|
البحث عن الذات المحضة في مجموعة (النوم في محطة الباص) لعبد الخالق كيطان
فرج الحطاب
الحوار المتمدن-العدد: 6719 - 2020 / 10 / 30 - 23:23
المحور:
الادب والفن
منذ مجموعته الأولى (نازحون-1998)، سعى الشاعر العراقي المقيم في استراليا عبد الخالق كيطان الى توظيف لغته الشعرية من أجل استحضار المعنى وكسر حواجز البلاغة التقليدية لتحل بدلا عنها بلاغة الصورة الشعرية. فقصائده على الأعم، غالبا ما تغادر مساحة البياض نحو تفعيل الصور الشعرية المكثفّة. قصائد تبتعد في اغلبها عن ارتكاب المغامرات الشكليّة أو الخارجيّة، وتجتهد في التركيز أساسا على جوهر وملامح النص، ومنحه النموّ اللازم لرسم تكوينات الشكل الخارجي. فقصائد عبد الخالق كيطان مكتوبة بلغة شِعريّة سهلة تسعى الى محاكاة اللغة اليوميّة، لغة تميل الى البساطة لكنّها لا تتنازل عن امتلائها وفاعليتها في تعزيز بلاغة الصورة الشعريّة. والصور الشعريّة في قصائد عبد الخالق غالبا ما تنزع الى البساطة لكنّها حادة كنصل تنغرز عميقا في وجدان القارئ. أما تجربة الشاعر الأخرى في (صعاليك بغداد-2000) فيمكن ان نتلمس فيها ذلك الميل الواضح لتفعيل أسلوب السرد واختبار التجربة الذاتيّة وصورة المكان بطريقة أكثر فاعليّة، حيث امتدّ فضاء التجربة مكانيّا وزمانيّا ليشمل عمّان -الأردن، بعد ان كان مقتصرا على المكان المحلّي في العراق وتحديدا ميسان-بغداد، فمثلّت عمان فضاء الحاضر، بينما مثلّت بغداد بعد الماضي وفضاء الذاكرة الذي غالبا ما يتم استدعاؤه ليشتبك مع الحاضر في كتابة نصّه الشعري. في مجموعته (الانتظار في ماريون -2007) قدّم لنا عبد الخالق كيطان علاوة على عدد من القصائد التي كتبها في عمان-الأردن، قصائد جديدة من وحي منفاه الجديد أو مكان اغترابه الجديد في استراليا. في تلك القصائد الأسترالية الجديدة، مارس كيطان تجربة الشاعر الغريب وهي ترصد الروح القلقة والملتاعة والضاجّة بمشاعر الغربة والحنين والألم والشكوى والتذمّر. في هذه المجموعة تنطلق مفردات القصائد من جوهر الألم ومشاعر القلق كبنيّة تأسيسيّة في بناء الجمل الشعريّة لأغلب قصائد المجموعة. كما أصبح بالإمكان تلمّس مغامرة كيطان الجديدة في محاولته لاكتشاف ذاته من خلال المكان الجديد، في مغامرة يمكن تسميتها بمغامرة البحث عن الذات في فضاء الألم. ومرة أخرى يسير الشاعر في مسار الاقتصاد اللغوي-وهو سمة واضحة ليس عند كيطان وحده فحسب، بل وعند أغلب شعراء التسعينات في العراق- فيمعن بتشذيبها، والاكتفاء بما يستوفي متطلبات الطاقة التعبيريّة للقصيدة. وهو ما جعل من قصائده تمتاز بالابتعاد عن التكلف والتعقيد، ثم بعد ذلك، التركيز بصورة أكثر على تعزيز المعنى وتعميق الوعي بالتجربة الشخصيّة، في سعي حثيث لاكتشاف الذات والآخر على حد سواء. فكانت تلك المجموعة الشعرية محاولة لاكتشاف -الأنا- التي تشظّت بين الأمكنة عبر محطات زمنية شتّى وتجربة