|
الاستعمال العاطفي للغة في مجموعة - ناي قلق-
أنور غني الموسوي
الحوار المتمدن-العدد: 6711 - 2020 / 10 / 22 - 10:01
المحور:
الادب والفن
انّ بحثنا في الاستعمال العاطفي للغة في مجموعة "ناي قلق" للشاعر العراقي عدنان جمعة يقع في أربعة مواضع، مقدمة و طريقة البحث و النتائج ثم خاتمة هي خلاصة البحث . المقدمة : لا بد كمقدمة لهذه الدراسة الكميّة من بحث جهتين الأولى؛ مجموعة "ناي قلق" و شاعرها، و الثانية تعريف مفهومي بالاستعمال العاطفي للغة. الجهة الأولى : مجموعة "ناي قلق" و شاعرها عدنان جمعة شاعر عراقي معروف برقة مقطوعاته الشعرية و تجربته الأدبية و يعدّ حاليا من أهم أعمدة الشعر في بغداد، و نحن هنا لسنا بصدد بيان أهمية هذا الشاعر لأنه غني عن ذلك و انما نريد أن نشير أن هكذا تجربة شعرية يجب أن تكون محطة دراسة و تعلّم لكل أديب ومتذوق و هنا و لحقيقة البوح العاطفي الذي يلون كتابات عدنان جمعة فإننا سنعمد إلى تتبع الاستعمالات العاطفية في مجموعته الجديدة "ناي قلق". المجموعة تشتمل على (70 ) نصا من نصوص السرد التعبيري التي اعتمدت التعبيرية السردية حيث الوحدات الشعرية تسرد في نص شعري . تراوحت أحجام النصوص من الحجم القصير إلى المتوسط بين (60-100) كلمة، و لقد بلغ عدد الكلمات في المجموعة (5000) كلمة. و لقد بات معروفا أن السرد التعبيري هو نص أدبي شعري نثري يقع بين قصيدة النثر الغنائية و قصيدة النثر السردية، فهو شعري نثري يعتمد سرد وحدات شعرية؛ فهو يفترق عن قصيدة النثر الغنائية باعتماده السرد و يفترق عن قصيدة النثر السردية انه يبتعد عن القصصية و الحكاية و لا يقدس المكان و الزمان و الشخصية الحدثية و أنما هو نظام كيانات شعرية مرتبة في النص بنسق سردي. كما أن السرد التعبيري يختلف عن الشعر الحر – إي الشعر النثري المكتوب بالتشطير و الأسطر عموديا- بأنه إضافة إلى البناء الجملي المتواصل فانه يكتب بشكل أفقي و ليس عموديا. هذا كله في البناء الشكلي لكن هناك أدوات أكثر عمقا في السرد التعبيري إلا وهي التعبيرية السردية، وهي الشعر المنبثق من النثر، حيث الكيانات الشعرية المقصودة أولا و أساسا تظهر و تبرز في فضاء سردي وهذه هي الميزة المهمة و الجوهرية للسرد التعبيري، كما أن هذه التعبيرية العالية تمكن كاتب السرد التعبيري من بلوغ درجات عالية من التجريد مع الحفاظ على الفنية و البوح و السلاسة وهذا شيء نادر الحدوث في الشعر التجريدي،. أن التجريدية السردية تقدم نموذجا للشعر التجريدي المشتمل على رسالة واضحة و بوح واضح. و نصوص مجموعة "ناي قلق" حققت السردية التعبيري كشكل أدبي عام لها و تجلت التعبيرية السردية في النصوص بشكل واضح. عدنان جمعة في هذه المجموعة كما في غيرها يعتمد الرمزية القريبة، التي تتجلى فيها الرسالة و البوح و يكون القصد الفكري و التعبير عن النفس قويا في النص وهذه ميزة تميز هذه الكتابة عن شكل أخر يعتمده البعض يكون فيه التجلي و الظهور للسطح النصي مع خفوت للرسالة و البوح حتى يبلغ درجات التعتيم و الانغلاق أو مجرد تلاعب بالكلمات و بناءات تركيبية سطحية لا تنفذ عميقا وهي خسارة تعبيرية لا مبررة لها. أن العمل الأدبي الإبداعي ما هو في حقيقته إلى اكتشاف و انكشاف و إبحار عميق في النفس الإنسانية سواء على مستوى المؤلف