|
أول قصيدة إباحيّة سومرية
عضيد جواد الخميسي
الحوار المتمدن-العدد: 6719 - 2020 / 10 / 30 - 08:21
المحور:
دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات
في القرن التاسع عشر الميلادي ؛ توجّهت مجموعة كبيرة من علماء الآثار الغربيين إلى منطقة بلاد الرافدين ؛ بحثاً عن أدلة مادية تثبت صحة الروايات التوراتية في كتاب العهد القديم . إلاّ أن الحقيقة ؛ لم يكن هذا هو هدف العلماء في البداية ؛ بل كانت حاجتهم الماسّة التي دفعتهم بقصد التمويل المالي ( على اعتبار تقديم المصلحة العامة لتبرير هذا التمويل) ، ولكن سرعان ما أصبح هدفهم الأول ، وذلك عندما بدأ عالم الآثار "أوستن هنري لايارد" أعمال التنقيب في كالخو أو كالح/ النمرود ( 30 كم جنوب مدينة الموصل ) خلال عام 1845 م ، بمساعدة القسّ الموصلّي "هرمز رسّام ". وقد كان لايارد قد تعرّض إلى ضغوط كبيرة في العثور على مواقع وردت أسماؤها في كتاب التوراة ، مما جعله يتسرّع في إعلان اسم المدينة التي اكتشفها ضمن سلسلة المواقع المُحتملة . المدينة التي كشف عنها لايارد ، هي (نينوى ) ، وروايته المنشورة عنها في أعمال التنقيب عام 1849 م ، كانت بعنوان "نينوى واطلالها " ، وبسبب شهرة نينوى المعروفة في التوراة ؛ فقد أصبح الكتاب الأكثر مبيعاً في سوق الكتب . فقد أثار نجاح الكتاب ؛ المزيد من الاهتمام في تاريخ بلاد الرافدين كوسيلة لإثبات الروايات التوراتية . لذلك ؛ فقد توالت المزيد من البعثات إلى المنطقة بحثاً عن مدن أخرى مذكورة في الكتاب المقدّس . قبل هذا الوقت ، كان كتاب التوراة يُعتبر أقدم كتاب في العالم ، و" سفر نشيد الأنشاد " ، المعروف أيضاً باسم " نشيد سليمان" ؛ أقدم قصيدة حبّ كُتبت في التأريخ . لكن المفاجأة التي حصلت هي ؛ أن البعثات التي أُرسلت لتأكيد القصص تاريخياً في التوراة والإنجيل ، قد فعلت العكس تماماً ! ، وذلك عندما اكتشف لايارد الموقع الحقيقي لنينوى مابين عام 1846 وعام 1847 م ، فضلاً عن عثوره على مكتبة الملك الآشوري " آشوربانيبال "( 668-627 قبل الميلاد) ، وألواح النصوص المسمارية التي ترجم بعضاً منها ؛ عالم الآثار البريطاني "جورج سميث" . قصة آدم ، الطوفان الكبير، جنة عدن ، ملحمة الخلق ، وغيرها ؛ لم تكن تلك القصص أصليّة عندما ورد ذكرها في سفر التكوين ؛ بل هي حكايات رافدينية موجودة قبل كتابة التوراة ، ثم أعيد صياغتها لاحقاً من قِبل مدوّنين عبرّانيين . يشمل ذلك أيضاَ ، سفر" نشيد الأنشاد " ، الذي لم يُعد أقدم قصيدة في الحبّ (مابين القرنين السادس والثالث قبل الميلاد ) ؛ بل قصيدة "الحب من اجل شو - سين " المدوّنة حوالي عام 2000 ق.م ، والتي تُعتبر الأولى في التاريخ بعد اكتشافها في نينوى .. عندما عُثر على اللوح المسماري لقصيدة "الحب من اجل شو - سين " في نينوى ؛ نُقل مباشرة إلى متحف إسطنبول في تركيا ؛ حيث حُفظ في أحد الأدراج ، ولم يحاول أحد في التعرّف عليه أو حتى ترجمته . في عام 1951 م ، حضر الى متحف اسطنبول ، عالم السومريات الشهير "صموئيل نوح كريمر" ، لترجمة بعض النصوص القديمة ، وكان يحاول تحديد ما الذي يجب ترجمته أولاً ، وحسب الأهمية من اللقى الأثرية المخزّنة في الأدراج ، وأثناء ما كان يفتش في إحداها ، وجد لوح قصيدة الحبّ . يصف كريمر تلك اللحظة في كتابه (التاريخ يبدأ في سومر ) ، من خلال المقطع التالي :
" كان اللوح الصغير الذي يحمل الرقم ( 2461 ) مُلقى في أحد الأدراج ، محاطاً بعدد من القطع الأخرى ، وعندما وقع نظري عليه لأول مرة ، كان محتواه قد جذبني اليه بقوّة . سرعان ما أدركت أنني كنت أقرأ قصيدة شعرية إباحية ، مقسمة إلى عدد من المقاطع التي تتغنّى في الحبّ والجنس والجمال بين عروس سعيدة ، وملك يدعى (شوـ سين ) (الذي حكم أرض سومر منذ ما يقرب من أربعة آلاف عام) . قرأتها مراراً وتكراراً ، لم يكن هناك خطأ في مضمونها . ما حملته في يدي كان من أقدم قصائد الحبّ التي كتبتها يد إنسان " ( ص 245).