باتت تنضج على مهل. وهكذا يمكن القول ان هناك ملامح وتقنيّات مشتركة عامة تجمع أغلب قصائد كيطان ومن أهمها تفعيل تقنيّة السرد، التركيز على بناء الصور الشعريّة، توظيف بعض أساليب الخطاب المسرحي، توظيف مواضيع الحياة اليومية، والميل نحو طرح الأسئلة الوجوديّة من دون فرضها قسرا على المتلقي. إن هذه الملامح والمواضيع والأساليب يمكن تلمّسها أيضا في مجموعته الأخيرة (النوم في محطة الباص-2020)، وهي حاضرة هنا وهناك بطرق شتى. غير ان الجديد والمختلف في هذه المجموعة هي تلك القصائد التي تقدم نفسها على انها قصائد يمكن تسميتها (بالقصائد الذاتيّة المحضة)، وقد كُتبت اغلبها خلال السنوات الأخيرة في سدني. وبالرغم من ان قصائد كثيرة في هذه المجموعة وفي المجاميع السابقة، تنطلق من الذات للأخر، كنقطة لاكتشاف الأنا والآخر والعالم، الا ان القصائد التي اشير اليها هنا مختلفة جدا. فهي قصائد (ذاتية محضة) تبدو وكأن الشاعر كتبها لنفسه أولا، قصائد تبدو في الظاهر على انها لا تعني أحدا سوى الشاعر نفسه. إن هذه القصائد تعيد اكتشاف (الأنا) وذات الشاعر ومشاعره وأفكاره بالدرجة الأساس قبل ان تعبر عن حالة المجتمع. يرى تيودور ادورنو (Theodor W.Adorno) الفيلسوف وعالم الاجتماع وأحد أهم منظّري مدرسة فرانكفورت النقدية، ان الشعر له وظيفة جمالية لأنه يعبر عن الذات الشاعرة من خلال اللغة التي تظهر كوسيط للنبضات الذاتية ومفاهيم المجتمع والكون. هذا يعني ان للغة وظيفتين عند ادورنو هما التعبير عن الدافع الشخصيّ وكذلك كونها وسط انتقال المفاهيم مع المجتمع والعالم، وهكذا تمنحها هذه الازدواجية القدرة على الامتلاء بالجمالية. والشعر عند ادورنو هو تعبير عن الذات أمام المجتمع، وعندما نسمع كلمة (أنا) في الأغنية على سبيل المثال، فإنها لا تعبر عن الجماعة بل تعبر عن نفسها. كما ان الشاعر لا يعبر عن الطبيعة، وانما يعبر عن نفسه من خلال محاولته أنسنه الطبيعة بغية استعادة الحقوق التي سلبتها منه الهيمنة الإنسانية (ادورنو 41). وهكذا تكون الذاتية من منظور ادورنو، هي نوع من النضال الذي يتيح الفرصة لعدد قليل من البشر بفهم ما هو كوني من خلال الانغماس في الذات أو التطور كذوات مستقلة قادرة على التعبير عن نفسها بحرية (ادورنو 45). وقريبا من هذا المنظور، سعى الشاعر عبد الخالق كيطان الى كتابة عدد من قصائد مجموعته الجديدة (النوم في محطة الباص) معبراً عن الأنا والذات بصورة رئيسية في شعره، وقبل ان يكتب عن المجتمع. وتظهر أغلب هذه القصائد وهي تركز على حالات خاصة بالشاعر بالدرجة الأولى، ولكنها في النّهاية هي تُعبّر عن حالة جمعيّة سواء في جوهرها أو من خلال بعدها الجماليّ، وكما في هذه القصيدة:
لا أرى على النافذة غير فراشات ميتة كلما اقترب من النافذة أرى فراشات ميتة أكثر خلف النافذة ثمة شجرة بنفسجية بيني وبينها أعداد غفيرة من الفراشات الميتة. (صيد الفراشات ص16).
