نبيل ياسين
الحوار المتمدن-العدد: 1604 - 2006 / 7 / 7 - 11:13
المحور:
الادب والفن
اوجاع الوردة
سيرة قصيدة .. سيرة رأي
الفصل الثاني
اين تضع رؤياك؟
في بداية الستينات بدأ عالمي يأخذ مجرى سيبدو انه يتضح رويدا رويدا . ميزته الشمس ,التي كانت تميز سماوات اكثر ايام الشتاء الصافية التي تلوح الغيوم البيضاء المتفرقة فيها, وكأنها لعبة سماوية للبحث عن اشكال بشر وحيوانات في تشكيلاتها السوريالية . غالبا ماكانت الغيوم البيضاء القطنية تبدو وكأنها قطيع شياه يرعى الزرقة التي تلف الكون .، ثم يتنقل ويمضي قبيل المساء . والحقول التي تحد الحي الكبير من شرقه وجنوبه كانت تبدو على امتداد النظر خضراء من نبات البرسيم ، تزينها اشجار متوحدة تبدو مثل قطع متبقية من اشباح الليل ، ونباتات عباد الشمس المتهدلة زهورها وكأنها تغفو بذلك الدفء الذي تشيعه شمس ساطعة:
نمضي عبر الاوقات
ممتلئين وداعة اطفال ٍ، ذكرى عشاق
ممتلئين روائح ازهار بريه
ممتلئين منادمة الاصباح
مااكثر روحي سعة ً
وانا امضي عبر طريق ٍ ريفي
تملؤني رائحة القداح ، عذوبة ماء الترعة
وجوه نساءٍ ريفيات
سقسقة عصافير ٍبين الاشجار
صفارة قاطرة ٍ تبتعد
عمود دخان ٍ في افق ٍ ازرق
رائحة الارض وراء الامطار
آه ٍ ما اقصر ذاك الوقت
يمضي قُدُما .. ويضيع المشهد في الذكرى
(مشهد للذكرى 1975 )
لم يكن ذلك الوقت سوى وقت السعادة بالاحلام .الاحلام التي تزينها الحقائق المرئية المتمثلة في الطبيعة البسيطة والفاتنة حولي ، والرابط الخفي المحسوس الرفيع بيني وبين سحر روحاني , يتجسد غالبا في شعور صاعد من فرح يوسّع القلب البيولوجي حقيقة, حتى لتبدو تلك اللحظات وكأنها ستتأبد في جسد مرئي مدرك ، سأحسه في كل ذرة من جسد المرأة . كانت سنوات تكوين الشعور كمادة حية . لكن ضربات المطارق الحديدية سرعان ماتنهال عليها . لقد امتلأ الشارع بصراخات وهتافات متضادة ، وارتفعت سكاكين وعصي وسمعنا اطلاق عيارات نارية . لقد فتحت المدينة بربرية الصراع الايديولوجي ، وانتقل الغرب والشرق معا الى شوارع العراق في تلك السنوات العصيبة ليصفيا حسابات الحرب الباردة فيها . وانهمك القوميون والشيوعيون والبعثيون في عزيمة عمياء . وبدل ان نسمع ايقاعات احلامنا ,اندفعنا, حتى نحن الذين نمر على جسر صبانا, في هتافات بدت وكأنها صناجات حرب على وطن مكسر مثل رغيف خبز, او صحن يحمل كل فريق قطعة منه وينادي به . وبدل ان نعبر جسر صبانا عبرنا جسر الجمهورية وجسر الاحرار وجسر الشهداء في تظاهرات تعلو فيها الحناجر المبحوحة على العيون والاحلام والعقل . والطيور التي كنا نسمعها تشدو في وداعة السحر العاطفي صارت تتربص بالآخر مثل علامة مسجلة للانتقام ، تطلق لاتعبيرا عن الحب والسلام وانما اصبحت التعبير عن الانتقام والاستفزاز والتحريض ، حتى تمرضت وماتت كل حمامات العراق ، تلك التي اطلقها انصار السلام ، وتلك التي صوب اليها اعداء السلام بنادقهم . وبعد تلك الفاجعة الطويلة وصلنا الى شباط الذي اطلق رصاصة الرحمة على جسد منهوك القوى ، نازف الدم من جراح وطعنات حاشدة ، ولم يكن هذا الجسد سوى العراق الذي ظل يئن تحت وقع احذية العسكريين والايديولوجيين الطامحين الى عرش من الجماجم والدماء . ومنذ ذلك التاريخ حتى اليوم نعيش سنوات تشييع ودفن بلد لم يمت بعد . والذين طعنوه من جنبيه معا يسيرون معنا في موكب التشييع هذا حاملين الشموع والمباخر ومرتلين المراثي الصاخبة.