في الحقيقة ؛ لم تكن تلك اللوحة مجرّد قصيدة حبّ ؛ بل كانت جزء من الطقوس المقدّسة التي تُجرى كل عام ، والمعروفة باسم (الزواج المقدّس) ؛ الذي يتزوج فيه الملك رمزياً من الإلهة إنانا ، وذلك لضمان الخصوبة والتكاثر في العام الذي يليه . كتب كريمر عن هذا الطقس ، التعليق التالي :
" يُجرى هذا الطقس ؛ مرّة واحدة في السنة وفقاً للاعتقاد السومري . وكان الواجب المقدس للملك أو الحاكم ، الزواج من كاهنة المعبد للإلهة (إنانا) ، إلهة الحب والإنجاب ، من أجل ضمان خصوبة التربة والرحم . يتم الاحتفال بهذا الطقس مع بداية السنة الجديدة ، إذ تسبقه حفلات و مآدب طعام عامرة ، مصحوبة بالموسيقا والأغاني والرقص . كانت القصيدة منقوشة على لوح طيني صغير قد عَثرتُ عليه في اسطنبول ، وعلى الأرجح ؛ فإن العروس المرشحة للملك شو ـ سين ، هي من تقوم بإلقاء القصيدة في أحد احتفالات هذه السنة الجديدة " ( ص245-246) . يفسِّرالقصيدة بنفس المعنى ، البروفيسور " جيريمي بلاك " ، الذي يحظى باحترام كبير بسبب خبرته الواسعة في ترجمة نصوص بلاد الرافدين . كتب بلاك التعليق التالي : " هذه واحدة من عدة قصائد شعرية عن الحبّ ، مُؤَلفة خصيصاً لهذا الملك ، والتي تعبّر عن مدى علاقته الشخصية الوثيقة جداً مع إلهة الحبّ والجمال ( إنانا ) . في بعض القصائد من هذا النوع ؛ يبدو أن اسم الملك يُذكر خلال مراسيم الطقس فقط ، بدلاً من (ديموزي) عاشق إنانا السماوي في الأساطير . ومن شبه المؤكد أن القصيدة تُلقى في سياق بعض الطقوس الدينية التي يشار إليها باسم (الزواج المقدّس) ، ولكن التفاصيل الدقيقة غير معروفة إلى الآن . ويميل الاعتقاد أيضاً ؛ الى أن الملك عندما يرتبط بعلاقة حميمية مع الإلهة ؛ هذا يعني حتمية الإيمان بألوهية ملوك تلك الفترة " (ص88-89). من المحتمل أن الملك في علاقاته الجنسية مع أحدى كاهنات إينانا ، بمعنى ممارسة حميمية مع الإلهة نفسها ، ولكن كما ذكر بلاك ، فإن تفاصيل طقوس الزواج المقدس غير معروفة . عند إلقاء القصيدة من قبل (العروس) ، كان يعتبر خدمة وظيفية دينية واجتماعية في الدولة ؛ بغية الاستمرار في الخصوبة وتكاثر النسل . ويُعتقد أيضاً ، ان إلقاء القصيدة بصوت انثوي ، له تأثير محببّ لدى المتلّقي ، وخصوصاً عندما يتعلق الأمر بالعبارات الرومانسية . تولى شو- سين العرش ، ملكاً على مدينة أور (عام 1972 ـ 1964 قبل الميلاد) ، فهو الابن الأصغر للملك (شولچي ) الذي حكم مدينة أور ( 2029-1982 قبل الميلاد) . والدته اسمها " بسمتي " ، وزوجته "كوباتوم " . وحسب رأي البروفيسور"ستيڤن پيرتمان" : " بالإضافة إلى تلك القصيدة ، كان شوـ سين أيضاً من الذكور الذي له صلة مع مجموعة من القصائد المثيرة خلال المرحلة الأكدية ، والمكتوبة على شكل حوارات ، مشابهة لسِفرْ ( نشيد الأنشاد ) التوراتي الذي كُتب فيما بعد " (ص105).