أو القارئ أو المجتمع ( مجموعة النوع ) التي هي مثال اللغة و التخاطب. و ما يفعله الشاعر كمبدع هو الغوص عميقا في التجربة الإنسانية للامساك باللحظة الفريدة و التجربة المبهرة، وهذا النظام الفلسفي للإبداع يتجلى و يتكشف في مستويين من الادارك؛ الأول هو العوامل الجمالية والتي تقع في مستوى الفكرة و الرسالة و الثاني مستوى المعادلات الجمالية و التي تقع في مستوى النص و التعبير و البوح ( لقراءة المزيد عن العوامل و المعادلات التعبيرية يرجى الرجوع إلى كتابنا التعبير الأدبي الجزئين الثالث و الرابع). و مع أن المعادل الجمالي هو طريق تعبيري لتجلي العوامل الجمالية إلا أن ما يجعل الإبداع مفهوما و محببا و قريبا للنفس هو التجلي القوي للعوامل التعبيرية، و كتابات عدنان جمعة تتميز بتلك السلاسة و القرب و التجلي الواضح للعوامل الجمالية مع المستوى العالي من الاشتغال الجمالي على المعادلات الجمالية. الجهة الثانية: الاستعمال العاطفي للغة قد يتبادر إلى الذهن إننا نريد بـ " الاستعمال العاطفي" هو البوح الرومانسي و التغزل بالمثال الجمالي لكن في الحقيقة نحن نقصد بالاستعمال العاطفي للغة ما يقابل الاستعمال المعنوي إذ إننا اشرنا في مناسبات سابقة ( ينظر كتاب التعبير الأدبي الجزء الرابع) أن استعمال اللغة قد يكون بشكل معروف و معهود وهو الاستعمال المعنوي إي إيصال الرسالة من خلال المعاني و قد يكون باستعمال أخر هو الاستعمال التعبيري التأثيري حيث يُقصد البعد التاثيري للغة و التركيز على الثقل العاطفي للكلمات و هذا كما يمكن أن يكون متجليا بصور التغني و السرور و الانفعال الايجابي الانشراحي قد يكون بصور الحزن و الأسى و الانفعال السلبي الانقباضي. أن الظاهرة الجمالية عموما و الأدبية منها خصوصا تعتمد على الأنظمة التعبيرية العاطفية، و في الحقيقة هذا الفهم للجمال يعد خطوة حقيقة لتخليص الاستجابة الجمالية – إي انفعال المتلقي- من الانطباعية و يبعث على السعي نحو أبحاث أكثر عمقا و ضبطا في قواعد و قوانين الاستجابة الجمالية. و لا بد عند الحديث عن الأنظمة التعبيري للفن من التأكيد على أن المؤلف عند الكتابة أو الفنان عن الإبداع هو في حقيقته قارئ و متلقِ و مشاهد و محلل. و في الحقيقة أن تلك الأنظمة التعبيرية و العاطفية و الانفعالية تقصد من خلال الخلفية التعبيرية و العاطفية لدى المؤلف، و هنا إشارة مهمة إلى مرجعيات مهمة في التأليف و الإبداع غير القاموس المعنوي، فالتشكل و التشخص و التشكيل و التشخيص و الشكل و الشخص كلها أمور تقع في مجال المعنى، و المعاني كلها تقع في مجال لا يمثل إلا قدرا صغيرا من نظام التعبير الجمالي و التأثير الإبداعي، و أنما هناك مرجعيات – إي مشتركات نوعية بين البشر- هي أهم بكثير من المرجعيات المعنوية و التشكلية و التشخصية- في عملية الإبداع و الفن منها المرجعيات العاطفية. و في الحقيقة أخر ما يمكن الاستفادة منه في تبيّن الظاهرة الجمالية عموما و الأدبية خصوصا هو المرجعية المعنوية و عملية الفهم و التفهيم بل الثقل الحقيقي و القصد الحقيقي للظاهر الإبداعية هو التأثير و التأثيرية و التي تشتمل على طيف واسع من الأدوات احدها المعنى، بل أن المعنى أحيانا يقصد كعامل و طريق للتأثير و ليس لكون رسالة، لذلك تجد بعض المبدعين قد تخلو