صورة شباط اختصرت في ذاكرتي في مشهد رافديني قديم تكرر في صبيحة ذلك اليوم . ففي الشارع العام للمدينة ، في العاشرة صباحا من يوم الجمعة تجسد المشهد الرافديني امامي : مئات النسوة الملفعات بالسواد، سواد العباءة ، يركضن مذعورات بينما الريح تنفخ عباءاتهن وهن عائدات من السوق الكبير صائحات : قتلوا الزعيم.
مدن اريدو والوركاء واور واوروك ونفّر.هكذا كانت حينما يأتي الغزاة . اليوم لم يعد يتكرر سوى المشهد الرافديني نفسه ، سوى الفاجعة التي ظلت هائمة في بلاد الرافدين قرونا طويلة لاتجد من تتجسد فيه حتى جاء الحسين اليها . وما ان سقط على الارض مضرجا بالدم والتراب وحيدا, ناظرا الى ماء الفرات يجري كبطون الحيات, حتى خرجت ندابات سومر ونوّاحات بابل, وحتى قام مرة اخرى شارع الموكب وناحت عشتار وتكرر مصرع تموز في كل عاشوراء.
وتجسدت الفاجعة في الحلاج فوضعت البلاد شموعها على كرب النخيل في ليالي الولادة العشتارية ، وطوفته في مياه نهر دجلة ليجمع رماد جثة الحلاج من جديد.
ليست الرغبة في الحزن هي مفتاح شخصيتنا نحن العراقيين ، ولا الرغبة في العنف. اننا نكرر طقوسنا وميثولوجيتنا لسبب وحيد : لقد كنا عرضة للتهديد بالغزو والابادة منذ فجر التاريخ. وخلقنا طقوسنا الحامية من آلهة وشهداء وكهان روحيين واناشيد وصناجات وطبول ودفوف وثيران مجنحة وعربات آشورية ومكتبات ورقم طينية وتعاويذ وسحر بابلي وملاحم شعرية وزقورات عالية. وهذه هي التي اعطتنا شحنة التحدي والقوة ، فارتبطت الاسطورة بالواقع وخلقنا لاعدائنا العالم السفلي الملئ بالافاعي والشياطين والرجال - العقارب. ووضعنا على بوابة ذلك العالم حارسته ارشكيجال وحراسها السبعة وضفادعها البشرية . ولكي نحافظ على هويتنا الوجودية كنا ننتمي الى الماضي بعد كل غزو ودخول كل فاتح.
لقد كانت الشهادة, وماتزال ,هي علامتنا على الانسان ودلالتنا على الحقيقة. والبلاد التي رويت ارضها من التضحيات توحدت بهذه العلامة وبهذه الدلالة. ولا اتصور ان كسر مثل هذه العلامة ومثل هذه الدلالة سيتحقق لكسر وحدة البلاد, لاننا سنكون حينئذ قد كسرنا كل ذلك التاريخ الذي لايظهر في المرآة, بقدر مايظهر على وجه الارض.
هذه الرؤية تقودنا. قادت براءة طفولتنا وعبث صبانا وريعان شبابنا وتغضنات كهولتنا . وهذه البلاد التي كتبت هي على الآلهة ان تقبل بمصير تفرضه على البلاد نفسها, ستخيف غزاتها دائما بقدرتها على تقبل المصير والفاجعة . ولايعرف احد ما اذا كان هذا من سوء الحظ ام من حسن طالع البلاد . لكننا رأينا كيف اصبح هذا المصير مرات قليلة ضربا من حسن الحظ, ومرات كثيرة قدرا لسوء الطالع . فالكاهن الاعلى وخطبته المقدسة هي التي حددت وستحدد دائما مصير القبول بالفاجعة.
