|
أبق حيث الغناء 16
آرام كربيت
الحوار المتمدن-العدد: 6708 - 2020 / 10 / 19 - 19:29
المحور:
الادب والفن
كان لدي جار فلسطيني كبير في السن، بابي ملتصق في بابه، لديه شابان وفتاتان، وزوجته متوفيه، يأتي إلى غرفتي بعض المرات، يسألني إن كنت محتاجًا إلى شيء ما؟ واحيانًا كان يأخذي في جولة إلى بعض الأماكن، يمشي بصعوبة وعنده عرج في رجله، وأولاده أصغر مني، شعره أبيض اللون كالحليب،و لم يكن بيننا أي لغة مشتركة. تعرفت على ابنه فراس لأحقًا، كان مهندسًا زراعيًا، بيد أنه دائم الحزن وربما حمل نفسه الكثير من الهموم أكثر مما يحتمل. و أغلب هموم الناس في بلادنا خاصة فئة الشباب هو قلة المال، أو الشح في تأمين متطلبات الحياة، وهناك الحرمان العاطفي والجنسي وأن تتحول المرأة إلى مجرد ذاكرة تدغدغ الذاكرة في الحلم، وانفصال طويل عن بعضهما بقوة العادات والتقاليد والأرث الديني والعقلي المعشعش حياة الناس في منطقتنا. إن الحرمان من الحبيب يطلق الخيال المريض إلى البعيد ويحول الأفراد إلى كائنات هشة ضعيفة، غير واقعية، بل إلى مجرد كائنات عاجزة عن إنتاح علاقات طبيعية بين الناس. إن المجتمعات الدينية تعيش كوارث اجتماعية في عصرنا، بشر غرباء عن بعضهم، لا يتواصلون إلا كجسد منفصل عن بعضه. وأفلب تواصله مقونن، هذا يستدعي القول أن المجتمع مفكك لا رابط عاطفي بينه، هناك جفاف وغربة ويتم حقيقي في المجتمع الواحد، ونستطيع القول أنه مجتمع ميت يخدم الدين الميت. ففي بلاد الأيمان والمحبة، المحبة جافة أو ميتة، وصعوبة الوصول والوصال مع المرأة في الضوء صعب للغاية، لأن الحب المقونن لا يمكنه الخروج من مكمنه إلا بإذن الله والمال والأهل وعموم المجتمع المشارك في المذبحة. كان فراس دائم التأفف دون أن يذكر لي السبب، يذهب إلى عمله يوميًا في الصباح الباكر ويعود متأخرًا، ويلتقي بي مرات، ولم يكن بينا أي شيء مشترك، بيد أنه كان رقيقًا جدًا، لطيفًا مؤدبًا في كلامه وحديثه، وكنت أعطف عليه ويعطف علي، ونتأمل واقعنا من مواقع الأخ والصديق. وإن فارق العمر بيننا لم يكن يمنعنا من الجلوس معًا، نشرب الشاي والتحدث عن معاناتنا، اسأله: ـ لماذا لا تتخذ لك صديقة ما دمت شابًا في السادسة والعشرون من العمر؟ أنك في أجمل مراحل العمر وهذا وقت الفرح والحلم، ستندم إن لم تملأه بالفرح والتجارب العاطفية وتغنيه بالوصال. يرد علي بنبرة حزينة، يهز رأسه متذمرًا: ـ أي حب يا آرام، عن ماذا تتحدث؟ وأية امرأة تقبل برجل مثلي؟ أنظر إلى وضعي، الهموم التي أحملها على كتفي؟ ـ ولماذا، لديك الشباب؟ ـ أي شباب يا رجل؟ يا دوب أستطيع أن أصرف على البيت، وهل يستطيع واحد مثلي أن يصل إلى المرأة، طوال اليوم في العمل وراتبي لا يكفي لقمة العيش وليس لدي الوقت اللأزم للتعرف على فتاة ما، وهذا التعارف يستلزم أن يكون مربوطًا بالزواج، وهذا الزواج بعيد للغاية، لأنه يحتاج إلى المال لتجهيز البيت ومستلزمات الفرح. الأمر معقد للغاية، وليس كما تظن. ـ أعرف بلادنا يا صديقي، تعقيدات العلاقات الفائضة عن اللأزم، أعرف أن الله في بلاد المؤمنين لا يسمح بالعلاقات الحرة، لأن الله ذاته مسور نفسه بالأسر ومغلق على نفسه، ومقيده نفسه بالسلاسل الحديدية. كل شيء مركب في