|
الكف تناطح المخرز - رواية ، 5
محمد أيوب
الحوار المتمدن-العدد: 1611 - 2006 / 7 / 14 - 10:21
المحور:
الادب والفن
لكمه الجندي في صدره لكمة قوية ، تراجع إلى الوراء قليلا ، انفجر غضب أبيه: - لا تضرب ابني. - لم أضربه. - بل ضربته. قال الشرطي المدني في هدوء: - لا تضربه ثم التفت إلى أبي حياد: اهدأ يا حاج لن يضربه مرة ثانية. هرول الجنود نحو سيارة كانت تقف عند منعطف قريب ، كان أحدهم يدفع "حياد" بعنف، وآخر يجر "سلام" من يده، توقف الجنود بجانب السيارة وضعوا يدي حياد خلف ظهره وأحاطوها بسوار بلاستيكي رفيع، وكذلك فعلوا مع سلام، ربطوا قطعا من القماش فوق عيونهما ، ربطوهما بشدة أحس معها حياد أن قطعة القماش تضغط على عينيه حتى تكاد تخرجهما من محجريهما . صاح أحد الجنود: - اطلع همس حياد: على فين ؟ لكمه الجندي: - اطلع في السيارة . تقدم ببطء وحذر ، اصطدم بمؤخرة السيارة الباور، كيف أصعد السيارة وأنا معصوب العينين مربوط اليدين. لكمه الجندي : - أنت ما بتفهم ،اطلع في السيارة . رفع حياد قدمه اليمنى بعد أن قدر ارتفاع السيارة عن الأرض، حاول الاتكاء بقدمه على جسم السيارة ولكنه أخطأه ومال حتى كاد يقع، قهقه جندي، ولكمه آخر، وصاح ثالث: - اقذفوه في السيارة . تناولته أيد بلا رحمة، قذفوا به داخل السيارة، أحس بجسم آخر يتبعه، لا بد أنه جسم أخيه، هدأت نفسه قليلا ،عاجله جندي بضربة من مقدمة حذائه العسكري في جانبه الأيمن ، آلمته الضربة، لم يتأوه، كتم أنفاسه، ربما جاءوا بوالده، لا يريد أن يقلق أبوه عليه، سيتحمل كل ما يفعلونه به، سيتحداهم بصمت ليثبت أنه أقوى منهم، حاول التخلص من السوار البلاستيكي، كان يظن أنه إذا حرك يديه يتسع السوار ويخلص يديه منه ، لكن السوار اللعين كان يضيق مع كل حركة تصدر عن يديه،آلام فظيعة تلاحقه،كان سكينا ثلمة تقص لحم يديه، تحاول قطع رسغيه ببطء وعناد، تحاول فصل الكفين عن الذراعين، لكأنهم يخشون راحة اليد، يودون التخلص منها، خنقها، منع الدماء من الوصول إليها حتى تموت، تذكر ذلك بعد فترة ليست بالبعيدة .. أقل من ستة أشهر، كأنهم كانوا يقرأون الكف، يطالعون الغيب، كأنهم كانوا يعرفون أن هذه الأيدي ، راحات اليد هذه، هذه الأكف الطرية الناعمة ستتحول إلى مقاليع، تصبح طيرا أبابيل، تطير باستمرار لتنشر الغضب في كل مكان، حفرت الأساور في جلد الرسغ أخدودا بدأ يسيل من الدم بطيئا.. بطيئا، والسيارة لم تتحرك بعد، وبعد فترة خالها عمرا بحاله . جأر محرك السيارة ، اندفعت في اتجاه ما ، لا يدري إلي أين ؟ المهم أنها تحركت ، وسيصبح المجهول معلوما بعد قليل، رياح ندية تحمل بشرى الفجر المقترب تلامس جسده، يشعر بانتعاش رعشة خفيفة تداعب جسده، أهي رعشة الخوف ، أم القلق مما تحمله اللحظات التالية، ترى ماذا سيقولون له؟ وبماذا سيجيب، هو الذي لم يفعل في حياته شيئا يمكن أن يقوده لمثل هذا الموقف، هو الذي عاش حياته بلا طعم ولا لون ولا رائحة، متعادل كملح الطعام، إلى متى سيظل حيادا كما أراد له أبوه، وهل بعد ضياع الامتحان يبقى للحياد معنى؟ وسلام أخي ، ماذا فعل هو الآخر ؟ وبماذا سيجيب؟ وما هي خبرته في الحياة ؟ وهل يمكن الركون إليه، أم أنه سيكون هشا ويلبس ثوبا ليس له؟ ولكمة أخرى، وضربة بمؤخرة بندقية تصيب رأسه، افعلوا ما شئتم فلن تفرحوا بها ، لا، لن أقولها ، لن تسمع كلمة آه مني حتى ولو قتلتموني. ********* تناثرت كلمات عبرية من أفواه الجنود، ممزيريم " أولاد حرام " ، جوكيم " صراصير " ، يوم المساواة ، وبصق أحد الجنود عليهم: - بدكم أرض يا ممزيريم، بدكم مساواة ، يوم المساواة. وأطلق ضحكة هستيرية : مساواة يا ممزيريم. صوت أشبه بصوت مزلاج حديدي، أو احتكاك مواسير ببعضها ، رافق توقف السيارة التي كانت قد أبطأت سيرها، انحرفت السيارة يمينا، سمع صوت تقافز الجنود من السيارة، توقفت سيارة أخرى خلف السيارة الأولى، وقفز جنود آخرون ، صراخ الجنود يملأ المكان، كلمات عبرية مختلطة، هرج ومرج، ضوء مصابيح قوية يتسلل إلى عينيه من تحت العصبة، صوت آذان الفجر يغطي على رطن الجنود ورطانتهم، أحس براحة غريبة، الله أكبر.. الله أكبر، كان المكان جزيرة ضوئية في بحيرة الظلام، سحبه جندي من ياقته، اعتدل، جذبه بعنف،، أرخى يده فوقع على الأرض، ثم وقع فوقه جسم آخر، لعله جسم أخيه، وصوت وقوع جسم ثالث، ورابع، و.. - قوموا . دفعهم الجندي بشراسة إلى جدار قريب حتى كادوا يدقون رءوسهم بالجدار، أوقفوهم، بدءوا يقصون الأساور البلاستيكية التي ربطوا بها أيديهم، أحس أن راحتي يديه قد انفصلتا عن ذراعيه، لم يشعر أن الكلابشات قد نزعت من رسغيه، ثم بدأ الإحساس يتسلل رويدا رويدا إلى راحتي اليدين ، وكأن الحياة بدأت تدب فيهما من جديد، كما غزا النور عينيه بقوة متوحشة حين رفع الجندي تلك العصبة عن عينيه، ألقى نظرة إلى يمينه، لم يعرف الواقف بجانبه، ثم مال بنظره إلى يساره،خامره شعور بالارتياح، أخوه سلام إلى جانبه، الحمد لله ، إنه بخير. ارتفع صوت آمر: - خذوهم إلى الزنزانة. واقتادهم الجنود إلى غرفة من الزنك ركبت داخل حفرة في الأرض ذات بوابة صفراء، ورائحة عطنة، تشع منها رطوبة قاتلة، دفعوهم داخل الزنزانة، ألقوا لهم ببعض البطاطين، صاح جندي: - ناموا .. يلا ناموا. لم تكن الغرفة تتسع لذلك العدد الذي دفعوا به إلى داخلها، وبعد إقفال الباب ، بدأ الحر يشدد الخناق عليهم تدريجيا، امتزجت الحرارة بالرطوبة برائحة العرق، كأنهم سميكات في علبة سردين محكمة الإغلاق خشية التلف! ترى هل يريدون تحنيطنا هنا؟! هل يريدون حفظنا من التلف ؟ أم يريدون قتلنا ببطء؟ .. تسلل نور الصباح من ثقوب في السقف الصفيح، ها هي عيون النهار تطل علينا ، تحمل معاني كثيرة، وأسئلة أكثر ، هل سنبقى هنا؟ والى متى؟ متى سيبدأون التحقيق معنا؟ وهل؟ وهل؟ وهل ؟ سمعوا صوت احتكاك مفاتيح، وخطوات تقترب ، يد تعبث بباب الزنزانة، ثم فتح باب الزنزانة، أطل عليهم وجه جندي ، أشار إلى أحدهم تعال ، نهض، ذهب إلى الجندي، أخرجه من الزنزانة، أغلق الباب، سمعوا وقع خطوات تبتعد شيئا فشيئا، حتى اختفى صوت وقع الخطوات، اشرأبت أعناقهم أصاخوا السمع، خيم هدوء قاتل على المكان، حتى كاد كل منهم يسمع صوت تردد أنفاسه، هل بدأ التحقيق؟ وماذا يريدون منا؟ ولماذا نحن هنا؟ عاد وقع الخطوات من جديد، صرير المفاتيح المزعج، لمن الدور الآن؟ وأين ذهب رفيقنا الأول؟ ماذا فعلوا به؟ استقر القلق في مآقيهم وتناثرت التساؤلات من عيونهم، لَفَّهم الصمت بردائه، يترقبون الخطوات المقتربة، خطوات أكثر من شخص، التصق كل منهم بالجدار وكأنه كتكوت يخشى أن تختطفه حدأة لحوح، تذكر حياد حدوتة الغولة التي طالما حكتها له جدته، كانت الغولة تستضيف بعض الأشخاص في بيتها ، لم يكونوا يعرفون أنها الغولة، تقدم لهم من الطعام ما لذ وطاب ، وتسقيهم أفضل الشراب ، ثم تأتي كل ليلة تتحسسهم وهم نيام لتتأكد إن كانوا سمنوا ، لتختار منهم من تأكله فيما بعد. أفاق حياد على صوت المفتاح يداعب باب الزنزانة من جديد، انفتح الباب،أطل الجندي ومن خلفه ظهر الشاب الذي خرج من الزنزانة وهو يحمل صندوقا من الكرتون، أدخله الجندي إلى الزنزانة قال: - كلوا ، سوف تغادرون إلى أنصار ظهر اليوم . - لماذا ؟ قال أحدهم، ثم أردف: - ماذا فعلنا؟ - لا تسألني ، كل ما أعرفه أنكم هنا بمناسبة يوم المساواة . - قال الشاب: - يوم المساواة ؟ وما علاقتنا بذلك؟ - يقولون أنكم شيوعيون خطرون، وأنكم ستثيرون المشاكل في هذا اليوم، لذلك قرروا اعتقالكم اعتقالا احترازيا. ابتسم حياد، طافت بذهنه صورة والده، صوت والده، وهو يلعن دين حكومتهم، يفضل عليها حكومة جنوب أفريقيا، هكذا إذن، ودون مقدمات أصبح شيوعيا، وخَطِرا أيضا! نظر إليه الجندي ، ابتسم مشجعا : - كلها أربع وعشرون ساعة ويطلق سراحكم، لكن لا تقولوا أنني قلت لكم ذلك. نظروا إليه بامتنان، لم تكن الكلمات لتعبر عن مشاعرهم وقتها ، ربما كان هذا الجندي صادقا، ربما كان يتعاطف معهم لأنه يدرك أنهم مظلومون، ربما كان من أنصار السلام الآن، ربما كان ديموقراطيا لا يؤمن بالحركة الصهيونية . أخذوا يتناولون طعام الإفطار ، وكل منهم لديه ما يشغله من الأفكار..البيت، الوالد، الوالدة، أنصار ، الزنزانة، يوم المساواة، الحبس الاحترازي، الشيوعيون، من هم الشيوعيون؟ وما هي الشيوعية؟ لماذا يخافون من الشيوعيين؟ أفكار وأسئلة لا تحصى راودتهم. قطع حبل أفكارهم هدير محرك سيارة صرخ بحدة عدة مرات، كان السائق يدوس على البنزين بقوة فيرتفع صوت محرك السيارة شاكيا، فيقوم السائق بتخفيف الضغط على مدوس البنزين، ينخفض صوت محرك السيارة ليعود إلى الصراخ من جديد ، اختلط صوت المحرك بصوت همهمة الجنود ، جلبة في خارج الزنزانة ، حركة نشطة، صوت يتحدث بلهجة آمرة ، صوت جنود يقفزون من السيارة، وآخرون يصعدون، احتكاك مفاتيح، صنبور مياه مفتوح، صوت رشاش الماء، شعور بالعطش ينتابهم، الحر الخانق يكتم أنفاسهم، رغبة للتمرد تنمو في نفوسهم، صوت باب يفتح ويغلق ، صرير عجلات سيارة تدور بسرعة دق أحدهم باب الزنزانة بعنف، لم يتلق جوابا، دق أكثر فأكثر، جاءه صوت جندي : - اسكت يا حمار. استطرد الجندي: - ما فيش مية، تشتوك " أغلق فمك " . استمر الدق، أعلى ، فأعلى، فأعلى، فأعلى، تدفق معه سيل الشتائم من ذلك الجندي