عن المعنى كليا في حالات الأدب البصري لأنهم وجدوا طرقا أخرى لتأدية الرسالة، بل أن من القراءة ما لا يعتمد على المعنى كتشكل و إفادة و تشخص حتى في الفنون اللغوية نفسها كما في " التعبيرية القاموسية" أو " القصيدة البصرية" التي تسعى إلى بلوغ الرسالة و البوح من دون إفادات تفهيمية. إذن صار واضحا أن الاستعمال اللغوي قد يكون معنويا توصيليا و قد يكون عاطفيا تأثيريا، و الظاهرة الجمالية الإبداعية و الأدبية في جوهرها تعتمد الاستعمال العاطفي التأثيري، إي السؤال عن مدى تأثير العبارة أو النص في القارئ و ليس السؤال عن مدى الإفادة و التفهيم المعنوي في النص. و طبعا هذا لا يعني اخلاء الأدب من الإفادة المعنوي و أنما يعني بيان أن الإفادة و التوصيل المعنوي و الفهم و التفهيم هي أدوات و طرق لأجل البوح الجمالي و الرسالة الأدبية. أن الخلط بين البوح المعنوي و البوح الجمالي و الرسالة اللغوية و الرسالة الأدبية أدى إلى تأخر كبير في فهم الظاهرة الأدبية فبينما يعتمد الأدب و الجمال على التأثير و العاطفة و الشعور حتى قيل ( أن الشعر شعور) فان التفهيم و التخاطب يعتمد التوصيل و الإفادة. لا بد من التأكيد و بحزم أن الأديب و المؤلف الأدبي حينما يشتغل على النص الأدبي فهو ليس في موضع تخاطب و تفهيم و أنما هو في موضع تأثير و إثارة. وهذه الحقيقة تجيب على طيف واسع من التساؤلات بخصوص رسالة الأدب و موضع الفهم و المعنى منها. طريقة البحث منذ أن بينا الأسس الكمية للاستجابة الجمالية و رجوع اغلب الانفعالات الإنسانية بعناصر المشاهدة الايجابية و السلبية إلى أمور واضحة و مفهومة من التعامل الحسي و الشعوري في مقالاتنا الأولى عن فيزياء الاستجابة الجمالية و ميكانزما الجمال ( في الجزء الأول و الثاني من كتابنا التعبير الأدبي ) فانه بات واضحا عندنا إمكانية تقديم مدخل جدي و واقعي نحو أدب علمي و تحليل أدبي استقرائي تجريبي، و مع أن هذا الأمر لن يكون سهلا أو مقبولا عند البعض و ربما الكثيرين إلا انه حقيقة سيتم إدراكها عاجلا أم أجلا. و لقد توجنا هذه الأبحاث بمنهجنا التحليل الكمي، و الذي يعتمد معادلات و قوانين للجمال مبثوثة في مقالاتنا الأخيرة. أن المنهج الكمي في التحليل الأدبي يعتمد ثلاث جهات بحثية موضوعية ( إي غير أدعائية و لا تكلفية ) و دقيقة ( أن مضبوطة و استقرائية)؛ الأولى تحقق العنصر الإبداعي موضوع البحث في النص و شكله، الثانية درجة تجلي ذلك العنصر، و الثالثة الأنظمة الجمالية المترتبة على تجلي ذلك العنصر الإبداعي. و لقد وجدنا كفاءة عالية لهذا المنهج في الكشف عن العناصر الإبداعية و الجمالية و فهم عملية الإبداع و الإجابة عن الأسئلة الفلسفية المتعلقة بطبيعة الجمال و الظاهرة الأدبية. وهنا سنعتمد المنهج الكمي بصورة تمهيدية لأجل خلق قاعدة معرفية و تطبيقية كمدخل إلى التطبيق الأكمل القانوني و المعادلاتي في الأبحاث الأدبية. الجهة الثانية: الاستعمال العاطفي للغة. ما عاد مهما كثيرا التمييز بين اللغة و الكلام إلا من جهة وجود مرجعيات مشتركة عامة يعتمد عليها فهم الكلام، و هذا التمييز أنما هو من أدوات البحث اللغوي للنصوص، و في الواقع رغم إقحام هذا البحث من قبل مدارس نقدية في التحليل الأدبي كالبنيوية و الأسلوبية إلا انه اخفق إخفاقا كبيرا في