|
النمط الأميركي من بناء الدولة القومية في التاريخ الحديث (2)
عبدالله تركماني
الحوار المتمدن-العدد: 6721 - 2020 / 11 / 2 - 12:50
المحور:
دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات
إنّ القومية وتقديس النخبة واحترام السلطة، تلك هي السمات الرئيسية للديمقراطية لدى الاتحاديين الأميركيين. بينما تتلخص مبادئ الديمقراطية الجفرسونية في الحكم المحدود، وحقوق الإنسان، والمساواة الطبيعية. وقد كان الظفر من نصيب ديمقراطية جفرسون، ما بين سنتي 1820-1840، كما ذكر توكفيل حينما أقام في الولايات المتحدة الأميركية. بيد أنّ التصوّرات الاتحادية قد أثّرت في الفكر السياسي الأميركي تأثيراً عميقاً، حين حققت أول تأليف بين الرأسمالية والديمقراطية، بين الحرية والنجاعة في العمل، بين التخطيط وترك الأمور على غاربها. وبصورة عامة، فإنّ المفهوم الأميركي للقومية يقوم على أساس قانوني هو قيام الدولة، فحدود الدولة هي حدود القومية. والقومية، تبعاً للمفهوم الأميركي السائد، وضع يمكن أن يُخلق ويمكن أن يختفي تبعاً لقيام الدولة أو اختفائها، وهو مفهوم مشتق من تجربة الولايات المتحدة الأميركية نفسها. ومن جهة أخرى، فقد تم تأويل مفهوم القومية الأميركية تأويلاً مفتوحاً، يرحّب بمبدأ اندماج عناصر جديدة وافدة، خاصة أنّ الولايات المتحدة الأميركية كانت -وما زالت إلى حدٍّ ما - منفتحة على الهجرة انفتاحاً واسعاً. لقد اتخذ هذا التأويل الأميركي مفهوماً خاصاً، هو " الالحاق " بالقومية الأمريكية، بما انطوى عليه من اعتراف بـ" ديمومة التنوّع في الذاتيات الثقافية للمجموعات المختلفة الأصول المكوّنة للأمة الأميركية "، تحت عنوان: " الحق في الاختلاف ". وقد لعب هذا المفهوم، بالرغم مما اعتراه من: " ديمومة التمييز وإنكار المساواة في واقع الأمر" (11)، دوراً هاماً في إكساب الولايات المتحدة الأميركية القوة والتقدم، اللذين برزا - بشكل واضح - في القرن العشرين. لقد أنجز المفكر الفرنسي آليكسي دو توكفيل Tocqueville الجزء الأول (المجلدين الأولين) من كتابه " الديمقراطية في أميركا " في أوائل سنة 1835، وهو حصيلة بعثة دراسية عن نظام السجون عند الأميركيين لمدة سنة واحدة، بدأت في 10 مايو/أيار 1831، عالج فيه تأثير الديمقراطية على مؤسسات الأميركيين وأخلاقهم السياسية. وأنجز الجزء الثاني بمجلدين آخرين في سنة 1840، وقد عالج فيه تأثير الديمقراطية على أفكار وعواطف الأميركيين وأخلاقهم الخاصة. رأى توكفيل أنّ الولايات المتحدة الأميركية تقدّم، في سنة 1830، النموذج الأكثر سطوعاً عن حالة اجتماعية مساواتية: " البشر يتبينون فيه أكثر مساواة بثروتهم وبذكائهم، أو بمفردات أخرى، أكثر تساوياً في القوة، مما هم في أي بلد من العالم، ومما كانوا في أي قرن حفظ التاريخ ذكراه ". وتابع توصيفه للحياة الأميركية، إذ كان الأميريكيون متنورين لكي يتجنبوا عبودية الجميع تحت سيّد واحد، ولكي يؤسسوا ويصونوا سيادة الشعب، وهذه السيادة عقيدة أميركية حقيقية، لا يوجد فيها أية سلطة خارجية عن الجسم الاجتماعي: " المجتمع يفعل فيها بنفسه وعلى نفسه. لا توجد قدرة إلا في حضنه، بل لا يُصادَف - تقريباً - شخص يجرؤ على تصوّر، وخصوصاً على قول، فكرة البحث عن بعضها في مكان آخر. الشعب يشارك في تأليف القوانين باختياره المشرّعين، وفي تطبيقها بانتخاب وكلاء السلطة التنفيذية. يمكن القول إنه يحكم بنفسه، لشدة ضعف وضيق القسط المتروك للإدارة، لشدة ما هذه الأخيرة تحس بأثر أصلها الشعبي، وتطيع السلطان الذي صدرت عنه. الشعب يسود على العالم السياسي الأميركي كما الله على الكون، إنه سبب وغاية كل الأشياء: كل شيء يخرج منه وكل شيء يُمتَصّ فيه. إنه سلطة الأكثرية: " إنه يوجـد من النور والحكمة في كثير من البشر المجتمعين أكثر مما يوجد في واحد " (12). وبعد أن يبيّن المخاطر التي تنطوي عليها " سلطة الأكثرية " و" المساواة "، خاصة اتجاه الإنسان نحو ذاته الفردية، يستجمع توكفيل، في الصفحات الأخيرة من مؤلفه الهام، فكره المعذَّب: " لقد أردت أن أعرض في ضوء النهار المخاطر التي تلحقها المساواة بالاستقلال البشري، لأنني أعتقد بحزم