الواقف قرب الباب ، ثم فتح الباب ، أمرهم الجندي بالخروج واحدا، واحدا، كان الجندي يسلم الواحد منهم إلى جندي آخر يضع يديه خلف ظهره، ويحكم ربطهما بكلابشات بلاستيكية، ويربط قطعة قماش على عينيه ، وكأنه يخشى أن يبهرهما ضوء الشمس ، قال الذي كان يدق الباب بعنف : - ولكنني أريد أن أشرب. جاءه ذلك الجندي بكوب ماء ، وعندما مد يديه لتناوله ، دلقه الجندي على الأرض ، ثم دفعه إلى الجندي الآخر ، الذي قام بدوره بربط يديه بشدة خلف ظهره، ووضع عصابة من القماش الأسود على عينيه ، وشد بقسوة، صاح شاب آخر : - أريد الذهاب للحمام . تظاهر الجندي بعدم الفهم فقال له الشاب برجاء : - شيروتيم " دورات المياه " . ضحك الجندي بوقاحة : - اعملها على نفسك يا جوكي ( يا صرصور) كظم غيظه كما كظم رغبته في التبول ، ود لو بال في فم ذلك الجندي ، فهو أنسب مكان لذلك لكثرة ما خرج منه من كلمات نابية. دفعهم الجنود بعنف إلى داخل سيارة عسكرية، ألقوهم على وجوههم ثم صعد الجنود إلى السيارة، وفي أثناء صعودهم داسوا على ظهورهم وسيقانهم وتعمد بعضهم أن يزغدهم ببوز حذائه ، أنفاس مكتومة تترد بدلا من الأنين، وصرخ محرك السيارة، اندفع إلى الأمام بشدة، أثارت غبارا في المكان زكمت رائحته أنوفهم ، دارت السيارة إلى اليمين، وإلى اليسار ، توقفت السيارة قليلا، سرح حياد، لا بد أنه الكف المجاور لمدرستنا( خان يونس الثانوية) ، ترى هل يرتبون المقاعد استعدادا للامتحانات ؟ وهل سيبقى مقعده خاليا؟ أم أنه سيخرج ويتقدم إلى الامتحان كما كان يأمل ؟ اندفعت السيارة من جديد بعد أن حادت إلى اليسار ، اتجهت السيارة شمالا إلى غزة ، صوت عجلات السيارة يشبه مزق القماش الجديد،أصوات سيارات تتجاوزها سياراتهم العسكرية، وسيارات أخرى تتجاوز سيارتهم، رائحة أشجار البرتقال تبدد رائحة الغبار الذي أثارته السيارة واختلطت الأمور، صوت عجلات السيارة بصوت محركها بصوت الجنود برطانتهم الغريبة، برائحة البرتقال التي تملأ الجو من حولهم بأصوات أبواق السيارات المارة على الطريق، وغزة تقترب رويدا رويدا، والسائق يميل بسيارته بحدة مرة إلى اليمين ومرة إلى اليسار ، لتتدحرج أجسادهم هنا وهناك، فتضغط الأساور البلاستيكية على الرسغين لتعمق ذلك الأخدود الذي حفرته بالأمس، وكأنها تريده ذكرى لا تمحى آثارها ... مالت السيارة يسارا، أخذت تصعد تدريجيا،لا بد أنها دلفت إلى شارع عمر المختار ، أصوات باعة العملة تترد هنا وهناك،... دينار ، دولار، مصري، ريال سعودي ، دينار كويتي، اللي معاه مارك ألماني ، إلي بدو دينار ،إلي بدو دولار، اللي معاه، مين قال خذ ، وتعالت أصوات أخرى .. خان يونس ، رفح، المغازي،النصيرات، البريج، ساحة فلسطين، كراج السيارات، هاهم يقتربون من نهاية المطاف وانحدرت السيارة نحو الغرب ، أبواق السيارات تتردد في الشارع العريض وكأنها تلاحقهم، مالت السيارة إلى اليسار لآخر مرة قبل أن تدور إلى اليمين لتدخل معسكر أنصار . انفتحت بوابة السجن الكبيرة، دخلت السيارة متجهة نحو اليمين ثم إلى اليسار، وأخيرا توقفت أمام مبنى غير