بشير الوندي
الحوار المتمدن-العدد: 6698 - 2020 / 10 / 9 - 17:07
المحور:
الارهاب, الحرب والسلام
مدخل
-----------
في كل بلدان العالم , تحتاج الاجهزة الاستخبارية الى مواطنين من ابناء البلد المستهدف , ولايقتصر الامر في حاجتها لهم الى التجسس على بلدانهم او القيام بعمليات امنية او ميدانية , فهي تحتاج ان تستغل في البعض منهم صفات يصعب على ضباطها ان يكتسبونها بسهولة , وتلك الصفات تتمثل باللغة واللهجة والمعرفة بالطرقات والخبرة الجغرافية والمعرفة بالعادات والتقاليد , وهؤلاء هم الأدِلّاء الذين لاتغني عنهم افضل المعدات الفنية التكنلوجية لأنهم ابناء الارض المستهدفة , واهل مكة ادرى بشعابها.
--------------------
اهمية الأدِلّاء
--------------------
رغم تطور اجهزة الإستطلاع والدلالة والإهتداء , لكن تبقى الحاجة لإبن البيئة والمنطقه دوماً في بلد العدو , ولابد من وجود أدِلّاء محليين في اي عمل امني او عسكري او استخباري , فالتكنلوجيا لوحدها لا تكفي كدليل للاجنبي والغريب , رغم انها ساهمت كثيراً في تطور اساليب التجسس والاستخبار , فإستخبارات الميدان تبقى منوطة بعنصر الدلالة , وفي الجيوش والجهد الاستخباري وعصابات المافيا والمهربين وتجار المخدرات وتجارة الممنوعات والتنظيمات الارهابية , كلها تحتاج الى الأدِلّاء , فحتى الجيوش المتقدمة تكنلوجياً لاتستغني عن الأدِلّاء , فالبيئة الاجنبية تبقى عصيّة على الفهم او التعامل معها من دون مساعدة العنصر البشري , فالتكنلوجيا تعطيك صورا واحداثيات وخرائط , لكن الحاجة للانسان تبقى مطلوبة دوماً خاصة في مناطق الوصل الجغرافي بالنسبة للعمل المسلح , فمعرفة البيئة حالة خاصة بأهلها فقط , ومن الصعب التأقلم معها من دون مساعدة إبن المنطقة .
ان استخبارات الميدان تستعين كثيرا بالأدِلّاء , والدليل الذي يسمى في العامية (بالمعبرجي) , اي من يستطيع ان يسهل عملية عبورك من الحدود , وحتى في عمليات الانزال والمظليين خلف خطوط العدو , لابد من وجود من ينتظرهم كدليل او متعاون محلي , فالحوار مع اجهزة الامن , والتملص من اجوبة السيطرات العسكرية المعادية , وكيفية التخفي , والزي المحلي , والعادات والتقاليد , ومهارات العيش , واسلوب التعامل , والدلالة في الطرق الوعرة والنيسمية والفرعية , والتخلص من السيطرات , والالتفاف من حواجز الامن , فالدليل بيته آمن لأنه معك , وهو إبن منطقة , ويعرف التهديدات , وبدونه قد يودي الطريق الى كمين لنقاط عسكرية معادية , ولا يمكن عبور اية قوة سراً من منطقة حدودية بدون تعاون ابن المنطقة .كلها قضايا لا تأتي بالتكنلوجيا بل بالخبرة العملية .
ان اي عدو يكون اعمى اذ لم يتعاون معه ابن البلد المستهدف , واحياناً تحبط عملية بالكامل بسبب مقتل الدليل اوعدم حضوره او امتناعه او انشغاله او مرضه , وغالباً ما يكون تجنيد الأدِلّاء عائلياً من الاب الى الابن وهكذا تحتفظ الاستخبارات بعلاقة طويلة معهم ضمن المناطق التي تحتاجها , ويحدثنا احد معارضي صدام قائلاً " كنا اذا مرض الدليل توقف عملنا , وكان احدهم نطلق عليه اسم البدوي يأخذنا من نقطة الحدود الى ضفاف دجلة , ويعبر بنا وادٍ اسمه "وادي جلات" , ولا يمر بأية نقطة جيش ولا حرس الحدود على الاطلاق رغم اننا كنا بقافلة من اربعة او خمسة سيارات , لأنّه يعرف الطريق تماماً , وحين توفي في حادث عملنا المستحيل لإنقاذه , وتسبب موته ارباكاً لعملنا ضمن تلك المنطقة " .
