|
رحلة الى امريكا - قصة
احمد هيبي
الحوار المتمدن-العدد: 1609 - 2006 / 7 / 12 - 08:58
المحور:
الادب والفن
في عودة الى الوراء، وفي كل ما يختص بحياتي الماضية، لا أستطيع إلا بصعوبة أن أميز ذلك الخيط الذي كان من المفترض أن يقود حياتي، أو يرسم المحطات الرئيسية في هذه الحياة. الصدفة المحضة، لا التخطيط المبرمج، هي التي قادت بالتالي جميع خطواتي. كنت أشبه بدودة عارية يدفعها الجوع أو الملل الى خارج حدود بيتها. ولكن الصدفة، أو العاصفة العاتية، أو المطر الغزير، هو ما كان يبعدها، أو يعيدها، الى مكانها. ألم تكن هناك محطات رئيسية على خط حياتي؟ طبعا كانت. ولكني كنت عاجزًا أن أميّز بين ما يمكن أن أسميه محطة ثابتة، وبين ما هو حادث عابر. كانت الامور تختلط علي.ّ فلم أكن ذكيًا بحيث أفهم المعنى الحقيقي للمسلك الذي تتخذه حياتي. ولقد عملت سنينًا طويلة في تجارة الخشب، ولكن ثروتي الحقيقية حصلتها من قطعة أرض ورثتها عن أبي. ولقد كتبت الكثير من الكتب، وحاولت جاهدًا أن أضع نفسي في مصاف الكتاب الكبار. ولكن الاعتراف الحقيقي بي ككاتب، جاء بعد كتابتي قصة للاطفال، لم تستغرقني كتابتها الا بضعة دقائق. إنك تنظر إلى ذلك الحشد الهائل من الناس، الذي يمر في أفق حياتك. وتتعجب أية فائدة قد تجنيها من هؤلاء؟ ولكنك تنسى أن أحدا منهم قد يصبح صديقك أو عدوك اللدود الذي ينغص عليك هذه الحياة. هكذا كانت صداقتي مع عائلة "نجاتي" هي واحدة من هذه الصدف، التي كان مقدرًا لها، دون أن أدري، أن تترك أثرًا ما في خط حياتي . نعم الصدف. إذ لطالما لاحظت على نفسي، إني كنت أنجذب، الى اشخاص هُلاميين، غريبي الاطوار، يلتصقون بي، قبل أن أفتح فمي أو أمد ذراعي. وأصدقائي القليليون الذين تربطني بهم علاقة ما، هم بعض هؤلاء الذين استوقفوني عند موقف باص، أو ألقوا لي بالتحية عرضا، من دون قصد، عند مفترق شارع. كانت عائلة نجاتي تذبح لي الخرفان، وتدعو الضيوف، وتقدم على شرفي الاوز المحشي. وبعد ذلك يتضح أن العائلة مُفلسة، وإنها على وشك أن تستدين منّي ثمن عزومة من هذه العزائم. كانت الام وهي في الأربعينات من عمرها، مُستعدة أن تدفع الي بواحدة من بناتها، لتذرف الدمع السخين، من أجل التسريع بالدفع. ولم يكن يعيب هؤلاء الناس أبدًا، أن أسير بثيابي الداخلية في صالون العائلة، ما دمت سأدفع. أو أن أدخل الحمام لاستحم، بينما فتيات العائلة يدرن حولي كفراشات حول زهرة - وهنّ ثلاث بالعدد: نيفين ومادلين وشيرين - يناولني المناشف باسمات. كل هذا كان متوقعًا من هذه العائلة العجيبة. ولكن عندما أُعلن رسميًا عن فقدان واحدة من الفتيات الثلاث - شيرين الصغيرة - وهي فقط في العشرين من عمرها، فكرت العائلة أن عليها أن تبحث عن إبنتها في أمريكا. وقد انتدبتني الام، بصفتي صديقا للعائلة، وحافظًا لاسرارها ، من دون جميع الرجال الاصدقاء الذين يترددون على هذا البيت، للبحث عن الفتاة، وإعادتها إلى