|
فلسفة الفكرة القومية عند الارسوزي(1)
ميثم الجنابي
(Maythem Al-janabi)
الحوار المتمدن-العدد: 6754 - 2020 / 12 / 7 - 23:27
المحور:
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
الارسوزي- فيلسوف الأنا القومية واللغة الثقافية
للفكرة القومية، شأن كل الأفكار الكبرى، لحظتها التأسيسية الأولى. وقد شاءت الصدف أن ترتبط بشخصية زكي الارسوزي (1900-1963). الأمر الذي جعل منه فيلسوف الفكرة القومية العربية الأول في العصر الحديث. وليس مصادفة أن تكون فلسفته بهذا الصدد فلسفة شخصية أيضا. فهو الفيلسوف الذائب في الفكرة القومية بوصفه رحيقها الأول. إذ تكاملت في ذاته وإنتاجه الفكري بوصفها رؤية منظومة ونسق يتغلغل في كل أنساق وجوده الشخصي والاجتماعي والوطني والقومي والروحي والسياسي . فالطابع الشخصي لفلسفة الارسوزي يبرز أيضا على مثال حياته وموته، أي أن تاريخها النظري يتمثل أيضا تاريخه الشخصي. فقد ولد الارسوزي في بداية القرن العشرين وتوفي بعد الانتكاسة الكبرى الأولى في تاريخه القومي الحديث. بمعنى إننا نعثر في حياته ومماته على تمثل نموذجي لحياة الفكرة العربية من حيث ولادتها وموتها الأول، أي ظهورها وفسادها. وقد كانت تلك الفاجعة الأولى التي سوف تعطي للفقدان قوة الوجدان. بمعنى أن ضياع الأرض الفلسطينية المؤقت قد أدى إلى اكتشافها الروحي الأوسع. ومن ثم نقلها إلى حيز المصدر الدائم في شحن وشحذ الوجدان العربي. مع ما ترتب عليه من اكتشاف أولي لمكر العقل التاريخي العربي وتقوية إقدامه للنهوض الجديد بعد الغيبوبة الطويلة في دهاليز الزمن الضائع. ولكن قبل أن تعاني الفكرة القومية العربية من هذا المخاض الأول، فإنها عانت ولادتها التاريخية الكبرى في شخصية الارسوزي ومعاناة إبداعه الفكري. فقد تمثل الارسوزي التاريخ الواقعي والفعلي بمعايير الوجع الميتافيزيقي للروح الولهان بوهج المعاصرة. وفي هذا يكمن سره الهائج بالبحث في اللغة وعوالمها المافوق تاريخية من أجل بلورة فكرة عن التاريخ. وفي هذا أيضا كانت تكمن المعاناة الروحية العميقة لهذه الفكرة وذبولها الجسدي في دهاليز البحث عن بعث قومي وجد لغوه في اللغة وثرائه في ثرثرته! فمن الناحية الظاهرية يمكن النظر إلى الولع اللغوي والتأويل المفتعل كما لو أنه الجامع الذي يجمع فلسفة الارسوزي. فقد جّسد الارسوزي في آرائه وتحليله ومواقفه ومفارقاته حب اللغة في مختلف مستوياته وأنواعه من إعجاب وغرام وحب وهيام وعشق حد الفسق. لهذا نرى فيها وفيما أجهد نفسه وأجتهد للبرهنة عليه مجرد أمور بسيطة ومطروقة يمكن وضعها في عبارات "صوتية" قليلة، هي الأكثر رقة وجمالية مثل قوله "مثل الإنسان كمثل الطائر ينبت ريشه بالهّمة"، و"الحياة تنشئ بنيانها وبدنها بحسب غايتها في الوجود" وأمثالها الكثيرة. بحيث نقف أحيانا أمام صورة مغرية للخيال عن شخصيته الحكواتية الكبيرة وجمهورها الغفير في أحد الجوامع الإسلامية الكبرى، فيما لو أنه ولد قبل ألف عام. لكنه ولد بعد ألف عام! وبالتالي، فإن ما وراء اللغو والثرثرة الظاهرية كانت تكمن وتتفاعل عوالم اللغة الثرية الهائلة والصاخبة بوصفها عوالم التراث والماضي والأنا المنسية. لقد أراد الارسوزي أن يضع هذا الثالوث المغمور على نار الوجد المعاصر لكي تلتهب مكوناته "الخالدة" في وجدان الفكرة القومية الحديثة. وهذا بدوره لم يكن معزولا عن مخاض التحرر ومعاناة تأسيس الدولة القومية في عالم الفكر وميدان الحياة السياسية. فقد عايش الارسوزي صعود الفكرة القومية ورؤية ملامحها المتراكمة، كما عايش بالقدر ذاته انحدار المشروع القومي صوب القطرية المحاصرة، وتعرضه اللاحق للتجزئة الثقافية والتهرؤ السياسي. وفيما بين هذه البداية والنهاية تلألأت رؤيته الفلسفية للفكرة القومية العربية، بوصفها معاناة أولية حقيقية كبرى. بحيث تطابق مضمون هذه المعاناة مع كيفية ونوعية الصيغة الأولية لما يمكن دعوته بفلسفة الأنا الثقافية. الأمر الذي جعل من الارسوزي فيلسوف الأنا القومية الثقافية. ومن ثم احتواء تأسيسه النظري على بوادر الرؤية الأولية لفكرة القومية التلقائية (الروحية). وبالتالي، لم يكن مضمون الرجوع إلى ميتافيزيقيا اللغة المتسامية والخالدة عنده سوى محاولة انتشال الفكرة من السقوط والانحدار صوب