من هنا كانت من توصيات سان تزو في كتابه الاستراتيجي " فن الحرب " حول الأدِلّاء المحليين كأقدم وثيقة تتحدث عن عمل الدلالة يقول ان هنالك خبرة محلية لا يمكن القيام بها من غير المحليين , فهو قد لا يجيد القراءة لكنه افضل من ضابط استخبارات غريب عن المنطقة , واذا ارادت اية حكومة القضاء او السيطرة على التهريب والعبور لابد لها من تجنيد هؤلاء كأدِلّاء أولاً او القضاء عليهم , لذا يكون هناك قسم خاص في اجهزة الاستخبارات العسكرية واستخبارات الحدود للتواصل مع الأدِلّاء والمتعاونين .
--------------------
الدليل والبيئة
--------------------
ان اي دليل هو ابن بيئته ويفهم خباياها بشكل لايستطيع ابرز رجل استخبارات ان يدانيه في خبرته , فمثلا في الهور العراقي , وبرغم اية تدريبات قد تخوضها اية قوة , فإنّها لاتستطيع ان تستغني عن ابن الهور لتحقيق غايتها , ابن الهور يجيد السباحة واستخدام القارب بشكل بارع .
ففي الغروب ومع بداية المد , تتحرك قطع من الجزر الصغيرة التي تسمى محلياً ( تهله ) والتهله :عبارة عن قصب وبردي مرتفع جداً مرتبط بجزرات صغيرة من الطين المنقطع عن القاع بمساحات من مترين مربعين ويصل الى عشرة امتار مربعة , وتتحرك غروباً مع المد وتغلق الممرات المائية ويستحيل ان تعرفها من دون دليل محلي بما لاتنفع معه الخرائط والتقنيات .
وعندما تقوم باستخدام المجذاف فإنك لاتستطيع الا ان تصدر صوتاً يسمعه عدوك , اما الدليل فيجذف بصمت غريب , ومهما كانت سرعة المشحوف او البلم فانه يوقفه ببراعة وكأنه يضغط على فرامل بشكل يصعب تقليده , والاغرب من ذلك انه يعرف اين تكون الحشرات المزعجة كالبق بشكل كثيف , بل انه يشوي السمك فوق الماء , اي انه يشعل النار فوق الماء!!! , وحين يتهادى بالمشحوف عند المنعطفات يعرف ان المكان آمن فيجتازها مرتاحاً , وفي منعطفات اخرى يأخذ حذره , وحين تسأله لماذا , يقول لك انه ينظر الى الطيور , فإن كانت واقفة فوق القصب فإن المنعطف آمن وبغير ذلك فانه يتخوف ويحتاط.
اما في التخفي , فهو يجيد التخفي من الدوريات و الطائرات بشكل سريع داخل القصب والبردي , ويستطيع الاختفاء في لحظات , وحين يبيت في مكان في الهور مع القوة التي يعمل معها كدليل , فإنه ينهض صباحاً ويذهب في جولة بين القصب ثم يأتي ليقول للقوة أن زورقاً للعدو قد مر من الممر الفلاني في الليل , ويصفه سواء كان بمحرك , او زورق بمجداف بمجرد ان ينظر للقصب بتفحص بطريقة فنية تبدو معقدة للانسان العادي , وفي معظم الاحيان تكون معلماته دقيقة , وحين تسأله كيف عرفت ذلك يشرح الامر بكل بساطة !!!!, فخلاصة الامر انه يقطع في المساء نماذج من القصب في الممرات التي يحتاج لمراقبتها بحيث يبقفيها على ارتفاعات مختلفة تتراوح من 20 الى 50 سم ,( اعلى من منسوب المياة اثناء المد ) وفي الصباح يذهب الى القصب المقطوع وينظر في تجاويفه , فإن وجد ان القصب الذي بإرتفاع 50 سم قد امتلأت تجاويفه , فهذا يعني ان الزورق الذي مر كان زورق بمحرك باعتبار ان الامواج التي يخلفها عالية تغمر فتحات القصب العالية , وان كانت القصبات التي بارتفاع 20 سم هي فقط التي امتلئت تجاويفها فهذا يعني ان الموج كان خفيفاً واطئاً مما يخلفه زورق بمجداف!!!! , وهذه كلها من الامور التي لاتنفع معها الخرائط وانما بخبرة ابن البيئة.