البيت. كانت الشرطة متدخلة أيضًا في الموضوع. وأظن أن الحكومة وبطريقة لم أفهمها، قد دفعت قسطًا من تكاليف الرحلة للبنتين الاخريين، اللتين كان قد تقرر أن ترافقاني. أما أنا فقد وجدتها فرصة للسفر، في مهمة غائمة، إلى أرض لم تطأها قدمي. كانت طبيعتي الهادئة اللامبالية بكل هذه التغيرات المفاجئة، التي تجري حولي، هي وراء قبولي لهذه المهمة. كانت الصفحات المهمة في كتاب حياتي بانتظار دفعة بسيطة من الخارج، من أجل أن تنقلب حياتي رأسًا على عقب. جلسنا أوقاتًا طويلة نخطط لرحلة البحث. وقد رسمت الام جميع التفاصيل مع الفتيات. وجعلتني أستمع إلى أفكارها ساعات من الزمن وأنا أهز برأسي. وكان هذا ضد طبعي. ولكن حين أصبحنا في الطائرة، وحتى قبل أن نقلع من المطار، حيث ودعتنا الام بدموعها الساخنة، مع آخر التفاصيل المكررة، كانت الفتاتان تتصرفان وكأنها تقومان برحلة إستجمام قصيرة، على خلفية البحث عن فتاة مفقودة، لا يربطها بهما رابط. وفي نيويورك نزلنا في فندق كبير مؤلف من عشرات الطوابق. لم تكن للمدينة أية صورة سابقة في ذهني. وما عدا الفتاتان اللتان إنخرطتا في حياة الفندق بجميع تفاصيله، لم يكن أي شيء مألوفًا لدي. حتى اني ندمت على المجيء. وكعادتي انكفأت نفسي إلى مطالعة الجرائد، بعد أن ملّت مراقبة هؤلاء الامريكيين الذي بدوا لي كسكان كوكب آخر. أما البحث عن "شيرين" فقد بدا الان مهمة مضحكة، إن لم تكن مستحيلة. فأين تبحث في هذه الصحراء الآدمية التي فيها كل ذرة من الرمل، هي إنسان يجري في مداره؟ كانت الفتاتان - نيفين ومادلين - تسليان نفسيهما، بما هو أهم بكثير من المهمة التي قدمتا من أجلها. فقد تعرفتا إلى مجموعة من الطلاب الذين يسكنون في الفندق، أو قريبا منه، وصارت أيامهما كلّها مشغولة في الخروج والدخول والعزائم والمهمات الصغيرة. حتى إني نادرًا ما كنت أراهما. فإذا صادفتهما من بعيد، أشارتا لي بأيديهما، وكأنهما تعزياني، أو تحزنا من أجلي، فأنا لا أستطيع أن أجد مكاني في البلاد الجديدة. ولا شك أن هذا قد أثّر عليّ كثيرًا. وأنا بطبيعتي رجل حسّاس. وتذكّرت كيف كانت الفتاتان تلتصقان بي في البلاد كقطتين تبحثان عن الحماية. أما الان فقد صرت، بالنسبة لهما، كالبعير المعبد، بعيدًا عنهما، كأني غرقت في نهر، أمام أعينهما المشفقة . ولكن أنا دون غيري، من وجد الفتاة الضائعة شيرين. وقد حدث هذا صدفة. لأني نسيت مهمة البحث - كغيري - منذ وطأت قدماي أرض هذا البلد. كنت أنظر مرّة من الشرفة، عندما التقطت عيناي صورة فتاة تشبهها، تحدق ناحية الفندق، في الشارع عند تقاطع الطرق. وكانت هذه هي. ولم أكن بحاجة إلا إلى صوتي القديم الاجش، الذي بدا وكأني أسمعه في هذه البلاد، لاول مرّة، لاجعلها تأتي ناحيتي. أما الاختان نجاتي، فقد استقبلتا أختهما بفتور. وبعد تمثيلية قصيرة من تبادل القبل وذرف الدموع، بدا الامر وكأنه غلطة مقصودة مني. فمعنى الحدث أن الجميع سيعودون