تشخيص العناصر الجمالية في النص و حوّل التحليل الأدبي إلى بحث لغوي لا يشير إلى مواطن جمالية إبداعية، بل و أدرى إلى إقحام أبحاث أخرى في البحث الأدبي كالتحليل النفسي و الثقافي و كلها لا علاقة لها بحقيقة و جماليات الظاهرة الأدبية و حقيقة الجمال اللغوي. أن الأدب ليس لغة أنما هو اشتغال تعبيري و جمالي على اللغة بل أن النص الأدبي يختلف عن النص اللغوي و العلاقة بينهما علاقة مرآتية و ليس بينهما إي اتحاد في الذات، فالنص اللغوي يحمل النص الأدبي لكنه ليس هو بل النص الأدبي شيء أخر موجود في عالم مستقل خارج النص اللغوي و هناك عوامل و عناصر و أمور كثيرة تتدخل في بناء النص الأدبي غير النص اللغوي. النص الأدبي هو اشتغال جمالي على اللغة، بمعنى أن الأدب هو ظاهرة جمالية مادتها اللغة ، لذلك لا علاقة كبيرة بين الأنظمة اللغوية العامة و الظاهرة الأدبية و لهذا تجد أكثر المتبنين للمناهج اللغوية في التحليل الأدبي يضطرون إلى الارتكاز على الانحراف اللغوي و الانزياح ، و ما هذا إلا لحقيقة أن الأدب ليس فنا لغويا يمكن تشخيص عناصر إبداعه بأنظمة اللغة و أنما هو عمل تعبيري أساسه الجمالية و الرسالة التعبيرية غير المهتمة بقوانين اللغة ، بل أن الأدب قائم على كسر قواعد اللغة و خرقها. أن هذا الفهم و كون الأدب و كل فن هو عمل تعبيري أنساني يهدي الباحث إلى المواطن الحقيقة التي عليه البحث فيها و التدقيق فيها كما انه يساهم في البحث عن قوانين و قواعد عامة للتعبير و الجمال تشترك فيها جميع الفنون و لا يكون لمادة الفن من سمعية أو بصرية، لغوية أو لونية تأثيرا على تلك الكليات وهذا ما يمكن أن نسميه قوانين الجمال أو " الكليات الجمالية". أن المنهج الكمي و من خلال مراحل و طرق بحثه يؤكد هذه الحقيقة و يشير إلى تلك العناصر الموحدة، ففي مناسبة سابقة بحثنا ( الدلالة العاطفية في قبال الدلالة المعنوية) في مجموعة شعرية للشاعر العراقي حميد الساعدي، و لا ريب أن الدلالة لعاطفية مع أنها من صفات اللغة إلا أنها مما تشترك بها اللغة مع غيرها من الفنون ، و هنا سنبحث " الاستعمال العاطفي" كعنصر جمالي في قبال الاستعمال المعنوي، و لا ريب أيضا أن الاستعمال العاطفي هو عنصر تشترك به اللغة مع غيرها من أدوات التعبير الإنساني. يعمد المنهج الكمي بخصوص العناصر الجمالية التعبيرية يعمد إلى فهم مفاهيم تلك العناصر بدقة و ضبط ثم تعقب مظاهر تحققها و تجليها في مادة الفن المعين كاللغة مثلا و درجة ذلك التجلي و الأنظمة الجمالية المترتبة على ذلك. و أدوات المنهج الكمي منضبطة و ليست فضاضة و لا انطباعية بل هي موضوعية استقرائية تجريبية، حيث أن المنهج الكمي يسعى نحو تحقيق بحث علمي تطبيقي للتحليل الأدبي و يسعى نحو " علم الأدب". النتائج و المناقشة العناصر الفنية و الجمالية التي يهتم بها و يتعقبها المنهج الكمي في تحليل الظاهرة الأدبي تقع في ثلاث جهات؛ الأولى تحقق العنصر الفني كـ " الاستعمال العاطفي " هنا ، الثانية درجة تجليه في نماذج البحث و الثالثة ما ترتب عليه من أنظمة فنية تحققت في النص. الجهة الأولى: تجلي الاستعمال العاطفي في نصوص "ناي قلق" بشكل مادي شكلي منضبط يتحقق نظام " الاستعمال العاطفي" في كل حالة تعبيرية تكون العاطفة أقوى من المعنى و تكون الرسالة وأصالة