وكذا الامر في الصحراء , فإبن الصحراء يعرف اين الماء ويعرف الاماكن التي تصلها الدوريات والمنطقة الموالية للحكومة والمنطقة التي لا تواليها , ويعرف ايضا اقرب الطرق واين تكون المنطقة آمنة واخطار المنطقة من قطاع طرق او مهربين , كما يعرف جيداً ترويض الحيوانات وملابس اهل المنطقة ومن اين تشتري ما تحتاج اليه والنقاط الدالة والمثابات الآمنة ويستعين بأهله واصدقاءه , واذا احتجت الى طبيب يعرف اين يجده ويخفي لك سلاحك ويعرف اقصر الطرق ومن اين يمكنك المسير واين يجب ان تتوقف .
وذات الامر مع ابن الجبل فهو يعرف الوديان والمرتفعات والطرق النيسمية والقرى الآمنة والقرى غير الآمنة ومصادر المياه وكيف يمكن الحصول على غذاء واين تتخفى وافضل الطرق وافضل المنعطفات في الجبال ودوريات الحكومة وحرس الحدود وحتى يعرف حقول الألغام القديمة والجديدة والطرق المقطوعة والمغارات, ومن هنا لا يمكن اجتياز هذه البيئات المختلفة من دون ادلّاء ؟!!!.
------------------------------
التهريب مهمتهم الابرز
------------------------------
ان الأدِلّاء بمثابة مثابات دائمة في ارض الهدف في الحرب والسلم , ونقطة آمنة عند الحاجة لتهريب شخص او نقل شيء او ارسال امور سرية او اموال او ادخال جاسوس او ايصال مصدر سري للتدريب او اللقاء او عبور الحدود او الاخلاء وتهريبه اذا تم كشفه , وفي التسعينات كانت تجارة التهريب على اشدها بين المناطق التي يسيطر عليها الجيش العراقي وحدود منطقة كردستان بما فيها تهريب البشر , فيأتون بك الى قرية تبقى بها حتى المساء ثم تركب (بغل) وينطلق بك الدليل من خلال الوديان ليوصلك الى مرادك وبأعداد كبيرة تصل فيها المجموعة الى عشرون شخصاً.
ويتم العبور من الحدود بكل الوسائل من المشي على الاقدام الى الخيل والبغال والعجلات والدراجات النارية الى الزوارق والمشحوف والمظلات والانفاق او الغوص , وفي كل الحالات لا يمكن القيام بالتسلل بدون دليل او التقدم في معركة او تمشيط منطقة او تفتيش امني او عبور حدود , ومن هنا جاءت تسميتهم عسكرياً بالأدِلّاء او موجدي الطريق , امّا أمنياً فيسمونهم بالثقاة , واستخبارياً بالمتعاونين او الثقاة او الأدلّاء .
ان عنصر الدلالة يكون من ابناء المنطقة دوماً , خاصة في المناطق النائية والحدودية ورعاة الاغنام ومناطق الأهوار والجبال والمناطق الوعرة والغابات والصحاري , وفي الغالب , فإن الأدِلّاء من اهل الضواحي والحدود , من فئة قليلي التعليم , ويعتمدون على خبراتهم المناطقية , اما الأدلاء من اهالي المدن فهم من المتعلمين واصحاب الشهادات , كما يتلقى أدِلّاء المدن تدريبات اكثر وتعليمات اوسع للمحافظة على امنهم , اما أدِلّاء الحدود فهم اقل تدريباً.
----------------------------
الاستخبارات والأدِلّاء
----------------------------
ان جهاز الاستخبارات الناجح هو جهاز تتمثل اذرعه بابناء البلد الهدف , من أدِلّاء ومصادر ومتعاونين وعملاء مزدوجين ومتآمرين وغيرهم , ولا تنقطع الاستخبارات عن الأدِلّاء في الحدود والمتعاونين داخل بلد الجار والبلد الهدف وبلد العدو , فهي تصلهم وتدفع لهم وتغاضى عنهم وتؤمن لهم اعمال تهريب وتجارة حدودية لدعمهم , انظر (مبحث الارتباط السري78, ومبحث 130 الاستخبارات وحرس الحدود) , فمن اهم واجبات استخبارات الحدود هي ادامة العلاقة مع الأدِلّاء والمتعاونين في الجانب الاخر من الحدود , وقد ذكرنا في (مبحث 53 المحطات الاستخبارية) ان الوصف الوظيفي يختلف لكل محطة استخبارية عن الاخرى , فالحاجة تفرض الوصف الصحيح للمحطة , ومنها محطة او مقر للأدِلّاء للنفاذ عبر الحدود.