إلى البلاد. ومن جهة أخرى، لم يهللا لي، بصفتي المكتشف العظيم، أوالرجل الذي لم ينس المهمة التي أتى من أجلها،إلا قليلا. ولكنهما صارتا الان أقل تجاهلا لي، كوني الشخص الذي بيده قرار العودة، وموعدها، وشكلها، وطريقة الاتصال بالام والشرطة، وأخبار الكل أن مهمتنا قد تكلّلت بالنجاح. ومن أجل ذلك فقد إصطحبتاني في رحلة قصيرة على الاقدام مع مجموعة من الشباب، من الذين يعرفون معالم البلد ويستطيعون مساعدتنا لو احتجنا شيئا، أو طلبنا شراء شيء. وفي طول الطريق بثّت لي الاختان تلميحات كثيرة، منها ما يختص بالجنس أيضًا. وكان يمكن الاستنتاج مما لمحتا اليه، أنني يجب أن أهتم بنفسي قليلا، وأنه من غير المعقول أن أزور أمريكا، دون أن تكون لي مغامرة واحدة أحدّث أصدقائي في البلاد عنها. أما أنا فقد قلت معتذرًا أن أمريكا لا تختلف عن باقي البلاد، سوى أن الفنادق تفرش فيها بالجلد بدل السجاد. ولم يكن أحد يوافقني على ما أقول، ولذلك إضطررت أن أعود إلى الفندق غاضبا. وقرّرت إنني يجب أن أحمل البنات على العودة سريعًا، قبل أن تفلت الامور من يدي. وعزمت أن أهاتف عائلة نجاتي في نفس اليوم. وكانت الفتاتان تدعواني الى عدم التعجل بهذه الإجراءات. ولكنّي عندما عدت إلى الفندق لم أجد شيرين في المكان الذي تركتها فيه. إختفت فجأة، وقد تركت لي رسالة تقول فيها أنها لن تعود إلى البلاد معنا مهما حدث، وإن وجودها في نيويورك هو حقيقة لا رجعة فيها. وأخفيت الرسالة عن عيون البنتين الاخريين، لأن مجرد معرفتهما بمضمونها كان سوف يفرحهما كثيرًا. وخرجت هذه المرّة وحدي لابحث عن شيرين من جديد. ولم يكن من الصعب إكتشاف مكانها. أن شيرين أشبه بدجاج "الدبويا" لا تتحرك كثيرًا في محيط تواجدها. إنها تذكرك باولئك الاولاد في لعبة "الغميضة" الذين تجدهم دائمًا في نفس المخبأ. ولكنّي عندما عدت الى الفندق مع شيرين، إكتشفت أن البنتين قد إختفيتا بدورهما, تركتارسالة، كتبتا فيها أنهما لن تعودا معي ومع شيرين الى البلاد. وإنه ما دامت رحلتنا قد تكلّلت بالنجاح، ووجدنا شيرين التي كنا نبحث عنها، فانه من الافضل أن أعود أنا وهي، وأتركهما لبعض الوقت، لكي يجدا فرصتهما هنا في العمل أو التعلّم، أو حتى في الزواج. فالشباب العرب هنا كثيرون لا يجدون من يتزوجون، والبنات العربيات قليلات. أما في البلاد فالوضع عكسي تمامًا، وهو ما جعلهما تضربان عن الزواج حتى الان. هكذا أسقط بيدي هذه المرة. ولم أهاتف الام نجاتي، وجلست أنتظر الفتاتين عدة أيام، وأفكر بما ينبغي لي فعله بعد هذه الاحداث. وكانت شيرين التي رفضت في البداية أن تبتعد عنّي، أو تذهب للبحث عن أختيها، تعزيني في وحدتي وفي مكوثي في هذا المكان. ولكنها استغّلت أول فرصة للهرب، فهربت لا تلوي على شيء. ولم خرج للبحث عنها كما تعودت دائمًا. ولم تعد بي الرغبة حتى في الاحتفاظ بها إلى جانبي، أو حتى في إقناعها بالرجوع إلى البلاد. وأظني قد