مجهز تماما، أنزلوهم من السيارة ، قصوا الأساور البلاستيكية، فكوا الأربطة عن عيونهم التي دهمها نور شمس الظهيرة فجأة، حاول كل منهم إغماض عينيه على الظلمة التي سربها الرباط المرفوع عن العين إلى الخارج، ثم عادوا ففتحوا عيونهم وأغمضوها، كرروا ذلك عدة مرات حتى اعتادت عيونهم على النور من جديد. اقتادهم الجنود إلى غرفة من الغرف الأربعة الموجودة ، وجدوا في الغرفة أشخاصا لم يعرفوهم لأول وهلة ، وبعد أن تعارفوا بدأت الأسئلة والأجوبة، كان حياد حذرا ، يدرك أن السجن مملوء بالمصائد والشراك، فهو لا يريد أن يستدرجه أحد على الرغم من أنه لم يفعل شيئا، لطالما حدثه والده عن العصافير وما أدراك ما العصافير، ربما كان بين هؤلاء عصفور أو أكثر ، ابتسم حين سأله احدهم : - ألا تتذكرني يا حياد. هرش حياد ذاكرته، أضاءت ظلمة الذاكرة فجأة: - أوه .. أهذا أنت..آه.. تذكرت..أنت.. تلك القصة، بافل كورتشاغين.. كيف سقينا الفولاذ.. أنت أبو ..أوه لا أستطيع أن أتذكر . - يا راجل ألا تذكر .. زرتكم في البيت أكثر من مرة، وعندما سألتني عن قصة تريد قراءتها نصحتك بقراءة تلك القصة،" كيف سقينا الفولاذ والفلاذ سقيناه " ، آمل أن تكون قد قرأتها. - نعم، نعم إنها ملحمة وليست قصة عادية ، قرأت الكثير من القصص.. الرعب والجرأة ،أرض الميعاد، وغيرها وغيرها. - إذن يحق لوالدك ألا يخاف عليك ما دمت قرأت كل هذا. - ولكنه ما زال يحسبني طفلا. - الإنسان بلا وعي أشبه بطفل يحبو على درب الحياة يا حياد. - ولكنني رجل بدليل أنني هنا. - لقد أحضروك هنا بالنيابة عن والدك، يريدون معاقبة أبيك. - ولكن ما سبب اعتقالنا الحقيقي أنا وأخي سلام؟ - إنه يوم المساواة ، يعتقدون أن الشيوعيين هم أصحاب فكرة هذا اليوم، لذلك نحن هنا، يحتاطون لكل صغيرة وكبيرة. - وهل أنت شيوعي يا عم أبو كفاح؟ - بكل فخر يا حياد. - إذن حدثني عن الشيوعية.. ما هي؟ وما أهدافها؟ ولماذا يكرهون الشيوعيين ويخشونهم؟ تدفقت الكلمات على لسان أبي كفاح دون توقف، أخذ يحدثه عن الشيوعية، نشأتها ، جوهرها، أهدافها، العمال والفلاحون، طليعة الطبقة العاملة، الصراع الطبقي، وكيف أصبح هو شيوعيا، ولماذا اقتنع بأن يكون كذلك؟ وكيف أنه يبحث عن العدل؟ بل كيف يناضل من أجل توفير حياة أفضل للطبقات المظلومة؟ حدثه عن الملكية العامة لوسائل الإنتاج، عن البروليتاريا ودورها الطليعي في المجتمع، استمر يتحدث .. كان نبع الكلام لا ينضب، وكأن الأفكار أنفاس تتردد مع كل شهيق وزفير، كانت حرارة القناعة تلف كل كلمة ينطقها، ومع كل كلمة، كان حياد يتشوق لسماع المزيد، تمنى لو أنه قرأ الكثير والكثير، ولكن امتحان الثانوية العامة كان يقيد رغبته، فالثانوية العامة جواز مروره إلى الجامعة، لا بد أن يتسلح بالعلم كما يقول والده فمعركتنا هي معركة بين حضارتين والعلم سلاح أكيد في هذه المعركة. زالت الجفوة، وتساقطت جدران الحذر والحيطة جدارا بعد جدار، دارت الأحاديث حول التجارب الشخصية للكبار... المشكلة الوطنية، النكبة، أحداث 48، التقسيم ورفض الرجعية العربية له، حرب