الانجاز الأثري المهم الذي حدث في بلاد الرافدين خلال القرن التاسع عشر الميلادي ؛ غيّر تماماً ، الطريقة التي يمكن بها فهم التاريخ والعالم القديم . في قديم الزمان ؛ إذ توقف الماضي مع مدوّنات الكتاب المقدّس ، ورؤية التاريخ فيه عبارة عن حكايات توراتية . أمّا بعد اكتشاف ماضي بلاد الرافدين القديم ، تمّ توسيع التاريخ وتعميقه ، وأصبحت قصة الإنسانية أشدّها تعقيداً وأكثرها تشويقاً . قدّم أدب بلاد الرافدين القديمة ، الأنماط الأولى من الأدب العالمي ، وأرسى المفاهيم الكثيرة المتنوعة عن المشاعر الإنسانية والتجربة الحياتية ، ومن بينها تجربة الحب الرومانسي والعاطفة الجيّاشة ، وذلك كلّه ؛ من خلال أقدم قصيدة حبّ سومرية ..
الترجمة التالية لقصيدة "الحب من اجل شو - سين " ، كما وردت نصّاً في كتاب ( التأريخ يبدأ في سومر ) ؛ لمؤلفه ؛ عالم السومريات "صموئيل نوح كريمر " ، (ص 246- 247 ) :
عَريسيْ ؛ أنتَ العزيزُ على قَلبي وَسَامتُكَ هي جَمالُكَ ، كالعسلِ أيُها الأسدُ ، العزيزُ على قلبي وسَامتُكَ هي جَمالُكَ ، كالعسلِ لقد أسِرْتَني ، إسمحْ لي أَنْ أَقِفَ أَمامكَ مرتعشة
عَريسيْ ، سَتأخُذني مَعكَ إلى حُجرةِ النومِ لقد أسِرتَني ، إسمحْ لي أَنْ أَقِفَ أَمامكَ مرتعشة يا أَسَدي ، سَتأخُذني مَعكَ إلى حجرةِ النومِ
عَريسيْ ، إسمحْ لي أَنْ أُعانقُكَ مُعانقَتي القويّةُ لكَ ، هي أَكثرُ لذّةً من العَسلِ في حُجرةِ النومِ ، المَلأى بالعَسلِ دَعْني أَستمتعُ بجَمالكَ الأخّاذ يا أَسَدي ، إسمحْ لي أَنْ أُعانقُكَ مُعانَقتي القويّةُ لكَ ، هي أَكثرُ لذّةً من العَسلِ
عَريسيْ ، عَليكَ أَنْ تَنالَ مَسرّتكَ معي .. أَخبِرْ والدتي عن ذلك ، أنّها سوفَ تُقدّمُ لكَ الأطْعِمةَ الشَّهيةَ أَخبِرْ والدي عن ذلك ، سوفَ يَغدقُ عليكَ الهَدايا روحكَ ، أَنا أَعرفُ أَينَ أَبهجُ قَلبكَ
عَريسيْ ، نُمْ في مَنزِلِنا حتّى بزوغَ الفَجرِ فؤادكَ ، أَنا أَعرفُ أينَ أَبهجُ قَلبكَ يا أَسَدي ، نُمْ في َمنزِلِنا حتّى بزوغَ الفَجرِ أَنتَ ، لأنّكَ تَحِبّني ..إِمْنَحْنِي صَلاتي مِنْ مُداعَباتِكَ
رَبَّي إلهي ، سَيدّي الحامِي يا شوـ سين ، الذي يَسعدُ قَلبَ إنليل إِمْنَحْنِي صَلاتي مِنْ مُداعَباتِكَ
إنّهُ لكَ كالعَسلِ ، أُصلّيَ كَي تَضعَ يَدكَ عَليهِ أَبسِطْ يَدكَ عَليهِ ، مِثل رِداء " الكِشبان " غطَّهُ بيدك ، مِثل رِداء " سِيكنْ ـ الكِشبان " (انها انشودة "بلباله " لإنانا ) * بلباله ـ كاهنة معبد إنانا
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ستيڤن پيرتمان ـ الحياة في بلاد النهرين القديمة ـ مطبعة جامعة أكسفورد ـ 2005 . جيريمي بلاك ـ أدب سومر القديم ـ مطبعة جامعة أكسفورد ـ 2006 . صموئيل نوح كريمر ـ التأريخ يبدأ في سومر ـ مطبعة جامعة بنسلفانيا ـ 1988.