رأيت الفتاتين الاخريين، صدفة، مرات عديدة بعد ذلك، وبعد أكثر من سنة من هذا التاريخ. ولكني ما اكترثت في مُناداتهما أوالتحدث اليهما. لقد اكتشفت فجأة أن الفتيات كن أكثر جُرأة منّي، وأقوى على الهرب والتغيير. ولذلك فقد قرّرت أن أهرب أنا بدوري وأختفي في هذه البلاد الكبيرة والفظيعة التي تسمى نيويورك. وغادرت مكاني في الفندق إلى مسكن صغير في الضواحي. وكان هدفي ألا تستطيع الفتيات أن يجدنني، لو قرّرن العودة، أو حتى الشعور بالندم. وقد حدث في حياتي الجديدة أن قابلتهن أكثر من مرّة في أماكن قريبة أو بعيدة. ببطونهن المنتفخة، أو وجوههن التي تحولت الى وجوه نساء متزوجات، أو وهن يدفعن أمامهن أزواجا، أو يجررن عربات فيها أطفال. وبعد سنين طويلة، كنت أرى من يشبههن، في طول أمريكا وعرضها. إنه نسلهن تكاثر وانتشر في كل ناحية. غير إني لم أكترث بهن ولا بمن خلفهن، ولا بالماضي الذي كان يجمعني بهن. فقد قرّرت الهرب منهن، ومن كل ما يمثّلن وما يجمعني بهن، حتى النهاية.
#احمد_هيبي (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
رأيت أبي - قصة قصيرة
-
ابو صليعة
-
العلية الرياضية او العلية الطبيعية
-
رسّام الحيطان
-
مرحبة - قصة للاطفال
-
هل للكاتب سلطة؟
-
قصة - رحلة مع لينين
-
الجنس عند اليهود - القسم الثاني
-
ادب الاطفال من الخارج
-
اسمي الجديد
-
الكلوت
المزيد.....
-
وفاة الأديب الجنوب أفريقي بريتنباخ المناهض لنظام الفصل العنص
...
-
شاهد إضاءة شجرة عيد الميلاد العملاقة في لشبونة ومليونا مصباح
...
-
فيينا تضيف معرض مشترك للفنانين سعدون والعزاوي
-
قدّم -دقوا على الخشب- وعمل مع سيد مكاوي.. رحيل الفنان السوري
...
-
افتُتح بـ-شظية-.. ليبيا تنظم أول دورة لمهرجان الفيلم الأوروب
...
-
تونس.. التراث العثماني تاريخ مشترك في المغرب العربي
-
حبس المخرج عمر زهران احتياطيا بتهمة سرقة مجوهرات زوجة خالد ي
...
-
تيك توك تعقد ورشة عمل في العراق لتعزيز الوعي الرقمي والثقافة
...
-
تونس: أيام قرطاج المسرحية تفتتح دورتها الـ25 تحت شعار -المسر
...
-
سوريا.. رحيل المطرب عصمت رشيد عن عمر ناهز 76 عاما
المزيد.....
-
التجريب والتأسيس في مسرح السيد حافظ
/ عبد الكريم برشيد
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
-
التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا
...
/ نواف يونس وآخرون
-
دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و
...
/ نادية سعدوني
-
المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين
/ د. راندا حلمى السعيد
-
سراب مختلف ألوانه
/ خالد علي سليفاني
-
جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد
...
/ أمال قندوز - فاطنة بوكركب
-
السيد حافظ أيقونة دراما الطفل
/ د. أحمد محمود أحمد سعيد
-
اللغة الشعرية فى مسرح الطفل عند السيد حافظ
/ صبرينة نصري نجود نصري
المزيد.....
|