بذلك التعبير العاطفي قبل التعبير المعنوي. إذن حالة الاستعمال العاطفي في النص هي كل حالة يكون التعبير بالعاطفة واضحا وقويا و تكون الرسالة التعبيرية واصلة بذلك التعبير من دون الحاجة إلى الإفادة المعنوية إي المعنى الجملي التفهيمي. و هذا التجلي للاستعمال العاطفي يمكن أن يكون على مستوى الكلمة (المفردة اللفظية) أو على مستوى الإسناد ( التركيب اللفظي) في قصيدة (( ناي قلق )) يقول الشاعر ( غنائي لم يعجبه القمر، أغمض عيني، تبتلعني الأرض، فوضى، ناي قلق يتسلى بمرارة الشوق، أتحسس نشيجاً خافتاً في عمق الليل، بسبات راعي غنم، تائهة حروفي في مراعٍ مقفرة، ذاكرتي منهكة بثقل الأحمال) لقد استطاع الشاعر أن يلون نصه هذا بلون مميز من العاطفة لا عن طريق الإفادات المعنوية الجملية و أنما من خلال قاموس الكلمات التي بثها في نصه فكلمات : (تبتلعني -فوضى- قلق- يتسلى- مرارة-نشيج- خافت- سبات- تائهة- مقفرة- منهكة-ثقل- الأحمال) تقع في مجالات عاطفية سوداوية هي القلق و الخواء و الإنهاك فالقلق يتجلى في ( فوضى- قلق- خافت-تائه) و الخواء يتجلى في (فوضى -مرارة - يتسلى- سبات- تائهة -مقفرة ) و الإنهاك يتجلى في ( تبتلعني - نشيج- منهكة -ثقل-أحمال). أن ضغط الرسالة العميقة هو الذي دفع بعالم الانثيالات إلى هذا الصف من المفردات و لا يمكن أبدا تبرير الاختيار وحده، و إضافة إلى نجاح المؤلف في خلق جو عاطفي شعوري معين لنصه هذا فان هذه اللون أيضا كشف عن رسالة عميقة تقع خلف النص وصلتنا عن طريق أداة تعبيرية غير تفهمية و لا خطابية، بل هي رسالة تعبيرية تأثيرية تحققت باستعمال عاطفي للكلمات. في القصيدة نفسها "ناي قلق" نجد اسنادات تعبيرية باستعمالات عاطفية توصل الرسالة بقوة العاطفة حيث نجد هذه التراكيب: ( غنائي لم يعجبه القمر - أغمض عيني - تبتلعني الأرض - ناي قلق - يتسلى بمرارة الشوق- أتحسس نشيجاً خافتاً - في عمق الليل - بسبات راعي غنم - تائهة حروفي - في مراعٍ مقفرة - ذاكرتي منهكة - بثقل الأحمال - ما أقسى هذا الوقت ) و لا نحتاج إلى كثير من الكلام إلى بيان اللون القاتم الذي خيم على تلك التراكيب و إلى هاجس القلق و الضياع و الإنهاك الذي ساد تلك الاسنادات حتى إننا لو أخرنا و قدمنا فيها فان المزاج العام و الصبغة العامة للنص ستبقى كما هي، و في الواقع هذا تجل واضح و قوي للعاطفة في التراكيب الاسنادية بل أن النص يبلغ التطرف التعبيري – أي البوح الاقصى في الارتكاز على العاطفة- في إيصال الرسالة في تراكيب منه مثل: (تبتلعني الأرض -سبات راعي غنم- مراع مقفرة - ذاكرتي منهكة يقل الأحمال. و نجد الاستعمال العاطفي يتجلى و باللون نفسه و على مستوى المفردات و الاسنادات في قصيدة (( انهيار )) حيث يقول الشاعر : ( أيّ الأزمنة ستأتي بثوبي الرمادي، أيّ طريق أحلم به، وأيّ فنجان ستقرأهُ العرافة . أتأمل الزوايا، تلوح بولائم الحزن وعودها كالرمل، أبتلع صراخي، وأتحلى للغدِ بإقدامي الحافية. تساؤلات تلوكها أسنان الجرح، أغمض عيني لا جواب بحنجرتي، وأنا الممنوع من عناق الشمس، أذوب شوقاً والليالي باكيات، أنا .. أنتِ، نلملم الدقائق لا مكان فيها إلا وجوهنا العارية تمتزج بالانهيار(. و يمكننا أن نشير سريعا إلى اللون و المزاج العام للنص و الرسالة التعبيرية و القاموس