تجزئتها إلى حروف منفصلة لا تستقيم مع حقيقة العربية، والركض وراء جمعها في كلمات بلا عبارة! ذلك يعني، أن الاتجاه صوب ملكوت اللغة كان بالنسبة له أسلوب الرجوع إلى الملك العربي المفقود، أي الواقع البائس! لكن مأثرة الارسوزي تقوم في محاولته تحويل البؤس المادي إلى بأس روحي. من هنا أصبح السباحة في عالم الملكوت أسلوب تأمل المعنى والوجوب. مع ما ترتب عليه من توحيد العربية النموذجية في حروفها لكلمات النطق والمنطق الروحي للماضي والحاضر والمستقبل. من هنا محاولته تأسيس فهمه الجديد لقضية أصل اللغة. إذ نراه يبدأ من تناول القضية - الإشكالية القديمة عما إذا كانت اللغة اصطلاحية (موضوعة من قبل العقل) أو نتاجا للوحي، لكي يؤسس على كيفية حلها فكرته عن القومية العربية. فقد انطلق من المقدمة القائلة، بأن ربط اللغة (العربية) بالغيب تضييق على العقل. كما أن اعتبار اللغة مجموعة من الرموز موضوعة من قبل العقل هو دوران في حلقة مفرغة. وذلك لأن هذا القول يفترض وجود عقل كامل. وكيف يمكن ذلك دون كلام؟ ووجد الارسوزي الحل فيما اسماه "بالصدفة السعيدة" في اكتشاف جذر اللغة (العربية). وعثر عليه فيما اسماه بمنهج اللسان العربي بوصفه جذر "اللغة الكونية". مما حدد بدوره طابعها المتميز وأصالتها التي ينبغي أن تستعيد هيئتها الأولى بوصفها فكرة قومية أصيلة. إذ لا يعني منهج اللسان العربي بوصفه جذر اللغة الكونية سوى الصيغة النموذجية التي تعكس أصل وجذر اللغة الطبيعي واستجابته للإرادة الإنسانية في بلوغ المتسامي . من هنا توحيدها للطبيعة وما وراء الطبيعة، او ما أطلق عليه الارسوزي عبارة "الملأ الأعلى". فاللسان العربي بالنظر إلى نشأته وصناعته هو بدائي وبرئ، كما يقول الارسوزي. وكل كلمة أو قاعدة تحمل طابع عبقريته أيا كانت. فهي مستعارة منه. بمعنى أن دورها التاريخي يقوم في صنع التاريخ الحقيقي للإنسانية. من هنا قوله، بأن للأمة العربية فضل على الأمم جميعا. فهي ليست مصدر الشعوب السامية فقط، بل وأثرها على سير المدنية بإيجاد اللغة إضافة إلى إبداع الديانات الإلهية. وذلك لأن العربية كانت الأكثر استعداد من بين الشعوب على إيجاد الصورة الصوتية التي هي أصلح للانتشار، وبالتالي تعميم انتشار لغتها. الأمر الذي يجعل من أثرها بهذا الصدد أثرا كونيا. الأمر الذي يحدد بدوره أهمية دراستها، لما في ذلك من قيمة بالنسبة لإلقاء الضوء "على جذور الإنسانية، وعلى العلاقة بين الأقوام في مهد الحضارات" . أما سرّ هذا الاستعداد والأثر فيكمن فيما دعاه الارسوزي بتفاعل مكونين فيها وهما كل من الأصوات الطبيعية بوصفها جذر الكلام، ومبدأ الاشتقاق. فقد وجد الارسوزي معنى "اللغة العربية جذورها في الطبيعة"، هو إننا نرى فيها نمو أداة بيانية متكاملة منذ بدء الخليقة ولحد الآن. ولها نماذج لا تحصى، مثل خرير الماء (خرّ، خرب، خرج، خرم). ذلك يعني أن العربية استفادت من خضوع الصوت للإرادة. وهذه بدورها ليست إلا إحدى عبارات الهيجان الطبيعية. بعبارة أخرى، أنها استفادت من انتقال الصوت عبر المكان، واستعانت بحاسة البصر، واتخذت من الصورة وسيلة لجلاء المعنى، كما يقول الارسوزي . وهنا يكمن سرّ ما اسماه الارسوزي بالصدفة السعيدة، بمعنى تلاقي الطبيعة والماوراطبيعة في وحدة الإرادة. والأخيرة هي المقولة الشاملة للطبيعة والماوراطبيعة، التي تتجلى على أفضل شكل في العربية وجذرها الخاص بوصفه منهجا نموذجيا شاملا. أسس الارسوزي فكرته هذه من خلال البحث عن جذر اللغة في الحياة نفسها. وأعتبر أن "جذر اللغة هي الحياة". وذلك لأنها تتمثل العلاقة المتبادلة بين وضع الجسد وبين المعنى الذي هو صداه في الوجدان. فوحدة الصوت والخيال في الكلمة العربية تؤدي إلى ظاهرتين أو نتيجتين تميزها عن غيرها وهي أولا فقدان المترادفات، وثانيا الاختلاف في التطور بين الكلمة العربية وغيرها من اللغات. فالأجانب لا يعرفون قراءة ما كتب في لغتهم قبل ألف عام. أما في العربية فإن الكلمة هي صورة. وبالتالي، فإن الكلمة العربية كالحياة. لهذا لا تصمد الكلمات الشاذة (غير العربية) في العربية فترة طويلة. إنها تنقرض. الأمر الذي جعل من الكلمة العربية غير خاضعة للزمن. وأن نشوء كلمات جديدة فيها (ومنها) هو استمرار مدرك . (يتبع....).