حزيران، أسبابها ونتائجها، الحلول المطروحة، والحلول الواقعية المفترضة، الدولة في الضفة والقطاع، اتفاق شباط مع الأردن وكيف ولد ميتا، دور الشعب الفلسطيني في إحباط المشاريع التصفوية، النضال من اجل المساواة بين العرب واليهود في إسرائيل، الجبهة الديموقراطية للسلام والمساواة(حداش)، القائمة التقدمية، كانت عقولهم نحلات تمتص رحيق الأفكار بسرعة مذهلة، بنهم شديد. - المقاشات على الباب. تساءل حياد: - ما هي المقاشات؟ أجاب أبو كفاح: - مجاش كلمة عبرية تعني صينية أو طبق. - إذن جاء وقت الطعام. وسال اللعاب ، لعاب اللسان، ولعاب العقل، كلاهما يطلب الطعام، فقد مضت فترة الظهيرة في الانتقال من خان يونس إلى غزة، ولذلك ضاعت عليهم وجبة الغذاء، وها هي وجبة العشاء تأتي مبكرة، بعد العصر بقليل، والعقل يطلب المزيد من المعرفة، ود حياد لو يصبح النهار أربعين ساعة بل خمسين، سرح قليلا، قال أحدهم: - لا تقلق، إن لم يطلق سراحنا الليلة سيطلق سراحنا غدا، لقد مر يوم المساواة،لا ندري كيف مر. تحلق الموجودون حول أواني الطعام، كل مجموعة في حلقة، بدءوا في تناول الطعام، وفي أثناء ذلك تبادلوا الأحاديث، السجن، الإفراج، الإضراب وهل نجح؟ هل شارك أهل الضفة والقطاع في الإضراب؟ هذا ما يقلق السلطات، أن يلتئم الشمل، أن يصبح الكل في واحد، عرب إسرائيل، الغزيون، أهل الضفة أصبحوا جسما واحدا بعد أن تمزقوا أشلاء مبعثرة، قسم تحت السيادة المصرية ، وقسم تحت السيادة الأردنية، وقسم تحت الاحتلال، وها قد أصبح الجميع تحت الاحتلال الكل في الهوى سوى. انطفأت الشمس بمجرد اقترابها من سطح البحر، وبدأت الظلمة تسقط على المكان بسرعة، رائحة البحر يحملها النسيم إلى داخل المعتقل، هبات النسيم أطفأت حرارة الجو لكنها لم تلغ تلك الرطوبة الخانقة التي تعشش في المكان، واستمرت الأحاديث تدور وتدور وفي حوالي الساعة العاشرة سمعوا صرير مفاتيح، ووقع خطوات تقترب، انكمش سلام إلى جانب أخيه ، همس: - ها قد جاءوا، ربما بدءوا التحقيق الآن! أدار جندي المفتاح في الباب،فتح الباب ببطء، نطق الكلمات بطيئة: - كل واحد بيسمع اسمه بييجي لهون. وبدأ ينادي الأسماء واحدا بعد الآخر ، صفهم جندي آخر ، مشى جندي أمامهم وآخر خلفهم حتى أوصلوهم إلى الباب الخارجي . صرخ جندي: - يللا روخ البيت. ذهل حياد، هل يعود إلى البيت في مثل هذا الوقت، وهل سيجد سيارة، أدرك أبو كفاح ما يدور بخلده ، فقال: - تستطيع أن تبيت عندي بقية الليل وفي الصباح رباح، ثم مال أبو كفاح على أذن حياد هامسا: - جهز كشف علامات لمنتصف العام، وكشفا بعلامات الإعدادية وسنة أولى وثانية ثانوي، فقد أستطيع أن أوفر لك منحة دراسية في الخارج. أطلت سيارة عليهم من مسافة ليست بالبعيدة قال السائق: - اركبوا نحن ننتظركم، هكذا يفعلون دائما، يطلقون المعتقلين في وقت غير مناسب، وأوصلتهم السيارة إلى ساحة التاكسيات، ميدان فلسطين، وتجمعوا في الساحة، بعضهم يريد الذهاب إلى خان يونس وآخرون إلى المعسكرات الوسطى أو جباليا أو الشجاعية بينما مشى سكان معسكر الشاطئ على أقدامهم.