التعبيري الذي لون و صبغ الجو الشعوري للنص بالألفاظ و التراكيب التالية (الرمادي - الحزن -كالرمل - صراخي- الحافية - تساؤلات - تلوكها - أسنان - الجرح- أغمض عيني - الممنوع - باكيات-العارية -بالانهيار) و أما على مستوى الاسنادات فإننا نجد ( صيغة السؤال (أيّ ؟) - ثوبي - تلوح بولائم الحزن - وعودها كالرمل - أبتلع صراخي - بإقدامي الحافية -تساؤلات تلوكها - أسنان الجرح - أغمض عيني - لا جواب بحنجرتي - وأنا الممنوع - الليالي باكيات - وجوهنا العارية - تمتزج بالانهيار) و نترك للقارئ و كعملية تجريبية أن يرى المجال العاطفي و الصيغة العاطفية التي أحدثتها تلك التراكيب في النص إلا إننا نشير هنا إلى شكل مميز من الاستعمال العاطفي وهو قلب " المجال العاطفي" إي تحويل المفردة من مجالها العاطفي المعتاد إلى مجال عاطفي أخر وهذا شكل من أشكال الانزياح العاطفي كما في التراكيب التالية ( أتأمل الزوايا، تلوح بولائم الحزن وعودها كالرمل - أتحلى للغدِ بإقدامي الحافية - وأنا الممنوع من عناق الشمس - أذوب شوقاً والليالي باكيات) من المعلوم أن ألفاظ ( ولائم - وعود - اتحلى - الغد- عناق - الشمس ) هي من مجال العاطفة الانشراحية السرورية الانبساطية إلا أن الشاعر و بتراكيبه الخاصة قد قلب مجالاتها العاطفية وحولها إلى رمزيات عاطفية ذات ألوان حزينة و سلبية و سوداوية و صارت تلك المفردات و بفعل قصيدة ( انهيار) لعدنان الساعدي تعني و تثير و تسبب عاطفة و إحساسا مختلفا، وهذا هو نظام " قلب المجال العاطفي " أو الانزياح العاطفي " و كما أن عدنان جمعة استعمل المجال العاطفي السوداوي السلبي الانقباضي في نصوص من هذه المجموعة فانه استعمل المجال العاطفي التفاؤلي الايجابي الانبساطي الانشراحي وهذا ما نجده مثلا في قصيدة (( ضربة شمس )) حيث يقول الشاعر: ( مرت بفستانها ذي الأبعاد الثلاثية، تراءت لي ورقة توت، وحقول ومرايا، لازمني الجنون، احتفلتُ بزينة شالها الأنيق، ونظرة غير شرعية، لم أقدر على الكلام! فرح بكل الزوايا وأنساب شعر غير مألوف، أشعل النيران، باركني الوقت ثملاً، دقائق .. ضربة شمس!! ( و ربما لا نحتاج إلى كثير كلام لبيان اللون الانشراحي الانبساطي للمفردات و الاسنادات في هذا النص و بينما شعرنا في النصوص السابقة بأننا أمام لوحة رمادية باكية قاتمة و نادبة فإننا هنا نشعر إننا أمام لوحة بهيجة مزخرفة و ضاحكة و راقصة فمفردات ( فستانها - ورقة توت - حقول - مرايا- الجنون- احتفلتُ - زينة - شالها - الأنيق - نظرة - فرح - أنساب - شعر - أشعل - النيران- باركني - ثملاً ( من الواضح قوة الرسالة الواصلة ألينا بمفردات مركزية احتفالية هنا مثل : ( احتفلت - زينة- فرح - انساب- باركني) و ألفاظ مركزية جنونية مثل ( الجنون - أشعل - النيران - ثملا ) أن "ضربة شمس" قصيدة احتفالية جنونية بحق. كما أن التراكيب الاسنادية أيضا كانت احتفالية جنونية حيث نجد: ( مرت بفستانها - تراءت لي ورقة توت - لازمني الجنون - احتفلتُ بزينة شالها الأنيق - ونظرة غير شرعية - لم أقدر على الكلام - فرح بكل الزوايا - أنساب شعر غير مألوف - أشعل النيران - باركني الوقت ثملاً - دقائق .. ضربة شمس)!! يمكننا القول إننا نادرا ما نقرأ شعرا تعبيريا بهذه الدرجة من البوح العاطفي فان الشاعر لم يترك مجالا