|
ردّ الصاع صاعين
حسن مدن
الحوار المتمدن-العدد: 6713 - 2020 / 10 / 24 - 12:53
المحور:
الادب والفن
أقرّ الدكتور زكي مبارك بأن بينه وبين الدكتور طه حسين ما صنع الحداد، لكنه استدرك قائلاً: "وإن كنت أجهل المراد من هذه العبارة". دفعني الفضول للبحث عن مغزى العبارة التي حار زكي مبارك في أمرها، فوجدت شروحاً عنها، أكثرها تشويقاً ما جاء في مقال بجريدة «أخبار اليوم» في فبراير/شباط من العام الماضي، كتبته منّة الله يوسف، يفيد بأن التعبير يعود إلى حكاية بين رجل وزوجته، التي وصفت بسلاطة اللسان والميل إلى النكد والشجار، وفي أحد الأيام فاض بالزوج الكيل وخرج من خيمتهما قائلاً: "بيني وبينك ما صنع الحداد". لم تكترث الزوجة بما قال ولم تفهم معناه، فيما قصد الرجل محلّ حداد، وطلب منه أن يصنع له مطرقة وقطعة من الحديد، ففعل، رغم استغرابه من الطلب. عاد الزوج إلى الخيمة محملاً بما اقتناه، وطلب من ابنه أن يطرق بالمطرقة على قطعة الحديد دون توقف، محدثاً ضجيجاً، فيما خرج الزوج مبتعداً عن الخيمة، حتى بلغ نقطة توارى عندها صوت الطرق، وهناك صنع لنفسه خيمة عاش فيها بعيداً عن الزوجة «سليطة اللسان». ستقول النساء إنها حكاية بحمولة ذكورية طاغية، فليكن، ولكن هذا ما روي، والعهدة على الراوي. نعود إلى زكي مبارك وطه حسين، فرغم ما صنعه الحداد بينهما، فإن مكتبيهما كانا متجاورين في وزارة المعارف، والجيران على ما قال مبارك «يتلاقون كارهين أو طائعين»، فلا تخلو لقاءاتهما من المناوشات الأدبية المليئة بالطرافة. لكن ما نحن بصدده ليس مناوشة بين الرجلين، وإنما بين طه حسين وإبراهيم المازني، رواها زكي مبارك في كتابه "رسالة الأدب"، ودارت على صفحات جريدة "البلاغ"، قال عنها مبارك إنها "تمثل التجني والتظالم على أعنف ما يكون" بين الرجلين. ويعود السبب إلى أن طه حسين كتب تقديماً لمجموعة شعرية لعزيز أباظة عنوانها «أنّات حائرة»، وعن المجموعة كتب المازني نقداً ابتدأه بالهجوم على صاحب التقديم، ما أثار غضب طه حسين وكتب رداً «أراد به دفع العدوان بما هو أقسى من العدوان»، حسب تعبير زكي مبارك. استخدم الرجلان عدّتهما الأدبية المكتنزة بالمعرفة والبلاغة، في خوض ذلك السجال الذي لن تتسع المساحة لسرد تفاصيله، وقد نعرض لها في حديث لاحق. وما أثار غيظ طه حسين هو ما أورده المازني من نقدٍ له لقبوله مناصب إدارية عليا في الجامعة والحكومة، قائلاً إنه خسر الأدب ولم تكسبه الحكومة، وإن الأفضل له أن يستقيل وينصرف إلى إبداعه، وسيكون قليلاً لو قلنا إن طه حسين ردّ الصاع بصاعين فقط. والصاع، لغةً، "مكيال يساوي أربعة أمداد، والمدّ يساوي (650) جراماً أي ملء يدي رجل واحد، وكايله: قال له مثل قوله أو فَعَلَ كفعله، فهي مثل شاتَمَه في المعنى"، وتعبير: ردّ له الصاع صاعين كناية عن أنه جازاه بضعف شَرِّه، فهو تعبير اصطلاحي "خرج عن معناه الأصلي إلى معنى آخر بلاغي". مثلّت المناوشة بين الرجلين "التجني والتظالم على أعنف ما يكون"، فطه حسين أراد، حسب مبارك أيضاً، "دفع العدوان بما هو أقسى من العدوان". أخرج المازني الموضوع عن سياق نقده لديوان عزيز أباظة "أنّات حائرة"، فلم يكتفِ بنقد تقديم طه حسين للديوان، إنما تناول شخصه بانتقاد قبوله مناصب إدارية في الجامعة والوزارة، ولم يكتف بالقول إن الأدب خسره بانصرافه لمثل هذه المهام، لأنه يضيع وقته ونفسه في مناصب تشغله وتستنفد جهده ووقته، وإنما أضاف أن الحكومة لن تستفيد منه، لأنه غير مؤهل لتولي ما أسند إليه من مهام. انطلق طه حسين في رده على