أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - القضية الفلسطينية - أحمد الخميسي - الليل طويل والطيارات مش نايمة














المزيد.....

الليل طويل والطيارات مش نايمة


أحمد الخميسي

الحوار المتمدن-العدد: 1612 - 2006 / 7 / 15 - 10:37
المحور: القضية الفلسطينية
    


لم ألتق يوما بمها خميس الشاعرة الفلسطينية . لكن صداقتنا بدأت بإيميل تلقيته منها ذات يوم تعليقا على مقال . وجذبني تعليقها إلي قراءة بعض قصائدها الجميلة . ثم صرنا من وقت لآخر نتبادل الرسائل القصيرة . ورحت أمزح معها قائلا لها إنها أختي بالقطع ، فهي منال خميس ، وأنا أحمد خميس ، فكانت تقول - مادام الأمر كذلك - فإنها لن تترك حقها في الثروة التي تركها لنا أبونا " خميس " . بين حين وحين أخذنا نقطع بمكالمة سريعة على المحمول المسافة المجهولة بين القاهرة وغزة . في لحظة أجدها معي . تقول : " كيفك ؟ " أقول : " كويس . أنت إزيك ؟ ابنك عامل إيه ؟ ". ترد : " بخير " . أنهي المكالمة وأتعجب كيف كسبت من الهواء ، من الفراغ ، صديقة حية ، لم أر حتى صورتها لكنها أصبحت قريبة ، مغروسة في النفس كأني أعرفها منذ سنوات طوال ، وعلى علم بتفاصيل حياتها ، ولون الستائر المسدلة على نوافذها ، والإضاءة الضعيفة قرب سرير نومها ، والكتاب الذي تحمله بين يديها . كان صوتها وهي تتحدث يتناثر كقطرات مياه خارج ضفتي نهر صغير ، فأرى عينين ووجها ، وترسم كلماتها أمامي روحا حية ، ولم أكن بحاجة لأكثر من ذلك لكي أراها تقريبا بوضوح .
بتعرفي إلي مها ، كفت مدينة غزة عن كونها مدينة متخيلة ، وتحولت إلي شخص محدد أعرفه . والآن حين يقصفون غزة فإنني أشعر بالقلق ليس فقط على مدينة ذات ملامح عامة ، ولكن على غزة التي تسكن فيها مها وتتعرض فيها للموت داخل شقة صغيرة في مبنى بشارع جانبي . في اليوم الثاني لقصف غزة أرسلت لي مها تقول : " " لا ماء ولا كهرباء ولا تلفونات ، كمان شوي ويقطعوا الهواء " . وفي الساعة الثالثة من فجر يوم الأحد ، 9 يوليو ، كنت ما أزال جالسا إلي مكتبي ، أقرأ مجموعة قصص ألمانية مترجمة ، فجاءتني رسالة على المحمول من مها تقول فيها : " الليل طويل ، والطيارات مش نايمة ". وتخيلت ليلا طويلا يمتد بلا نهاية ليس فيه من نجوم سوى ما يلمع به القصف والموت . ومها هناك تقول إن الطائرات لا تنام . ما الذي يمكن أن أفعله ؟ أكانت رسالتها استغاثة ؟ أم دعوة لتحمل المسئولية عما يجرى ؟ أم استدعاء للشعور بالطمأنينة ؟ أم للتأكد من أن خارج الليل بشرا ونهارا ؟ . أغلقت الكتاب . ثم كتبت لها : " قلبي معك " . وشعرت بالعجز . ماذا تعني " قلبي معك " هذه ؟ . إنني لست معها في واقع الأمر ، لا أنا ، ولا قلبي ، ولا جسدي ، أنا بعيد جدا عنها ، وهي وحدها تحت ذلك الليل الذي لا تنام فيه الطائرات . عدت ثانية إلي المحمول وكتبت مرة أخرى : " أنا أحس أنني معك تماما ، بجوارك ، وأنا أعلم أنك شجاعة " . ردت على فورا : " مش قادرة أنام . صوت الرصاص والتفجيرات والطيارات وصور الشهدا والأشلاء والكهرباء مقطوعة وكل شوي رايحة جاية على غرفة ابني أتطلع بوجهه وهو نايم وأقول يا ترى ح أشوفه الصبح ولا لاء " .
الآن غمرني الشعور بالذنب تماما ، شعور لزج مثل الإحساس بالعار حين ترى جريمة تقع أمام عينيك مباشرة ولا تستطيع أن تمد يدك لوقفها . تذكرت العدوان الثلاثي علينا ، وكيف كنا نجلس مع أمي صامتين تماما في الصالة ونسمع من الشارع صياح : " طفى النور " ، ونتمنى لو أن يدا امتدت إلينا في هذه الغرفة الصغيرة ، وتذكرت عدوان 1967 ، وحرب الاستنزاف ، ومدرسة بحر البقر ، و " الطفلة مصرية وسمرا كانت من أصغر تلاميذي " . الآن تستغيث بي مها التي أعرفها ، وليست مدينة متخيلة . كتبت لها أقول : " أنت فلسطينية بطلة " ثم اكتشفت سخافة العبارة الموجهة لأم تحت القصف في شقة صغيرة ، فمحوت الرسالة وأخذت أحاول الاتصال بها ، لكن دون جدوى ، فبعثت لها برسالة أشجعها بأي شكل : " أحاول الاتصال بك دون جدوى ، لا تقلقي ، صدقيني ، سترين ابنك في الصباح . صدقيني " . أرسلت إلي تقول : " مش راح يمسك معك الخط عشان الطيران " . فتحت نافذة غرفتي حتى نهايتها ، ووقفت أحاول أن أملأ رئتي بالهواء . تطلعت من النافذة إلي الشارع . كان الليل ممتدا أمامي في السماء ، والصمت يغمر كل شئ ، المباني ، وأطراف الشجر ، والشوارع ، ومع ذلك هزني إحساس مرعب بأن الهواء الساكن مشحون بكهرباء ، وثمة أزيز أسمعه ، وضوء يشق السماء ، وصوت يعبر مسافة في الليل يقول لي " مش راح يمسك معك الخط عشان الطيران " .
لم أنم ، وأنا أتخيل مها ، وهي تروح وتجئ ، وتتطلع من نافذة مغلقة إلي شوارع غزة ، والسماء ، ووجه الطفل . في السابعة صباحا جائتني منها رسالة قصيرة "احنا بخير " . وبعد لحظة واحدة وصلتني رسالة أخرى : " أنت شو مصحيك لهلق ؟ " .