للبوح إلا وقد ملأه عاطفة و لم يترك أي مقدار من التعبير العاطفي إلا و انزله في هذا النص و يبلغ النص درجات من البوح الاقصى – أي الذي يبلغ النهايات التعبيرية في هذه التراكيب : ( لازمني الجنون - نظرة غير شرعية - لم أقدر على الكلام - فرح بكل الزوايا - أنساب شعر غير مألوف - أشعل النيران ) و يختم الشاعر مشهده الجنوني بعبارة هي ملخص الحكاية حينما يقول ( دقائق .. ضربة شمس)!! أن هذا المقدار من التعبيرية الذي تسبق فيه السرع العاطفية السرع التفهيمية وبهذا الشكل المحقق للنهايات القصوى للتعبير يحقق حالة " التعبيرية التجريدية" حيث يتحقق نظام تعبيري ما يمثل فيه أمام القارئ و ما يكوّن النص ليس وحدات لغوية و أنما وحدات شعورية إذن قصيدة " ضربة شمس" هي قصيدة تجريدية. درجات التجلي للاستعمال العاطفي درجة التجلي للعنصر الجمالي يمكن حسابها عموديا و أفقيا، فأما العمودية ففي قوة التجلي أي كثافة العنصر في المفردات و الاسنادات مقارنة بحجم النص ( أي الفقرات - القصائد - المجموعة ( الكتاب). و يمكن حساب درجة التجلي أفقيا أيضا أي من حيث العمق على مستوى البوح ثم المستوى الأعمق أي التجريد. فأما كثافة الاستعمال العاطفي على مستوى المفردات فقد عرفت و من خلال النماذج المتقدمة أن تلك النصوص مشحونة و مملوءة بالمفردات التي يتجلى فيها الاستعمال العاطفي، و بعملية استقرائية لباقي النصوص فإننا نجد أنها تمثل اللون العام لكتابة الشاعر و تجربته، و الأمر أوضح بالنسبة لدرجة تجلي " الاستعمال العاطفي " في الاسنادات، بل قد رأيت كثافة الوحدات التعبيرية الاسنادية ( أي الاسانادات التي تجلى فيها العنصر التعبيري وهو " الاستعمال العاطفي هنا" أقول قد رأيت كثافة تلك الوحدات في قصيدتي " ناي قلق" و قصيدة " ضربة شمس". و أما على المستوى الأفقي فقد رأينا بوضوح بلوغ النصوص درجات عالية من البوح بل بلوغها درجات " البوح الاقصى" كما بينا و بعضها بلغ درجة التجريد كما في قصيدة " ضربة شمس" . وهكذا نجد الحال في باقي نصوص المجموعة التي تميزت بدرجات عالية من تجلي عنصر " الاستعمال عاطفي". و مما يجدر الإشارة إليه أن هذه الطاقات التعبيرية قد توفرت و تحققت بهذه القوة بمساعدة اعتماد أسلوب ( التعبيرية السردية). أن التعبيرية السردية تفتح الأبواب مشرعة بما توفره من حرية و سلاسة و عذوبة و توازن و مساحة تعبيرية بحيث أن المؤلف يتقدم و بسرع تعبيرية عالية دون خوف التذبذب التعبيري أو خوف الجفاء و التحليق الرمزي الذي يقلل من عذوبة و عمق و توهج العبارات. أن التعبيرية السردية في نصوص " ناي قلق" كانت كسفينة ضخمة لا تتأثر بالرياح و الأمواج ، هذا مقارنة بالأشكال الشعرية المعهودة ضيقة التعبير و المساحة و التي تكون أشبه بقوارب أو سفنا صغيرة تتأثر بالأمواج و ربما تغرق. الأنظمة الجمالية المترتبة على الاستعمال العاطفي أن تجلي عنصر " الاستعمال العاطفي" على مستوى المفردات أدى إلى ظهور حالة " التعبيرية القاموسية" حيث أن قاموس المفردات كان كفيلا في تلوين النص عاطفيا و إعطائه صبغة و مزاجا عاطفيا، كما أن البوح الاقصى الذي بلغته تعابير النصوص حقق حالة " التطرف التعبيري" وهو حالة بلوغ نهايات البوح و التي يكون فيها المتكلم في أقصى درجاته بوحه و انكشافه. و من الأنظمة التي