وتستخدم الاستخبارات احيانا للنفاذ عبر الحدود ضابط من اهل المنطقة سواء كان ضابط جيش او شرطة او استخبارات , فتستعين بخدماته عند الحاجة لوجود اقاربه في الجانب الآخر من الحدود , وهذا يحدث في اية نقطة حدودية بالعالم حيث تكون هنالك قربة وعلاقات وروابط دم في جانبي الحدود.
وفي أثناء الحروب الطويلة تذهب الجيوش لانشاء مليشيات من اهل المنطقة ليكون تشكيلاً عسكرياً يقوم بأعمال التجسس وجمع المعلومات والدلالة والاستطلاع العميق والترجمة والتنصت على الاتصالات (اذا كان الجيش لا يتقن لغه الدولة الاخرى المتحارب معها) بالاضافة الى عمليات لوجستية مختلفة , فمادام هنالك حروب فهناك اشخاص متعاونون .
لقد اعتمد الجيش الامريكي في العراق وافغانستان وفي كل مكان كثيراً على المتعاون المحلي حتى قبل ان يشرع بإحتلال العراق , حيث قام باستخدام الكثير من العراقيين من سكان امريكا , وتعاقد معهم في جميع المجالات, فحتى ابو بكر البغدادي في آخر ايامه كان يستعين براعاة أغنام من أهل المنطقة , وعندما كان الامريكان في العراق دوما يرافقهم شخص عراقي عند تجوالهم ودورياتهم وواجباتهم و حركتهم في بغداد وباقي المدن , وحتى عند المداهمات , كان يرافقهم شخص عراقي ملثم وهو ابن المنطقة .
وعندما حارب الجيش العراقي ضد اكراد كردستان وداخل البلد الواحد اضطر لتشكيل مليشيا منهم , كما ان الجيش الامريكي اعتمد على الصحوات من ابناء المنطقة , وحتى في حرب ايران اعتمد الجيش العراقي على بعض العرب الاهوازيين والكرد المعارضين لإيران ومنظمة خلق , والآن , فإنَّ الاجتياح التركي في شمال العراق لا يتم بدون أدِلّاء ومتعاونين محليين , وهو امر مؤكد بدون مواربة فأهل مكة أدرى بشعابها .
كما ان الدواعش الاجانب لايمكن ان يصلوا الى العراق بدون دلالة وعبور الحدود , مع الزام وجود وصل جغرافي كان في ايام القاعدة من سوريا , وفي ايام داعش من تركيا , فكل ارهابي (سعودي , فلسطيني , تونسي , مصري , اردني , اجنبي ) دخل العراق كان له دليل عراقي ومستقبل عراقي , فالزرقاوي مثلاً كان يتحرك مع عراقي , كما ان كل ارهابي دخل سوريا كان دليله سوري , وكل ارهابي دخل ليبيا كان دليله ليبي وهكذا .
------------
خلاصة
------------
في التراث الشعبي الكردي هنالك مثل بليغ مفاده : قالت الشجرة للفأس : لولم يكن مقبضك مني لما استطعت قطعي , ان الدليل المتعاون مع استخبارات العدو او مع التنظيم الارهابي او عصابات المخدرات يقوم بمهمة خطيرة لانه هو الذي يسهل عمل كل هؤلاء ويمكنهم من ضرب الامن و الاستقرار والاقتصاد , وبدونه تصاب تلك التشكيلات بالشلل وتتعرقل اعمالها ومخططاتها , من هنا تسعى الاستخبارات الوطنية في البلدان الى استمالة هؤلاء ليكونوا عيناً على اعدائها وتحيدهم , وفي بعض الاحيان تجعلهم عملاء مزدوجون ليزودوها بمن يهربونهم , وفي آخر الدواء الكي تعتقلهم وتجرمهم حين يصبحون جسوراً لتحطيم الامن والاقتصاد , والله الموفق.
#بشير_الوندي (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