#عضيد_جواد_الخميسي (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
العلوم والتكنولوجيا مع مفهوم الدين في بلاد الرافدين
-
قصة الطوفان البابلية
-
الأختام الشخصيّة في بلاد الرافدين - تاريخها وأهميتها
-
معتقدات بلاد الرافدين القديمة عن الموت والآخرة
-
قصة ملكة الليل الرافدينية
-
اللغة السومرية .. الثقافة الأولى في التأريخ
-
المتحف العراقي .. شمعة مضيئة في الظلام
-
اكتشاف معبد لإله الحرب في جنوب العراق
-
الموت الأسود
-
حياة المرأة الأوروبية في القرون الوسطى
-
زكوتو عشيقة سنحاريب
-
من بلاد الرافدين بدأ نهوض المدن
-
الحضارة السومرية .. إختراع المستقبل
-
نبوءة مردوخ الإله البابلي العظيم
-
قِمبيز الفارسّي .. مَلكُ بابل وفِرْعَون مصر
-
بعض أسرار لفائف البحر الميّت
-
الحروب الصليبية .. الأسباب والأهداف
-
أرخميدس الذي خلَّده العلم ، وتجاهله التأريخ
-
الأمازيغ .. شعب وتأريخ
-
الذهب سلطان المعادن
المزيد.....
-
الأنشطة الموازية للخطة التعليمية.. أي مهارات يكتسبها التلامي
...
-
-من سيناديني ماما الآن؟-.. أم فلسطينية تودّع أطفالها الثلاثة
...
-
اختبار سمع عن بُعد للمقيمين في الأراضي الفلسطينية
-
تجدد الغارات على الضاحية الجنوبية لبيروت، ومقتل إسرائيلي بعد
...
-
صواريخ بعيدة المدى.. تصعيد جديد في الحرب الروسية الأوكرانية
...
-
الدفاع المدني بغزة: 412 من عناصرنا بين قتيل ومصاب ومعتقل وتد
...
-
هجوم إسرائيلي على مصر بسبب الحوثيين
-
الدفاع الصينية: على واشنطن الإسراع في تصحيح أخطائها
-
إدارة بايدن -تشطب- ديونا مستحقة على كييف.. وترسل لها ألغاما
...
-
كيف تعرف ما إذا كنت مراقبًا من خلال كاميرا هاتفك؟
المزيد.....
-
الانسان في فجر الحضارة
/ مالك ابوعليا
-
مسألة أصل ثقافات العصر الحجري في شمال القسم الأوروبي من الات
...
/ مالك ابوعليا
-
مسرح الطفل وفنتازيا التكوين المعرفي بين الخيال الاسترجاعي وا
...
/ أبو الحسن سلام
-
تاريخ البشرية القديم
/ مالك ابوعليا
-
تراث بحزاني النسخة الاخيرة
/ ممتاز حسين خلو
-
فى الأسطورة العرقية اليهودية
/ سعيد العليمى
-
غورباتشوف والانهيار السوفيتي
/ دلير زنكنة
-
الكيمياء الصوفيّة وصناعة الدُّعاة
/ نايف سلوم
-
الشعر البدوي في مصر قراءة تأويلية
/ زينب محمد عبد الرحيم
-
عبد الله العروي.. المفكر العربي المعاصر
/ أحمد رباص
المزيد.....
|