|
حول المونديال
سعد محمد رحيم
الحوار المتمدن-العدد: 1607 - 2006 / 7 / 10 - 11:16
المحور:
العولمة وتطورات العالم المعاصر
1ـ نحن والمونديال العراقيون مثل بقية خلق الله مشغولون اليوم بالمونديال غير أن مدى انشغالهم به أقل بكثير من الآخرين، في أرجاء المعمورة، وأقل من انشغالهم به قياساً للدورات السابقة، لا لأن منتخبنا القومي فشل في الوصول إلى النهائيات فحسب بل لأن المواطن العراقي، في ظرفه الحالي، مشغول بأمور أخرى أهم، مشغول بلقمة العيش التي يكافح بمرارة من أجلها، مشغول بالأمن المفقود، مشغول بانتظار التيار الكهربائي الشحيح، تحت وطأة الصيف القاسي بحرارته. وإذا كان كثر منا قد حل مشكلة المشاهدة عبر القنوات المشفرة معوضاً عنها بشراء شبكات هوائية بأسعار زهيدة نسبياً، تتيح له التفرج على المباريات المنقولة مباشرة على القنوات الأرضية المحلية، أو التي تبث من الدول المجاورة فإن عدم انتظام سريان التيار الكهربائي حرّم بعضنا الآخر من المتابعة حتى مع وجود الرغبة بذلك، وحين سألت أحد أصدقائي إنْ كان يتابع المباريات. قال؛ لا، طبعاً، فحين أحظى بالكهرباء استغلها لأنام قليلاً بدل أن أتلف أعصابي، التي هي تالفة أساساً، مع لعبة لا ناقة لي فيها ولا جمل. وليس المواطن الاعتيادي وحده فقد بعض أو كل اهتمامه بالمونديال بل أن قسماً من الرياضيين أنفسهم لم يعودوا متحمسين له كما في الماضي، والأسباب معروفة. كنت أتمنى، مثل غيري من العراقيين أن أرى منتخبنا منافساً قوياً في المونديال يؤجج فينا حسنا بعراقيتنا الصميمة، ويجذبنا جميعا، من الشمال إلى الجنوب تحت ضغط هاجس واحد موحد. فأحياناً تستطيع الرياضة أن تفعل في المجال الوطني ما لا تستطيعه السياسة بمناوراتها وتكتيكاتها وصراعات رجالها ومؤسساتها. أذكر سني النصف الثاني من السبعينيات، كنت إذ ذاك طالباً في الجامعة، أحضر عدداً من مباريات الدوري، ومعظم مباريات المنتخب، ولم يكن المشجعون من العاصمة بغداد فقط، فقد كنت ترى في ساحة وقوف المركبات قرب ملعب الشعب الدولي حافلات تحمل لافتات محافظات شتى جاء شبابها لتشجيع منتخبهم الوطني.. كانت مدرجات الملعب تهتز مع كلمة "عراق" خارجة، دفعة واحدة، من حناجر عشرات الآلاف من العراقيين القادمين من البصرة والموصل وديالى والعمارة والكوت وكركوك وتكريت وغيرها من مدن العراق، ناهيك عن جمهور بغداد بألوان طيفه الآسر. والذين لم يأتوا إلى الملعب كانوا يتجمعون في المقاهي، في المدن والقرى ليشاهدوا مباريات المنتخب على شاشة التلفاز، فطعم الفرح الجماعي مع تسجيل هدف، أو تحقيق فوز لهو أكبر بكثير من طعمه وأنت وحدك في غرفة أمام الشاشة. حكا لي، ذات مرة، صديق كردي عن موقف ذي دلالة لا تخطئ، قال أنه كان مع أكراد عراقيين آخرين في إيران، أواخر السبعينيات، هاربين لأسباب سياسية بالتأكيد، وكانوا يتابعون، في مقهى بمدينة قصر شيرين المباراة التاريخية بين منتخبي شباب العراق وإيران في نهائي كأس آسيا للشباب، وكانوا يشجعون بتعصب منتخب بلادهم، وحين استنكر عليهم مواطنو المدينة هذا الأمر، لأنهم ـ أي هؤلاء الشباب الكرد ـ هاربون ومبعدون من العراق وهم في ضيافة إيران الآن وعليهم تشجيع منتخبها كاد الأمر أن تتطور إلى مشادة بالأيدي.. أخبرني صديقي الكردي أنه قال لهم؛ يا ناس هذا شيء خارج عن إرادتنا.. ليس بأيدينا. ما أحوجنا، في هذا المنعطف الدقيق من تاريخنا إلى إبداع الرياضيين، وغيرهم من الناشطين في مجالات إبداعية أخرى، الذين يمتلكون القدرة على تذكيرنا بأولوية تلك القيمة التي هي ثاوية في نفوسنا، جميعاً، لا شك؛ نحن عراقيون قبل كل شيء.