أنّ هذه المخاطر هي الأرهب وأيضاً الأقل في الحسبان من بين جميع التي يحويها المستقبل. ولكنّي لا أعتقدها لا تُقهَر". ويختم الكتاب بالقول: " الأمم في أيامنا لا تستطيع أن تعمل على أن لا تكون في حضنها الشروط متساوية، ولكن يتوقف عليها أن تقودها المساواة إلى العبودية أو إلى الحرية، إلى الأنوار أو إلى البربرية، إلى الازدهار أو إلى البؤس والتعاسة "(13). ويبدو أنه كان يخاطب أمته الفرنسية، التي انفجرت فيها، بعد ثماني سنوات، ثورة فبراير/شباط 1848. كما أنّ الولايات المتحدة الأميركية نفسها شهدت حرب الانفصال (1861-1865) بين الشمال الصناعي والجنوب الزراعي: فالشمال كان ذا نزعة حمائية، لأنه توخّى دعم صناعته. بينما كان الجنوب يرغب في تصدير قطنه، واستيراد آلياته من بريطانيا العظمى، لذلك كان من أنصار حرية التبادل التجاري. لقد انتهت حرب الانفصال بانتصار الوحدة القومية للولايات المتحدة الأمريكية، ليس نتيجة للاختيار الحر، بل بالقوة التي فرضتها الولايات الشمالية على الولايات الجنوبية لتبقى في الاتحاد. وقد أدت الحرب الأهلية إلى خسائر بشرية ومادية فادحة، ولكنها حافظت على الولايات المتحدة الأميركية كدولة موحَّدة وقويّة. ومن جهة أخرى، فقد استُبعد الديمقراطيون من السلطة حتى عام 1912، بينما استقر الجمهوريون، في الحكم، استقراراً وطيداً (1865-1912)، تخللتها فترة قصيرة للديمقراطيين في عام 1884، فتماثلوا مع التصنيع، بكل نجاحاته ومساوئه. وقد أفضت فترة الحكم الديمقراطي الطويلة إلى نشوء الإمبريالية الأمريكية، إذ تميّز آخر القرن التاسع عشر برجحان الاقتصاد على السياسة، وبتحوّل الاقتصاد بشكل متسارع نحو الرأسمالية الليبرالية. واتسمت تلك الفترة بالارتقاء السريع، وتدفق المهاجرين والثروات الضخمة. وكان لهذا الارتقاء السريع نتائج هامة، تمثلت في اندفاعة قومية وإمبريالية كبــرى، وتجلت إبّان النزاع الإسباني - الأميركي في عام 1888، أذ قاد تيودور روزفلت (14) الحرب ضد كوبا بحماسة، وفاخر بأنه قتل بيده إسبانياً. وكان للنزعة التوسعية الأميركية جذوراً بعيدة (إلحاق فلوريدا في عام 1819، وتكساس في عام 1845، وحرب المكسيك في الفترة ما بين سنتي 1846-1848 التي انتهت بإلحاق كاليفورنيا). وكان هناك اتجاه لأن تحتل الولايات المتحدة كل القارة الأميركية، غير أنّ هذه النزعة التوسعية اتخذت، في الفترة ما بين 1885-1890 ، طابعاً إمبريالياً منتظَماً وشعبياً في آن واحد، اتصف بسمات أميركية خاصة (15): (1) - الإمبريالية البحرية، التي عبّر عنها خير تعبير ألفريد ماهان في كتابيه " تأثير القوة البحرية في التاريخ " (1890)، و" مصلحة أميركا في قوة بحرية " (1897). (2) - الإمبريالية الديمغرافية، إذ تم الاعتقاد بأنّ الولايات المتحدة الأميركية تستطيع أن تغذّي مجموعة سكانية واسعة من الأنكلو ساكسون في أوروبا وأفريقيا والعالم. (3) - الإمبريالية البيولوجية، التي تقوم على تفوّق الأنكلو ساكسونية، إذ أكد تيودور روزفلت في كتابه " الحياة النشيطة " (1899)، ما يلي: " هناك وطنية للعرق كما هناك وطنية للبلاد ". وهكذا، تضافرت عدة سمات في الولايات المتحدة الأميركية، خاصة الداروينية الاجتماعية، كدعامات رئيسية للإمبريالية الأميركية في القرن العشرين. الهوامش 11 - د. أمين، سمير: (حول مفهوم القومية...)، المرجع السابق، ص 19. 12 - نقلاً عن: شفاليه، جان جاك المؤلفات السياسية...، المرجع السابق، ص ص 232 -234. 13- نقلاً عن: شفاليه، جان جاك المؤلفات السياسية...، المرجع السابق، ص 247. 14 - شغل منصب الرئاسة (1901-1908)، ومثّل الحالة الفكرية للطبقة الوسطى الأميركية، وكانت " تقدميته " محاولة حذرة للغاية في سبيل إصلاح النظام الليبرالي دون المساس بمبادئه، إذ توخّى تنظيم التروستات الاحتكارية لا تقويضها، وإيقاف نهب الموارد الطبيعية، ومكافحة الفساد، والحد من سطوة الرأسماليين الكبار على السلطة. وكان همه الرئيسي زيادة قوة الولايات المتحدة ونفوذها العالمي، وقد أفضى ذلك إلى الإمبريالية بأجلى صورها، المشابهة للإمبريالية البريطانية. 15- توشار، جان: تاريخ الأفكار...، المرجع السابق، ص 462-463.
