطاولات الصغيرة المحاذية لأرائك واسعة جلس الشاعرون بخدر لذيذ يتبادلون الأحاديث وإلى أسماعهم يصل بوح الكمنجات صادراً عن الأوتار الظمأى المرتعشة، الباكية والضاحكة، وهي تتعانق مع العصا السحرية تحركها أنامل العازفات ذهاباً وإياباً، صعوداً وهبوطاً. أي أسى تختزنه أوتار الكمنجات، أي شجن ذاك الذي أثار في نفسي شغفاً بالتعرف إلى مبعث سحر هذه الآلة الموسيقية المدهشة. في إحدى الموسوعات الإلكترونية الشهيرة قرأت وصفاً رائعاً لها يقول إنها أرقى وأنبل الآلات الموسيقية، أما صوتها فيوصف بأنه أحن أصوات هذه الآلات. بوسعك الشعور بعمق كل كلمة من هذا الوصف وأنت ترهف السمع للكمنجات التي تقول الموسوعة إياها إنها تعبر عن أرق المشاعر والأحاسيس حتى أقوى الانفعالات كالغضب واليأس، وذلك بسبب تعدد تقنيات العزف عليها، ما يعطيها قوة تعبير خارقة. ويقول الدارسون في تاريخ الموسيقا إن الكمان هو تطوير للربابة العربية التي وصلت إلى أوروبا عن طريق القسطنطينية باتجاه الأندلس وصقلية، قبل أن تبلغ ما هي عليه الآن في القرن السادس عشر. لا نعلم، الآن، كم طول الطريق الذي قطعته الربابة العربية لتتحول إلى كمنجة، ولكن الكمنجة حملت تلك الشحنة العاطفية التي أعطاها عازف الربابة العربي لآلته، في ليالٍ برية يضيئها قمر ونجوم، وتدفئها نار موقدة حواليه، وهو يسامر ذاك الليل الساحر. يليق بالإفصاح عن بوح الكمنجات شاعر مثل محمود درويش وبوزنه، هو الذي بلغ في قصيدته "الكمنجات"، ضمن ديوان: "أحد عشر كوكباً في وداع المشهد الأندلسي"، واحدةً من ذراه الرائعة، في الإمساك المرهف بالحنين لا إلى فردوس فقدناه، وإنما إلى أزمنة ومطارح كثيرة تسربت من أصابع اليدين. كان مبرراً أن تقترن الكمنجات بذاكرة الأندلس، فما من ذاكرة مثلها مثقلة بالأسى والحنين والشجن: "الكَمَنجاتُ تَبْكي مَعَ الْغَجَر الذَّاهبينَ إلى الأنْدَلُسْ/ الكَمَنجاتُ تَبْكي على الْعَرب الْخارجين منَ الأنْدلُسْ/ الكَمَنجاتُ تَبْكي على زَمَنٍ ضائعٍ لا يَعودْ/ الكَمَنجاتُ تَبْكي على وَطَنٍ ضائعٍ قَدْ يَعود"”. حين قرأ محمود هذا المطلع من قصيدته في حيفا التي زارها قبل رحيله بفترة ليست طويلة، ضجت القاعة بالتصفيق، فلأي كمنجات كانت الأكف تصفق؟ أي حنين تفجر في أفئدة الحاضرين، ألأندلس نأت بها عنا القرون، أم لأندلس حاضرة؟ أكان فلسطينيو حيفا الباقون ينظرون إلى صورتهم ويسمعون صوتهم؟ أكانوا يبصرون في الأندلس بقايا فلسطينهم؟ هل عزَّ عليهم البكاء فأسلموا لكمنجات محمود درويش كي تفصح عن: "فَوْضى قُلوب تُجنِّنُها الرِّيحُ في قَدَم الرَّاقصَةْ”، ولتعدو “أسْرابُ طيْرٍ تفرُّ منَ الرَّايَة النَّاقصَة"”.
#حسن_مدن (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
فاطمة المرنيسي ونشيد النساء نحو الحرية
-
في ذكرى صالح علماني مكتشف القارة اللاتينية
-
مدافع الفكر بعيدة المدى
-
رضوى المصرية الفلسطينية الغرناطية
-
رامبو العدني الماشي على نعال من ريح
-
الضمير الشقي
-
في ذكرى هيئة الاتحاد الوطني، كيف صنع البحرينيون وحدتهم؟
-
من الوطنية إلى المحلية
-
(أوروبة) أوروبا
-
الرهان الوطني
-
غربتان في الزمان والمكان
-
البرجوازي غير النبيل
-
سلامة موسى علّمني
-
أي أوجاع يُوَرث المنفى؟
-
بين السياسي والمثقف
-
ما بعد الجائحة: مقدّمات عالم قَيدْ التشكّلْ
-
لكل صنوبرةٍ غابتها
-
المدينة والثقافة.. من يصنع الآخر؟
-
يوم الفلسفة أتى من المغرب
-
في اليوم الواحد نعيش حياتين
المزيد.....
-
برلمان كوريا الجنوبية يصوت على منع الرئيس من فرض الأحكام الع
...
-
إعلان الأحكام العرفية في كوريا الجنوبية.. شاهد ما الذي يعنيه
...
-
ماسك يحذر من أكبر تهديد للبشرية
-
مسلحو المعارضة يتجولون داخل قصر رئاسي في حلب
-
العراق يحظر التحويلات المالية الخاصة بمشاهير تيك توك.. ما ال
...
-
اجتماع طارئ للجامعة العربية بطلب من سوريا
-
هاليفي يتحدث عما سيكتشفه حزب الله حال انسحاب انسحاب الجيش ال
...
-
ماسك يتوقع إفلاس الولايات المتحدة
-
مجلس سوريا الديمقراطية يحذر من مخاطر استغلال -داعش- للتصعيد
...
-
موتورولا تعلن عن هاتفها الجديد لشبكات 5G
المزيد.....
-
الانسان في فجر الحضارة
/ مالك ابوعليا
-
مسألة أصل ثقافات العصر الحجري في شمال القسم الأوروبي من الات
...
/ مالك ابوعليا
-
مسرح الطفل وفنتازيا التكوين المعرفي بين الخيال الاسترجاعي وا
...
/ أبو الحسن سلام
-
تاريخ البشرية القديم
/ مالك ابوعليا
-
تراث بحزاني النسخة الاخيرة
/ ممتاز حسين خلو
-
فى الأسطورة العرقية اليهودية
/ سعيد العليمى
-
غورباتشوف والانهيار السوفيتي
/ دلير زنكنة
-
الكيمياء الصوفيّة وصناعة الدُّعاة
/ نايف سلوم
-
الشعر البدوي في مصر قراءة تأويلية
/ زينب محمد عبد الرحيم
-
عبد الله العروي.. المفكر العربي المعاصر
/ أحمد رباص
المزيد.....
|