|
شرح كتاب فريدريك نيتشه [هكذا تكلّم زرادشت]18 عَن شجرة الجبل
إبراهيم جركس
الحوار المتمدن-العدد: 6703 - 2020 / 10 / 14 - 14:06
المحور:
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
شرح كتاب فريدريك نيتشه [هكذا تكلّم زرادشت]18 عَن شجرة الجبل هذا القسم مرتبط ارتباطاً وثيقاً بالقسم السادس ويضمّ بعض الإشارات إلى الديباجة، ولاسيما البهلواني فوق الحبل المشدود. الشاب مثالٌ آخر على الإنسان الذي يُسحَقُ تحت وطء إدراكه أنّه مستعدٌ "لتجاوز ذاته" من دون أن يجد في داخله الوسائل التي تساعده لتحقيق ذلك. إذ يتشارك هذا الشاب مع المجرم الشاحب الصراع الداخلي بين الرغبة في النمو والتغلّب على ذاته وتجاوزها من حهة، والاحتقار المُنكِر للحياة من جهةٍ أخرى، ممّا يؤدّي بكليهما إلى مأزق "عُصابي". لكن هناك فرق بينهما في الحقيقة. فالمجرم الشاحب قضية خاسرة، لا أمَلَ يُرجى منه، كومة من الأمراض والأسقام، ورغبات في الثأر والانتقام. لكنّ حالة الشاب ليس ميئوساً منها تماماً. إذ أنّه يمتلك وعياً معيّناً لصراعه الداخلي، أو بالأحرى سيساعده زرادشت على فهمه. زرادشت هو مُعالجه النفساني. لهذا يقترب منه زرادشت إذ من المفيد إرشاد الشاب ومساعدته. في موضعٍ لاحقٍ في نفس القسم، يكرّمه زرادشت (ويمازحه) حتى أنّه يمشي معه (ويا لَهُ من شَرَفٌ عظيم وكبير، إذ نلاحظ لاحقاً كيف أنّ زرادشت سيتخلّى عن تلاميذه ويتركهم ويمضي بعيداً عنهم). هنا، ولأوّل مرة حتى الآن، نلاحظ وجود علاقة أو تواصل حقيقي وفعلي بين زرادشت وإنسان آخر/تلميذ، والذي قد يعزّز مسألة حياة الإنسان ونموّه. وعلى الرغم من أنّ الاستعارة للمَثَل مُستَعارة مرّةً أخرى من عالم الطبيعة السويسرية، إلا أنّه من حيث الجودة والنغمة، ذو طابع صيني. إنّه يعيد إلى الأذهان تجربة بريخت التعليمية للمسرح الملحمي بعنصره الأساسي المتمثّل في جعله "يبدو غريباً" كوسيلة لمزيد من الفهم، كما جرى على سبيل المثال في مسرحية "دائرة الطباشير القوقازية" أو "مسرحيات تعليمية Lehrstücke". يقارن زرادشت بين وضع الشاب وحالة الشجرة المنعزلة على سفح جبل مرتفع يطلّ على وادٍ. وهذه هي المستويات الثلاثة للمقارنة بين الشجرة والإنسان على مستوى الأمثولة: أولاً، كلاهما "مَحنِيٌّ ومُعَذَّب" بواسطة قوى طبيعية خارجة عن إرادتيهما، وكلٌ منهما يتفاعل مع ذلك بالرغبة في أن يصبح أطول وأقوى. تسعى إرادة القوّة في الحياة إلى تغيير موضوعها من أجل زيادة شعورها بالقوة: ولايمكنها ذلك إلا إذا واجهت مقاومة أو معارضة شديدة، وبالتالي، خطراً داهماً. كثيراً ما ترد على لسان زرادشت عبارة "أفضل عدوَ" (حتى أنّ صورة الشجرة وردت في القسم التاسع عشر من كتاب العلم المرح). ثانياً، يكون الإنسان مثل الشجرة عندما يريد تحقيق مستويات أعلى وأرقى من الإنجاز: كالشجرة التي تزداد طولاً، فهو يحتاج إلى ضرب جذوره اعمق في الظلام، وبالتالي "في الشر". الأمر الذي يحمل مَعنَيين اثنين: يعني أنّ الروح الحُرّة ستتعرّض للتهديد من الداخل من خلال أنواع جديدة من الإغراءات أو الرذائل (كالاحتقار، أو الحسد)، كما أنّه يعني أيضاً أنّ تقدّم الحياة يجب أن ينبع بالضرورة على حساب تلك القيم التي تحملها أشكال الحياة الأخرى، وبالتالي يتمّ تهديدها من الخارج من قبل أولئك الذين يطلقون على أنفسهم لقب "صالحين". ثالثاً، تريد الشجرة