#عبدالله_تركماني (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
المسألة الكردية بدلالة الوطنية السورية الحامعة
-
النمط الأميركي من بناء الدولة القومية في التاريخ الحديث (1)
-
النمط الإيطالي من بناء الدولة القومية في التاريخ الحديث (2)
-
النمط الإيطالي من بناء الدولة القومية في التاريخ الحديث (1)
-
النمط الألماني من بناء الدولة القومية في التاريخ الحديث (3)
-
النمط الألماني من بناء الدولة القومية في التاريخ الحديث (2)
-
النمط الألماني من بناء الدولة القومية في التاريخ الحديث (1)
-
النمط البريطاني - الفرنسي من بناء الدولة القومية في التاريخ
...
-
في أهمية العلمانية للاجتماع السياسي السوري (3)
-
البناء من تحت للوطنية السورية الجامعة
-
في أهمية العلمانية للاجتماع السياسي السوري (2)
-
في أهمية العلمانية للاجتماع السياسي السوري (1)
-
حق الشعوب في تقرير مصيرها والمسألة الكردية في سورية (4 - 2)
-
حق الشعوب في تقرير مصيرها والمسألة الكردية في سورية (4 - 1)
-
حق الشعوب في تقرير مصيرها والمسألة الكردية في سورية (3 - 3)
-
حق الشعوب في تقرير مصيرها والمسألة الكردية في سورية (3 - 2)
-
حق الشعوب في تقرير مصيرها والمسألة الكردية في سورية (3 - 1)
-
حق الشعوب في تقرير مصيرها والمسألة الكردية في سورية (2)
-
حق الشعوب في تقرير مصيرها والمسألة الكردية في سورية (1)
-
مكانة الماركسية في العلوم الاجتماعية
المزيد.....
-
تحليل للفيديو.. هذا ما تكشفه اللقطات التي تظهر اللحظة التي س
...
-
كينيا.. عودة التيار الكهربائي لمعظم أنحاء البلاد بعد ساعات م
...
-
أخطار عظيمة جدا: وزير الدفاع الروسي يتحدث عن حرب مع الناتو
-
ساليفان: أوكرانيا ستكون في موقف ضعف في المفاوضات مع روسيا دو
...
-
ترامب يقاضي صحيفة وشركة لاستطلاعات الرأي لأنها توقعت فوز هار
...
-
بسبب المرض.. محكمة سويسرية قد تلغي محاكمة رفعت الأسد
-
-من دعاة الحرب وداعم لأوكرانيا-.. كارلسون يعيق فرص بومبيو في
...
-
مجلة فرنسية تكشف تفاصيل الانفصال بين ثلاثي الساحل و-إيكواس-
...
-
حديث إسرائيلي عن -تقدم كبير- بمفاوضات غزة واتفاق محتمل خلال
...
-
فعاليات اليوم الوطني القطري أكثر من مجرد احتفالات
المزيد.....
-
الانسان في فجر الحضارة
/ مالك ابوعليا
-
مسألة أصل ثقافات العصر الحجري في شمال القسم الأوروبي من الات
...
/ مالك ابوعليا
-
مسرح الطفل وفنتازيا التكوين المعرفي بين الخيال الاسترجاعي وا
...
/ أبو الحسن سلام
-
تاريخ البشرية القديم
/ مالك ابوعليا
-
تراث بحزاني النسخة الاخيرة
/ ممتاز حسين خلو
-
فى الأسطورة العرقية اليهودية
/ سعيد العليمى
-
غورباتشوف والانهيار السوفيتي
/ دلير زنكنة
-
الكيمياء الصوفيّة وصناعة الدُّعاة
/ نايف سلوم
-
الشعر البدوي في مصر قراءة تأويلية
/ زينب محمد عبد الرحيم
-
عبد الله العروي.. المفكر العربي المعاصر
/ أحمد رباص
المزيد.....
|