|
سمير المطيعي
Samir (Sam) Almoteie
الحوار المتمدن-العدد: 6688 - 2020 / 9 / 26 - 21:43
المحور:
الادب والفن
بهو الانتظار
" لم أعلم يوماً أن الخزلان قاس جدا لدرجة أنك تشعر بالشفقة علي نفسك " تشيخوف خرجت من باب المصعد بالدور الرابع في تلك البناية ، قاصدا أحد النزلاء من كبار السن ، يعيش بمفرده في إحدى غرفات حجرات ذلك الطابق ، وخرج معي من المصعد بعض الأصدقاء قاصدين نفس النزيل ، وما أن خطت إحدي قدماي خطوتها الأولي خارج باب المصعد حتى رأيت حشدا من النزلاء كما لو كانوا سجناء في انتظار ساعة الزيارة ، بعضهم كانوا واقفين يقطعون الطرقة والبهو جيئة وذهابا ، وأغلبهم جالسين ؛ فمنهم من كان جالسا علي مقعد ذى وسادة مثبتة علي ظهره ، ومنهم من هو جالسا علي كرسي متحرك ، ومجموعة أخري تجلس في صف واحد علي أريكة طويلة تتسع لثلاثة أو أربعة أشخاص ، ورأيت بينهم من يجلس متكئا بذقنه علي طرف عكازه وآخر من يجلس وقد وضع كوعه مستندا علي حافة الأريكة وواضعا خده علي قبضة يده مستغرقاً في تفكير عميق ، وهناك في زاوية جلس أحدهم علي كرسي منعزلاً واضعاً كلتا يديه متشابكتين خلف رأسه . وآخرون يجلسون في غرفة ذات مدخل زجاجى ، منهمكين في متابعة إحدي مباريات كرة السلة ، ينظرون إلي اللعبة بلا أي تفاعل أو انفعالات أو تعليقات ، تصورت أن معظمهم يعاني من الصمم ، فهم ينظرون إلي شاشة التلفاز الكبيرة ولا ينطقون بحرف واحد تعليقا علي اللعبة. أجسام وأعمار بين الكهولة والشيخوخة ، أو شباب استسلم لشيخوخة مبكرة حيث انتصر المرض علي جسمه الهزيل . اختلفت أشكالهم ووجوههم وألوان بشرتهم اِلا أن عيونهم كانت شاخصة علي باب المصعد لعلهم يروا أحد الزائرين الآتي لهم خصيصا. وحينما يُغلق الباب بعد أن أفرغ ما في جعبته من زوار ليسوا تابعين لهم ، سرعان ما نري خيبة الأمل في عيونهم كلهم ، يالها من جلسة قاسية . إنه أحد سبوت عطلة نهاية الأسبوع. جالسين كما لو كان محكوم عليهم بالعزلة في هذا البهو ، حُكم عليهم بالإقامة الجبرية هنا بلا محاكمة وصدر الحكم بلا قاض. عبرت الطرقة ناظرا محييا إياهم يمنة ويسرة مكتفيا بابتسامة رقيقة قدر إمكاني هازا رأسي بانحناءة التقدير والإحترام .. رد بعضهم بابتسامة من واجب الأدب تعلوها مقلتان حائرتان وقد ملأ بعضها دموع شوق أو وحدة أو خيبة للآمال أو انهيار حلم كان في انتظار تحقيقه وطال الانتظار ... يالها من لهفة تلك النفوس المنتظرة في بهو الطابق الرابع أمام باب المصعد. رأيتهم كأشباح أو أجسام جالسة صامتة منحنية الظهر ، لعلها انحنت نتيجة أحمال ثقيلة أثقل من قدراتهم و احتمالهم ، ففيما مضي قد احتملوا أعباء الحياة من تربية أطفال وأحفاد، كانوا يواصلون العمل ليلهم بنهارهم كي تُدفع الفواتير . كي تقتات أفواه أطفالهم. وآلت نهايتهم بعد كل هذا العناء إلي الجلوس خلف جدران بهو الانتظار ، ويمر الوقت بطيئاً ثقيًلا ومازالوا في وضعيتهم المنحنية في انتظار أحد الأحفاد أو الأبناء أو أحد الأصحاب ربما يرق قلبه ويتذكر أن له صديقا نزيلا في الدور الرابع بتلك البناية. يقول أحدهم في صمت وهو يهز رأسة متعجبا " ظننت أنني هربت من هموم كنت أظنها مضت ولم يعد لها أثر ، ويالخيبة الأمل ضاعت الأيام ومرت السنون وذهب العمر ومازالت الهموم ملتصقة بنفسي وبنفوس كل من حولي ، فزادت من انحناءات الظهر يوما بعد يوم ، وتمر الدقائق في ذلك البهو كالدهر فاليوم سبت وقارب الانتهاء مع مغيب شمس الغروب وغدا الأحد ، من سيتذكرنا يوم الأحد ؟ إنه يوم صلاة ، وهل حينما تصلون يا مؤمنين تتذكرون من ليس له أحد في يوم الأحد ؟ أتت الممرضة صائحة : ميعاد الدواء . ماذا يفعل الدواء في نفوس تأسف علي أيام وعمر مضي بلا عودة ؟ ولسان حالها تقول أين أنا ؟ أين أولادي وبناتي ؟ أصدقائي المقربين؟ جيراني؟ أقربائي؟ ماذا يفعل الدواء سيدي الطبيب ؟ نعم الدواء سيعرف طريقه إلي المعدة الخاوية الفاقدة للشهية ، فكيف سيكون له مفعول في نفس حزينة وكيف سيلملم أشلاء قلب مكسور؟ كأن لسان حال كل منهم يقول تأسفى يانفسي علي ما فات ، لقد ربيت ، سهرت ، عملت ليلاً نهارأ ولم أقصر في واجباتي تجاه كل منهم ، أين هم الآن ؟ أحاول ان أجد عذراً لكل منهم. اليوم أجلس وأنا في كامل أناقتي واضعاً كافة الأحزان خلفي وبابتساماتي أحاول أن أخبئ وأداري قلقي وأنتظر ، ومازلت أنظر نحو هذا الباب الكئيب ليفتح ويخرج من جوفه مجموعات وأفراد ، وياحسرتاه ، لا أحد منهم يعرفني. معظمهم لا ينظرون اِلي وجوهنا ، فهل يريدون تلافي نظراتنا ؟ هل يبخلون علينا بنظرة تروي عيون عطشي للأحباء ؟ لماذا هذه القسوة وهذا الجفاء أيها العابر؟ أنهيت زيارتي وكم تمنيت وسألت الله ألا تؤول نهايتنا في بهو الانتظار ، ألا تنتهي حياتنا ونحن ننتظر عطلة نهاية الأسبوع ، وفيه ننتظر أحد الغائبين الذين لم يحضروا لرؤيتنا ، وكل له حجته . أسأل الله ألا تصبح عيوننا بعد عناء هذه الحياة عيون منتظرة ولا تتلقي لا شفقة عابر و لاابتسامة زائر لنزيل آخر ، وألا نظل جالسين في ذلك البهو ، مترقبين باب المصعد والذي غالبا ما يكون مخيبا للآمال. وهنا أتذكر قولا جميلا للفيلسوف "روبين ويليامز" : " كنت أظن أن أسوأ شي في الحياة هو أن تكون وحيدا ، ولكن أسوأ شئ في الحياة هو أن ينتهي بك الأمر مع أشخاص تشعر معهم بالوحدة ". فليهون الرب علينا أيام غربتنا لننطلق بسلام ولا نثقل علي أحد فما أثقلك أيتها الأجساد. من كتابي " دموع متحجرة واخري تنهار"
#Samir_(Sam)_Almoteie (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
انطلاق النسخة السابعة من معرض الكتاب الفني
-
مهرجان الأفلام الوثائقية لـRT -زمن أبطالنا- ينطلق في صربيا ب
...
-
فوز الشاعر اللبناني شربل داغر بجائزة أبو القاسم الشابي في تو
...
-
الموصل تحتضن مهرجان بابلون للأفلام الوثائقية للمرة الثانية
-
متى وكيف يبدأ تعليم أطفالك فنون الطهي؟
-
فنان أمريكي شهير يكشف عن مثليته الجنسية
-
موسكو.. انطلاق أيام الثقافة البحرينية
-
مسلسل الطائر الرفراف الحلقة 84 مترجمة بجودة عالية قصة عشق
-
إبراهيم نصر الله: عمر الرجال أطول من الإمبراطوريات
-
الفلسطينية لينا خلف تفاحة تفوز بجائزة الكتاب الوطني للشعر
المزيد.....
-
التجريب والتأسيس في مسرح السيد حافظ
/ عبد الكريم برشيد
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
-
التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا
...
/ نواف يونس وآخرون
-
دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و
...
/ نادية سعدوني
-
المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين
/ د. راندا حلمى السعيد
-
سراب مختلف ألوانه
/ خالد علي سليفاني
-
جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد
...
/ أمال قندوز - فاطنة بوكركب
-
السيد حافظ أيقونة دراما الطفل
/ د. أحمد محمود أحمد سعيد
-
اللغة الشعرية فى مسرح الطفل عند السيد حافظ
/ صبرينة نصري نجود نصري
المزيد.....
|