#محمد_أيوب (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
الكف تناطح المخرز - رواية ، بقلم : د . محمد أيوب - الفصل الر
...
-
الكف تناطح المخرز - رواية /3
-
1 / 2الكف تناطح المخرز - رواية
-
الطيارون الإسرائيليون واللعبة القذرة
-
المخدرات وسيلة لتدمير المجتمعات النامية
-
حول وثيقة الأسرى
-
هجران
-
الكوابيس تأتي في حزيرا ن 23 / 24 / 25
-
الانتخابات الفلسطينية في الميزان
-
الكوابيس تأتي في حزيران 21 / / 22
-
الكوابيس تأتي في حزيران 19 / 20
-
الكوابيس تأتي في حزيران 17 / 18
-
الكوابيس تأتي في حزيران 15 / 16
-
الكوابيس تأتي في حزيران 13 / 14
-
الكوابيس تأتي في حزيران 11 / 12
-
التلفزيون الفلسطيني والمصداقية العالية
-
حول الديمقراطية والإصلاح السياسي في الوطن العربي
-
الكوابيس تاتي في حزيران الفصل التاسع والعاشر
-
ظاهرة التسول في المجتمع الفلسطيني
-
الكوابيس تأتي في حزيران - الفصل الثامن
المزيد.....
-
مش هتقدر تغمض عينيك “تردد قناة روتانا سينما الجديد 2025” ..
...
-
مش هتقدر تبطل ضحك “تردد قناة ميلودي أفلام 2025” .. تعرض أفلا
...
-
وفاة الأديب الجنوب أفريقي بريتنباخ المناهض لنظام الفصل العنص
...
-
شاهد إضاءة شجرة عيد الميلاد العملاقة في لشبونة ومليونا مصباح
...
-
فيينا تضيف معرض مشترك للفنانين سعدون والعزاوي
-
قدّم -دقوا على الخشب- وعمل مع سيد مكاوي.. رحيل الفنان السوري
...
-
افتُتح بـ-شظية-.. ليبيا تنظم أول دورة لمهرجان الفيلم الأوروب
...
-
تونس.. التراث العثماني تاريخ مشترك في المغرب العربي
-
حبس المخرج عمر زهران احتياطيا بتهمة سرقة مجوهرات زوجة خالد ي
...
-
تيك توك تعقد ورشة عمل في العراق لتعزيز الوعي الرقمي والثقافة
...
المزيد.....
-
التجريب والتأسيس في مسرح السيد حافظ
/ عبد الكريم برشيد
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
-
التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا
...
/ نواف يونس وآخرون
-
دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و
...
/ نادية سعدوني
-
المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين
/ د. راندا حلمى السعيد
-
سراب مختلف ألوانه
/ خالد علي سليفاني
-
جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد
...
/ أمال قندوز - فاطنة بوكركب
-
السيد حافظ أيقونة دراما الطفل
/ د. أحمد محمود أحمد سعيد
-
اللغة الشعرية فى مسرح الطفل عند السيد حافظ
/ صبرينة نصري نجود نصري
المزيد.....
|