المازني باتهامه أن دافع نقده له هي الغيرة والحسد، غامزاً من قناته حين دعاه لقراءة "سورة الفلق" في القرآن الكريم، لكن دون أن يشير إلى مضمون الآية التي قصدها، والقائلة: "ومن شرّ حاسد إذا حسد»"، كما دعاه لقراءة لامية المتنبي، ملغزاً إلى بيتين فيها يقولان: "أرى المُتَشاعِرينَ غَرُوا بِذَمّي/ وَمَن ذا يَحمَدُ الداءَ العُضالا وَمَن يَكُ ذا فَمٍ مُرٍّ مَريضٍ/ يَجِد مُرًّا بِهِ الماءَ الزُلالا" فضلاً عن تلغيزات أخرى لنصوص لطرفة بن العبد، ولبيد، والأخطل، وقدوته أبي العلاء المعري. وخلص طه حسين إلى القول: "إني آسف أشدّ الأسف، لأن عزيز أباظة لم يطلب من المازني كتابة هذا التصدير، إذن لكان له المحصول، كل المحصول، وآسف أشدّ الأسف، لأن الحكومة لم تكل إلى الأستاذ عملي في وزارة المعارف وفي جامعة فاروق، إذن لكسبته الحكومة والأدب جميعاً". وواصل طه حسين "صاعاته": "أحببُ إليّ بأن أستقيل، وأتفرغ للأدب، ولكني أودّ أن أستيقن، قبل ذلك، بأن الحكومة ستضع الأستاذ المازني مكاني، لنرى أيكتب كلاماً كالذي أكتبه أم يكتب كلاماً خيراً منه". لام زكي مبارك الرجلين. لام المازني، لأنه من بدأ الهجوم، والبادي أظلم، ولام طه حسين قائلاً: "نرفض تسليمك إلى الحكومة، وسنجاهد إلى أن نستردّك".
#حسن_مدن (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
بين التاريخ والرواية
-
بطل سرفانتس
-
المثقف النقدي
-
تعددية الثقافات لا مركزيتها
-
الناس تحب الأساطير
-
المدينة التي تتذكر كل شيء
-
من منظور تشومسكي
-
أوروبا بين الخطيبي وفرانز فانون
-
عمالقة أم عصر عملاق؟
-
(مناعة القطيع) والأخلاق
-
أطروحات حول الفكر والحرية ودور المثقف
-
كيف كُتب التاريخ؟
-
نحن و(نوبل)
-
(أنا والجدة نينا) لأحمد الرحبي - الأنا في مرآة الآخر الروسي
-
كم من - كعب أخيل - عندنا؟
-
صراع دول لا حضارات
-
مَن نحن؟
-
المسكوت عنه في مسألة التعددية الثقافية
-
كتاب يوثق تاريخ المرأة البحرينية في القرن العشرين
-
المجتمع المدني بين التقديس والشيطنة
المزيد.....
-
افتتاح مهرجان -أوراسيا- السينمائي الدولي في كازاخستان
-
“مالهون تنقذ بالا ونهاية كونجا“.. مسلسل المؤسس عثمان الحلقة
...
-
دانيال كريغ يبهر الجمهور بفيلم -كوير-.. اختبار لحدود الحب وا
...
-
الأديب المغربي ياسين كني.. مغامرة الانتقال من الدراسات العلم
...
-
“عيش الاثارة والرعب في بيتك” نزل تردد قناة mbc 2 علي القمر ا
...
-
وفاة الفنان المصري خالد جمال الدين بشكل مفاجئ
-
ميليسا باريرا: عروض التمثيل توقفت 10 أشهر بعد دعمي لغزة
-
-بانيبال- الإسبانية تسلط الضوء على الأدب الفلسطيني وكوارث غز
...
-
كي لا يكون مصيرها سلة المهملات.. فنان يحوّل حبال الصيد إلى ل
...
-
هل يكتب الذكاء الاصطناعي نهاية صناعة النشر؟
المزيد.....
-
مذكرات -آل پاتشينو- عن -العرّاب-
/ جلال نعيم
-
التجريب والتأسيس في مسرح السيد حافظ
/ عبد الكريم برشيد
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
-
التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا
...
/ نواف يونس وآخرون
-
دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و
...
/ نادية سعدوني
-
المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين
/ د. راندا حلمى السعيد
-
سراب مختلف ألوانه
/ خالد علي سليفاني
-
جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد
...
/ أمال قندوز - فاطنة بوكركب
-
السيد حافظ أيقونة دراما الطفل
/ د. أحمد محمود أحمد سعيد
المزيد.....
|