2ـ عولمة المونديال أصبح المونديال اليوم جزءاً من صناعة العولمة، وأفقه يتعدى قضية اثنين وثلاثين منتخباً قومياً تتنافس للحصول على كأس العالم، فناهيك عن الجانب الدعائي والإعلامي بأبعاده السياسية والذي تحرص الدولة المضيفة على التركيز عليه تبقى حسابات المجال الاقتصادي هي الأهم. من يستطيع أن يتخيل عدد الأشخاص في أرجاء المعمورة ممن ينخرطون في فعاليات متصلة بالمونديال مساهمين فيها بهذا القدر أو ذاك، ففضلاً عن المنظمين والإداريين واللاعبين والمدربين وأطقم التحكيم هناك الصحافيون والمعلقون والمحللون والمصورون. ويمكن إضافة شركات الإعلان والتأمين والمؤسسات السياحية التي تجد في المونديال فرصتها لممارسة عملها وتحقيق أعلى المردودات المالية. ومعظم الشركات التجارية الكبرى في العالم تستغل هذه المناسبة للإعلان عن منتجاتها والترويج لها، وفي إطار الأعمال والأنشطة المتعلقة بالمونديال بيعاً وشراءً، بشكل مشروع أو غير مشروع، تتحرك، في الحسابات المصرفية، أو بين الجيوب، مليارات الدولارات. ولا شك أن الآلاف من العاطلين يجدون فرص عمل جيدة بفضل البطولة هذه، وأن مئات الآلاف، أو الملايين من البشر ينفقون أموالاً طائلة أو يحققون أرباحاً مجزية من طريق شراء وبيع منتجات وخدمات لا تعد ولا تحصى، بدءاً من ترويج صور اللاعبين والبوسترات المتضمنة لجدول مواعيد المباريات والتي توزع في وقت مبكر وليس انتهاء باحتكار وبيع حق نقل وعرض المباريات في القنوات الفضائية. ولنتصور كم من المطاعم والمقاهي والمتاجر ووسائط النقل براً وبحراً وجوا ووسائل الاتصال سيتضاعف أعداد زبائنها وتجد في المونديال موسماً ممتازاً ولا سيما في الدولة المضيفة ذاتها، فلا عجب إذن أن نرى شدة تنافس الدول المختلفة للحصول على حق تنظيم المونديال. المونديال، اليوم، نشاط معولم بامتياز، فالعولمة بآلياتها وعمل مؤسساتها استطاعت استثمار هذه الفعالية العالمية المهمة لا لتكون مصدراً للحصول على الأرباح الكبيرة وحسب، وإنما لترسيخ قيم العولمة ذاتها والتي أساسها المنافسة وإغراء المستهلكين لإنفاق مدخراتهم وإشغال الرأي العام، مؤقتاً على الأقل، وصرفه عن الاهتمام بالقضايا الحياتية الأخرى. المونديال عيد عالمي، والمليارات من سكان المعمورة تسعى إلى المشاركة في طقوسه والاستمتاع بها، ونسيان الهموم والمشاكل والكوارث المتفاقمة لبعض الوقت، فتلك حاجة نفسية أيضاً. لأسباب كثيرة جداً ـ أمنية ومعيشية وسياسية ـ لا تكاد مساهمتنا تذكر في هذا النشاط العالمي، الآن وفيما مضى. وأجزم أن درجة مثل هذه المساهمة تعكس إلى حد بعيد الحضور العالمي لأية دولة. وشخصياً منذ زمن طويل أحلم أن أرى العراق يستضيف نشاطاً دولياً كالمونديال ويكون قبلة أنظار العالم.. لم لا؟. ما الضير، في هذا الزمن الصعب والمخرَّب، أن نحلم؟.