ولشدة تطرف هذه القصائد (وأنا هنا أعنى بعض القصائد تحديدا في المجموعة، لاسيما تلك القصائد المكتوبة في السنوات الأخيرة في سدني) بخصوصيتها الذاتيّة المحضة وابتعادها كثيرا عمّا ألفناه في قصائد الشاعر الأخرى، فإن آلية كتابة هذه القصائد تحيلنا رمزيا لتلك القصائد التي كتبها بعض الشعراء أمثال بودلير وكوليردج وغيرهم تحت تأثير الأفيون أو الكحول. فقد كان هذا المسعى من أجل انتاج شعر خاص، لا يمكن ان تنتجه المخيّلة بوضعها المعتاد عند الشاعر، وإنما تحتاج الى وسائل أخرى، الى لحظة خاصة يتجلّى فيها الشاعر عن مخيلته ووعيه السابق، من أجل التوغل عميقا داخل الذات وخارج تلك المؤثرات المعتادة. وأنا هنا لا أعني حرفيا ان عبد الخالق أنتج تلك القصائد تحت تأثير الأفيون أو المخدر بقدر ما ألمّح بصورة رمزية الى انه قد يكون كتبها تحت تأثير حالة نفسيّة خاصة، الغربة على سبيل المثال، لها نتائج مشابهة لما قد ينتجه الأفيون في المخيلة عند بعض الشعراء المبدعين، إنّه انحراف واضح عن بناء الجمل والصور الشعريّة بالطرق المعتادة، وكما في المثال التالي:
عندما يقترب الضوء تبحث عن عينيك فلا تجدهما ثمّة على الدوام وجوه بلا عيون. عندما يقترب الضوء ينهار العالم وتبقى وحيدا بلا عينين. (من قصيدة عندما ص 19).
ومع أنّ عبد الخالق كيطان قد أولى توظيف السرد اهتماما خاصا منذ مجموعته الأولى (نازحون)، كما في قصيدته (أفعل ما يحلو لي)، الا ان السرد هنا يأخذ منعطفا آخر تماما. فبينما كانت قصائد السرد السابقة تحافظ على مسافة مقبولة من الإيقاع، تسعى قصائد السرد في هذه المجموعة للتخلّي بوضوح عن الإيقاع، وعوضا عن ذلك يجتهد الشاعر في الاعتماد على بناء وتكثيف الصور الشعريّة كبديل افتراضي عن غياب الإيقاع بالكامل، كما في هذه القصيدة:
كان المطر خفيفا عندما طرق غريب باب المنزل لم اتبين ملامحه، ولم يقل هو كلمة بل دس في يدي قصاصة واختفى في الظلام على القصاصة اسم، ولد أعياه المرض فلم يعد يحتمل كان الغريب حارسه، ولقد سلمني جثته واجبي هو دفن الجثة في المقبرة أعلى التل تلك التي اعتدنا، انا ودانيال، زيارتها كل أسبوع. (قصيدة دانيال ص 17).
غير أنّ غياب الإيقاع في هذه القصائد لا يمثّل ملمحا أساسيا ينعكس على بقية القصائد على أية حال. فبالإضافة الى التركيز على بناء الصور الشعرية العميقة والمكثّفة، غير أننا نجد بعض القصائد الأخرى تسعى بدورها الى تعويض غياب الإيقاع الناتج عن غياب الوزن في قصيدة النثر، وذلك من خلال اختيار المفردات المناسبة والتركيز على التوازن الصوتي واختيار كلمات متوازية في بنيتها الشكلية والصوتية. ومن بين تلك الصيغ المختلفة، على سبيل المثال، استخدام أسلوب التكرار في قصيدة (النوم في محطة الباص)، من خلال تكرار كلمات مثل (انتظر) و (لم يكن).
لم يكن غيري في محطّة الباص بقيت أنتظر وانتظر ولكنّ باص الساعة الواحدة لم يصل كنت متعبا وجائعا ولم أكن أفكر بالمسرحيات كانت الساعة قد شارفت على طلوع الشمس لم يأت الباص ولم يكن في المحطّة غيري سقطت السماء على رأسي بغتة واستغرقت في النوم. (قصيدة النوم في محطة الباص ص 12-13).