ترتبت على الدرجات العالية لتجلي عنصر " الاستعمال العاطفي" هو الكتابة التجريدية ، حيث عرفت أن قصيدة " ضربة شمس" و بالسرع العاطفية الكبيرة لتراكيبها قد حققت حالة التعبير التجريدي. خلاصة البحث. من خلال ما تقدم يمكننا أن نقول أن مجموعة " ناي قلق" مثلت تجربة فنية متقدمة للشاعر عدنان جمعة على مستوى التعبير الأدبي حيث أنها اشتملت على اشتغالات فنية متميزة كما أن نصوصها انطوت على زخم عاطفي كبير و تعبيرية عاطفية عالية تمثلت في التجلي العالي للاستعمال العاطفي حيث أن الرسالة وصلت إلى المتلقي بالتعبير العاطفي قبل التعبير التفهيمي و قبل إحصاء فعلي للإفادات الجملية. وهذا النظام مع إننا قد أثبتناه بشكل واقعي و استقرائي فانه يمكن أيضا إثباته بشكل تجريبي، حيث يعمد القارئ إلى تأجيل المعنى الافادي الجملي ( إي التفهيم للجمل) و اعتماد قوة العاطفة و الثقل العاطفي للمفردات و الاسنادات ثم يقارنه بما تفيده الجمل من معان تامة تفهيمية توصيلية. و الإشارة الثالثة أن من نصوص هذه المجموعة كنص ( ضربة شمس ) ما بلغ حالة التجريد وهي أعلى درجات التعبير الأدبي. و مع إننا متابعون لكتابات عدنان جمعة و أنها على هذا المستوى من التجربة قديما إلا أن اعتماده أسلوب ( التعبيرية السردية) في نصوصه السردية التعبيرية في هذه المجموعة وفر له طاقات تعبيرية أضافية غير معهودة وهذا أمر يبعث على اهتمام اكبر بأسلوب التعبيرية السردية و اعتماده في الكتابة الأدبية.
#أنور_غني_الموسوي (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
السرد التعبيري العربي
-
التجليات الماوراء نصية عند رشا السيد أحمد المفتي
-
الاستعمال العاطفي للغة في مجموعة - ناي قلق- / للشاعر عدنان ج
...
المزيد.....
-
جيل -زد- والأدب.. كاتب مغربي يتحدث عن تجربته في تيك توك وفيس
...
-
أدبه ما زال حاضرا.. 51 عاما على رحيل تيسير السبول
-
طالبان تحظر هذه الأعمال الأدبية..وتلاحق صور الكائنات الحية
-
ظاهرة الدروس الخصوصية.. ترسيخ للفوارق الاجتماعية والثقافية ف
...
-
24ساعه افلام.. تردد روتانا سينما الجديد 2024 على النايل سات
...
-
معجب يفاجئ نجما مصريا بطلب غريب في الشارع (فيديو)
-
بيع لوحة -إمبراطورية الضوء- السريالية بمبلغ قياسي!
-
بشعار -العالم في كتاب-.. انطلاق معرض الكويت الدولي للكتاب في
...
-
-الشتاء الأبدي- الروسي يعرض في القاهرة (فيديو)
-
حفل إطلاق كتاب -رَحِم العالم.. أمومة عابرة للحدود- للناقدة ش
...
المزيد.....
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
-
التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا
...
/ نواف يونس وآخرون
-
دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و
...
/ نادية سعدوني
-
المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين
/ د. راندا حلمى السعيد
-
سراب مختلف ألوانه
/ خالد علي سليفاني
-
جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد
...
/ أمال قندوز - فاطنة بوكركب
-
السيد حافظ أيقونة دراما الطفل
/ د. أحمد محمود أحمد سعيد
-
اللغة الشعرية فى مسرح الطفل عند السيد حافظ
/ صبرينة نصري نجود نصري
-
ببليوغرافيا الكاتب السيد الحافظ وأهم أعماله في المسرح والرو
...
/ السيد حافظ
المزيد.....
|