#سعد_محمد_رحيم (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
نخب سياسية.. نخب ثقافية: مدخل
-
حبور الكتابة: هيرمان هيسه وباشلار
-
قصة قصيرة: في أقصى الفردوس
-
حوار مع القاص سعد محمد رحيم
-
تحقيق: بعقوبة ابتكارالبساتين
-
قصتان قصيرتان
-
في رواية اسم الوردة: المنطق والضحك يطيحان بالحقيقة الزائفة
-
قصة قصيرة: الغجر إنْ يجيئوا ثانية
-
من يخاف الحرية؟. النسق الثقافي والمحنة السياسية
-
قصة قصيرة: زهر اللوز
-
شهادة: هكذا تكتبني المحطات
-
شقاء المثقفين
-
فضاء مكتبة.. فضاء الكون*
-
سحر ماركيز
-
الرواية وسيرة الروائي
-
المثقف: إشكالية المفهوم والوظيفة
-
كالفينو: الوصايا والإبداع
-
مكر كونديرا
-
في رواية -الإرهابي- لديفيد معلوف: هل حدثت الجريمة حقاً؟.
-
حياة أوفيد المتخيلة
المزيد.....
-
الأنشطة الموازية للخطة التعليمية.. أي مهارات يكتسبها التلامي
...
-
-من سيناديني ماما الآن؟-.. أم فلسطينية تودّع أطفالها الثلاثة
...
-
اختبار سمع عن بُعد للمقيمين في الأراضي الفلسطينية
-
تجدد الغارات على الضاحية الجنوبية لبيروت، ومقتل إسرائيلي بعد
...
-
صواريخ بعيدة المدى.. تصعيد جديد في الحرب الروسية الأوكرانية
...
-
الدفاع المدني بغزة: 412 من عناصرنا بين قتيل ومصاب ومعتقل وتد
...
-
هجوم إسرائيلي على مصر بسبب الحوثيين
-
الدفاع الصينية: على واشنطن الإسراع في تصحيح أخطائها
-
إدارة بايدن -تشطب- ديونا مستحقة على كييف.. وترسل لها ألغاما
...
-
كيف تعرف ما إذا كنت مراقبًا من خلال كاميرا هاتفك؟
المزيد.....
-
النتائج الايتيقية والجمالية لما بعد الحداثة أو نزيف الخطاب ف
...
/ زهير الخويلدي
-
قضايا جيوستراتيجية
/ مرزوق الحلالي
-
ثلاثة صيغ للنظرية الجديدة ( مخطوطات ) ....تنتظر دار النشر ال
...
/ حسين عجيب
-
الكتاب السادس _ المخطوط الكامل ( جاهز للنشر )
/ حسين عجيب
-
التآكل الخفي لهيمنة الدولار: عوامل التنويع النشطة وصعود احتي
...
/ محمود الصباغ
-
هل الانسان الحالي ذكي أم غبي ؟ _ النص الكامل
/ حسين عجيب
-
الهجرة والثقافة والهوية: حالة مصر
/ أيمن زهري
-
المثقف السياسي بين تصفية السلطة و حاجة الواقع
/ عادل عبدالله
-
الخطوط العريضة لعلم المستقبل للبشرية
/ زهير الخويلدي
-
ما المقصود بفلسفة الذهن؟
/ زهير الخويلدي
المزيد.....
|