#ميثم_الجنابي (هاشتاغ)
Maythem_Al-janabi#
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
الكاتب-ة لايسمح
بالتعليق على هذا
الموضوع
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
الصعود الأول للوعي القومي العربي الذاتي
-
مستقبل الفكرة القومية العربية(2-2)
-
مستقبل الفكرة القومية العربية (1-2)
-
حقيقة الكمال الإنساني عند الغزالي
-
جمال عبد الناصر ودراما التجربة الناصرية (2-2)
-
جمال عبد الناصر ودراما التجربة الناصرية (1-2)
-
نجيب عازوري ومشروع البديل العربي العقلاني
-
نجيب عازوري: العالم العربي والمسألة الشرقية
-
نجيب عازوري حول الاثار التركية العثمانية والخطر اليهودي
-
الفكرة القومية عند نجيب عازوري
-
من أعلام التصوف : معروف الكرخي
-
من أعلام التصوف : شقيق البلخي
-
من أعلام التصوف: الفضيل بن عياض(2-2)
-
من أعلام التصوف: الفضيل بن عياض(1-2)
-
من أعلام التصوف : داوود الطائي
-
من أعلام التصوف: إبراهيم بن ادهم
-
فلسفة النفي العقلاني للراديكالية السياسية
-
أفول الراديكالية والإرهاب - مخاض الحرية العراقية
-
النفي العقلاني للراديكالية السياسية
-
أوهام العقائد السياسية الراديكالية
المزيد.....
-
تونس: هجوم بسكين على عنصر أمن نفذه شقيق مشتبه به في قضايا إر
...
-
مقتل عنصري أمن في اشتباكات بحمص بين إدارة العمليات العسكرية
...
-
نتنياهو يضع عقبة جديدة أمام التوصل لصفقة تبادل للأسرى
-
زلزال عنيف يضرب جزيرة هونشو اليابانية
-
موزمبيق.. هروب آلاف السجناء وسط أعمال عنف
-
الحوثيون يصدرون بيانا عن الغارات الإسرائيلية: -لن تمر دون عق
...
-
البيت الأبيض يتألق باحتفالات عيد الميلاد لعام 2024
-
مصرع 6 أشخاص من عائلة مصرية في حريق شب بمنزلهم في الجيزة
-
المغرب.. إتلاف أكثر من 4 أطنان من المخدرات بمدينة سطات (صور)
...
-
ماسك يقرع مجددا جرس الإنذار عن احتمال إفلاس الولايات المتحدة
...
المزيد.....
-
تداولية المسؤولية الأخلاقية
/ زهير الخويلدي
-
كتاب رينيه ديكارت، خطاب حول المنهج
/ زهير الخويلدي
-
معالجة القضايا الاجتماعية بواسطة المقاربات العلمية
/ زهير الخويلدي
-
الثقافة تحجب المعنى أومعضلة الترجمة في البلاد العربية الإسلا
...
/ قاسم المحبشي
-
الفلسفة القديمة وفلسفة العصور الوسطى ( الاقطاعية )والفلسفة ا
...
/ غازي الصوراني
-
حقوق الإنسان من سقراط إلى ماركس
/ محمد الهلالي
-
حقوق الإنسان من منظور نقدي
/ محمد الهلالي وخديجة رياضي
-
فلسفات تسائل حياتنا
/ محمد الهلالي
-
المُعاناة، المَعنى، العِناية/ مقالة ضد تبرير الشر
/ ياسين الحاج صالح
-
الحلم جنين الواقع -الجزء التاسع
/ كريمة سلام
المزيد.....
|