والإنسان أن يزدادا طولاً بحيث يرتفعان ويرتقيا فوق كل ما يحيط بهما وهما "ينتظران أوّل صاعقة". كما أنّ العُزلَةَ هي أحد الشروط الرئيسية لتجاوز الذات والتغلّب عليها. ومن خلال هذه الصور المجازية، ندخل مجال الأساطير، وفي الوقت نفسه مجال العلوم الحديثة، أي ظواهر الغلاف الجوي الكهربائية. الصاعقة كظاهرة طبيعية مُدهشة (رائعة/استثنائية) وكمجاز للحيوية العفوية الذاتية، إذ يُعَدّ البرق أو الصاعقة أحد الاستعارات المفضّلة للأدب الرومانسي، وبشكل خاص الـأدب القوطي. كقصّة الدكتور فرانكنشتاين وهايبيريون. يجب أن ينهار نمط الحياة القديم من أجل عملية التحوّل. وتشير القصة الرمزية إلى لحظة متقدّمة في التأليه الديونيزي للطبيعة حيث يتّحد العالم مع نفسه ف وحدة دائمة لا تَنفَصم، ثم ستظهر أشكال جديدة. لكنّ الشاب منزعجٌ جداً من رؤية المعنى الإيجاب المُبهِج في صورة زرادشت: لايمكنه إلا التفكير في حسده لكل ما ينمو، ويتصوّر تدميره وهلاكه. إنّه ينهار ويبكي. وعلة زرادشت أن يأخذه بعيداً لتهدئته. لذلك، وبطريقةٍ ما، نجد أنّ تعاليم زرادشت هنا عن طريق الأمثال قد فشلت فشلاً ذريعاً ولم تؤتِ بنتيجة: الشاب يواصل إساءة فهم وتفسير معنى المَثَل. وينبغي مقارنة ذلك بسؤال القراءة والكتابة في القسم السابق. يقوم زرادشت هنا بما زعم أنّه لن يفعله أو يُقدِمَ عليه في القسم السابق: لقد جَرّد حديثه من الكثير من دعائمه المجازية والاستعارية، والأمثال الماثورة، و"الجلجة" الشعرية. فالشاب لايزال "سجيناً في نظره... سجين يهفو بخياله إلى الحرية"، لايزال يتعيّن عليه تطهير نفسه من أجل النضال الحُرّ. ويناشد زرادشت الشاب، باسم محبّته وأمله، ألا يتخلّى عن أمله وحبّه. ينتهي الخطاب بتقديم زرادشت لمفهوم الرجل "النبيل" مقابل الرجل "الصالح" حكيم الأخلاق والقضاة "الصالحون". إنّهم يجترّون "القديم" وبيذلون جهدهم أن يظلّ ذلك القديم مُصاناً، في حين أنّ الرجل "النبيل" ((يريد شيئاً جديداً أو يُبدع فضيلة جديدة)). لذلك فإنّ الرجل النبيل هو رجل ثوري، لكن حتّى النبيل لايستطيع أن يكتفي بما حقّقه من أمجاد، ويغتَرُّ بعدها على كل الآمال السامية، التي يطمح إليها من أجل التفوّق على الإنسانية وبلوغ مرحلة الإنسان الأعلى. قد يغترّ ويحيد عن طريق النمو بالمشاعر السلبية، ويعيد تعريف روحه النبيلة وفضيلته على أنّها مجرّد نزوة. يؤكّد الأستاذ علي مصباح تفسيره لمفهوم النبالة في هامش تعليقه على عبارة نيتشه إذ يقول: ((النبالة هنا ليست بمعنى اللقب الاجتماعي الأرستقراطي، أي نبالة مرتبة اجتماعية "أو نَبالة دَم موروثة"، بل هي تلك "النبالة الجديدة" التي تتحدّد بالأخلاقيات الجديدة التي يضعها نيتشه)) [صـ92] رأى زرادشت أنّ الشاب يستحقّ أن يخاطَبَ بهذه الطريقة. ولايزال هناك أمل في علاجه وتقويمه _وإلا فإنّ زرادشت سيكون مذنباً بارتكاب جريمك شَفَقَة أخرى (الجريمة الأولى هي حمله لجثّة البهلواني ومحاولة دفنه). يجب ألا تفوتنا هذه اللحظات التي يسخر فيها نيتشه من نبيّه والناطق بلسانه، ولاينبغي أن تفوتنا حقيقة أنّ هذا التهكّم الذاتي ما هو إلا جزء من الاستراتيجية التربوية لنيتشه/زرادشت. إبراهيم قيس جركس 2020
#إبراهيم_جركس (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
شرح كتاب فريدريك نيتشه [هكذا تكلّم زرادشت]17 عَن القراءة وال
...