شيء أخر، إذا بقي الله حيًا سنبقى أسرى سجنه ومضافته النتنة. ـ هذا واقعنا. ـ وهل ترأني قادمًا من بلاد الحرية والسعادة، الحال من بعضه يا صديقي، لقد مررت بالظروف التي تمر بها مع فارق أن عددكم خمسة، بينما عددنا كان عشرة. ذهبت برفقة نجيب إلى البحر الميت ثلاث مرات في رحلة جميلة برفقة صديقة له، رحلة من العمر. في هذا المكان تعود بي الذاكرة مرة أخرى إلى نهر الأردن وبحيرة طبريا وفلسطين والصراع العربي الإسرائيلي، الطرف الأخر من البحر. هذا البحر بحد ذاته تحفة فنية قائم بذاته ولذاته، حيث يمكنك أن ترى الأملاح المتصاعدة منه كالجبال الشامخات. كتل الملح كالتماثيل الوثنية، أشكال جمالية مختلفة، ألواح فنية متنوعة، بل مبهرة. يمكنك أن ترى الفرسان الملحية على الضفاف أو على الأطراف البعيد والقريبة منه، رجال ونساء ملتصقان ببعضهما، أطفال عراة، واشكال قبيحة أيضًا كتبها الملح حسرة على الماء المنحسر والغائب. وهذه الحيرة والحزن يزداد يومًا بعد يوم عندما تعلم أن هذا الماء راحل عن المكان، مخلفًا وراءه تلل من الملح. إن شح الماء القادم من طبريا ونهر الأردن أصبح واقعًا، لأن الأمطار قليلة والحاجة للزراعة واستهلاك الأرض للماء أصبح أكثر من ضروري، ولا ويوجد مصدر اخر له. وبحيرة طبريا ذاتها ينخفض ماءها يومًا بعد يوم، لهذا لم يعد ماءها يستطيع تغذية نهر الأردن نتيجة الاستخدامات الجائرة للماء الطبيعي في دولة إسرائيل والأردن في الزراعة والصناعة، لهذا ربما يجف هذا البحر وربما بحيرة طبريا ونهر الأردن. في هذا المكان يأتي السياح من كل مكان من العالم ليسبحوا في ماءه، فهو يشفي مختلف أنواع الأمراض الجلدية، بالإضافة إلى جمال المكان. الطرف المجاور للبحر يوجد الطريق العام وجبل صغير ونبع ماء صغير يخرج من باطن الأرض كساقية تتسلل إلى البحر. الناس يذهبون في زيارة إلى هذا البحر بالآلاف، سيارات تمشي الهوينة واحدة خلف الأخرى، وكأن الطريق أفعى ملساء طويلة فاتحة جسدها للمارة. على طرفي الطريق يوجد محرس للدولة، للذاهبين إلى البحر أو العائدين منه، وكلما تمر سيارة يستوقف الشرطي ركابها، ياخذ من الزائر بطاقته ويضعها في المحرس، ويسمح لهم في إكمال رحلتهم. والشرطة الأردنية تتعامل مع الزائرين بأدب جم واحترام كبير على عكس سوريا، فقد تعلمنا في بلدنا أن نشمت من قبل الجميع، من الشرطي أو رجل الأمن، من موظف كبير من العسكري، وكل واحد يتحين الفرصة لينتقم من المواطن السوري الطريق من عمان إلى البحر الميت يمتد على حوالي ستين كيلو مترًا. الطريق مرتفع عن الأرض، لهذا عندما تمد نظرك إلى البعيد يمكنك مشاهدة المنخفضات المتناثرة على السفوح، كلها أشجار جميلة مرفرفة على وسع النظر، الطريق متعرج ولكنه مكتظ بالسيارات، سيارة وراء سيارة، وباصات صغيرة وبعض الناس يأخذون معهم زوادتهم، بعض الطعام الخفيف وقناني ماء للشرب، ثياب كافية للاستجمام والسباحة. في الحقيقة إن هذا البحر الجميل، النائم في ذاكرتنا، يغمرنا بالسعادة والفرح والأسئلة القلقة، ويدفعنا للترويح عن النفس في مكان يشع بالحرية والبعد عن المدينة. من اكبر الأخطاء بالنسبة لي في الأردن أنني لم أزر البتراء، لأن نافذتي الوحيدة على حياتي في الأدرن كان نجيب، ولم يصادف أنه دعاني لزيارة هذا الموقع الأثري الجميل الذي بناه الأنباط في زمن ما، وتم إبادتهم وانتهاءهم من التاريخ. خلال ثلاثة أشهر تم استدعائي إلى المفوضية خمس مرات، وكل مرة أشعر بالضغط النفسي والجسدي، واسئلة كثيرة، وتحقيق مارتوني طويل، والسؤال الذي كان يهزني، إلى متى سأبقى هنا؟ لم استطع معرفة مصدر الشك لدى المفوضية حول وضعي ابدًا، فقد صادفت بعض اللاجئين حصلوا على التسفير خلال يومين من وجودهم في الأردن، وكنت أتساءل ما هو الخبط أو السبب؟ لم يكن هناك سوريون أو لم ألتق بالسوريين، القسم الأكبر من اللاجئن كان من العراق، كان هناك حوالي سبعمائة وخمسون ألف عراقي أغلبهم كانوا مقيمون في عمان، لم يتم إزعاجهم ابدًا إلا في حالات نادرة. لقد لعب العراقيين في الأردن أدوار مختلفة حسب قدرة كل إنسان المالية، منهم من أقام استثمارات فيها ولكن جلهم كان لاجئًا فقيرًا وأغلبهم من الشيعة. بعضهم اشتغل في مجالات كثيرة في أماكن بعيدة عن رقابة الدولة، عمل بالأسود. إن العمل يحتاج إلى إقامة لهذا فإن عين الشرطة كانت تلاحقهم دائمًا.
#آرام_كربيت (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
أبق حيث الغناء 15
-
أبق حيث الغناء 14
-
أبق حيث الغناء 13
-
أبق حيث الغناء ـ 12 ـ
-
أبق حيث الغناء 11
-
أبق حيث الغناء ـ 10 ـ
-
مفهوم الدولة
-
أبق حيث الغناء 9
-
أبق حيث الغناء 8
-
أبق حيث الغناء 7
-
الأخوان وتركيا
-
مركزية النظام الرأسمالي
-
أبق حيث الغناء 6
-
أبق حيث الغناء ـ 5 ـ
-
أبق حيث الغناء 4
-
أن تقرأ لوليتا في طهران
-
أبق حيث الغناء 3
-
روائح عنبرية
-
أبق حيث الغناء 2
-
الرجوم
المزيد.....
-
قدّم -دقوا على الخشب- وعمل مع سيد مكاوي.. رحيل الفنان السوري
...
-
افتُتح بـ-شظية-.. ليبيا تنظم أول دورة لمهرجان الفيلم الأوروب
...
-
تونس.. التراث العثماني تاريخ مشترك في المغرب العربي
-
حبس المخرج عمر زهران احتياطيا بتهمة سرقة مجوهرات زوجة خالد ي
...
-
تيك توك تعقد ورشة عمل في العراق لتعزيز الوعي الرقمي والثقافة
...
-
تونس: أيام قرطاج المسرحية تفتتح دورتها الـ25 تحت شعار -المسر
...
-
سوريا.. رحيل المطرب عصمت رشيد عن عمر ناهز 76 عاما
-
-المتبقي- من أهم وأبرز الأفلام السينمائية التي تناولت القضية
...
-
أموريم -الشاعر- وقدرته على التواصل مع لاعبي مانشستر يونايتد
...
-
الكتب عنوان معركة جديدة بين شركات الذكاء الاصطناعي والناشرين
...
المزيد.....
-
التجريب والتأسيس في مسرح السيد حافظ
/ عبد الكريم برشيد
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
-
التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا
...
/ نواف يونس وآخرون
-
دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و
...
/ نادية سعدوني
-
المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين
/ د. راندا حلمى السعيد
-
سراب مختلف ألوانه
/ خالد علي سليفاني
-
جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد
...
/ أمال قندوز - فاطنة بوكركب
-
السيد حافظ أيقونة دراما الطفل
/ د. أحمد محمود أحمد سعيد
-
اللغة الشعرية فى مسرح الطفل عند السيد حافظ
/ صبرينة نصري نجود نصري
المزيد.....
|