إن أغلب هذه القصائد التي عنونتها هنا ب (الذاتية المحضة) هي قصائد كتبها الشاعر في سدني بعد عام 2016. قصائد لا يلمس فيها المتلقي صوت الأخر، إنّما تركّز على محاورة الذات والطبيعة في الأعم. قصائد تنطلق بصدق من الذات نحو الخارج وليس العكس. وربما يكون الشعور بالغربة أحيانا من جهة وطبيعة صراع الهويّة والمكان من جهة أخرى، بمثابة أهم تلك العوامل المؤثرة في أسلوب كتابة هذه القصائد. وبشكل عام، يمكن رصد ثلاثة ملامح أساسية في هذه المجموعة. قصائد الذات المحضة التي تعتمد على التجربة الذاتية- الفردية والانطلاق من الذات، وقد تناولناها آنفا، والثاني، ملمح قصائد عمان-الأردن حيث تعمل فيها الذاكرة بمثابة محرّك أساسي للمخيلة، والملمح الثالث قصائد كتبها الشاعر في بغداد وتنطلق من وعي التجربة اليوميّة والتفاعل مع الأخبار والأحداث والصور المحليّة والعالميّة. فعلى سبيل المثال، نجد أن قصيدة (يحدث الآن) وهي من القصائد التي كتبها الشاعر في بغداد، ينعكس فيها أثر التجربة اليوميّة بوضوح، وهو ما سينعكس على المتلقي أيضا، فيتحول القارئ الى مشارك أو بالأحرى الى مُشاهِد للصور الشعريّة التي تنتجها القصيدة، وليس متخيلا لها فقط. فالمتلقي، على سبيل المثال، يستطيع مشاهدة الجثث والانفجارات وارتال العسكر والدّبّابات والجنود والمدن المنكوبة في العراق، وكما في هذا المقطع:
تنزع الأم ما تراكم من اللّحم على عظمها، وتسلّم نفسها إلى غيبوبة طويلة بانتظار معراجها... حولها، القليلُ النادرُ من الأبناء والأحفاد يعلن المذيع عن وجوده باستمرار هو يكدّس في الشاشة طبقات من اللحم البشري مهروسة بفعل الدبابات أو المفخّخات... لا تكفّ، في الشارع الرئيس، أصوات صفّارات سيّارات مسرعة محمّلة بالجنود. المكان، وبرغم المدنيين، يصير ساحة معركة لا تمتّ إلى الشرف بصلة طوابير من الأرامل يقفن على بوابات الجمعيّات الخيرية كلما يخرج ضابط، بملابس أنيقة وشعر مصفّف، يدمن الأبدية ليس من شيم العسكري أن تدمعَ عيناه وهو يرى الأب متوسلا يفرّون بأعداد غير مقدّر ة فالمدينةُ التي يولدون فيها تصير مكبّا للنفايات يرثُ هذا الغبار كلًّ شيء ولا يرث الناس غير الأسى.... (من قصيدة يحدث الآن ص 42-43).
ويمكن القول ان قصيدة (صورة فوتوغرافية في جيبي لصديق أحمل اسمه)، هي بمثابة نموذج عن تلك القصائد التي تعمل فيها الذاكرة كمحرّك أساسي للمخيلة، وهي احدى القصائد التي كتبها الشاعر في عمان مستذكرا فيها صديقه الفنان الراحل عبد الخالق المختار:
أنت تحلّق الآن بالقرب من أبينا ينظر إليك بحنوّ، والنظرة تلك تكشفُ عجزا ما ليس العجزُ الذي حدّثتُك عنه ذات نهار بغداديّ رتيب تذكرُ ذلك، أليس كذلك؟ كنّا معا نخيط سجاد ة عمادها الصّبر والخوف، وكنت غير عابئ. كان عليّ أن اقول: قلِقُ أكثر، فتشغلُ نفسَك بالأنيس. لم يكن الأنيس سوى قصّةِ خراب. كنّا معا في الأمسيات الباردة نذرع بغداد بحثا عن أمل (مقطع من القصيدة ص 33).