-
شرح كتاب -ماوراء الخير والشر-: (9)
-
دليل نيتشه لتجاوز وجودك والتغلّب عليه
-
الآخرة: غير قابل للوصف ديفيد إيغلمان (ترجمة إبراهيم قيس جركس
...
-
-غريب- كامو: اللامبالاة تجاه العالم
-
سيزيف: أسطورتنا الحية إلى الأبد
-
شرح كتاب فريدريك نيتشه [هكذا تكلّم زرادشت]16 عَن المجرم الشا
...
-
شرح كتاب فريدريك نيتشه [هكذا تكلّم زرادشت]15 ((عن صبوات الأف
...
-
شرح كتاب فريدريك نيتشه [هكذا تكلّم زرادشت]14 ((عن المُستَهين
...
-
شرح كتاب فريدريك نيتشه [هكذا تكلّم زرادشت]13 ((دُعاة الماورا
...
-
شرح كتاب فريدريك نيتشه [هكذا تكلّم زرادشت]12 عن منابر الفضيل
...
-
شرح كتاب فريدريك نيتشه [هكذا تكلّم زرادشت]11 خُطَب زرادشت: ع
...
-
الآخرة: المرتدون
-
شرح كتاب فريدريك نيتشه [هكذا تكلّم زرادشت]10
-
شرح كتاب فريدريك نيتشه [هكذا تكلّم زرادشت]9
-
شرح كتاب فريدريك نيتشه [هكذا تكلّم زرادشت]8
-
شرح كتاب فريدريك نيتشه [هكذا تكلّم زرادشت]6و7
-
شرح كتاب فريدريك نيتشه [هكذا تكلّم زرادشت]5
-
شرح كتاب فريدريك نيتشه [هكذا تكلّم زرادشت]4
-
شرح كتاب فريدريك نيتشه [هكذا تكلّم زرادشت]3
المزيد.....
-
مسؤول مصري لـCNN: وفد حماس بالقاهرة الأسبوع المقبل لبحث المر
...
-
العراق.. تراجع عن مطلب خروج الأمريكيين
-
ضربة جديدة لحكومة ميلوني: إعادة 43 مهاجرا من ألبانيا إلى إيط
...
-
متظاهرون يتصدون لمحاولة طرد أحد المستأجرين من حيّ تاريخي في
...
-
51 مليون يورو .. بيع سيارة مرسيدس للسباقات تعود إلى الخمسينا
...
-
رئيس جمهورية بريدنيستروفيه: احتياطيات الفحم لتوليد الكهرباء
...
-
لافتات في غزة دعما لموقف السيسي ورفضا للتهجير على أنقاض الحر
...
-
الخارجية الروسية تؤكد أهمية عرض الممارسات الدموية للقوات الأ
...
-
-أمريكيون موتى-.. خبير يذكر ماسك بـ-الأهوال- التي رأتها القو
...
-
أسير محرر يعود إلى غزة ليكتشف مصرع زوجته وطفلته خلال الحرب (
...
المزيد.....
-
حوار مع صديقي الشات (ج ب ت)
/ أحمد التاوتي
-
قتل الأب عند دوستويفسكي
/ محمود الصباغ
-
العلاقة التاريخية والمفاهيمية لترابط وتعاضد عالم الفيزياء وا
...
/ محمد احمد الغريب عبدربه
-
تداولية المسؤولية الأخلاقية
/ زهير الخويلدي
-
كتاب رينيه ديكارت، خطاب حول المنهج
/ زهير الخويلدي
-
معالجة القضايا الاجتماعية بواسطة المقاربات العلمية
/ زهير الخويلدي
-
الثقافة تحجب المعنى أومعضلة الترجمة في البلاد العربية الإسلا
...
/ قاسم المحبشي
-
الفلسفة القديمة وفلسفة العصور الوسطى ( الاقطاعية )والفلسفة ا
...
/ غازي الصوراني
-
حقوق الإنسان من سقراط إلى ماركس
/ محمد الهلالي
-
حقوق الإنسان من منظور نقدي
/ محمد الهلالي وخديجة رياضي
المزيد.....
|