تلك هي بلادي ، وهذا انا ابنها الذي كتب كلماته الشعرية الاولى على ورق كتاب البيولوجيا للدراسة المتوسطة . في ظهيرة ذلك اليوم الدافئ من ايام ربيع عام 1964 . هذه البلاد اعطتني مكوناتها فكان عليّ حتى الآن ان امزج بينها وبين مكوناتي:
ايام ٌ ميتة ٌ
تتفسخ تحت الشمس
جثث الساعات
تملأ ارض الماضي
اشلاءُ نهارات ٍ
تتراكم في المنعطفات
اوصال ليال ٍ
تسقطها الريح
فوق الماضي
( الماضي 1976)
الرؤية التي تتشكل من النظر الى الماضي لابد ان تتشكل من العيش في الحاضر . وربما كان هذا هو الثوب الذي لبسته الحياة التي تجسدت في ذاكرة شعرية . الذاكرة الشعرية التي تخزن لحاضرها ومستقبلها تاريخ الماضي وتضاريسه وبيولوجيا مكوناته وانثربولوجيا الزمن الذي استغرقه . الذاكرة الشعرية التي تعيد توزيع وظائف العلوم فتضفي على الزمن علم الانسان, وعلى المكان علم وظائف الكائن الحي, وعلى المشهد علم معرفة النفس ,وعلى الشعور علم الجغرافيا, وعلى كل هذه الذاكرة علم الروح واساطيرها الطاعنة في السن:
هذه المدنُ
ٍ نهدُ إمرأة
ٌ جرسٌ موجع
ونبيذ ٌ طري
هذه المدنُ:
كالنساء تجافيك
تترك ماضيك ذكرى
على شرفةٍ او حديقة
( خريف موجع .. مدن موجعة 1975)
في وقت مبكر قادتني الحياة الى العمل ، الى صباحات مبكرة وفجر لم يتسن للونه الرمادي ان ينزاح عن سواد الليل الا قليلا . ذلك النعاس الذي يشبه قطع رصاص ثقيلة معلقة بالاهداب مايزال عالقا بعينيّ حتى الآن . كانت بشريتنا بشرية اخرى، بشرية الكدح المبكر والتناسل الملقى على غارب الريح وعلى سماء لاتسجيب للدعاء على الارض، فيبقى مركونا في زاوية من زوايا السماء متراكما مع غيره من الادعية التي شقت سماء فجر التاريخ , وترافقت مع بداية الخلق وعذابات الخليقة. ان تعدد الآلهة كان يتيح لدعاء الانسان ان يتنقل من اله لاخر . وكان التنافس بين الالهة في بلاد الرافدين يلبي بعضا من طلبات البشر. هذه البلاد التي لاتعيش ولاتستقر بدون التعددية تعود باستمرار الى التاريخ ، الى الاسطورة ، الى الماضي لتحتمي بها من التبدد والضياع.
هبطت الى الحياة الشاقة مبكرا . وفي ذاكرة كانها خُرْج صائد اللؤلؤ, كنت املأ هذا الخرج بما نزلت من اجله الى الاعماق . وحينما اصعد الى القصيدة ، يتضح لي ما اذا كان ذلك المحار فارغا او مغلوقا في ضوء قمر ليلة ما على لؤلؤة نادرة . كم كنت اتمنى ان اكون مثل صياد الفراشات ، تجلبه الالوان والانواع النادرة في حقول وغابات وبساتين وكل شئ مرئي امامه. لقد كنت في نهاية رحلة الغوص في الاعماق افتح الاصداف المغلقة على معنى او صورة او ذكرى او بقية من اسطورة تتحلل الى رقم طينية مهشمة ومتناثرة . كنت احاول ان اجمع بين الاسطورة والحياة . ولما لم يكن لي اب روحي ، فقد جعلت دون وعي او قصد من ذلك الاب الذي لايعرف القراءة والكتابة ولايتمتع بادنى سلطة او قوة رمزا لروح تلك البلاد، وهو الذي يبدو بلحيته البيضاء، وخفوت عينيه، ومشيته التي تشبه مشية التاريخ على الطريق بين الناس، وكأنه طالع لتوه من اركيولوجيا البلاد.ومن تلك الام التي لاتعرف القراءة والكتابة ، والتي تتمتع بخيال خصب وذاكرة شاسعة، واحلام ملكة فاتها العرش، كاهنة البلاد التي مزقت قلبي بترديدها الشجي لندب موتاها وهي تعد الخبز في التنور او تعجن في الضحى:
اردللي سبع اولاد منك هدية
واحد يجيب الماي ويقدمه اليه
وواحد يصب الماي ويغسل ايديه
وواحد يرد الكوم لو جو عليه
وذوله اربع يظلون جنّازه بيه
وبقلب مفطور، في ضحي كل يوم يصعد ذلك الايقاع الحزين القريب من التنور واجانة العجين في بيت تحوم حوله اجنحة الملائكة واحلام الموتى البعيدين وعيون المخبرين ومصائر مجهولة:
7 ابناء من نسل الانسان
الشمس تفرقهم
والليل يجئ بهم وحدانا صوب المأوى
وطريدتهم حلم يستعصي
7 ابناء من نسل الانسان تآخوا في المحنة
فاذا افتض الفجر الليل ،
سعوا للحلم حثيثا
7 ابناء قالت امرأة
- اما الاول
فسيأكله الذئب
واما الثاني
فسيسجن
اما الثالث
فسيحمل في كأس دمه ويسير الى حتفه
وسيصلب ان الطير ستأكل من رأسه
اما الرابع
فيهيم على وجهه
وسيندبكم خامسكم بالدمع
وسادسكم بالروع
وسابعكم بالذكرى
(الابناء السبعة 1978؟
لقد تحقق حلمها بسبعة ابناء من ابناء الروح . لكن لم يتحقق حلمها الثاني والثالث والرابع. فلم يأت احدنا بكأس ماء لها لتشرب. ولم يقم احدنا على خدمتها كملكة التاريخ ليغسل يديها الريحانيتين بماء الورد. ولم يرد احد منا عنها الغزاة .ولست ادري ما اذا كنت احاول في وعي لاارادي ,ان اعبر بلسان اثنين فقدا, بسبب سوء الحظ ,القدرة على التعبير في كتابة منطوقة . لقد كان الشاعر فيّ يتكون من اب وام تناسلا ليولد منهما تعبير عن الانسان في مواجهة قدره ومصيره الاسطوري . لقد جسدا الاسطورة والتاريخ معا . خرجا لي من اعماق البلاد ومن اقصى الزمن , يحملان معهما كل ذلك الارث المغلق الذي لم يستطيعا فتح تعاويذه وخطوطه وحروفه, والقياه على كاهلي كما القت الآلهة على كاهل الانسان مهمة البحث عن الحقيقة. لقد عرف كل منهما امه واباه واكتفيا بذلك.عرفت امي اباها وامها ورأتهما, وعرف ابي اباه وامه ورآهما, واكتفيت انا باني عرفت امي وابي ورأيتهما. ولم اطمح الى غير ذلك . لقد اورثاني ارثهما وحملاني ذلك التعبير القاسي والعنيد عن الحب والبساطة والايمان والشرف والتضحية والالتزام الاخلاقي وذهب المنفى بي عنهما الى غياب طويل ، تاركين فيّ الرغبة في العودة الى اسطورتي والى ميثولوجياي الهائمة معي دونما بلاد.
واليوم اواجه صمتي او مناحتي الليلية وانا امام رحيلهما. ابي مات في تشرين الثاني عام 1978 في شتاء قاس واغمضت عينيه وقضيت ليل الامطار ممددا انظر الى جسده يتقلص واسمع اصواتا شاذة سرعان ما دفعت امي لتهرع اليّ من الغرفة المجاورة طالبا مني مغادرة الجسد, ولكني بقيت معه حتى الفجر الذي صدح فيه صياح الديك ، اخر صياح ديك في حياته التي امتدت حتى ذلك الفجر قبل ان يحتجز مركز شرطة البياع جنازته لان ابنا له معتقل في مقر الامن.
وامي ماتت في آذار عام2001 وانامنفي بعيد عنها واحدا وعشرين عاما اكتب قصائدي عنها وانتظر
مثل طفل, عودتي اليها لالقي برأسي على رجليها طفلا ينتظر ان تعبث اصابعها بشعره الكهولي الطويل.
على هيئة تمثال من العذااب
تركتها راكعة فوق رصيف الدار
لربما ظلت على هيئتها تلك, الى الان يراها الجار
وربما شكا هيئتها تلك الة الوالي,
فتم نقلها لمتحف الاثار.
لقد تم نقلها الى وادي السلام لتسكن في تلك البرية التي ينهض منها الناس يوم القيامة
لقد كنا ابناء الروح ، وكان حتفناهوالكبرياء الاخير قبل النفس الاخير الذي ينقل الانسان من عالم الحياة الي عالم الموت الذي يأخذه الى عالم ارشكيجال السفلي منتظرا عشتار لكي تأتي لتأخذ تموز مرة اخرى في الربيع الى الارض التي لابد ان تزدهر وتخضر في بلاد مابين النهرين:
هل بقيتْ تلك الايامُ هناكْ
هل بقيتْ قاعةُ طقسي بين الايام ِهناكْ
هل مازلتُ هناكْ؟
وهنا لاشئَ سوى لمعانِ الايام ِ هناكْ
وهنا لاشئَ سوى لمعانِ الزمنِ العابر ِ
ووميضِ الزمنِ المتجمدِ مثل جسورٍ فوق النهرِ .. هناكْ
#نبيل_ياسين (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