إن الذاكرة تحضر هنا، كما أسلفنا، كخزين هائل تستدعيه مخيلة الشاعر كلّما تأثرت علاقته بالمكان أو الزمان. فالذاكرة هنا توفر ملاذا آمنا للذات المحاصرة والتي سرعان ما ستجد الطمأنينة مع ذلك الجزء الجميل الغاطس في قعرها. في ذات الوقت يمكن ان نعدّ هذه القصيدة مثالا آخر للسرد الذي يبتعد فيه الشاعر عن سطوة الإيقاع التقليدي نحو تعزيز بلاغة الصورة الشعرية وتكثيف السرد. ومن بين تلك الملامح البارزة التي نجدها تتكرر مرارا في قصائد عبد الخالق كيطان (النوم في محطة الباص)، هو تقنيّة القصيدة المقسَّمة الى مقاطع قصيرة لها القدرة على النمو والتكامل داخل القصيدة. وهذه التقنيّة يمكن العثور عليها في عدد من قصائد مجاميعه السابقة ايضا. فكل مقطع من هذه المقاطع يسعى لخلق صورته الشعرية الخاصة. ومع أنّ المقاطع في شكلها الخارجي تبدو مقاطع مستقلّة، فهي ترتبط فيما بينها ارتباطا عضويّا، وفي وحدة متكاملة موضوعيا ونفسيّا. وهي في نفس الوقت، مبنيّة على مجموعة صور متجانسة سريعة ومتعاقبة تشكل في النهاية صورة واحدة كليّة للقصيدة، كما في هذين المقطعين:
.1 كنتَ وحيدا تسابق الماء والهواء والنار والخيانة ولمّا وصلتَ، كنتَ أوّلَ الناجين وآخرَ علامات التيه
.2 ليس سوى قاتل واحد رأسُه صنعته الأهوال وقدماه عاريتان على الدوام كلّ هؤلاء الغرقى، القتلى والمصلوبين، كلّ هؤلاء، وأكثر يلفظون أرواحَهم بين قدميه (من قصيدة في تحية الموجة العاتية التي تلفظ القتلى على الشطآن ص 62-63).
إن القصيدة السابقة وغيرها مثل (علامات عن تفاصيل اللذة) و (منديل عاشقة)، قصائد مقسمة الى مقاطع يستخدم فيها الشاعر تقنيّة المزج بين بناء المقطع الومضة كقاعدة لتأثيث الصورة الشعريّة المشهديّة. وهذا المزج بين الصورة الومضة والصورة المشهديّة هو بمثابة أحد الملامح الأساسية البارزة في بناء الصورة الشعرية عند شعراء التسعينات بشكل عام. ومن الجدير بالذكر هنا، إن بعض قصائد كيطان تبالغ أحيانا في تقسيم القصيدة الى مقاطع متعددة. فعلى سبيل المثال، نجد قصيدة (عندما كنت شاعرا)، وهي قصيدة تمتاز بسردية واضحة وبالتناغم والتكثيف والاقتصاد اللغوي، نجدها مقسمة الى مقاطع مستقلة ولكن تقسيمها لم يقدم شيئا أو يؤخر وذلك لأن القصيدة تبدو قصيدة واحدة مسترسلة وصورتها الشعرية واحدة، لذلك لا أعرف معنى تقسيمها هنا الى مقاطع مستقلة برغم وحدتها وتكاملها البنائي، واذا كان هذا الأمر له ما يبرره في قصيدة (قصة المرآة) على سبيل المثال، وهي من القصائد المميزة في المجموعة ايضا لانها تعتمد تنويع السرد، الا ان ذلك التقسيم القسري لوحدة القصيدة في (عندما كنت شاعرا) لا نجد له ضرورة هنا، من وجهة نظرنا على الأقل:
.1 كثير ا ما كنتُ أذهبُ إلى البحيرة الصغيرة أجلسُ وحيدا.. وأرى، بيقظة، كيف تذوب الدوائرُ فيها
.2 لم أكن حينها أفكرُ في الرذيلة أدرك أنَّ الرذيلةَ هي التي صنعتْ أعظم المنجزات
.3 وكنتُ أمرُّ على المقاهي فأبحثُ عنّي، حتى وجدتُني.. شيئا فشيئا.. ضعتُ من جديد، ولكن البحث عنيّ أصبح معجزة. (من قصيدة عندما كنت شاعرا ص 53-54).