***
أحمد الخميسي . كاتب مصري
[email protected]



#أحمد_الخميسي (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- لم يبق في غزة سوى الهواء
- نبيل الهلالي . سحابة العدل
- انطفاء أحمد عبد الله .. قمر على جيل السبعينات
- جينا لندن ترصد أدق الرغبات
- ساندوا الشاعرة الفلسطينية سارة رشاد
- سولجينتسين يواجه الحصار الأمريكي
- شلنات وبرايز
- لا للتمييز ضد البهائيين المصريين .. نعم لحرية الاعتقاد
- البهائية والنزعة السحرية
- ما الذي يريده الشعب المصري ؟
- تبني مطالب الأقباط .. هو الطريق للخروج من الأزمة
- الآداب السلطانية . نص متجدد
- أطوار بهجت .. من الشعر إلي الحرب
- حكاية هند والفيشاوي
- الأزمة الدانمركية بين الدين والسياسة
- ميشيل باشليه واليسار الجديد
- رحيل فؤاد قاعود .. موال الرفض والحرية
- الجوائز الأدبية وكرامة الكاتب
- اعتذار للشعب السوداني ، واستنكار لما جرى
- بروزاك .. صديق المبدعين


المزيد.....




- مسؤول عسكري بريطاني: جاهزون لقتال روسيا -الليلة- في هذه الحا ...
- مسؤول إماراتي ينفي لـCNN أنباء عن إمكانية -تمويل مشروع تجريب ...
- الدفاع الروسية تعلن نجاح اختبار صاروخ -أوريشنيك- وتدميره مصن ...
- بوريسوف: الرحلات المأهولة إلى المريخ قد تبدأ خلال الـ50 عاما ...
- على خطى ترامب.. فضائح تلاحق بعض المرشحين لعضوية الإدارة الأم ...
- فوضى في برلمان بوليفيا: رفاق الحزب الواحد يشتبكون بالأيدي
- بعد الهجوم الصاروخي على دنيبرو.. الكرملين يؤكد: واشنطن -فهمت ...
- المجر تتحدى -الجنائية الدولية- والمحكمة تواجه عاصفة غضب أمري ...
- سيارتو يتهم الولايات المتحدة بمحاولة تعريض إمدادات الطاقة في ...
- خبراء مصريون يقرأون -رسائل صاروخ أوريشنيك-


المزيد.....

- الحوار الوطني الفلسطيني 2020-2024 / فهد سليمانفهد سليمان
- تلخيص مكثف لمخطط -“إسرائيل” في عام 2020- / غازي الصوراني
- (إعادة) تسمية المشهد المكاني: تشكيل الخارطة العبرية لإسرائيل ... / محمود الصباغ
- عن الحرب في الشرق الأوسط / الحزب الشيوعي اليوناني
- حول استراتيجية وتكتيكات النضال التحريري الفلسطيني / أحزاب اليسار و الشيوعية في اوروبا
- الشرق الأوسط الإسرائيلي: وجهة نظر صهيونية / محمود الصباغ
- إستراتيجيات التحرير: جدالاتٌ قديمة وحديثة في اليسار الفلسطين ... / رمسيس كيلاني
- اعمار قطاع غزة خطة وطنية وليست شرعنة للاحتلال / غازي الصوراني
- القضية الفلسطينية بين المسألة اليهودية والحركة الصهيونية ال ... / موقع 30 عشت
- معركة الذاكرة الفلسطينية: تحولات المكان وتأصيل الهويات بمحو ... / محمود الصباغ


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - القضية الفلسطينية - أحمد الخميسي - الليل طويل والطيارات مش نايمة