ومن بين القصائد المميزة التي تجتمع فيها العديد من الأساليب الحاضرة في المجموعة بأكملها هي قصيدة (مقاطع من قصّة الرّسول الذي لم يركب حصانا قطْ). اذ تمتاز هذه القصيدة ببنائها الملحمي ونموّها الدرامي والاتّكاء على قراءة واكتشاف التراث والتاريخ ثم اسقاطه على الواقع بصورة فنيّة وجماليّة، من دون تكلّف وبلا تصريح، إنما من خلال التلميح واثارة الأسئلة. ويجري كل ذلك داخل هذه القصيدة- الملحمة، بأسلوب الشاعر -الفنان، العارف بفنه وبأدواته. وإذا كان السؤال الأهم في هذه القصيدة يبقى بمحاذاة السؤال الوجودي القديم -الجديد الذي سار عليه الشعر الملحمي قديما وحديثا وهو محاورة الموت والحياة، فإن السؤال في قصيدة كيطان، لا يتعرّض لفكرة الموت والحياة من خلال قيمهما المطلقة فقط، بل ومن خلال فضح زيف الواقع وتعرية بعض الأدوار الزائفة التي يمارسها الإنسان للقضاء على وجوده دون ان يعي دوره الحقيقي:
وفي أواسط العراق نُحرت الخراف رجالٌ ضخامٌ يدفعون دنانا من النبيذ عمرها بعمر هذي البلاد كانت الخرافُ قد علّقت الآن على سياخِ الشواء وأُجبرت النسوةُ على التعري، ومن ثم الرقص في بابل كانت المرأةُ تخدم وها هي تخدمُ أيضا الكهنةُ الذين شكّلوا حلقة من نار حول سيّدهم باركوا العُري باركوا النبيذ وباركوا اللحمَ المشوي كلّ شيء هنا يكملُ بعضَه البعض كان قاسيا إلا أن لفحَ الصحراء المدنُ المشيّدةُ على ضفاف الانهار كانت قد بدأت النحيب لقد سَلبَ الكهنةُ نسائَهم ونبيذَهم وأغنامَهم ولم يتركوا لهم غير أغنية حزينة يرددونها في كلّ عام أغنيةٌ بطلُها رجلٌ وسيمٌ أحاط به خمسٌ وعشرون حكيما قبل أن يسلخوا جلده (المقطع الثالث من القصيدة ص 68-73).
إن من بين أهم العناصر الفاعلة في بناء هذه القصيدة هو استثمار العنصر الدرامي كمحور بارز ومهيمن على بقية العناصر الشعرية الأخرى، وهذا ليس بالغريب على شاعر مثل عبد الخالق كيطان، فهو ابن المسرح ومن المشتغلين في حقله تأليفا ونقدا ويعرف أهمية الدراما في هكذا نوع من القصائد. وفي إطار محاكاته لشكل الملحمة، فإن الشاعر يُقسّم قصيدته الى عدة مقاطع، وهو تقسيم يذكّرنا بطريقة تقسيم الملحمة التقليديّة الى عدة فصول، غير ان القارئ سيدرك منذ البداية ان هذه (الملحمة) بلغتها الشعرية البسيطة تتفادى التعقيد ولا تسعى الى خلق الأساطير، وإنما تحاول محاكاة وكشف الغاز تلك الأساطير والرموز التي ساهمت بتشكيل مفاصل الواقع ومأساته. وفي الختام لا بد أن نشير الى أن مجموعة (النوم في محطة الباص) هي بمثابة خطوة متقدمة نحو الأمام في مسيرة الشاعر عبد الخالق كيطان. فقصائد المجموعة تومئ بتطور ونضج في لغة وتقنيات وأساليب الكتابة الشعرية عند الشاعر مقارنة مع مجاميعه التي كتبها في أوقات سابقة. فهناك تحولات جديدة واضحة في مسار السرد، وتطور واضح في بناء الجملة الشعرية، والتركيز على بناء وتركيب الصور الشعريّة بصيغ مختلفة، والإصغاء بعمق أكثر من أي وقت مضى الى الذات وجوهرها العميق، بعيدا عن كلّ ما قد يخدش ذلك النقاء الشعري المخبوء في أعماقها. ان عمق التجربة الحياتيّة والشعرية وتنوعهما وغزارتهما قد ساهما مساهمة فعالة في دفع الشاعر الى الأمام. إنها محطة إغناء للتجربة الشعرية وغالبا ما تجعل الشاعر أكثر قلقا ومنشدّا بقوة الى اثارة الأسئلة بوعي جديد ومختلف.
أيّتها الريح، خذيني إلى مكان ثالث، ربما أدخلُ حينها في قصبة تصلحُ أنْ تكون ناياً وبعد صبر طويل يلفظني راع، فاخرج مثل نغم فريد إلى عالم جديد (من قصيدة أغنية الشاعر ص 99).
غير أن من الواضح هنا أن الشاعر العراقي المغترب بصورة عامة، وكيطان أحد أمثلته، مهما ذهب بعيدا في حياته وشعره تبقى روحه مغلّفة بالحنين الى هويّته الأولى، وطنه الأول، بمدنه وقراه ونسائه وأماكنه التي انغرزت عميقا في ذاكرته ووجدانه وصارت عنصرا أساسيا تتحكم في مشاعره وعاطفته ووعيه. ويبقى البحث بين الأمكنة عن ملاذ -حياة أخرى، ليس سوى تنويعات آخرى على المكان الأول. وربما المقطع السابق قد يعبّر أيضا عمّا قصدناه من البحث عن حياة تتمثل فيها تحولات الذات عبر المكان والزمان.
المصادر: 1-النوم في محطة الباص. عبد الخالق كيطان. دار الورشة الثقافية للطباعة والنشر والتوزيع. بغداد, 2020. Adorno, “On Lyric Poetry and Society” from Notes to Literature. Volume One. New York: 2- Columbia University Press, 1991. 3-نازحون. عبد الخالق كيطان. دار الجندي. دمشق ،1998 4-صعاليك بغداد. عبد الخالق كيطان. المؤسسة العربية للدراسات والنشر. بيروت ،2000 5-الانتظار في ماريون. عبد الخالق كيطان. دار الفارابي. بيروت،2007
#فرج_الحطاب (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
أسلوب المناجاة في مجموعة (مرد روحي) للشاعر عباس اليوسفي
-
حرية الذات ومفهوم السعادة المطلقة في نظرية المعرفة الصوفية ع
...
-
داعش ودولة الخلافة الإسلامية :آخر نتاجات الحرب الباردة
-
النظريات الحديثة لدراسة علم الأديان (3)
-
النظريات الحديثة لدراسة علم الأديان (2)
-
النظريات والمناهج الحديثة لدراسة علم الأديان (1)
-
الهوية المحلية في شعر بدر شاكر السياب
المزيد.....
-
-الزمن الهش- للإيطالية دوناتيلا دي بيتريانتونيو تفوز بأرفع ا
...
-
مترجمون يثمنون دور جائزة الشيخ حمد للترجمة في حوار الثقافات
...
-
الكاتبة والناشرة التركية بَرن موط: الشباب العربي كنز كبير، و
...
-
-أهلا بالعالم-.. هكذا تفاعل فنانون مع فوز السعودية باستضافة
...
-
الفنان المصري نبيل الحلفاوي يتعرض لوعكة صحية طارئة
-
“من سينقذ بالا من بويينا” مسلسل المؤسس عثمان الحلقة 174 مترج
...
-
المملكة العربية السعودية ترفع الستار عن مجمع استوديوهات للإ
...
-
بيرزيت.. إزاحة الستار عن جداريات فلسطينية تحاكي التاريخ والف
...
-
عندما تصوّر السينما الفلسطينية من أجل البقاء
-
إسرائيل والشتات وغزة: مهرجان -يش!- السينمائي يبرز ملامح وأبع
...
المزيد.....
-
تجربة الميج 21 الأولي لفاطمة ياسين
/ محمد دوير
-
مذكرات -آل پاتشينو- عن -العرّاب-
/ جلال نعيم
-
التجريب والتأسيس في مسرح السيد حافظ
/ عبد الكريم برشيد
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
-
التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا
...
/ نواف يونس وآخرون
-
دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و
...
/ نادية سعدوني
-
المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين
/ د. راندا حلمى السعيد
-
سراب مختلف ألوانه
/ خالد علي سليفاني
-
جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد
...
/ أمال قندوز - فاطنة بوكركب
المزيد.....
|